|
|
|
 Re: المعطف الذي أنقذ الفلسفة من الضياع (Re: محمد عبد الله الحسين)
|
المعطف الذي أنقذ الفلسفة من الضياع
علي حسين
مثلما اثارت افكار سقراط الناس في اليونان القديمة ، اثارتهم ايضا ملابسه التي كان لا يعتني بها ، فهو معارض شرس للمتع الشكلية ، مثل معارضته كل سلطة لا تعترف بسلطة العقل .. وهكذا كانت الناس تشاهد سقراط في الاسواق بملابسه الرثة وهو يناقش أخطر المسائل . ورغم ان افلاطون حاول ان يقدم صورة مغايرة للفيلسوف فكان يرتدي اثمن الثياب ، ويحرص على ان يمتع نفسه بالغالي والثمين ، إلا ان نادرا ما وجدنا فيلسوف يوناني يولي مظهره اهمية ، وكان اشهر هؤلاء الذين ساروا على نهج سقراط ، الفيلسوف " ديوجين الكلبي " الذي عاصر أفلاطون ، وكان يسخر من اهتمام صاحب الجمهورية المفرط بملبسه ، ويحكى عن ديوجين انه عندما وصل الى اثينا إتخد من برميل خشبي مسكنا له ،قضى بداخله أكثر من نصف عمره ،الذي بلغ تسعين عاما ، " حين تملك حياة داخلية فمن دون شك لن يعود للمكان الذي تعيش فيه أي اهمية " ، كان ديوجين يجوب أزقة وشوارع أثينا حافي القدميين ،مرتديا معطفا قطنيا أسود اللون ،مستندا إلى عصاه ، مثل سقراط يتجول في الشوارع والاسواق وهو يقول " أرى بشرا كثر ، لكن لم اصادف بعد انساناً "
ولعل الفلاسفة باعتبارهم يمارسون عملا مناهضا لكل ما هو سائد ، كانوا احيانا يمارسون هوايات غريبة ، فقد كان سارتر يرتدي نفس الجاكيت لمدة اشهر رغم ان بامكانه شراء عشرات البدلات الجديدة ، وكانت سيمون دي بوفوار تنزعج من رائحة التبغ التي تملأ الجاكيت ، فيما كان غريمه كامو يستمتع جدا بشراء البدلات الثمينة ، ويتصرف كأانه ممثل سينمائي ، وكانت سيمون دي بوفوار تقيم علاقة مع الفستان :" الفستان الذي ارتديه ... يتفق معي ، ويشبه بعضنا البعض ... فيما كل مرة ارتدي فيها نفس الفستان ، يشعر الفستان بان المرأة التي ارتدته لم يعرفها من قبل وهي أيضًا لم تعرفه " . فيما ظل هايدغر يسخر من اناقة استاذه هوسرل المفرطة ، فقد كان الاستاذ مغرماً بارتداء البدلات الأنيقة مع قبعة لم تفارق رأسه حتى داخل قاعة الدرس، بينما التلميذ المخلص لم يستطع التأقلم مع جو المدينة، فنراه متمسكا بزيه الفلاحي، بدلة زرقاء داكنة، مع حذاء جلد سميك، وكان يقول لطلبته انه تعلم من نيتشه أن المظاهر الخادعة لا قيمة لها .
في العصر الحديث كان فوكو مغرما بالستر الجلدية السوداء ، وظل جيل ديلوز يعشق الألبسة القطنية الغامقة ، فيما كان الفيلسوف الاميركي إيمرسون يسخر من الملابس الانيقة والثمينة : "هناك سبب آخر لارتداء الملابس الثمينة ... ألا وهو أن الكلاب تحترمك ولن تهاجمك".
في مقال كتبه 1854 ، يلاحظ سورين كيركغارد أنه "من أجل السباحة يخلع المرء كل ملابسه ، ومن أجل التطلع إلى الحقيقة ، يجب على المرء أن يخلع ملابسه بمعنى داخلي أكثر بكثير". وكان كيركغارد يرى ان حقيقة معرفة الذات تتطلب التخلّي ، وتجريد الملابس المجازية ، ولكن أيضًا جميع الشواغل المادية والغرور. فهذه الملابس الخارجية المرهقة تمنعنا من الحقيقة الداخلية العارية.
قبل كيركغارد ، قال إيمانويل كانط عن الأزياء ، أنها "حمقاء" ، ومع ذلك فإن فكرة "الاناقة " كانت من الامور التي شغلته ، ففي سنواته الاخيرة من حياته كان يهتم كثيرا باناقته ، ويصر على ان تتناغم سترته الطويلة مع جواربه ، ويزين رأسه بباروكة بيضاء، وكان يقول لكل من يمتدح أناقته : من الأفضل ان تكون مجنوناً بالموضة ، على ان تكون الموضة خارج حساباتك".
كان كارل ماركس يرتدي ملابس مناسبة ، لكنه اغرم بالمعاطف ،ومن الامور الطريفة او المؤلمة في حياته انه اضطر عام 1850 ، ان يرهن معطفه من اجل شراء وجبة عشاء لعائلته ، وقد اشار ماركس إلى الطريقة الضارة التي يمكن لملابس التي هي سلعة أن تلعب دورا لتقليل او رفع من صفات كائن بشري ، ولهذا كان يقول عن المعاطف انها " تمتلك حياة شيطانية "
كان الفرنسي رولان بارت شغوفا بمسالة الملابس حيث قرر أن يدرسها من وجهة نظر سيميائية، فالملابس عند بارت ليست مجردَ البسة فقط وإنما هي ظاهرة مرتبطة ارتباطًا وثيقا بالثقافةِ التي تمثلها، وكان بارت يفضل ارتداء بدلة سبورت تحت معطف خفيف ، والمثير ان قضية الملابس ظلت تلاحقه حتى اللحظة الاخيرة من حياته عندما صدمته عربة لتنظيف الملابس في شباط من عام 1980 ، وكان يرتدي معطفا ويتأبطا رزمة من الأوراق . واشتهر هيغل بمعطفه الذي كان لا يفارقه ، وسيقدم هذا المعطف خدمة جليلة الى الفلسفة حين يساعد هيغل بانقاذ كتابه الشهير " ظاهريات الروح " من الحرق ، ففي عام 1801 يقدم هيغل رسالته للدكتوراه وفيها يخالف آراء نيوتن ، ويعود للجامعة ليصبح عام 1805 استاذاً فوق العادة ، إلا أن الحرب التي لم تنته بددت آماله بحياة مستقرة ،فسُرق منزله ، ولم ينجح سوى في انقاذ واحد من ممتلكاته وهو الأكثر قيمة لديه: مخطوط كتابه "ظاهريات الروح" الذي كان يحتفظ به في جيب معطفه
| |
  
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: المعطف الذي أنقذ الفلسفة من الضياع (Re: محمد عبد الله الحسين)
|
المعطف الذي أنقذ الفلسفة من الضياع
علي حسين
مثلما اثارت افكار سقراط الناس في اليونان القديمة ، اثارتهم ايضا ملابسه التي كان لا يعتني بها ، فهو معارض شرس للمتع الشكلية ، مثل معارضته كل سلطة لا تعترف بسلطة العقل .. وهكذا كانت الناس تشاهد سقراط في الاسواق بملابسه الرثة وهو يناقش أخطر المسائل . ورغم ان افلاطون حاول ان يقدم صورة مغايرة للفيلسوف فكان يرتدي اثمن الثياب ، ويحرص على ان يمتع نفسه بالغالي والثمين ، إلا ان نادرا ما وجدنا فيلسوف يوناني يولي مظهره اهمية ، وكان اشهر هؤلاء الذين ساروا على نهج سقراط ، الفيلسوف " ديوجين الكلبي " الذي عاصر أفلاطون ، وكان يسخر من اهتمام صاحب الجمهورية المفرط بملبسه ، ويحكى عن ديوجين انه عندما وصل الى اثينا إتخد من برميل خشبي مسكنا له ،قضى بداخله أكثر من نصف عمره ،الذي بلغ تسعين عاما ، " حين تملك حياة داخلية فمن دون شك لن يعود للمكان الذي تعيش فيه أي اهمية " ، كان ديوجين يجوب أزقة وشوارع أثينا حافي القدميين ،مرتديا معطفا قطنيا أسود اللون ،مستندا إلى عصاه ، مثل سقراط يتجول في الشوارع والاسواق وهو يقول " أرى بشرا كثر ، لكن لم اصادف بعد انساناً "
ولعل الفلاسفة باعتبارهم يمارسون عملا مناهضا لكل ما هو سائد ، كانوا احيانا يمارسون هوايات غريبة ، فقد كان سارتر يرتدي نفس الجاكيت لمدة اشهر رغم ان بامكانه شراء عشرات البدلات الجديدة ، وكانت سيمون دي بوفوار تنزعج من رائحة التبغ التي تملأ الجاكيت ، فيما كان غريمه كامو يستمتع جدا بشراء البدلات الثمينة ، ويتصرف كأانه ممثل سينمائي ، وكانت سيمون دي بوفوار تقيم علاقة مع الفستان :" الفستان الذي ارتديه ... يتفق معي ، ويشبه بعضنا البعض ... فيما كل مرة ارتدي فيها نفس الفستان ، يشعر الفستان بان المرأة التي ارتدته لم يعرفها من قبل وهي أيضًا لم تعرفه " . فيما ظل هايدغر يسخر من اناقة استاذه هوسرل المفرطة ، فقد كان الاستاذ مغرماً بارتداء البدلات الأنيقة مع قبعة لم تفارق رأسه حتى داخل قاعة الدرس، بينما التلميذ المخلص لم يستطع التأقلم مع جو المدينة، فنراه متمسكا بزيه الفلاحي، بدلة زرقاء داكنة، مع حذاء جلد سميك، وكان يقول لطلبته انه تعلم من نيتشه أن المظاهر الخادعة لا قيمة لها .
في العصر الحديث كان فوكو مغرما بالستر الجلدية السوداء ، وظل جيل ديلوز يعشق الألبسة القطنية الغامقة ، فيما كان الفيلسوف الاميركي إيمرسون يسخر من الملابس الانيقة والثمينة : "هناك سبب آخر لارتداء الملابس الثمينة ... ألا وهو أن الكلاب تحترمك ولن تهاجمك".
في مقال كتبه 1854 ، يلاحظ سورين كيركغارد أنه "من أجل السباحة يخلع المرء كل ملابسه ، ومن أجل التطلع إلى الحقيقة ، يجب على المرء أن يخلع ملابسه بمعنى داخلي أكثر بكثير". وكان كيركغارد يرى ان حقيقة معرفة الذات تتطلب التخلّي ، وتجريد الملابس المجازية ، ولكن أيضًا جميع الشواغل المادية والغرور. فهذه الملابس الخارجية المرهقة تمنعنا من الحقيقة الداخلية العارية.
قبل كيركغارد ، قال إيمانويل كانط عن الأزياء ، أنها "حمقاء" ، ومع ذلك فإن فكرة "الاناقة " كانت من الامور التي شغلته ، ففي سنواته الاخيرة من حياته كان يهتم كثيرا باناقته ، ويصر على ان تتناغم سترته الطويلة مع جواربه ، ويزين رأسه بباروكة بيضاء، وكان يقول لكل من يمتدح أناقته : من الأفضل ان تكون مجنوناً بالموضة ، على ان تكون الموضة خارج حساباتك".
كان كارل ماركس يرتدي ملابس مناسبة ، لكنه اغرم بالمعاطف ،ومن الامور الطريفة او المؤلمة في حياته انه اضطر عام 1850 ، ان يرهن معطفه من اجل شراء وجبة عشاء لعائلته ، وقد اشار ماركس إلى الطريقة الضارة التي يمكن لملابس التي هي سلعة أن تلعب دورا لتقليل او رفع من صفات كائن بشري ، ولهذا كان يقول عن المعاطف انها " تمتلك حياة شيطانية "
كان الفرنسي رولان بارت شغوفا بمسالة الملابس حيث قرر أن يدرسها من وجهة نظر سيميائية، فالملابس عند بارت ليست مجردَ البسة فقط وإنما هي ظاهرة مرتبطة ارتباطًا وثيقا بالثقافةِ التي تمثلها، وكان بارت يفضل ارتداء بدلة سبورت تحت معطف خفيف ، والمثير ان قضية الملابس ظلت تلاحقه حتى اللحظة الاخيرة من حياته عندما صدمته عربة لتنظيف الملابس في شباط من عام 1980 ، وكان يرتدي معطفا ويتأبطا رزمة من الأوراق . واشتهر هيغل بمعطفه الذي كان لا يفارقه ، وسيقدم هذا المعطف خدمة جليلة الى الفلسفة حين يساعد هيغل بانقاذ كتابه الشهير " ظاهريات الروح " من الحرق ، ففي عام 1801 يقدم هيغل رسالته للدكتوراه وفيها يخالف آراء نيوتن ، ويعود للجامعة ليصبح عام 1805 استاذاً فوق العادة ، إلا أن الحرب التي لم تنته بددت آماله بحياة مستقرة ،فسُرق منزله ، ولم ينجح سوى في انقاذ واحد من ممتلكاته وهو الأكثر قيمة لديه: مخطوط كتابه "ظاهريات الروح" الذي كان يحتفظ به في جيب معطفه
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: المعطف الذي أنقذ الفلسفة من الضياع (Re: محمد عبد الله الحسين)
|
سلام محمد
فعلا مقال دسم عن فلاسفة رفدوا الحياة بفلسفتهم وفكرهم المستنير
اذكر الكاتب الراحل انيس منصور كتب مرة عن أمنية عجيبة، تمنى لو أنه ولد في عصر افلاطون ، ربما ، إلى جانب إعجابه بفلسفته، أعجب أيضاً بإناقته . منصور ، دارس الفلسفة ، كان انيقاً أيضا في مظهره ولغته في الكتابة
لو قيض الله لنا فلاسفة في زماننا هذا ، يفترض إما أن يرتدوا ملابس محددة بصورة منتظمة، أو ملابس قد تشجع الفضول والاهتمام في أعين الناس العاديين لدرجة تجعلهم يقولون "لابد أن هذا الرجل فيلسوف!" .
الاناقة او الموضة بشكل عام مثل اللغة ، تدل إنتماءاتنا الجماعية ومهننا وأنماط حياتنا وقيمنا وحالتنا الاجتماعية ، وجزءاً لا يتجزأ من جهودنا لتقديم أنفسنا كبشر أنيقين
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: المعطف الذي أنقذ الفلسفة من الضياع (Re: محمد عبد الله الحسين)
|
سلام محمد
لما اطالع صور المفكر والفيلسوف عبد الله العروي والمفكر محمد عابد الجابري والعلامة طه عبد الرحمان (كلهم مغاربة) والحوارات التلفزيونية التي اجريت معهم ، اراهم - من حديثهم وملبسهم - فلاسفة بالفعل.
لما لا ، وهم العقول العربية الوحيدة التي عرفها القرن العشرين ممن كرسوا حياتهم للمعرفة الفلسفية ، واحدثوا ثورة كبرى في بنية العقل العربي.
يكفي انه المفكر السوري جورج طرابيشي امضى نصف قرن في تفكيك كتاب الجابري " نقد العقل العربي " ليخرج بسفره الكبير "نقد نقد العقل العربي" في خمسة مجلدات.
الشاهد ان معظم مفكري القرن العشرين في مجال الفلسفة من المغرب العربي
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: المعطف الذي أنقذ الفلسفة من الضياع (Re: محمد عبد الله الحسين)
|
المقال الاخير نشط حاسة البحث والنقد والتحليل...
قبل أن انسى أود أن استشهد بما قاله ريناد وهو من هو ..عن الغزالي..حيث
الفيلسوف المشهور رينان: «لم تنتج الفلسفة العربية فكراً مبتكراً كالغزالي»،وقد رأى كثير من علماء المسلمين قديماً أن الغزالي رغم حربه للفلسفة، لم يزل متأثراً بها، حتى قال تلميذه أبو بكر بن العربي: «شيخُنا أبو حامد: بَلَعَ الفلاسفةَ، وأراد أن يتقيَّأهم فما استطاع».
ساعود
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: المعطف الذي أنقذ الفلسفة من الضياع (Re: محمد عبد الله الحسين)
|
| Quote: وقد رأى كثير من علماء المسلمين قديماً أن الغزالي رغم حربه للفلسفة، لم يزل متأثراً بها |
رغم ان البعض حاولوا يحملوه مسؤولية انتكاسة الفلسفة في العالم الإسلامي ، إلا انه ، بحسب رأي د. نايف بن نهار " حاكم منتجات الفلسفة لمعاييره المنهجية، ما توافق منها معها رحّب بها وفسح لها في المجالس، وما كانت مضادة للصواب بحسب معاييره رفضها رفضًا صريحًا،
ورفضه لم يكن رفضاً عاطفياً ، بل كان منهجياً، إذ بيّن أوجه الإشكال والاختلال في تلك الآراء، مما يدلُّ على أنه الوحيد الذي أقام المثقافة المنظمة على أصولها مع الحضارة الغربية"
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: المعطف الذي أنقذ الفلسفة من الضياع (Re: حيدر حسن ميرغني)
|
سلام يا حيدر
Quote: رغم ان البعض حاولوا يحملوه مسؤولية انتكاسة الفلسفة في العالم الإسلامي ، إلا انه ، بحسب رأي د. نايف بن نهار " حاكم منتجات الفلسفة
لمعاييره المنهجية، ما توافق منها معها رحّب بها وفسح لها في المجالس، وما كانت مضادة للصواب بحسب معاييره رفضها رفضًا صريحًا،
ورفضه لم يكن رفضاً عاطفياً ، بل كان منهجياً، إذ بيّن أوجه الإشكال والاختلال في تلك الآراء، مما يدلُّ على أنه الوحيد الذي أقام المثقافة المنظمة على
أصولها مع الحضارة الغربية" |
فعلا كلام د. نهار عين الصواب.. الغزالي كان عالم بحق وبحاثة عميق ومجتهد.
| |
|
|
|
|
|
|
| |
محمد عبد الله الحسين
حيدر حسن ميرغني
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست