هربنا إلى الجزيرة بعد أن زاحمنا الجنجويد في بيوتنا وسلبوا النوم من عيون أطفالنا والأمن من حياتنا التي تحولت إلى جحيم؛ تركنا لهم بيوتنا وكل مافيها من مقتنيات ورحلنا إلى مسقط الرأس باحدى قرى شرق الجزيرة "الهبيكة عكود" .. امضينا ما يزيد عن التسعة أشهر في إنتظار أن ينزاح هذا الكابوس ونعود إلى ديارنا ولكن طال الإنتظار وطالت المعاناة وطال العذاب فالافق كله مسدود ولا ضوء يلوح في نهاية النفق وياله من نفق مظلم ومخيف. تعايشنا مع الواقع ولم نكُ نتوقع أن ندخل في واقع أسوأ فقدرنا نحن المستضعفين المعذبين الذين لا قوة لنا ولا حيلة أن نمضي في هذا الوطن المأزوم من جحيم إلى جحيم كأنما كُتب علينا العذاب والشقاء .. صحونا ذات صباح على خبر أن هؤلاء الهمج المرتزقة على تخوم ولاية الجزيرة ولم نخشى ولم نرتعب فظننا بعد الله أن الجزيرة محصنة وان جيشنا الوطني العظيم بتاريخه الكبير وتضحياته وفدائيته وجسارته التي شهد بها كل العالم والذي ساهم قادته سابقاً في إنشاء وتأسيس غالبية الجيوش بالمنطقة سيتلاعب بهم لعب "الصوالج بالأكر" وسيلقنهم من الدروس ما يفش به غبينة كل اهل السودان فسيناريو الخرطوم لن يتكرر ومدني عروس المدائن وشامة خد الوطن أبعد من أحلام الجنجا بل نجوم السماء أقرب لهم وزاد اليقين والولاية تحتفل بدحرهم ومظاهر الفرح تنساب شلالات في زمان عز فيه الفرح.
وفي غمرة الإحتفالات والمعنويات التي لامست عنان السماء لم نك نتخيل أن القدر يخبيء لنا الأسوأ وأن أحلامنا البسيطة ماعاد تحقيقها ممكناً فهذا زمان الهزائم والخذلان والإنكسارات فقد هرب جيشنا صبيحة اليوم التالي قبل المدنيين وتركنا نواجه مصيرنا لوحدنا في مجابهة همج رعاع لا يرحمون ولا تعرف قلوبهم الرحمة.. واجهنا ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر ببال بشر فقد استباح الرعاع الجزيرة نهباً وقتلاً وترويعاً وظهروا على حقيقتهم فما هم إلا حرامية وقطاع طرق وهمباتة بكل ما تحمل الكلمة من معنى ولا يمكن لاحد أن يصدق انهم أصحاب قضية وأن همهم الوطن وقد جاءوا لتحقيق الحرية والديمقراطية فديمقراطية الاعتداء على الحرمات والسرقة والقتل والترويع لم نقرأ عنها من قبل ولم يحدثنا عنها التاريخ فما حدث أسوأ مما انطيع بأذهاننا عما كان يحدث بالعصور المظلمة أيام محاكم التفتيش وأسوأ مما فعله النازيون وأسوأ من أسوأ سيناريو يمكن أن يتخيله الإنسان.
تمت محاصرة القرية من كل الجهات وبدأت أفواج الغزاة الملاعين الذين لا دين لهم ولا أخلاق تتسرب نهارآ وليلآ بحثآ عن الغنائم.. في البدء كان الناس يتخوفون ويبدو حالهم أقرب إلى الإستسلام ولكن شيئاً فشيئا تحول الخوف إلى غضب بعد أن تعدى هؤلاء الهمج على شباب المنطقة واصابوا أحد خيرة شبابها بسلاح الغدر ونهبوا عربات المواطنيين فتم تتريس القرية كاملة وهو النهج الذي سارت عليه كل قرى شرق الجزيرة تحديداً المتاخمة لشارع الأسفلت ومع ذلك لم تنته المعاناة فقد انقطعت الأدوية المنقذة للحياة وتوقف الغسيل الكلوي ومات المرضى "سمبلة" مرت بنا عشرة أيام كنا مرابطين فيها بالمقابر نقبر ضحايا الغزو الجبان من اهلنا الذين ضاقت بهم الحياة وأصبح باطن الأرض أفضل لهم من ظاهرها والبعض منهم قد مات حسرة وغبينة وحالهم ليس بافضل من حال الكثيرين الذين لازالوا يقاومون لوحدهم الجوع والفقر والعدم وفقدان كل مقومات الحياة.
وغداً بإذن الله سأكتب عن رحلة الشقاء من أطراف الجزيرة إلى شرق السودان وما تعرضنا له من مصاعب جعلت حالنا كحال من فر من الموت وفي الموت وقع.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة