نقر الأصابع .. سراج الدين مصطفى عبقرية الموسيقار محمد الأمين في توظيف التراث الشعبي في أغنياته يظل الموسيقار الراحل محمد الأمين واحداً من أكثر المبدعين السودانيين قدرة على تحويل التراث الشعبي إلى صياغات موسيقية حديثة، دون أن يفقد هذا التراث نكهته الأصلية وروحه الموروثة. فمنذ بداياته، أدرك محمد الأمين أن الأغنية السودانية لا يمكن أن تنهض أو تتطور دون أن تبقى متكئة على جذور الناس، وأن الحداثة الحقيقية ليست في القطيعة مع القديم، بل في إعادة اكتشافه وتقديمه بصورة جديدة. وهكذا قدّم نموذجاً فريداً في دمج الأصوات الشعبية والإيقاعات المحلية داخل بنية موسيقية متطورة، ما جعله علامة فارقة في تاريخ الغناء السوداني. أبرز مظاهر عبقرية محمد الأمين في توظيف التراث تتجلى في قدرته على قراءة الشخصية السودانية عبر موسيقاها. فقد استلهم من إيقاعات المنطقة الوسطى ، ومن أنغام البادية، ومن تراث الغرب والجزيرة، ليصنع توليفات متناسقة تُشعر المستمع بأن هذا الفنان يعرف تفاصيل المكان وروح أهله. لم يكن مجرد مؤدٍ لإيقاعات موروثة، بل كان أشبه بباحث موسيقي يلتقط الطبقات العميقة للوجدان السوداني ويعيد تقديمها بلغته الخاصة. في عدد من أعماله، يمكن أن نلحظ هذا التوظيف بوضوح، إذ لا تكاد تخلو أغنية من حضور إيقاع سوداني أصيل: التُم تم كما فى أغنيات مثل كلام للحلوة وأربعة سنين وجديات العسين الدلوكة كما فى أغنية عيال أب جويلى .. كما استخدم ايقاع الرق فى أغنية حلم الأماسى وإيقاع المردوم فى أغنية أبل الرحيل بأستلهامه لأيقاع أغنية العاجكو، وغيرها. لكن العبقرية لم تكن في استخدام الإيقاعات وحدها، إنما في الطريقة التي أعاد بها تنظيمها داخل قالب موسيقي حديث، مدعّم بتناغم هارموني متقدم ونقلات لحنية محسوبة تمنح الأغنية طابعاً معاصراً دون أن تفقد دفء التراث.. ويبرز ذلك بوضوح فى أغنية مراكب الشوق حينما استلهم الأغنية التراثية يا مهيرة عقد الجلاد .. عريسك غلبو الثبات فجعل هذه الإيقاعات جزءاً من خطاب موسيقي متكامل، وليس مجرد ديكور يُضاف على اللحن. كما تبرز عبقريته في انتقاء النصوص المرتبطة بالبيئة السودانية، وبالشعر الشعبي بشكل خاص. فقد غنّى للحقيبة، وللشعراء الشعبيين أمثال الشاعر ابو صلاح فى بدور القلعة وجانى طيفور طائف.. وللنصوص التي تحمل صوراً مستمدة من حياة الناس البسيطة. لكنه لم يقدّم النص الشعبي كما هو؛ بل أعاد صياغته موسيقياً، ووسّع دلالاته الشعرية، وأضفى عليه عمقاً إنسانياً يجعل المتلقي يشعر بأن الكلمات خرجت من زمن بعيد، لكنها خُلقت لتناسب الحاضر أيضاً. هذه القدرة على الجمع بين البساطة والعُمق، وبين الأصالة والتجديد، هي التي جعلت لأغنيات محمد الأمين قيمة فنية مستمرة. ولا يمكن تجاهل البعد العلمي في مشروعه الموسيقي. فمحمد الأمين كان صاحب معرفة دقيقة بقواعد الموسيقى .. وقد استفاد منها في وضع توزيعات متماسكة وبناء جُمل لحنية متناسقة، لكنه ظل وفياً للنبرة السودانية الخالصة. هذه الثنائية — المعرفة العلمية والوجدان الشعبي — صنعت موسيقاه الخاصة التي لا تشبه غيرها. إلى جانب ذلك، أسهمت فرقته الموسيقية في إبراز هذا النهج وأستفادته القصوي من خريجى كليه الموسيقى وطلبتها خصوصاً في إدخال الآلات الغربية مثل الجيتار (الفاتح حسين)والكيبورد (ماهر تاج السر وسعد الدين الطيب) كلهم ساهموا في حوار موسيقى متناغم مع الآلات التقليدية كالرق والدلوكة، مما خلق صوتاً سودانياً متجدداً قادراً على العبور إلى أجيال مختلفة. إن عبقرية محمد الأمين في توظيف التراث الشعبي لا تكمن فقط في الحفاظ عليه، بل في تطويره ورفعه إلى فضاء جديد. لقد وضع التراث داخل إطار حداثي دون تشويه أو مبالغة، مما جعل أعماله تُدرّس كنموذج لأسلوب قادر على أن يجمع بين أصالة الماضي وحركة المستقبل. وبهذا الإرث الموسيقي العميق، يظل محمد الأمين واحداً من أهم من حملوا التراث السوداني إلى الأمام، فجعله حياً، نابضاً، وقابلاً لأن يتجدّد في ذاكرة الشعب جيلاً بعد جيل.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
Hassan Farah
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست