|
Re: كوابيس الجنكويز (الجزء الثاني من المطاليق (Re: احمد ضحية)
|
رُغم أن الأيام الماضية؛ شهِدّت ارتفاعاً جنونياً في درجات حرّارة الشمس، إلا أن الشمس نفسها عجزت أشعتها الحارّقة، عن غسل روائح البلدة القديمّة النتنة! فأشجار "النيم" التي كانت تغلي في لهب الشمس، احتفظت برائحة عطرها الخاص (الممزوج في روث الطيور النازحة). ومع ذلك كانت هذه الرائحة المدمرة، أقل احتمالا من روائح الجثث المتعفنة، التي احتقنت بها فضاءات البلاد الكبيرة، والرّيح تنقلها من أقصى الصعيد إلى أقصى السافل، ومن أقصى دار الريح إلى أقصى دار صباح، لتقض في مرورها مضجع البلدة القديمّة؛ و مهاجع سكانها البائسين! فتجعل منها مكاناً مأساوياً كريهاً وحزيناً (يصلح فقط للأنين والأسى والحنين!). استولى "المطاليق" (كما هو متوقع) على وادي الذهب دون مقاومة، بعد إبادة فرقتين من "الجنكويز"، كانتا قد تفرقتا في مزارع القطن وزهرة عباد الشمس وحقول القمح و"الفتريتة". هرب قادة الفرقتين؛ وأصبح الطريق سالكاً نحو حاضرّة الصعيد. هرب الجنود المرتكزين في القرى والبلدات، دون إحساس بالهزيمّة أو النّدم، ما جعل الأهالي يتألمون؛ ويشعرون لفرارهم على ذلك النحو المخيب للظنون، بثِقل حزن أزلي في قلب البلاد الكبيرة، التي جرحها "الغلاط" و الخذلان. سادت الفوضى والبلبلة كل مكان، وبدت سلطة الجنكويز عاجزة عن وضع حد للمطاليق. وكان واضحاً أن عراكهما العبثي، سينتهي بإغراق البلاد الكبيرة كلها في حمامات دم، يتعذر معها حكمها إلى الأبد! مضى الجنكويز الذين ظلوا يكِلون لأنفسهم مهمة مقدسة، بإعاقة سلام ورخاء الشعب. يجندون كل من تقع عليه أيديهم: عصابات النهب المسلح، الفارين من السجون، بؤساء البلاد الكبيرة من العنصرين المكتئبين. وحكموا على كل من لم يستجب من الأهالي لتجنيدهم القسري؛ بأنهم مذنبون بالتهرب والتمرد والخيانة العظمى، وجردوا غالبية المحتجين من أرواحهم. وتركوا جثثهم معلقة على أشجار "النيم"، تتلاعب بها رياح البلاد الكبيرة. فيما تتقافز الكلاب المسعورة لنهشها، وتحوم فوقها النسور المصابة بالأنفلونزا المزمنة. عانت الحواضر المجاورة للبلدة القديمّة من الحصار. وتعرضت للسلب والنهب من الجنكويز والمطاليق معاً. هربت العائلات التي أثرت من فوضى تعدين الذهب، والنفط والمحاصيل والمواشي، إلى الأستانة والحواضر الخديوية. وتشتت العسس الذين كانوا يحرسون سرقتهم ومنهوباتهم ويحمونهم، في قِبل الأرض الأربعة؛ نازحين أو طلاب لجوء. غابت النجوم من سماء البلاد الكبيرة، ولم تعد تهب من جهة النّهر سوى أنات اليتامى، وتأوهات الأرامل المعطونة في رّائحة عُشبة "معونة" النيل المتعفنة. احتل المطاليق القصور، وامتلأت الشوارع بالجثث المتعفنة، والفئران والقطط والكلاب المسعورّة. وازدهرت تجارّة تهريب الناس من البلاد الكبيرة، ومنح الطعام مقابل الجنس. ولم يعد مجد البلاد الذي حلم به "الرُّحل" بعد الآن يلوح في الأفق!
| |

|
|
|
|
|
|
Re: كوابيس الجنكويز (الجزء الثاني من المطاليق (Re: احمد ضحية)
|
عندما نطقت أمونة كلمة "الحرب" بصوتها المنحسر، كان شيخ الزّين لحظتها يقف متكئاً، على "المِرق" القوي الوحيد، الذي يُجنب "راكوبة" دكان ود التويم من الانهيار، عندما ركضت حليمة ست الشاي نحوه وهي تهتف: "تلحقنا وتفزعنا يا شيخ الزّين" هدأ من روعها وهو يقول: "غمّة وتزول" لكن الجميع في قرارة أنفسهم، كانوا يدركون أن الحروب عندما تندلع، لا يستطيع أحد التنبؤ بميقات توقفها! وهو يربت على كتف حليمة؛ تذكر شيخ الزين شائعتها، حول حنان (العانس الضخمة جارّة ود التويم)، التي كادت أن تتحول بين الاثنين إلى حرب شبيهة بداحس والغبراء، تفنى فيها البلدة القديمّة عن بكرة أبيها! وقتها كانت "أمونة العسل" قد علمت، أن جارّتها حنان، شُوهدت وهي تنزلق خلسة إلى "تكية" شيخ الزّين، فأصابت جسدها حكَّة لم تهدأ؛ إلا بعد أن مرّت على مقهى حليمة ست الشاي، وأخبرتها بما سمعت! فضحكت حليمة بصوت مرتفع عابث، تناهى إلى أذن عم حسن الترزي، في الجهة المقابلة من الشارع، فانفتحت أذنيه على مصراعيها: "محايتو بيبسي وحوارو چكسي" وفي الواقع أن حنان لم تكن تلك هي المرّة الأولى، التي ترتاد فيها الشيوخ والفقراء، طلباً لتسهيل أمر الزواج. بعد أن أفنت صباها المأسوف عليه، بانتظار فارس أحلام، في بلاد قضت الحروب على معظم ذكورها. رفع شيخ الزين يديه تضرعاً، ثم قال لها: "كله بأمر الله" ولم يزد. خرجت من عنده محبطة. فقد كانت (حسب تفكيرها)؛ تتوقع أن يحدد لها ميقاتاً معلوماً، تُحل فيه عقدتها! ويمنحها أملاً يهدئ اضطرابها، ويجعل لصبرها معنى. ويئد جرثوم البلبلة؛ الذي يهاجم أفكارها طوال الوقت؛ فيجافيها النوم، وهي تتخيل أثناء غفواتها المتقطعة، همسات رجال البلدة القديمّة، وتأوهات نسائهن، فيما يكون في الواقع الكل نيام، ولا صوت سوى طنين البعوض الخبيث، أو زفيف الرياح الضالة! كان الزّين الذي تيتم باكراً في طفولته، مواظباً على "اللوح والدواية" في إحدى "الخلاوى"، التي كان أحد أسلافه الغابرين من أوليائها. وكانت الخلوى التي تقع خلف دارهم الواسعة، مزروبة بالشوك و"الطرور"، لا يحميها من غضب الطبيعة، سوى دعوات الأهالي (الذين لم يكن هناك ما يدل؛ على أنهم مؤهلين، كي تُستجاب دعواتهم!). ظل الزّين ردحاً من طفولته مواظباً على ارتياد هذه الخلوى، دون أن يشعر بأنه ينتمي إليها! وربما كان هذا الشعور سبباً في تعثر تعلمه القراءة والكتابة، فكان بالكاد يكتب ويقرأ في عُسر وعنت! لم يكن وقتها الزّين الطفل، الذي لطالما قالت والدته أنها "راضية عنه"، محبوباً بين أقرانه من الأطفال، بسبب انصرافه عن اللعب معهم، وعزوفه عن مجاراتهم في شقاوتهم. الأمر الذي كان يثير حفيظتهم، فيمعنون في ضربه و إذلاله، دون أن يحرك ساكناً! إلى أن فاض به الكيل ذات يوم، فقذف بحجر تجاه أحد الأطفال الأشقياء، فاخطأه وشج رأس "الفكي" القائم على أمر الخلوى. كان ذلك اليوم هو آخر أيام الزين في تلك الخلوى. بعد أن فشلت روح جده الولي الخالدة، في إقناع الفكي بإعادته مرّة أخرى، (رغم زياراته اللحوحة المتكررة للفكي في المنام!). لكن الزين لم يستسلم، فسعى بجد لتنمية القليل الذي تعلمه، معتمداً على نفسه اعتماداً تاماً، ولم يلبث أن اختفى فجأة من البلدة القديمّة، كأنه لم يولد فيها، أو مشى يوماً على دروبها، أو عاش بين أزقتها وحواريها. حتى أن والدته في الرّمق الأخير من حياتها، كانت لا تزال تجهل كيف وأين اختفى! فقد بحثت عنه طويلاً، إلى أن نال منها اليأس، واستسلمت لوحدتها المؤلمة! لا يؤانسها سوى طيفه في السن التي اختفى فيها، وبذات الثياب التي كان يرتديها! في البدء قال الناس أنه هرب، ثم انتشرت شائعات أنه قُتل، ودُفنت جثته في مكان مجهول، وشاعت شائعات أخرى تناقلها عازفي "أم كيكي" الحزينة، أنه اُختطف. وبدأت أصداء هذه الشائعات بمرور الوقت تخفت؛ وجذوتها تخمد. إلى أن أصبحت حكايته بكاملها نادراً ما يتذكرها أحد! كان الزين الطفل أثناء نومه، في الليلة التي سبقت هروبه من البلدة القديمّة، قد سمع هاتفاً يقول له: "ارحل" وهالة من الضوء تتشكل طيفاً، يشير بيده تجاه غروب الشمس. في تلك الساعة التي تبدت فيها البلدة القديمّة عن فجرها الشاحب المعتاد، تسلل الزين خفية من الدّار، تاركاً روحه خلفه تتلفت إلى أمه، فيما يتبع جسده الطيف الذي لم يفارقه منذ تلك اللحظة. إلى أن حط به الرحال في "دار الريح". ومن ثم ظل يتبع ذلك الطيف كلما لاح له، متنقلاً من خلوىٰ إلى خلوىٰ. يأخذ العلم من شيوخها، إلى أن قاده الطيف عبر فيافي وغفار، وعبر حواضر وبلدان مكث في خلاويها مفنياً صباه وزهرّة شبابه بين العلم والتجارّة. في تجواله لعقود طويلة، من أقاصي دار الرّيح إلى أقاصي شمال أفريقيا، التقى كثيرون من شتى بقاع الأرض. منهم من زامله في الخلاوى، ومنهم من جالسه في مجالس العلم، ومنهم من تعرف عليه في أسفاره معرفة عابرة (لكنها رسخت في ذاكرته ووجدانه إلى الأبد). وبمرور الوقت أصبح من هؤلاء الذين عرفهم في حياته، أمراء وملوك وأعيان دول. لم يلبثوا أن فتحوا الطريق لاستثماراته، التي لا يعرف عدد أموالها. فأنشأ الزوايا والتكايا في مجاهيل أفريقيا، وما وراء البحار. وكان كلما تمدد نفوذه؛ كانت سهام النقد تُوجه إليه بكثّافة. وتطال كل شئ ظاهراً وباطناً. وكعادته ظل يقابل كل ذلك ببرود لا يحرك ساكناً. ثمّة شئ غريب لم يفهمه أحد في شيخ الزين، ظل مصدراً لقلق وحيرّة أساتذته وأقرانه.. فالزين كان دائماً لا يرتدي سوى الثياب الفاخرة الأنيقة، التي تشبه ثياب الأمراء والملوك. ولا ينتعل سوى المراكيب الثمينة، المصنوعة من أفخر جلود النمور الآسيوية. ولا يتعطر سوى بأجود أنواع العطور الخشبية والعشبية الطبيعية، ولم يكن أحد يعلم من أين يحصل على كل ذلك على وجه التحديد! فيجنح ببعضهم الخيال إلى خاتم سليمان، ويتساهل آخرون (ممن يحسنون الظن) أن ذلك من ثمرّات تجارّته. فيما يؤكد الحالمين، أن الرجل عثر على كنوز في الصحراء أثناء تجواله من دار الريح إلى شمال أفريقيا. و يجنح خيال سيئ الظن، إلى نسج قصص غريبة، يبدو شيخ الزين خلالها كقاطع طريق أو قرصان بعين واحدة! أكثر ما أثار القلق والحيرّة حول شيخ الزين، أنه لم يجلس على "المقلوبة" كغيره من الشيوخ، الذين في ذاكرة الناس، ومثلما انصرف إلى العلم، كان أيضاً منشغلاً بالتجارّة في الآن نفسه. ليس هذا فحسب هو ما أثار قلق وحيرّة من كانوا حوله، فمنهجه الذي لم يألفه أحد من قبل، كان يثير فيمن حوله الاضطراب والبلبلة! فالزين رغم اتساع مداركه وتنوع اهتماماته، إلا أنه كان بسيطاً وقليل الكلام، و متساهلاً في كثير من الأمور، التي يحشد لها الشيوخ الآخرين ترسانات من الأدلة والبراهين لإنفاذها بكل قسوّة، فكان هو وبجملة واحدة يقوم بإلغائها، بأدلة وبراهين جديدة، تجعل حيّاة النّاس جميلة وسهلة. حتى ضاقت به صدور أساتذته وأقرانه من الشيوخ، وأخذوا يفجرون في الكيد له، وهو صابر على ابتلاءه بهم. إلى أن تبدى له طيفه القديم، وأعاده إلى البلدة القديمّة مرّة أخرى. عندما عاد شيخ الزين إلى بلدته القديمّة، لم يتعرف عليه أحد من اقربائه، الذين كان بعضهم لا يزال على قيد الحيّاة. ولفت منذ الجولة الأولى انتباه الأهالي البسطاء، بذوقه الرفيع وفخامة ملبسه. والعطور النادرة التي فاحت رائحتها، عندما خطى خطواته الأولى بعد غياب طويل، إذ عبرت هذه الروائح الدروب والشوارع والأزقة. مجتاحة في طريقها رائحة الجزار وزوجته وكل الروائح الأخرى، التي لطالما صبغت رئة البلدة القديمّة. فاثارت النساء (الآمنات في خدورهن)، وجن جنون الرجال. ونامت يومها حنان العانس نوماً عميقاً، لم يسبق أن نامت مثله منذ عقود. استقر شيخ الزين في دار قريبة من دار أمه المهجورّة. وكانت الخلوى التي طُرد منها في طفولته، أيضاً قد هُجرت وانمحت من الوجود، وتحللت عظام ذلك الفكي، وظل شبحه يحوم فوقها، فأعاد شيخ الزين بنائها وأحياها. في البدء نظر إليه الأهالي بشكٍ ورّيبة، ومنعوا أطفالهم عنه. لكنهم ما لبثوا أن بدأوا يرونه في أحلامهم، بوجهه الصبوح ولحيته الانيقة؛ ومظهره الهادئ رغم الأبهة التي دثرته؛ والتي جذبت إليه المراهقين والشباب، الذين كانوا وقتها ما أن يتقدموا باتجاهه خُطوة، حتى ينجح عباس وفضل السيد في تحريض آبائهم؛ فيتراجعون خُطوتين. ومع ذلك حصل شيخ الزين، على بعض الأطفال ذوي الآباء المغامرين الذين لا يكترثون لشئ! وبمرور الوقت لم يعد تلاميذ شيخ الزين من هؤلاء الأطفال فحسب، إذ جذب نهجه شباب وشابات البلدة القديمّة؛ والبلدات المجاورّة. إذ كانوا يشعرون به يشبههم؛ ويتفهم حالاتهم وأحوالهم. والأقرب إلى وجدانهم وروحهم. ببساطته وأناقته واسلوبه الأنيق. وقد كان جملةً شيخ من نوع فريد، لا يشبه الشيوخ الذين انطبعت صورتهم في أذهانهم بلحاهم المشعثة وجلابيبهم الفضفاضة، وعيونهم الشريرة؛ ونظراتهم التي تخفي خلف وقارها؛ خبثاً ومكراً ودهاءاً. ورغبتهم الممضة في حشر الناس المغلوبين على أمرهم، (الذين تعذبوا كثيراً في هذه البلاد اللعينة)، في جهنم دون سبب وجيه! إلا أنه منذ وطأت أقدامه البلدة القديمّة، على هذه الهيئة وهذا النّهج، الذي يجعل الجنة لكل الناس أقرب من حبل الوريد، شعر الأهالي الفقراء والأغنياء بالاستفزاز، فالأغنياء لشدة طمعهم يريدون جنة الأرض وجنة السماء معاً، والفقراء بسبب الأحقاد التي زرعها فيهم البؤس، يراهنون على جنة السماء، والأثنان لا يريد أحدهما أن يشاركه الآخرون جنته الموعودة! وهكذا أصبح شيخ الزين هدفاً مشروعاً لألسن الساخطين، التي تقطر غلاً وحسد، فأخذت تسلقه دون كلل أو ملل، بحرفية منقطعة النظير! كذلك لم ينجو من ألسُن متوسطي الحال، الذين رغم أنهم كانوا الأكثر تواضعاً، إلا أن ذلك لم يمنع نيران الغيرّة أن تندلع بين جنباتهم. وتسم عداوتهم الثورية بتطرف مدمر! وكالعادة؛ مثلما هو حال أهالي البلدة القديمّة، المنقسمين حول كل شىء. أغنيائهم وفقرائهم انقسموا حول شيخ الزين، إلى جماعات وفرق وطوائف.. منهم من فجر في عداوته. ومنهم من لم يأبه للأمر. ومن جهته قابل شيخ الزين عداوة الأعداء ببرود، وهو لا يفتأ "يسأل الله لهم الهداية". واتضح في خضم هذه الحرب الضروس، أن له أحباباً ومناصرين ومريدين، من المراهقين والشباب من الجنسين، الذين أصبحوا يعتقدون فيه عقيدة "وهيطة" لا يخامرها شك ولا تتزحزح. وكان كلما رأى منهم زرزورين يزقزقان منفردين، على غصن "مسوس"، سارع بتزويجهما وبناء عش صغير لهما ليبيضان فيه براحتهما. فكان الآباء (الفقراء على وجه الخصوص) يسعدون بذلك. ثم بدأت مواقفهم شيئاً فشيئاً تلين. وبدأت الجبهة التي شيدها عباس وفضل السيد تعتريها التشققات وتتهدم. بهيئته البذخية الفارهة، التي رأوه بها في أول مجيئه، راود طيف شيخ الزين أحلام الأهالي، وهو يحمل في يديه زكيبتين كبيرتين ممتلئتين بالمال، يطرق أبواب البلدة القديمّة باباً باباً، يوزع الأموال والابتسامات والدعوات الصالحات برفع البلاء، وما أن يصيحون في لا وعيهم: "سيدي شيخ الزين" ويستيقظون، يكون قد اختفى كالفقاعة، وتبدد في فضاء أحلامهم المجهضة! في البدء رأى هذه الرؤية ود السكة فقاد طفله البكر من يده، وذهب به إلى شيخ الزين. ثم أخذ فقراء ومساكين البلدة القديمّة، يرون هذا الحلم كل يوم، فيأخذون أطفالهم إليه، إلى أن أصبح الجميع يرون نفس الحلم. وامتلأت خلوى شيخ الزين بالأطفال. قال عبد الله الجزار؛ وهو "يطرق" سكينين ببعضهما؛ في حرّكة سرّيعة منتظمّة، فيما كانت لحظتها ابنته المراهقة سعدية تخطر على باله: "أنا الوحيد في هذه البلدة التعيسة، الذي لم يرى هذه الرؤية اللعينة. أنوم كل ليلة كالخروف، دون أحلام أو رؤى" ضحك ود التويم وقال له: "ما يرونه ليس رؤيا. إنه كابوس"
| |

|
|
|
|
|
|
Re: كوابيس الجنكويز (الجزء الثاني من المطاليق (Re: احمد ضحية)
|
ثم تركه واتجه ناحية تكية "شيخ الزين". الذي كان قد سأله قبل أيام قليلة؛ أن يجد له معمارياً بارعاً. قُبيل اندلاع الحرب بسنوات قليلة، هدم شيخ الزين المباني القديمّة المتهالكة، للدار التي ورثها من والده، وطلب من المهندس الذي أحضره له ود التويم، أن يعيد بناءها "تكيّة". وهكذا على مساحة ألفي متر حذاء مقرن النهرين، تأسست "تكية شيخ الزّين"، التي سار بصيتها الركبان. شيد التكية أبرع معماري وادي الذهب، بحجارة أُقتطعت خصيصاً لهذا الغرض، من الصخور المتناثرة حول جبل الأولياء. كانت تتوسط التكية حديقة زاهية، مزينة بالنوافير والأشجار المثمرة، وشجيرات الحناء والرّيحان. وحرص شيخ الزين على تجهيز التكية كمركز إيواء، يستوعب آلاف مؤلفة من النّاس. عندما أمر شيخ الزين بتشييد هذه التكية الواسعة المتسعة، كان كأنه يعلم بأن البلاد الكبيرة؛ ستندلع في ربوعها حرباً ضارية، وكان كل البنائين في هذه التكية، والأهالي المطمئنين في حضن إجابات البلدة القديمّة، (على الأسئلة التي لا إجابات لها)، منذ وضع شيخ الزين حجر أساسها، وهم لا يخفون دهشتهم ويتساءلون؛ عن الغرض من بناء تكية بهذه الضخامة، وعلى هذا النحو الغريب! إذ طلب شيخ الزين من المهندس البارع، وضع تصاميمها على نمط قصور الخلافة التركية، وزخرفتها بالرموز والأشكال التي تعكس الروح العباسية البائدة. وأن تتسع كسفينة نوح. وبالفعل شيد المهندس نحو ألف غرفة، متصلة بمخازن الطعام والأبهية الرّحبة، التي تصلح أيضاً أن تكون قاعات للدرس. عباس وفضل السيد اللذان لم ترق لهما الطريقة؛ التي ينتهجها شيخ الزين في الدعوة منذ البداية، وحشدا ضده رفاق كأسهم من رواد "الإندايات"، وهجموا على التكية، وأثاروا الكثير من الفوضى والبلبلة. التي دفعت بالمطاليق لاعتقالهما، إلا أن شيخ الزين تصدى للمطاليق الذين أرادوا ردعمهما. لكن ذلك لم يزرع في داخلهما بذرة عرفان! والحقيقة أن مشكلة عباس وفضل السيد منذ البداية، لم تكن مع نهج شيخ الزين، (فهما ليسا من الذين يكترثون لمثل هذه الأمور المعقدة). فقد كانت مشكلتهم الحقيقية، أن شيخ الزين اشترى الكثير من البيوت في البلدة القديمّة، لتزويج مريديه الذين كان يقيم لهم زيجاتاً جماعية، وبدأ يزحف حثيثاً تجاه الحي الذي يسكنانه. فكانت مخاوفهما أن يناما ويصحوان على بلدة مختلفة.. ليست تلك البلدة التي ولدوا فيها، وألفوا نمط حياتها. ورُغم أنه منع المطاليق عن ردعهما إلا أنهما استمرا في صراعهما معه، (بدافع إثارته لمخاوفهما حول الأرض والتراث)، وكان ود التويم كلما رأى أحدهما يضحك ويقول ساخراً: "مرحب مرحب يا صاحب الصراع الوجودي" وبلغت ذُروة العداوة لشيخ الزّين، عندما نجح فضل السيد في التآمر عليه بمساعدة الجنكويز، الذين زجوا شيخ الزّين في السجن لأيام. وعندما لم يعثروا على أي شيء ضده، أطلقوا سراحه، فاستقبله مريديه استقبال الفاتحين. هذا الاعتقال رفع من أسهم شيخ الزّين في كل وادي الذهب، وليس البلدة القديمّة فحسب. قبل أن تغيب شمس ذلك اليوم، خلف أشعة الوداع. خرج النّاس من بيوتهم كالنمل؛ عندما يخرج من باطن الأرض، إلى الشوارع والشمس والهواء، بعد توقف المطر. غير شيخ الزين من وضع اتكأته، على المرق الذي يسند "راكوبة" دكان ود التويم، وهو يرى سعدية الفاتنة بنت عبدالله الجزار، مزهرةً وسط الغبار الذي خلفه القصف، وفارعة كالبان ادارت وجهها؛ في كل اتجاه لفهم ما حدث. ولم تلبث عينيها في تجوالها؛ أن رأت آسيا أخت "حمدان المُر"، وهي تتهادى تجاهها، بمشيتها المخصصة لمثل هذه المناسبات. (كأنها تمشي على شارع النيل، أو حديقة برج الوثائق). لحظتها انتبهت أن والدها عبدالله الجزار، كان (رُغم تلك الظروف الحرجة، التي نشرت الذُعر في روع الأهالي)، يتابعها بعينيه في رّيبة وسوء ظن! (ككل الجزارين لا يثق مطلقاً في اللحوم الحيّة!)، ثم صرف بصرّه عنها؛ عندما لمح معذّبته أمونة العسل! أول مرّة رأى فيها عبد الله الجزار أمونة العسل، كان ذلك بعد أسبوع من زواجها من فضل السيد، وانتقالها إلى بيته. يومها كان قد استيقظ في الصباح الباكر، وهو يشعر بأن صحته لم تعد على ما يرام. شعر بذلك أثناء معركته مع أم سعدية ليلة البارحة، أحس وقتها أنه بدأ يطعن في السن. وذلك لأنه على غير عادته لم يتجاوب مع التُرهات الليلية لزوجته في الفراش. وهو في الجزارة يبايع الزبائن، لمح امرأة شابة، ذات شعر بني طويل منسدل، وفم شهواني منضود الأسنان. لحظتها كانت الجزارة قد خلّت، إلا منه ومن عباس (الذي لم يكن أعرجاً وقتها)، فاستدار ناحيته وسأله: "من كانت تلك الفتاة الحسناء ذات الشعر المنسدل؟" فرد عباس بخبث: "أنها امرأة يا رجل. لكنها شابة. زوجة فضل السيد. إبنة عمه. انتقلت إلى منزله قبل أسبوع" همهم: "لم أكن أعرف.. الواجب أن أبارك له الزواج" قال عباس بمكر: "نعم الواجب أن نبارك له الزواج" وشدد على كلمة "نبارك" حتى كاد يقرض لسانه بين أسنانه، التي دمرها التمباك. ثم أردف بصوت جاد: "دعها وشأنها، والا سيغرز فضل السيد هذه السكاكين في بطنك" لم يُعر عبد الله الجزار نصيحة فضل السيد أدنى إهتمام. وخطر طيف أمونة العسل يتهادى، وهو مع زوجته في الفراش فهمهم لنفسه: "ما نفع الرجل إن لم يكن بمقدوره ارتكاب بعض الحماقات من وقتٍ لآخر" وعندما علم بعد ذلك بوقت طويل (أثناء الحرب) بمقتل ثلاث مراهقين، كانوا يتحينون الفُرص للتحرش بأمونة العسل. ونظرات الاتهام الصامتة، التي كانت تلاحق فضل السيد في غدوه ورواحه. توقف عن التفكير فيها، (لكنه استمر عندما تأتي إلى جزارته) ينتقي لها أفضل اللحم عنده، ويزن لها أكثر من حقها (مع أن الجميع يعلمون أنه يطفف في الميزان)، دون أن يأخذ ثمناً إضافياً، ووصل به الأمر حد أن لا يعد النقود خلفها. وعندما تمضي يلاحق بعينيه ردفيها المترجرجين؛ وهو يبتلع لعابه في حسرّة. وعندما يخطر على باله مقتل المراهقين الثلاث، يتنحنح ويقول: "لعن الله الشيطان!'
| |

|
|
|
|
|
|
Re: كوابيس الجنكويز (الجزء الثاني من المطاليق (Re: احمد ضحية)
|
عندما زلزلت الأرض زلزالها تحت دوي الانفجارات، نسي الجميع صديقهم الشيطان، وذكروا اسم الله كثيراً. تعثرت النُسوّة ورجال وشبان البلدة القديمّة، في اندفاعاتهم من أبواب بيوتهم المحطمّة، حتى وقفوا حول دكان ود التويم، وقد تهدلت شعور النساء على أكتافهن، وتمزقت أثوابهن فوق ركبهن. وكانت صدورهن تعلو وتهبط في إهمال "الستيانات القوقو".. كانوا جميعهم مذعورين. رأوا بعضهم البعض. رأوا صورتهم وهم أحياء لم يموتوا تحت القصف بعد. ورأوا كل قبور البلاد القديمّة، تنشق دفعةً واحدة في حيشانهم. عانقوا بعضهم في أسى؛ وهنأوا بعضهم بالنجاة غير مصدقين، وشدوا على أيادي بعضهم في مرّارة؛ وهم لا يزالون مسكونين بالترقب والخوف! وانتهز بعض المراهقين، الذين أفلتوا من قبضة شيخ الزين، هذا الزّحام نادر الحدوث، فاقتربوا بأجسادهم من مؤخرات الفتيات الضامرات؛ وقد ارتعشت وجوههم بكتاحات الغرّام اللاذعة. فيما شعرّت الفتيات؛ بوخز كوخز أشواك الصبار. لكنهن لم يُحركن ساكناً، ولم يقلن شيئاً لأمهاتهن (ستحتفظ نوسة بفستانها المثقوب من الخلف، حتى آخر لحظة في حياتها؛ وهي تستعيد لفح أنفاس "وائل جِني" على عنقها، في تلك اللحظة التي حدث فيها كل شئ أمام الملأ، دون أن يدرك الملأ ما حدث!). كانت تلك هي المرّة الأولى والأخيرة، التي شهدت فيها البلدة القديمّة، تجمعاً كذاك التجمع؛ حول دكان ود التويم، أو قصفاً مروعاً كذاك القصف. منذ اندلعت تلك الحرب اللعينة! بعد ذلك القصف؛ أصبحت البلدة القديمّة؛ خارج أهداف طرفين الحرب. كأن أول معركة خيضت فيها، حصنتها إلى الأبد. منذها أصبحت ملاذاً للهاربين من المناطق الأخرى المشتعلة، التي كانت تتعرض للقصف بانتظام. يومها نظر ود التويم إلى حنان العانس الضخمة؛ في رّقة وهي تروح وتجيء تحدّق من الباب، الذي كان مفتوحاً على مصراعيه. ولأول مرّة شم رّائحة المسك والصندل و"الخُمرة"، التي تفوح منها. فقال في سره: اللعنة على شيخ الزّين" شيئاً فشيئاً بدأ كل الناس المتواجدين دون دعوة، وقد تجمهروا أمام دكانه، يتغالطون بأصوات بدت خفيضة؛ ثم علّت مع اشتداد الغلاط. كانوا يحاولون فهم ما حدث. انسحبت أشعة الشمس من صدر حنان، واختفت وراء أفق جبل كارناسي، وهي تودع البلدة القديمّة في ذُعر لم يسبق لها أن عاشته. تاركةً خلفها وهجاً رقيقاً، تحددت تحته حبات ندى لامعة، على شفتي أمونة المكتنزتين. كما تحددت تحته معالم ردف حنان الزلزالي المخيف، الذي اختبأت تحته كل تعاسات البلدة القديمّة وأحزانها، وفيما كانت عينا حنان الخبيثتان، تتابعان خطوات ود التويم، وهو يروح ويجئ في مكانه. دون أن يشارك في الغلاط المحتدم. في لحظة الخوف المريعة تلك، رأى فضل السيد بين زحام المتزاحمين، وجوه المراهقين الثلاث. عرفهم من أول وهلة، واستعادت ذاكرته تلك الليلة الليلاء، وهو يحث السير عابراً الحديقة المحترقة؛ غير محددة الملامح بلا سياج؛ في طرف البلدة القديمّة. والتي امتلأت أثناء الحرب بالعُشر والصبار والحشائش المدببة، ذات الأطراف الحادة. رُغم سُكره البائن إلا أنه كان يحمل كعادته مزيد من "عبوات عرقي البلح البكري"، في جيوبه.. عندما رأى ثلاثتهم يتبعونه! في البداية ظن أنهم مارّة مثله. كانت هناك بضعة بيوت بائسة متناثرة، تكوّن الحي شبه غير المطروق، الذي تسكنه غانيات سوق "النساوين"؛ اللواتي كانت أصوات غنائهن أحياناً، تقطع المسافة الفسيحة؛ لتلامس مسامع أهالي البلدة القديمّة في مضاجعهم. كان ثلاثتهم يتحركون في حذّر، (تلتصق أجسادهم أحيانا بأسوار البيوت)؛ وقد حبسوا أنفاسهم. قال أحدهم وهو يتلفت حوله؛ يمسح الشارّع ببصرّه: "ساندفع أنا في البداية" "ليس هناك أحد قادم" جال الأول ببصره في اتجاهات الشارع، كان يحمل في يده اليمنى عكازاً قصيراً، واندفع نحو فضل السيد كقط مسعور، وتبعه صاحبيه مندفعين خلفه. أمسك الأول بفضل السيد من ناصيته، بينما تشبث الآخران بقدميه؛ وأطبق أحدهما بيده على فم فضل السيد، يمنعه الاستغاثة. لكن فضل السيد الذي بوغت؛ وقد ألجمته الدهشة والخوف، لم يقاوم أو يحرك ساكناً. ثم ما لبث ثلاثتهم أن حملوا جسده، الذي ينضح برّائحة الخمر، وهم يلهثون تحت ثقله بعنف. ودخلوا به أحد البيوت المهجورّة، وخطواتهم تتعثر تحت وطأة وزنه الثقيل. كان قميصه قد تمزّق وقد تملكه الذُّعر. تبين في ثلاثتهم الشبان المرّاهقين، الذين دأبوا على التحرش بزوجته الفاتنة، وقد كان شكاهم أكثر من مرّة لعائلاتهم، فصرخ في وجوههم: "تتكاثرون عليَّٰ يا أبناء الكلاب وأنا سكرّان" فقهقهو وبدأوا يبصقون على وجهه، وهم يضربون بأرجلهم جسده المتكوّم على الأرض. لكن ذلك لم يشفي غليلهم. رفع الأول صاحب العكاز الصغير عكازه في الهواء، فدفن فضل السيد رأسه في حجره. فيما شقت العصا القصيرّة طريقها إلى كتفيه. ضربوه ضرباً مبرحاً، ثم داسوا بأرجلهم عليه. وفضل السيد يصرّخ وهو يتدحرج على الترّاب، وقد انفجرت عبوات "العرقي" في جيوبه. استطاع أخيراً أن يقف مترنحاً. لكنهم تدافعوا نحوه مرّة أخرى وأسقطوه على الأرض. وأخذ عرقهم يتصبب، وهم يحسون بالتعب قد نال منهم. ظلوا شهراً بطوله يخططون ويدبرون لهذه اللحظة التارّيخية الفريدة، منذ أن طردهم آبائهم من بيوتهم، بسبب شكاوى الأهالي الدائمّة من تفلتاتهم. وهاهم الآن يرونه مُلقىً أمامهم ضعيفاً كسيراً، لا حول له ولا قوّة، فتستولي عليهم الحيرّة. قال أحدهم: "يجب أن نقتله حتى لا يحاول الانتقام منا" رد عليه آخر: "أنه سكران. لن يعرف من ضربه عندما يفيق" رفع صاحب العصا القصيرة يده في الهواء عالياً ليضربه على رأسه، عندما تناهت إلى مسامعهم أصوات غليظة. ميزوا بينها صوت ود التويم الحاد. اتفق أن كانوا جميعهم يمرون، من اتجاهات مختلفة في طريقهم إلى بيوتهم، عندما سمعوا صرخات فضل السيد المرعوبة والمتألمة، تتناهى إلى مسامعهم من جهة البيت المهجور. فهرعوا نحو مصدر الصوت دون اتفاق. وتجمعوا أمام سورّه المهدّم، وقد تسلحوا من الأنقاض، التي في الشارع كيفما أتفق. تبين ود التوّيم في الجسد المكوّم على الأرض، جارّه فضل السيد صرّخ في وجوههم: "أيها المتفلتين الحمقى!" لاذ ثلاثتهم بالفرّار. فيما ساعد ود التويم؛ والذين معه فضل السيد على النهوض، و الذي كان جسده يترنح؛ والأرض تحته تدور. كان عاجزاً عن صلب طوله. قادوه إلى باب بيته. عند عتبة الباب كانت أنفاسه قد تقطعت، وقد أصفر وجهه. هرعت زوجته أمونة العسل؛ تسنده بزراعيها وصدرها المذعور. تعاون معها ود التويم وعبد الله الجزار وعباس، على تمديده على فراشه. وكان جسمه يرتعش بشدّة، كالذي تعرض لزمهرير برد رطب. طلب منها ود التويم تحضير بعض الماء الساخن والملح، وأقمشة صغيرة نظيفة للضمادات. وأسرع يفتح دكانه، ليحضر بعض العقاقير والأعشاب. رأى فضل السيد في الزّحام ثلاثتهم. اقترب من جسد زوجته أمونة العسل بقلق، وأحاط بخصرها بأحد زراعيه؛ وصوته ينزلق بين ركام الغلاط؛ ليجد موطأً لعبارّته المتحذّلقة: "كنت أعلم أن الحرب ستندلع، لذلك خزنت الكثير من التموين. لا نعلم كم ستدوم هذه الحرب" في تلك الليلة غرّقت البلدة القديمّة في الظُلمّة، واختفى جبل كارناسي في الأفق. واختلطت تنهدات نساء البلدة بمخاوفهن، وقد تدخنّ وتعطرنّ بالخمرة، وتدلكن ودلكن أزواجهن، وفتحن صدورهن، التي احتقنت استداراتها، بالهواجس والرّغبة الحثيثة في مقاومة الموت. ليلتها قالت أمونة العسل بلسان نساء البلدة لأزواجهن: "إن كنت سأموت يجب أن أموت تحتك" فنظر إليها فضل السيد في عذاب، وهي تتمدد على الفراش. تناديه بعيون متحدّية؛ نصف مغلقة. وهو يتفحص عرّيها من قمة رأسها إلى أخمص قدميها. ثم خلع ملابسه وتمدد فوقها كبركان. كانت تلك أول وآخر لحظة تشعر فيها بحب متجذر لإبن عمها فضل السيد. بعدها بأيام قالت لجارتها العانس حنان: "كان شيئاً كنزوع الروح. لم أشعر بمثل هذا الشعور من قبل" حدجتها العانس الضخمة بنظرة حسد وغل وغيرّة، تكفي لتدمير حيّاة كل فحول البلاد الكبيرة، الذين تمنت لهم لحظتها أن يصابوا جميعاً بالزهايمر والبرود. وانصرفت بخطوات مضطربة دون أن تودعها. أشرق صباح اليوم التالي، ودارت عجلة الحيّاة في البلدة القديمّة. ونسي الأهالي الذين كانوا بالأمس خائفين، الحرب والله والرسل والأنبياء وأولياء الله الصالحين، وانغمسوا من جديد في حياتهم البائسة، يأكلون ويشربون ويقضون حاجتهم، ثم يتغازلون ويلوكون سيرّة بعضهم البعض!
| |

|
|
|
|
|
|
Re: كوابيس الجنكويز (الجزء الثاني من المطاليق (Re: احمد ضحية)
|
كلب مسعور؛ في الساعات الأولى من الصباح عض (أمونة العسل)، وهي في طريقها إلى بيت جارتها حنان العانس الضخمة، و قبلها (في فجر اليوم نفسه) كان قد عض زوجها فضل السيد، قُبيل أن تطأ أقدامه المخمورّة عتبة الباب. ثم لم يلبث (قُبيل فتح ود التويم لدكانه بدقائق)، أن عض بعض المارّة؛ الذين تكالبو عليه وقتلوه رمياً بالحجارّة. كانت جثته تحت شجرّة "النيم" وقد لحقت بها الكثير من الأضرار، التي لا يمكن وصفها! قال جقندي وهو يشرع في حرق جثة الكلب: "هؤلاء القساة قتلوه بوحشية" فرد ود التويم دون تردد: "بل بضمير!" أشعل جقندي النّار، ثم انصرف برفقة ود التويم في طريقهما إلى دار الشاعر. الذي كان وقتها قد أنهى كتابة تقاريره لرؤسائه في المنظمة الأم بالخارج. عن الأوضاع الإنسانية بعد توقف الحرب. والتي كان قد انغمس في إعادة كتابتها للمرّة الثانية، منذ ليلة البارحة، كيما يتمكن من تضمين معلومات التقارير التي رفعتها إليه (سدم). قال جقندي: "كان العراب شخصاً حقوداً جداً، حتى وهو على فراش الموت، لم ينسى أحقاده الشخصية" أضاف ود التويم وهو يحدق في جسد العراب، كوحش صحراوي مفترس: "حتى الرّمق الأخير لم يشأ الاعتراف، بأنه سبب كل المصائب التي حلّت بالبلاد الكبيرة، في حياته وبعد موته" بدا لجقندي أن أعماق ود التويم، ابتلعت للتو جزيرة مهجورة، عزلت العراب في وحشتها فيما كان الأخير يغالب سكرات الموت، وسنوات حياته المضطربة تمر أمامه. فيري التلاميذ البؤساء المعدمين، الذين أخرجهم من دياجيرهم، وقد أصبحوا رجال دين منافقين؛ لا يتورعون عن بذل الفتاوى مقابل العطايا والجرايات، ورجال دولة أفاقين أسهل القرارات التي يتخذونها، هي قتل الناس دون أن تطرف أجفانهم.. خلال ثلاث عقود من الصراعات والحروب المأساوية، نال تلاميذه الكثير من الألقاب الأكاديمية والسيادية، وأصبحوا ساسة خبثاء تصعب مجاراتهم! كان ود التويم يتأمل جسده الممدود في لحظاته الأخيرّة، بنظرات لا تخلو من الشفقة، عندما شعر به يتنفس بصعوبة، والتنهدات تخنق صدره، فيتحشرج صوته حتى لا يكاد يتبين الحروف التي ينطقها: "وجدتهم سفهاء لا قيمّة لهم، بأسمالهم البالية وأحلامهم المحدودة، فجرت داخلهم ينابيع الخيال، واشتهروا في كنفي، وأصبحوا (خبراء) في كل شئ. اعتقلوني. سجنوني. نكلوا بي، وعندما أطلقوا سراحي، أخذوا يمرون أمام ناظري، وهم يرسمون على وجوههم ابتسامات ساخرّة. والآن ها أنا ذا أموت دون أن يأتي أحدهم لوداعي" نقل جقندي بصره بين وجه ود التويم، وجسد العراب المسجي كجثة هامدة، وقال بصوت خافت: "الآن يخطو خطواته المهتزّة في وحشة العدم، يرى بوضوح شديد تلاميذه؛ الذين صنعهم بإخلاص نحات مختل، محض مخلوقات بائسة جشعة، استحوذت عليها شهوّة القتل والتدمير.. تتآمر على بعضها البعض وتتاجر بكل شئ! ولا يكاد سؤال المصير يخطر ببالها!" ثم أضاف يخاطب جسد العراب الهامد: "قتلوا أحلام البلاد الكبيرة، ومزقوها أشلاء. وهاهم الآن ينهشون بعضهم البعض، وأنت المسؤول الأول حتى لو لم تعد معنا في هذه الحيّاة" ثم عاد بذاكرته إلى الوراء بعيداً، يتذكر الليالي الطويلة؛ التي قضاها مع العراب في الزنزانة الكئيبة. التي جمعته به وبود التويم ودرع سيده، وآخرين من قادة طوائف ورموز البلاد الكبيرة. وقتها بدأت عاصفة الأسئلة، التي أثارتها هُوية الانقلاب الغامض، والغيمّة السوداء التي ألقت بعباءتها تغطي كوات المعتقل، المتاخم لبرج الوثائق، تتبدد كالدخان. في لمحة خاطفة كالبرق، رأى جقندي بعين خياله كل شئ! فطفى جسده في فراغ الزنزانة، كالمحمول على سواعد فراشات عابثة، وقال بإيجاز معبراً عن انطباعه حول ضجيج قادة الطوائف المتسائلين: "هذا الرجل يعبث بنا. هذا الرجل متآمر خبيث" وأشار نحو العراب، الذي من جهته اكتفى برسم ابتسامته الماكرة الشهيرّة على جدار الزنزانة، دون أن ينطق بحرف. حدق درع سيده بوجه جقندي باستنكار، لم يكن كافياً لردع جقندي عن تكهناته، فيما كان جقندي لا يزال يتفحص ملامح وجه العراب الخبيثة، كأنه يقرأ في كتاب قديم مطلسم، ثم قال: "بانقلابك هذا فتحت الطريق لحرب ضارية، لن تبقى في البلاد الكبيرة حجراً على حجر" بعد مرور أكثر من ثلاث عقود، على تلك اللحظة، التي قال فيها جقندي ما قال، اندلعت الحرب. وعندما يستعيد الشاعر الآن كل تلك السنوات، من مرارات وقائع ماجرى في البلاد الكبيرة. يشعر بحزن لا حدود له. كان الشاعر في طريقه إلى مكتبه، بعد أن ودع جقندي وود التويم. لفتت انتباهه شابة رّثة الثياب، تحمل طفلاً صغيراً مهضوماً على كتفها. كانت عيناها تضجان بالفجيعة والمأساة. عندما مر من أمامها، عند مدخل باب المنظمة، استوقفته بصوت ممزق تطلب العون.. بدا له وجهها شاحباً كوجه شبح. شعرها متسخ. أظافرها طويلة وثيابها مهلهلة. تحمل بذراعيها النحيلتين اليابستين طفلها على كتفها.. كانا معاً أشبه بمومياء أزلية، التصق جلدها على عظمها. وكان طفلها الصغير بشعره الأسود، وعينيه الصغيرتين المذعورتين وجسده المرتعش وأذنيه الحادتين، منطوياً على كتفها في خوف! قادها إلى مكتبه. أجلسها. ثم جلس على مقعده المرتفع، وسألها: "هل أطلب لك شيئا تأكلينه؟" أومأت رأسها بالايجاب وهي تقول بحياء: "شاي أو قهوة" أسند إلى الحائط رأسه الثقيل، وحدق بعينيه جهة الباب، وهو يطلب لها قهوة و للطفل عصير. جلس دون حراك، وهو ينبش بمخالبه سطح المكتب. ونظر إليها.. كان ذهنها مضطرباً، وقلبها يدق بعنف (لا شك أن الحياة قست عليها كثيراً.. افتقرت فيها إلى كل شئ!)، وبدأت تحكي.. قالت، أنها غادرت دار الريح، قُبيل توقف الحرب بعدة شهور، وبعد أن وصلت إلى وادي الذهب، هرّبت إلى الدولة الخديوية. "كغيري كنت أبحث عن الأمن و رّاحة البال". لم تفكر في أنها ستواجه ما واجهته في الحدود، أو مقابلة أناس تجذرت في وجدانهم العنصرية والاستغلال! "كان عليّ أن أبدأ من جديد وتحمل كل شئ، لكنهم حرموني (حتى) من ذلك!". قالت وهي تحوّل طفلها المهضوم من كتفها، إلى حجرها. ثم أضافت كأنها تستدرك: "لم أفكر في اختلاف الثقافة و اللهجة. وكيف يمكنني التحدث إلى حرس الحدود أو الأهالي، دون تعثر أو بطريقة يفهمونها. فقد كانت تلك أول وآخر مرّة أعبر فيها خارج حدود البلاد الكبيرة. لم أكن أعرف كيف أرد على عنصرية بعضهم، وهم يقيمون لهجتي وتصرفاتي، على أساس لون بشرتي، لكنني في النهاية عندما أفكر في أنهم رحلوني، لا أشعر بالندم. فقد ماتت رغبتي في مغادرة البلاد الكبيرة، وأشعر أنني أستطيع تحمل ظروف الحرب، لكن لا أستطيع تحمل معاملة الخديويين لنا" رأى في عينيها صرخات استغاثة ملتاعة، بدت أشبه بغريق في بحر متلاطم الأمواج، حطمت الرياح المجنونة أشرعة مراكبه ومرساته وكل شئ، فأصبحت تنتظر غرق المركب، الذي أخذت المياه تتدفق داخله من كل جانب. عندما حكى لود التويم عنها، وعن السحابة والريح العاتية، اختفى كل شيء! وعادت مخيلته فارغة يتردد فيها الصدى. فتأمل ود التويم وجهه وقال: "ما حدث للبلاد الكبيرة يفوق الخيال" ثم أضاف: "لا تزال جرائم العراب تلاحقنا" ثم التفت ناحية ضيفه الثقيل عبدالله الجزار، وهو يتململ. لكن الجزار تجاهل الإحساس الطارد، الذي أشاعه ود التويم في تلك اللحظة! كان عبد الله الجزار، ينحدر من إحدى سلالات الفلاحين الفظة، التي عجت بها قصور الخديوية. هرب جده اسماعين برفقة زوجته عيشة، إلى البلاد الكبيرة نجاة بنفسه من ثأر، لم يرغب في التعامل مع تبعاته وتحمل وزره. وعندما استقر بهما المقام في البلدة الكبيرة، ظلت عيشة تتكاثر كالأرانب، إلى أن ضاقت بأسرتها البلدة القديمّة، فرحلوا واستولوا على الأرض (خارج التخطيط)، في قفا البلدة وسكنوها وعمروها. وشجعها براح الدار الجديدة على التكاثر أكثر، فظلت تتكاثر هي وأبنائها وأحفادها، حتى آخر رّمق في حياتها. و بدأ أهالي آخرون يتقاطرون من كل فج ويساكنونهم. حتى أصبحت تلك الأرض بلدة جديدة متصلة بالبلدة القديمّة، أطلق عليها الأهالي اسم "الحلة الجديدة". جدّة عبد الله الجزار، هي إحدى "الأرنبات" من سلالة عيشة. وقد وردت قصتها في أغاني الإندايات، ومثل أسلافه كان عبدالله ضخم "الجثة" وفظاً، تجاور جزارته دكان ود التويم. يقف بداخلها طوال اليوم؛ منحنياً بفأس اللحم الصغير؛ على العظام المكسوّة باللحم، يكسر ويقطع اللحم، الذي تنتشر رائحته في كل مكان حوله. كانت ذراعه مفتولة؛ صلبة؛ من كثرّة استخدامها. حتى ليستطيع أن يكسر عظم فخذ الخروف، دون حاجة لفأسه القصيرة! وكانت زوجته النحيفة تنحدر أيضاً من سلالة عيشة وإسماعين، تبدو خلفه كما لو كانت قصبة ذرة رفيعة! وكان عبد الله الجزار؛ عندما يتركها ويغادر البيت صباحاً، تظل رائحتها الجنسية المروعة، التي اختلطت بعرقه و امتزجت برائحة اللحم، التي اصطبغت في جسده، تثير شهوّة كل كلاب الحي، فيجن جنونها! وتظل تدور حول نفسها تهمهم، دون أن يفهم الأهالي ما الذي حدث لهذه الكلاب! وما أن بلغت ابنتها سعدية سن المراهقة، حتى اصطفتها وسارعت بتوريثها هذه الرائحة الفريدة، (رغم أنها لم تكن من النوع الذي يبالي بتوزيع تركته في حياته). وكانت هذه الرائحة، تزيد من خصوبة نساء البلدة القديمّة العاقرات، بمجرد مداعبة الرّائحة لخياشيمهن! كما أن كلاب البلدة القديمة، عندما أصيبت أثناء الحرب بلوثة السعر، نتيجةً لأكل الجثث المتعفنة. وجد الأهالي في البداية صعوبة، في معرفة ذلك. إذ ظنوا أن زوجة عبدالله الجزار تسير في الأرجاء! إذ كانت ما أن تطأ قدميها شوارع البلدة القديمّة، حتى تتسلل رائحتها إلى أنوف الشبان، فيجن جنونهم ويتحرشون بنساء البلدة! قال ود التويم ساخراً، وهو يرى عيني الجزار تتابعان المؤخرة الرجراجة لأمونة العسل، فيما كانت هي تدخل وتغلق باب بيتها خلفها: "ليحل السلام على البلدة لابد من طرد عبد الله الجزار" فرد عليه جقندي ضاحكاً: "عبدالله الجزار شعب كامل يا رجل!" ثم سرح بخياله قليلاً وقد خطر على باله (العراب). كان عراب (طائفة الجنكويز). قد حدد ساعة الصفر لتنفيذ انقلابه، مع تبدد آخر شعاع من الأمل في البلاد الكبيرة. ظل العراب على مدى عقدين من الزمان يخطط لهذا الانقلاب، الذي سيكون بداية النهاية لوحدة البلاد الكبيرة المترامية الأطراف. وكان من آن لآخر يُخرج خُططه من مخبأها.. يحذف ويضيف إليها بقلم الرصاص، ويضع ملاحظات بالقلم الأحمر، حتى أصبحت أوراق خُطة الانقلاب؛ أشبه بمخطوطات أثرية قديمّة. أوكل العراب مهمة تنفيذ انقلابه المشؤوم لـ(أبي شوتال)، بعد أن بدا واضحاً أن السلطان (درع سيده) بات عاجزاً، عن الحفاظ على أمن واستقرار البلاد الكبيرة.
| |

|
|
|
|
|
|
Re: كوابيس الجنكويز (الجزء الثاني من المطاليق (Re: احمد ضحية)
|
وكان درع سيده؛ قد تولى الحكم خلفاً للسلطان (هبنقة) حليف الجنكويز، الذي في عهده أتاح لهم فرص نمو وتمدد؛ لم تتاح لهم في عهد أي من سلاطين البلاد الكبيرة البائدين، ووصل به الأمر أن جعلهم في مناصب رفيعة، فأصبح العراب شخصياً مستشارّه الأول. لذا عندما حانت لحظة انقلاب العراب على درع سيده، كان ذلك بمثابة خط شروع جديد؛ لجماعات الجنكويز المنتشرة في الإقليم. والتي كانت تعاني قمعاً وحشياً، خصوصاً في الدولة الخديوية. وبنجاح إنقلاب الطائفة، تطلعت إليها أفئدة جماعات الجنكويز في الإقليم والعالم. فقد كان جنكويز البلاد الكبيرة، هم أول حركة جنكويز تصل السلطة في الإقليم والعالم بأسره. لم يكشف الانقلاب في البداية عن توجهه الجنكويزي، وكان عرابه نفسه قد أُعتقل على يد تلاميذه، ضمن خُطة التمويه، التي رسمها بنفسه لتأمين الانقلاب. فقد قال لأبي شوتال قائد الانقلاب، قُبيل ساعة الصفر بساعاتٍ قليلة: "اذهب أنت إلى القصر رئيساً وأنا إلى السجن حبيساً، لا خيار لحماية أنفسنا و طائفتنا، إلا بتعتيم هُوية الانقلاب ريثما يخلص لنا الأمر" وبالفعل أخذ رواد الإندايات، وتجار سوق السراويل، وغانيات سوق النساوين، والمشردين اتباع جقندي وأعيان طائفة درع سيده، وكافة طوائف وأهالي البلاد الكبيرة، يتساءلون في غدوهم ورواحهم، عن هُوية هذا الانقلاب الغامض! مد جقندي رجليه على أرض الزنزانة الرّطبة، موجهاً سؤاله لدرع سيده: "من تظن يقف خلف هذا الانقلاب؟" "ربما هم أولئك القوميين المغامرين، الخارجين عن الملة" فيما كان العراب لحظتها، يحك أنفه ويقول بخبث، وهو يوجه كلامه إلى درع سيده: "أغلب الظن أنهم ضباط من ذوي الولاء لطائفتك" فقال جقندي: "هذا مستحيل. كيف أن ولائهم لدرع سيده، ثم يقررون الانقلاب عليه؟" "ليس مستحيلاً. فللسلطة منطقها الخاص وسحرها، الذي قد يلغي الولاءات إذا اقتضت ذلك القرارات" وبالفعل كان منفذي الانقلاب من العسكريين العاديين، المكتئبين والمغمورين في الحياة العامة وداخل الجيش، والذين لم يكن أحد يتوقع أن هذه الشرذمة من الضباط البائسين، الذين لا يلفتون انتباه أحد، هم قيادة "التنظيم الخاص" للجنكويز داخل الجيش. إذ ليس من بينهم من عُرف له إنتماء، لأي طائفة من طوائف وادي الذهب أو البلاد الكبيرة. نجحت خُطة العراب التمويهية، ولم يعلم النّاس بهُوية الانقلاب الجنكويزية، إلا بعد شهور عديدة، تمكن الجنكويز خلالها، من القضاء على عناصر ونفوذ السلطان المخلوع درع سيده، و سحق معارضيهم المحتملين في كل طوائف البلاد الكبيرة، وهكذا دانت لهم السلطة المطلقة! بدأ العراب يمهد لتنفيذ هذا الانقلاب، قبل عقدين من الزّمان. حينما خاطب التلاميذ الملتفين حوله للمرّة الأولى، في أمسية كئيبة محتقنة بالمخاطر، أخرجت البلاد الكبيرة فيها أثقالها من المشاكل والهموم، ورمتها على "قفا" درع سيده المتردد العاجز عن الفعل.. في تلك الجلسة على مقربة من سوق السراويل الجديد، تأمل العراب وجوه تلاميذه طويلاً قبل أن يقول: "نحن اليوم في طائفة الجنكويز، نوشك على قطف ثمار كفاحنا، فقد اقتربت ساعة (ليلة القدر) المنتظرة، وأكاد الآن أراها بعيني" ورُغم أن فهم مقالته استعصى على البعض، إلا أن جل تلاميذه انتابهم لحظتها شعور خفي، أن العراب، يخطط للاستيلاء على السلطة في البلاد الكبيرة. وتحققت "ليلة القدر" هذه بعد عقدين من الزّمان، عندما أطاح تلميذه أبوشوتال بالسلطان درع سيده.. منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب، اجتمع شيخ الزين بالأهالي. خطب فيهم وقال؛ إن الموت هو الأمر الوحيد، الذي لا يمكن الهروب منه! يدرك الناس في أي مكان. وطلب منهم البقاء وعدم الفرار، وأن لا يهجروا بيوتهم. وإن قُدر لهم الموت سيموتون هنا أو هناك. لن يوقف الموت شئ! اقتنع الأهالي الذين (لم تكن في نيتهم النزوح) بخطبة شيخ الزين أو بدونها. وقرروا جميعا البقاء. ولم يمض سوى أسابيع قليلة، حتى تدفق آلاف النازحين إلى البلدة القديمّة وامتداداتها، حتى ضاقت بساكنيها. ورغم أن البلدة كانت تتعرض للقصف من آن لآخر، إلا أن الأضرار التي لحقت بها، أقل بكثير مما لحق بالبلدات الأخرى. وشيئاً فشيئاً مع تواتر أخبار المناطق المشتعلة، بدت البلدة القديمّة أكثر أمانا. إذ كانت كل مناطق وادي الذهب الأخرى، تتعرض لقصف كثيف بانتظام على مدار كل يوم. تأمل شيخ الزين الرجل العجوز، الذي كانت المرأة النازحة تسنده بزراعها النحيلة الشاحبة. كانت ترتدي ثوباً خشناً متسخاً، بدت فيه فاترة وبائسة وغامضة. (ربما كانت في العشرين من عمرها، رغم الشيب الذي خط شعرها قبل الأوان). قالت دون مقدمات: 'دخلت معسكر الجنكويز لأمنحهم نفسي مقابل أي شيء. نحن خائفين وجائعين!' بدا العجوز المستند على ذراعها أشبه بحطام، برأسه الأصلع وعينيه الكابيتان. وعنقه الطويل (أكثر مما يجب)، والذي كانت قد انحفرت عليه أخاديد وكهوف صغيرة، مماثلة للتي انحفرت على وجهه! نقل شيخ الزين بصره إلى المراة الشابة (لابد أنها حفيدته). كانت أشبه بصحراء قاحلة موحشة، تكدست فوقها آكام من المواجع والأحزان. (قبل الحرب كانت هذه الفتاة فاتنة. حديقة مزهرة. مثمرة، لكن الحرب دمرتها!). بكت النازحة الشابة. بكى شيخ الزين وهو يستمع إليها وهي تحكي في صوت منكسر: "جعنا. ذهبت إلى الجنود الجنكويز، لم يكن هناك سبيل آخر للحصول على الطعام، كنا محاصرين في بيوتنا. أجبرونا على ممارسة الجنس، للحصول على طعام. أو السماح لنا بالوصول إلى منازل مهجورة، لنهب ما تبقى فيها، وبيعه في أسواق المنهوبات، التي انتشرت في كل مكان. سُمح لي مثل كثيرات، بأخذ الطعام ومعدات الطبخ من المنازل الفارغة. كنت وغيري نتعرض للتعذيب، إذا توقفنا عن ممارسة الجنس معهم". ربت على يدها بحنان وقال: "لا تقلقي. في هذه التكية، ستعمر الصحراء الموحشة وتزهر وتثمر من جديد" ثم التفت إلى أحد المريدين، الذي هرول يتقدمهما، ليأخذهما إلى حيث يرتاحان. قبل اندلاع الحرب، عندما أطلق سراح ود التويم وجقندي، أراد الشاعر الذهاب للاطمئنان عليهما، واستغرقه التفكير في من يزور أولاً، وبعد تفكير ممض، استقر رأيه على أن يذهب إلى ود التويم، ويصطحبه معه لزيارة جقندي. وعندما بلغ دار ود التويم، فوجئ بجقندي قد سبقه إليها. تداولوا أحاديث السجون، التي أثارت شجونهم. ثم لم يلبث أن توافد بعض الجيران: دخل عباس، تلاه عبدالله الجزار وفضل السيد. كان ثلاثتهم وقوف لم يرغبوا في الجلوس. قال عبدالله الجزار: "لدينا كثير من الأشغال الآن. لكن سنأتي في المساء لنتفقدك" ثم أضاف: "سنسهر معك الليلة. أعلم أنك لا تشرب. لكنني لا استطيع السهر دون شراب" ابتسم ود التويم. واستحى أن يمنعه، فيفسر حديثه خطأ. انصرف ثلاثتهم. والتفت إليه الشاعر، دون أن ينطق بحرف. فقال ود التويم: "يجب أن تقضوا الليلة معي" وفهم جقندي أن ود التويم لا يريد أن يبقى مع "مخلوقات بلدته العجيبة" وحده. فنظر إلى الشاعر الذي قال: "حسنا أنا أيضاً سأحضر شرابي معي. فقد مرّ وقت طويل لم أشرب. أشعر أنني بحاجة لشراب" وفي المساء اجتمعوا جميعاً في بيت ود التويم. ورُغم أن لا شئ (موضوعياً) كان يجمع بين الشاعر وجقندي وود التويم من جهة، وفضل السيد وعباس وعبد الله الجزار من الجهة الأخرى. إلا أنهم كانوا وهم يتمايلون مع المعزوفة العذبة الحزينة، التي باحت بها "أم كيكي" من جهاز التسجيل، بكل شجن الغنا و آلامه وعذاباته، أشبه بأصدقاء قدامى جمعت بينهم صداقة حميمة، أو أشبه ب(شلة) أُنس تفرقت بها الدروب، قبل أن تجتمع في تلك الأمسية. تحدثوا عن الألم الذي أشاعته نغمات "أم كيكي". وتحدثوا في الحب والحرب.. تحدثوا في شيخ الزين وفي البلدة القديمّة وفي كل شئ. وتفادوا تماماً الحديث عن حنان العانس جارة ود التويم، كأن اتفاقاً مسبقاً لتفاديها جمع بينهم! وشربوا حد السكر، إلى أن فقدوا الإدراك، باللحظة التي استسلموا فيها للنوم! في الحقيقة الشاعر لم ينم. ظل يراقب طلوع النهار، من خلال النافذة الصغيرة للغرفة، وقد بدت جبهته لامعة واسعة، والشمس تنعكس عليها. وشعر رأسه وشاربه الرفيع يبرقان، وعيناه البنيتان المستديرتان العميقتين، لا تتحركان وهما تحدقان عبر النافذة. لم ينم طوال الليل، لكنه ظل يراقب ويسمع ويشرب، وقلبه ينتفض ريثما يهدأ. وفي كل مرّة يصرخ في ضراوة مسكوناً بالمشاهد المأساوية، التي يراها كل يوم، يعود قلبه ليضطرم من جديد. ضاعت هدراً كل الخمر التي سكبها في جوفه ليلة البارحة. لم يكن ثملاً، فلطالما كان بينه وبين نفسه يفخر، بأن الخمر لا تؤثر عليه. كان يقف من حين لآخر، يذرع أرض الغرفة جيئةً وذهاباً. ثم يعود فيجلس. وهو يشعر باحتقار هؤلاء الذين تسكرهم الخمر، فيترنحون ويتعثرون وتنسكب دواخلهم، أو يبدأون في النباح. حقاً لم يسكر، فهو يذكر أن عبدالله الجزار سأله: "أي نوع من الشعر تكتبه أنت؟" وأنه رد عليه بتواضع: "أنه لقب قديم منذ الصبا، عندما كنت أكتب الشعر الحر" فقال فضل السيد: "حر أم عبد" وانفجر ضاحكاً بعد أن كان مشرئباً بعنقه، وهو ينصت للحديث المتبادل بين الشاعر وود التويم وجقندي، بجدية. صاح فيه عباس بغضب يحاول تهدئته: "يبدو أنك سكرت يا فضل السيد، الأفضل أن تذهب لتنام" حدجه فضل السيد بغضب: "سكرت أنا. أنا ما بسكر. ياخ نغمات أم كيكي دي عذاااااب" و صمت ورأسه ينكفئ على صدره. ثم أسند رأسه إلى الحائط وأغلق عينيه. وكأنما "أم كيكي" ذات النغم الحزين، كانت سكرى هي الأخرى، فقد فجرّت فيهم جميعاً ينابيع الحزن والقلق والمواجد. وحكى فضل السيد عن سعدية بنت عبدالله الجزار (دون أن يذكر اسمها)، التي كانت قد عبرت النهر في رهط من بنات شعبها من سلالة عيشة، قادمة من زيارة عمتها، على الطرف الآخر من الوادي، عندما اقتربت من البلدة، فوجئت بارتكاز في مدخلها. أوقف الجنود المارّة وتحرشوا بالفتيات والنساء. لحظتها ظهر فضل السيد فجأة من العدم، واقترب من الجنود. تحدث معهم بصوت خافت ثم صاح أحدهم: "أنت.. يمكنك أن تنصرفي" أدركت سعدية في تلك اللحظة، لأول مرّة أن فضل السيد ليس كما يبدو عليه، وشعرت به وهو يتحدث مع الجنود شخصاً آخر، لم تنتبه له من قبل؛ فرف قلبها. وقتها كان قد لحق بها. فسألته: "أنت معهم؟" فقال بارتباك: "لا لا أنا مع نفسي. أنهم أصدقاء فقط. قلت لهم أنك إبنة أختي" "وقريباتي. وأولئك الناس؟" "لا تقلقي سيسألونهم أسئلة بسيطة، ويتركونهم يمضون في حال سبيلهم" بعد أن تركوا الارتكاز خلفهم، غنت له سعدية أغنيات فلاحية غرامية ماجنة، انتزعتها من الذاكرة الجينية لجدتها البائدة عيشة. وغنت صويحباتها أو قريباتها المسعورات خلفها؛ فيما ظل هو طول السكة يتلفت! (متخيلاً عبدالله الجزار؛ تنشق عنه الأرض فجأة). غنت بعذوبة عابثة؛ بحيث تجاهل نباح الكلاب المسعورة، الذي تناهى إلى مسامعه من بعيد. وبحيث لم يطاوعه قلبه، فتناول يدها وضغط عليها ممتناً برقة، أشعلت النار في رفيقاتها اللواتي، كن قد انطفأن في رّماد آخر كلمة، من كلمات الأغنية الجامحة. فيما نسمة متفلتة من جهة النّهر، لفحت وجهه، وردت إليه صوابه. فسحب كفه الذي كان يحتضن يدها، ووضعه في جيبه بتوتر، وهو يربت عليه باليد الأخرى! فانفلتت منها ضحكة شقية. عابثة، وكانوا قد وصلوا "الحلة الجديدة"، فتفرق جمعهم. وهي لا تفتأ تستدير وتنظر إليه، إلى أن خطت عتبة باب دارها، والتفتت التفاتة أخيرّة. قبلت اليد التي احتضنتها يده، وأغلقت الباب خلفها. منذها لم يصادف أن رآها سوى مرة واحدة، عندما قصد دار عبد الله الجزار، ليتباحثان في شأن شيخ الزين.. وقدماه تخطوان داخل الحوش خلف والدها، تسللت تلك الرائحة تنسج شباكها حول خياشيمه، كعطسة معلقة في مجاري منخريه وحلقه. اربكته وهي تلوح خلف سياح الحناء. تسقي زهور صباح الخير والريحان بابريق حلبي صغير. ثم التفتت تجاهه بغتة، يقفز من عينيها نداءاً مجنوناً. وخلخالها يرن بصوت مكتوم على الأرض، التي اهتزت تحت قدمها. (كان كل ذلك فوق طاقته). ثم ضحكت ضحكة عذبة عابثة. كصوت أم كيكي، الذي انبعث فجاة من كل مكان. همس في سره وهو يحسر نفسه عنها: "استغفر الله.. استغفر الله" (نظر جقندي لوجه فضل السيد المحمر من شدة السكر، وهمس في سرّه: إبن الكلب يقصد سعدية حتى لو غير الأسماء). لم يراها مرّة اخرى إلا في اللحظة التي زلزلت فيها الأرض زلزالها. دون أن ينتبه عبد الله الجزار الغارق في خضم أمونة العسل، أن ابنته قد استردت خصرها من ذراعه بهدوء، ومضت بخفة تهمس في أذن فضل السيد همسة، لم يتمكن أحد من سماعها. أو الإنتباه إليها. في مساء ذلك اليوم اندلعت رائحة سعدية، فتبعها فضل السيد.. قادته الرّائحة المجنونة خلفها. ترك البلدة القديمة خلفه، وعبر إلى الحلة الجديدة. كانت الرّائحة تشدّه، كما يشد الرّسن البعير. وكانت السماء ملبدة بالغيوم، فيما برق متقطع يكشف من آن لآخر أشباح البيوت أمامه. ورائحتها في أنفه تشتد وتستحوذ عليه. تنتزعه من نفسه. إلى أن اقترب وأطلت بكل وحشتها من فتحة الباب الموارب. أمسكت بيده تجذبه إلى الداخل. تردد. قالت: لا تخف. ودخل. كانت الرّائحة قد استحوذت عليه، وفي مخزن نائي في الطرف الآخر من الحوش، أغلقت عليهما الباب. وقالت: إنه مكان آمن. في هذه اللحظة بين الزّحام، وتلك اللحظة التي لم تحدث بعد في المخزن حيث كانت ملامحها تتضح شيئاً فشيئاً، في حلكة الظلام تحت همس أصابعه: وجه خديوي بيضاوي. فستان مكتنز بالمقتنيات الثمينة النافرة. المتوحشة ترتج تحته.. تكاد تمزقه. ثم لمعت عينيها في ظلام المخزن، و أضاءت المكان كله. بعدها بأيام ذهب فضل السيد إلى شيخ الزين. قبل يديه وبكى. حكى له كل شىء من المبتدأ إلى المنتهى. واشتد بكائه وهو يقول: "لم أكن في وعيي. أنا لست هكذا" ربت شيخ الزّين على كتفه. وقال "الانكسر يتصلح" وانصرف فضل السيد وباله قد هدأ. وأخذ يفكر في ترسانات أسلحته المدخرة، لمواجهة حربه الصغيرة الوشيكة، مع زوجته أمونة العسل. كان عباس وعبدالله الجزار اللذان راودتهما الشكوك، حول شخصيات مغامرة فضل السيد، ينصتان باهتمام. لكن مع الحوريات اللواتي خرجن من أعماق البحر في تلك اللحظة، وتمددن على شاطئ جزيرة كل منهما. لما يستغرقا في التفكير. فقد استحوذت عليهما لحظتها لذة الحكي، فبادر عبد الله الجزار يحكي مغامراته النسائية، (التي نسبها إلى نساء مجهولات لا يعرفهن أحد) (في الحقيقة كان جقندي يعرفهن جميعاً). فيما كانت لحظتها السحابة نفسها التي تخرج من داخله، وتتجمع فوق رأسه، تخرّج مرّة أخرى. فيرى طيف أمونة العسل يسبح حولها. ويرى نفسه منتصبا كالطود أمام بابها.
| |

|
|
|
|
|
|
Re: كوابيس الجنكويز (الجزء الثاني من المطاليق (Re: احمد ضحية)
|
كان الليل يتقدم متوغلاً بخطى واثقة حثيثة، في دروب البلدة القديمّة. أغلق جزارته واتجه إلى بيت أمونه العسل القريب (رغم سكره لم يذكر اسمها).كانت الشوارع قد خلّت من المارّة، والقمر على غير عادته شديد السطوع، ورّائحة الريحان وأشجار الليمون تعبق في الجو. وصوت أمواج النّهر تتناهى من بعيد منهدة ومهدودة على صدر الشاطئ الآسيان. وقتها كانت أمونة عاجزة عن النوم. خلعت ثياب نومها وتسللت الى الحوش، ورأته من ثقب الباب تحت ضوء القمر، يقف مسمراً كالطود. عرفته على الفور: "الجزار" كان مصوباً نظراته يكاد ينزع الباب بلهفته، ليركض إلى الداخل. شعر بها خلف الباب. هاتف خفي أخبره. أحس بها تراقبه. كان مضطرباً كالمسحور. تلفتت أمونة حولها. كانت بيوت الجيران هادئة، وبدت حتى العانس حنان تغط في نوم عميق. جالت ببصرها في الشارع من ثقب الباب. كان خالياً. لا شئ سوى حفيف أوراق شجر النّيم. فتحت الباب ولاح جسدها الفارع. وردفها يترجرج وهي تفسح له للدخول. أغلق الباب بجسمه، واستند عليه يتجنب السقوط. خداها كان يكسوهما ألق الشباب اللامع، وقد باتت حمرة خفيفة فوق شفتيها الممتلئتين، اللتين تدحرجت فوقها حبات ندى الرّغبة المجنونة. وقفت ساكنة. صامتة. مبتسمة وعينيها شبه مغلقتين. فتحت له باب الغرفة الضيقة ببطء، فسال ضوء القمر الناصع فوق صدرها وجسدها بلا عائق. و بصوت خفيض سألته أن يقترب. اقترب الجزار. تدفقت في خياشيمه الشرهة رائحة الخمرة والصندل والمسك. وتدفقت في خياشيمها المرتعشة رّائحة رجل متوحش. مزيج من رّائحة العرق واللحم والدهن والنزوات. سحبته من يده. بللت شفتيها بلسانها، واغمضت عينيها وانتظرت. وكان لا يزال مسمراً على الأرض. فتحت عينيها وحدقت فيه من خلال أهدابها الطويلة. رفع يده إلى عينيه؛ كأنه أصيب بالدوار. وكان قلبه يدق في جنون. في الغرفة الضيقة بسطت أمونة العسل ذراعيها، واستلقت على ظهرها، وضوء القمر المتسلل من النافذة ينسج غلالة شفافة حول كنوزها الفاتنة. قفز نحوها وقد بدت له السحابة تحت قدميه تنخفض. تتقطع إلى شراشف ممزقة، وترتفع فوق رأسه. وهو يرتفع فوقها ويسير. يسير على أهدابها. والسحابة تسير، لتغطي الجزيرة المنفية تحته، وقدماه تتعثران ويسقط يسقط. يسقط.. لحظتها في الحقيقة نهض قبل أن يكمل حكايته واستفرغ امعائه. ولم يجد عباس شيئاً يحكيه، سوى مغامراته المختلسة مع حليمة، التي كانت عندما يرخي الليل سدوله، تتسلل بخفة "كديس" وادي (دون رعشة خوف) من فراش زوجها النائم المتعب، تفتح الباب لعباس. فيما شخير زوجها يعلو من الغرفة المجاورة يملأ الارجاء! صفق عبدالله الذي استبد به السكر بيديه، وجلس منتصباً كالشمعة، وقفز عباس مطوحاً بذراعيه، وهو يتقافز في الغرفة كقرد، فيما كان جقندي وود التويم مستمران في الاستماع بخشوع "لأم كيكي" وهي تصرخ وتئن وتلتاع، لا يباليان بأحوال هؤلاء السكارى، وبين فينة وأخرى ينظران إليهم في هدوء، وهما يتعجبان من مخلوقات هذه الدنيا! ثم آخيراً قررا الانسحاب، للنوم في الغرفة الأخرى؛ تاركين الشاعر وأصدقاؤه السكارى، في فوضى جزائرهم المفقودة والغارقة، والوحوش الأسطورية التي كانت تطاردهم في أرجاء الغرفة! كانت "المزّة" قد نفدت منذ الساعة الأولى، عندما بدأوا يشربون. ومع غبش الفجر كان ثلاثتهم: فضل السيد وعباس الأعرج وعبد الله الجزار، قد أرخوا أذرعهم وتهدل كل شئ فيهم! (كان واضحاً، أن تلك السحابة في غفلة منهم، رّمت بهم في صحراء قاحلة). انكمش عبدالله الجزار على نفسه فوق الأرض، وقد علا غطيطه. فيما استند عباس وفضل السيد برؤوسهم على جدار الغرفة. ولم يلبث ثلاثتهم أن استيقظوا، وقد استبد بهم الإنهاك، فأخذوا يئنون وهم يتقيؤون كل ما في أمعائهم. وبينما كان فضل السيد قد انتهى من القيئ، ووجد ماءاً يغتسل به، عاد يدفن رأسه تحت مخدّة، وقد تمدد على طول الجدار. كان عباس متقوقعاً في ركن الغرفة، كفرخ طائر بلله الماء. أما عبد الله الجزار سليل الفلاح الخديوي، برغم كل ما شربه، فقد كان من آنٍ لآخر يرفع رأسه. يحدق عبر النافذة، إلى النهار الذي تأخر ضوءه عن الانتشار، ثم ينكفئ من جديد، ليغرق في جزيرته الموحشة! أخذ الضوء يتسلل إلى الغرفة، يكشف عن نفايات الطعام وبرك العرقي والقيء، فيما الشاعر يحدق في وجوه عبدالله وعباس وفضل السيد المهزومين. نهض بتثاقل، تفحص كل شىء حوله، كأنما يرى هذا المكان؛ (وهذه الكائنات التي تشبه القرود)؛ لأول مرّة في حياته. وأحس فجأة بالاحتقار لنفسه! أرهف أذنيه وسمع صوت ود التويم وجقندي، وهما يتحدثان في الصالة. كانا قد اسيقظا باكراً، وشربا مزيج الشاي بالحليب الساخن. وأكلا اللقيمات. وتناولا فطورهما، دون أن يُقلقا نوم السكارى. وفي تلك اللحظة؛ كانا يشربان الدور الثاني من القهوة، ويستعيدان ذكرياتهما في الزنزانة مع العراب ودرع سيده. وقتها كان آخر شخص كسول في البلدة القديمّة قد استيقظ، إلا السُكارى الثلاثة في الداخل، كانوا لا يزالون نائمين. وكانت أصوات كل مخلوقات البلدة الضائعة، تتناهى إلى بيت ود التويم، قافزةً من سور الدار. تعبر الحوش، لتدخل في مسامعهم دون استئذان. أطل الشاعر من باب الغرفة وهو يقول: "صباح الخير" ضحك جقندي وهو يقول: "يا رجل شارفنا على المساء" أضاف ود التويم: "إذا أردت أن تبدأ يومك من بدايته بأثر رجعي، فهناك لقيمات وشاي بالحليب في الثيرمس. وإن أردت أن تبدأ بالفطور، ستجد أيضاً كل شيء جاهز في المطبخ" "خدمات خمسة نجوم" قال جقندي بإحساس ملؤه العرفان: "كل شىء أعدته حنان جارّة ود التويم منذ الفجر، لا تفتأ ساعة تمر إلا وتناولنا شيئا بالسور. بنت ناس أصيلة" غمز الشاعر وهو ينظر ناحية ود التويم: "أصيلة والله" ولم ينتظر منه رداً. فخرج قاصداً الحمام في ركن الحوش.
| |

|
|
|
|
|
|
Re: كوابيس الجنكويز (الجزء الثاني من المطاليق (Re: احمد ضحية)
|
أشرقت شمس اليوم التالي؛ وفتح ود التويم دكانه. وحمل الجزار فؤوسه وسكاكينه، إلى الحداد ليطرقها له، وفتح رجال البلدة الأرامل أبواب بيوتهم، على العالم خارج البلدة. الذي كان بالنسبة لهم الإندايات وسوق النساوين. ومن طرف الحي اندفع حمار عبد الجليل، يجر خلفه كارو برميل المياه في استياء، ومنخاريه يزفران الغيظ! دبت الحيّاة في الحي، وارتفع ضجيج الأهالي حول فرن البلدة الوحيد، يحاولون الحصول على الرّغيف. فيما شرعت مكنات عم حسن الترزي تدور، وبعض صبيانه يقصون ويفصلون الأقمشة المتراكمة، وهو جالساً على كرسيه يوزع الأوامر والنواهي، ويصرخ بوجه هذا وذاك من آن لآخر. "يجب أن ننهي هذا العمل اليوم، ونسلم الناس ملابسهم. لقد عرّتهم الحرب. أعادتنا الحرب إلى عصور الجلود. حتى "القوقو" لم يعد موجوداً هذه الأيام" ثم يزفر وهو يتابع كلامه: "حسبي الله ونعم الوكيل. حولت الحرب بلدتنا إلى قرية بدائية. لم يتبق لنا سوى أن نعود إلى الكهوف. لا كهرباء. لا ماء. لا خدمات" يرد عليه أحد صبيانه: "ومتى كانت هناك خدمات. الوضع هو نفسه قبل الحرب وبعدها. لم يتغير شئ في هذه البلاد اللعينة" فيصمت عم حسن. الذي كان في الحقيقة سعيداً، بتكالب الناس على دكانه. بعد أن عزفوا عنه لعقود حتى كاد يغلقه. لكن بعد أن عزلت الحرب البلاد الكبيرة عن العالم، ولم يعد هناك شئ يأتي من الخارج؛ واحترقت الأسواق. أعاد الأهالي للترزية أمجادهم الغابرة. "حتى الصرماتة الآن يعيشون أمجد أيام ازدهارهم. فالجميع أخرجوا أحذيتهم القديمّة، ليرقعونها ويخيطونها" قال صبي آخر من صبيانه المنكبين على ماكيناتهم، وأضاف آخر: "حتى ود التويم الذي هجر دكانه منذ مطلع شبابه، عاد الآن وجدده وفتحه من جديد، لمساعدة الناس بلا مقابل" "ليس لديه ما يخسره. فهو يداويهم بعقاقير يصنعها من الأعشاب الطبية بنفسه. قلت له اريد هذا الدكان أجره لي فرفض" قال عم حسن وهو يهش ذُبابة خضراء كبيرة، رّكت على أنفه الضخم اللامع. ثم رفع صوته عالياً يسأل حليمة على الجانب الآخر من الشارع: "اين القهوة بالجنزبيل يا حليمة؟" قال ذلك وهو يشدد على كلمة "جنزبيل" بخبث. فردت بضحكة عابثة: "حالا تكون عندك. بس انت استهدى بالله واتهدّ" ثم تمتمت بصوت خفيض، سمعه ود التويم في دكانه: "زنجبيل في الصباح! سجمي الراجل جنّ" كان مقهى حليمة أشبه بقاعدة بيانات، أو مركز معلومات متقدم، فكل أخبار البلدة كانت تنفلت من عقالها، لتتقاطع على أفواه الناس. وتتجمع لتتدفق هنا: اخبار الطلاق، الزواج، الخيانة، العشاق المفلسين و الحبيبات البائسات. المطاليق. الجنكويز. الغانيات والفداديات في طرف الحي عند سوق النساوين. جواسيس طرفي الحرب. التحركات الغامضة لفضل السيد. النساء المتزوجات المغرمات بعبد الله الجزار، ومغامراته السرية معهن. حنان العانس وزياراتها لشيخ الزين (مع أنها لم تزره سوى مرّة واحدة، لم يفارقها الإحباط بعدها). لم يسلم من مقهى حليمة حتى ود التويم، (الذي رغم صفحته الناصعة)، كانت كل بياناته مطبوعة في ذاكرة المقهى المتجددة. كان رواد المقهى من أهل الحي، ومن الغرباء يتحدثون في كل شئ. عندما صاح أحدهم بصوت مرتفع فجأة: "أسكتو" فتلفتوا حولهم يتبينون مصدر الصوت، ويتفحصون الشارع، عندما رأوا عباس الأعرج، متجهاً نحو المقهى. أداروا عنه وجوههم في ضيق. فلم يكن أي منهم على استعداد، لتبادل أي نوع من الحديث مع عباس الأعرج، الذي كان ينفصم أثناء أي حديث عادي، ويبدأ في الصراخ: "أتعلم متى وأين أصابني هذا العرج" ثم يبدأ يحكي عن بطولاته المزعومة أثناء الحرب. سحب عباس "بنبراً" واسعاً وجلس عليه بصعوبة. وهو يتكئ بيد، ويحمل رجله الأخرى العرجاء باليد الثانية ليقربها من شقيقتها، التي اعتدلت في جلستها على البنبر. فيما استدار جميع رواد المقهى، على بنابرهم يعطونه ظهورهم. ووجوههم مصوبة على جدران المقهى. ليتركوه هو الوحيد مصوباً وجهه جهة الشارع. ولم يلتفتوا جهة الشارع، إلا عندما دخل المقهى، أحد النازحين الفارين من المناطق المشتعلة، يسأل عن بيت للإيجار. رد عليه عباس: "كم غرفة؟" رد الرجل: "غرفتين تكفي. أفراد أسرتي عددهم سبعة" "طلبك عندي. لكن هل تستطيع دفع إيجاره؟" قال الرجل: "ألن تريني إياه أولاً؟" رد عباس: "لا" "طيب أخبرني أولاً كم تطلب في الغرفتين؟" وذكر له مبلغاً أثار حفيظة رواد المقهى، الذين عجزوا لحظتها عن تفادي الاصطدام بعباس. فبادر فضل السيد واقفاً: "هذا استغلال. علي الطلاق ما تأجر ذاتو. تسكن معاي في بيتي" وران صمت عميق. فقد ألجم حماس عباس الجميع، والجم عباس ذات نفسه. وألجم النازح الذي وجد نفسه في وضع حرج. فقال في حرج بعد فترّة صمت: "شكراً جزيلاً لك. سنبقى عندك اليوم، لكننا في الغد سنرحل. ولن ننسى لك هذا الموقف" وفيما كان فضل السيد يتحدث مع الرجل، كان عباس قد تسلل هارباً بهدوء. لحظتها تحدث عبد الله الجزار: "لا تحمل هما يا رجل. اقض يومك مع فضل السيد، وغداً يحلها الحلال. إذا لم تجد منزلاً للايجار في حدود امكانياتك، لدي بلدة كاملة في قفا هذه البلدة، سنجد لك فيها مكان. وإذا تعذر الأمر فتكية شيخ الزين مفتوحة، لا تغلق أبوابها أبداً. لا تحمل هماً يا رجل. لا تحمل هماً" وربت على كتف الرجل، ومضى إلى جزارته. انتقى أفضل لحم لديه، ووضعه جانباً في كيس. وقال لصبيه: "لا تمد يدك لهذا اللحم" وعند الظهيرة بعد أن رأى الرجل وأسرته يدخلون برفقة فضل السيد إلى بيته. انتظر حتى خرج فضل السيد وذهب يطرق الباب، وهو يحمل لحمه المنتقى. ينتظر إطلالة وجه معذبته أمونة العسل. منذ الأيام الأولى لاندلاع الحرب، أدرك شيخ الزين أن كلاً من الجنكويز والمطاليق، سيستخدمون الغذاء سلاحاً لتجويع الناس، و سيحصارون الحواضر ويمنعون المساعدات وينهبونها ويستعلونها، دون أن يبالوا بوضع حياة الأهالي في خطر محدق، لذا قام بوضع نظام بسيط في التكية، لتلبية احتياجات الأهالي والنازحين من الطعام. فقسم المريدين والمتطوعين إلى طباخين، ومعدين يحهزون المواد للطهو، وموزعين بعد أن يتم الطهو. لتوزيعها على الأهالي، الذين يصطفون في طوابير، للحصول على طعامهم. وأعطى الأولوية للأسر التي تأتي مشياً على الأقدام؛ من مسافات بعيدة. للحصول على الطعام. أما الأهالي العاجزين عن الحضور بأنفسهم لأخذ وجباتهم، فقد خصص لهم عدداً من المريدين والمتطوعين، يحملون إليهم الطعام في بيوتهم. ورُغم أن كثير من الأسماء المجهولة في الداخل والخارج، كانت تتبرع بسخاء لتكية شيخ الزين، إلا أنه كان أيضاً يصرف من ماله الخاص لسد النقص. حتى لا تتوقف التكية عن تقديم خدماتها. قال عبد الله الجزار بريبة: "من أين يأتي شيخ الزين بكل هذه الأموال؟" فرد عليه ود التويم بهدوء: "الحقيقة التي يجب أن تفكر فيها، أن الرجل كان بإمكانه مغادرة البلاد الكبيرة بكل بساطة، إلى حيث يشاء ليعيش بأمان وكما يشتهي (وهو قادر على ذلك) بعيداً عن وجع الراس والقلب والوجوه البائسة، لكنه لم يفعل! وظل بين مريديه ووسط المتطوعين، يعمل كالنحلة. وهو يعلم أنه قد يتعرض للقتل (في أي لحظة) لكن لم يبالي. وهذا وحده يكفي" ابتلع الجزار بقايا شكوكه وظنونه، ورفع فأسه عالياً يقسم فخذ الخروف قسمين بضربة واحدة، وشعر ود التويم بأن الفاس هبطت على رأسه، فنظر إليه بخبث وقال: "لم أرى فضل السيد في الجوار اليوم" وانصرف دون أن ينتظر رده، وسمع وهو تحت راكوبة دكانه، فأس الجزار تهوي مرّة أخرى بقوّة أشد. لم تكن هذه هي المرّة الأولى، التي يقصف فيها الجنكويز تكية شيخ الزّين. المرة الأولى كانت بُعيد فيضان النهر بقليل. وقتها فرغت السماء من إسقاط أحمالها، وبدت البلدة القديمّة كأنما هي نصف جزيرة غارّقة، غمرت المياه شوارعها، وأحاطت بها الظلمة من كل اتجاه. إلى أن لاحت خيوط من برق خجول هنا وهناك. تلته ريح غامضة هبت من جهة جبل كارناسي، بددت السحب فصفت السماء. ولم تلبث أن أفسحت فضاء البلدة القديمّة للقصف العشوائي!
| |

|
|
|
|
|
|
Re: كوابيس الجنكويز (الجزء الثاني من المطاليق (Re: احمد ضحية)
|
لجأ المريدين والنازحين والمتطوعين إلى المخابئ السرية تحت التكية. وبعد توقف القصف تفقد شيخ الزّين الجميع واحداً واحداً. وعلى كثرتهم كان يعرفهم جميعا بوجوههم واسمائهم! تساءل البعض: متى يتوقف هذا الجنون فيستريحون؟.. هذا هو المكان الذي اعتقدوا أنه آمن، يتعرض للقصف! أين يذهبون بأطفالهم وأغراضهم القليلة التي نجت من النهب؟.. لقد تركوا كل شيء خلفهم ولجأوا إلى هنا! بعضهم كانوا يلعنون ويهددون، وقد امتزج في صدورهم الخوف بالغضب باليأس. فيما كان شيخ الزّين بصوته الهادئ الوقور يُجهد نفسه، لإطفاء النيران التي اشتعلت في صدور الجميع. الذين كانت المشاهد والصور التي عاشوها، عندما هجم الجنكويز أو المطاليق على بلداتهم وحواضرهم، أو رأوها أثناء فرارهم، والتي كانوا ما أن ينسوها، حتى يستعيدها القصف مرّة أخرى حيّة في أذهانهم، فيرون الجثث المشنوقة تتأرجح على الأشجار الجرداء، والبطون المبقورة التي قفزت أمعائها، وتدلت على الأرض. والنساء الحوامل اللواتي اجهضن، وحفرت دمائهن على التراب الهش أخاديداً رفيعة، والفتيات الصغيرات اللواتي أُغتصبن أمام ذويهن!.. كانت كل المشاهد تتجدد: نهب المقتنيات وخراب البيوت؛ ودمار كل شئ. إلى متى يستمر هذا الجنون؟ أسعف المريدين والمتطوعين الجرحى. و ازالوا الأنقاض. كان وجود شيخ الزين وسطهم، يمدهم بالقوة والطمأنينة. فيشعرون أن شيئا لم يحدث. في التكية التي بدت أشبه بخلية نحل، أنهى المتطوعين والمريدين أعمالهم. ثم التفوا حول شيخ الزين يتبادلون معه الرأي والمشورة، والتكية كعادتها تخرج من القصف شابة فتية جديدة متجددة، ورائحة الريحان والليمون تعبق في الجو، تبدد دخان الحرائق التي أحدثها القصف. كانوا يفكرون معاً في إمداد مخازن التكية بالتموين، وإعداد الطعام للنازحين والأهالي، الذين ظلوا في بيوتهم ولم يفروا مع الفارين. تعاقبت على التكية كل الفصول، ولم تتوقف عن تقديم خدماتها. حتى عندما قصفها الجنكويز أكثر من مرّة. حرص المتطوعين على إعادة صيانتها من الأضرار، التي ألحقها بها القصف. بعد أن يأكل الأهالي ويشربوا، ويعودوا إلى بيوتهم. ويخلد النازحين في مهاجعهم داخل التكية. يتجمع المريدين والمتطوعين حول شيخ الزين، يتعبدون ثم ينشدون القصائد النورانية. بعدها يتبادلون الذكريات ويتشاركون الأمنيات، ويقص عليهم شيخ الزين أحسن القصص، التي تهدئ روعهم وتزرع في وجدانهم السكينة والأمل! بعد يومين من القصف، في عقابيل إنسحاب ارتكازات المطاليق من حول البلدة، جاءه أحد الضباط الجنكويز رفقة فصيلة. كان ذا وجه رخو ناتئ العظام بصدغين غائرين، ولحية بيضاء شعثاء كحزمة قش، وأثر جرح قديم بين حاجبيه، أشبه بعين ثالثة في وجهه. قال بحزم: "اسمع يا شيخ الزّين. حتى الآن نحن لم نقصف تكتيك بجدية، لأننا لا زلنا ننتظر تعاونك معنا. هذه البلدة تعج بالمطاليق. وأنت وبعص مريديك تعرفونهم. بل معلوماتنا تفيد أن غالبية من آويتهم هنا و تأويهم هذه البلدة، هم أنصار للمطاليق وجواسيس لهم. وبعضهم جنود في قواتهم" ارتفع حاجبا شيخ الزّين دهشة. ثم قال بهدوء بعد فترة صمت: "أؤكد لك أن الناس هنا جميعهم بسطاء، ليس لديهم موقف ضد طرف. جميعهم لا يريدون شيئاً سوى أن تتوقف الحرب ويعودوا إلى بيوتهم" قاطعه الجنكويزي: "أخبرتك بما عندي لك. فكر وتدبر أمرك. المرّة القادمة لن يكون قصفاً كهذا القصف" ثم نهض وهو يحمل لحيته الشعثاء، وعينه الثالثة وخطواته المتمايسة، التي لا تنسجم مع هيئته. بعد أن رحل الجنكويز قال أحد النازحين، الذين كانوا يسترقون السمع: "لقد رأيت بعيني هذا الجنكويزي وجنوده، ينقلون النساء إلى منازل الأشخاص الذين فروا قبلنا" ثم استطرد: “تأتي الكثير من النساء، ويقفن في طوابير خارج الحي الذي كنا نعيش فيه. الجنكويز يسمحون لهم بالدخول، ويختارون من يحلو لهم شكلها، لتدخل المنازل. كنت أسمع أحياناً صراخاً، لكن ماذا يمكنني أن أفعل؟ لا شئ! لذلك هربت إلى هنا بعد أن فقدت كل أفراد أسرتي في القصف. انا الناجي الوحيد" ربت شيخ الزين على كتفه في حنان وقال مواسياً: "كلنا هنا أفراد أسرتك. أنت هنا في أمان. لا تخش شيئاً. غمّة وتزول" لم يناموا ليلتهم. كانوا مستيقظين إلى أن تسللت الشمس خلال فتحات نوافذ التكية، التي تحطم زجاجها. تلقي بأشعتها الملونة على الجدران الداخلية والأبنية التي لم تخلو من بقايا أنقاض صغيرة متناثرة هنا وهناك. وكان شيخ الزين من مجلسه، يتفحصهم جميعا بعينيه الحادتين كعيني صقر. بدوا له جميعاً طاعنين في السن. اصفرت وجوههم وأصبحت عيونهم فارغة لا قرار لها! حمل هيكله ومشى مترنحاً نحو غرفته، وبالكاد وصلها. رّمى نفسه على الفراش، وغرق في نوم عميق.
الفصل الثاني:
| |

|
|
|
|
|
|
Re: كوابيس الجنكويز (الجزء الثاني من المطاليق (Re: احمد ضحية)
|
لجأ المريدين والنازحين والمتطوعين إلى المخابئ السرية تحت التكية. وبعد توقف القصف تفقد شيخ الزّين الجميع واحداً واحداً. وعلى كثرتهم كان يعرفهم جميعا بوجوههم واسمائهم! تساءل البعض: متى يتوقف هذا الجنون فيستريحون؟.. هذا هو المكان الذي اعتقدوا أنه آمن، يتعرض للقصف! أين يذهبون بأطفالهم وأغراضهم القليلة التي نجت من النهب؟.. لقد تركوا كل شيء خلفهم ولجأوا إلى هنا! بعضهم كانوا يلعنون ويهددون، وقد امتزج في صدورهم الخوف بالغضب باليأس. فيما كان شيخ الزّين بصوته الهادئ الوقور يُجهد نفسه، لإطفاء النيران التي اشتعلت في صدور الجميع. الذين كانت المشاهد والصور التي عاشوها، عندما هجم الجنكويز أو المطاليق على بلداتهم وحواضرهم، أو رأوها أثناء فرارهم، والتي كانوا ما أن ينسوها، حتى يستعيدها القصف مرّة أخرى حيّة في أذهانهم، فيرون الجثث المشنوقة تتأرجح على الأشجار الجرداء، والبطون المبقورة التي قفزت أمعائها، وتدلت على الأرض. والنساء الحوامل اللواتي اجهضن، وحفرت دمائهن على التراب الهش أخاديداً رفيعة، والفتيات الصغيرات اللواتي أُغتصبن أمام ذويهن!.. كانت كل المشاهد تتجدد: نهب المقتنيات وخراب البيوت؛ ودمار كل شئ. إلى متى يستمر هذا الجنون؟ أسعف المريدين والمتطوعين الجرحى. و ازالوا الأنقاض. كان وجود شيخ الزين وسطهم، يمدهم بالقوة والطمأنينة. فيشعرون أن شيئا لم يحدث. في التكية التي بدت أشبه بخلية نحل، أنهى المتطوعين والمريدين أعمالهم. ثم التفوا حول شيخ الزين يتبادلون معه الرأي والمشورة، والتكية كعادتها تخرج من القصف شابة فتية جديدة متجددة، ورائحة الريحان والليمون تعبق في الجو، تبدد دخان الحرائق التي أحدثها القصف. كانوا يفكرون معاً في إمداد مخازن التكية بالتموين، وإعداد الطعام للنازحين والأهالي، الذين ظلوا في بيوتهم ولم يفروا مع الفارين. تعاقبت على التكية كل الفصول، ولم تتوقف عن تقديم خدماتها. حتى عندما قصفها الجنكويز أكثر من مرّة. حرص المتطوعين على إعادة صيانتها من الأضرار، التي ألحقها بها القصف. بعد أن يأكل الأهالي ويشربوا، ويعودوا إلى بيوتهم. ويخلد النازحين في مهاجعهم داخل التكية. يتجمع المريدين والمتطوعين حول شيخ الزين، يتعبدون ثم ينشدون القصائد النورانية. بعدها يتبادلون الذكريات ويتشاركون الأمنيات، ويقص عليهم شيخ الزين أحسن القصص، التي تهدئ روعهم وتزرع في وجدانهم السكينة والأمل! بعد يومين من القصف، في عقابيل إنسحاب ارتكازات المطاليق من حول البلدة، جاءه أحد الضباط الجنكويز رفقة فصيلة. كان ذا وجه رخو ناتئ العظام بصدغين غائرين، ولحية بيضاء شعثاء كحزمة قش، وأثر جرح قديم بين حاجبيه، أشبه بعين ثالثة في وجهه. قال بحزم: "اسمع يا شيخ الزّين. حتى الآن نحن لم نقصف تكتيك بجدية، لأننا لا زلنا ننتظر تعاونك معنا. هذه البلدة تعج بالمطاليق. وأنت وبعص مريديك تعرفونهم. بل معلوماتنا تفيد أن غالبية من آويتهم هنا و تأويهم هذه البلدة، هم أنصار للمطاليق وجواسيس لهم. وبعضهم جنود في قواتهم" ارتفع حاجبا شيخ الزّين دهشة. ثم قال بهدوء بعد فترة صمت: "أؤكد لك أن الناس هنا جميعهم بسطاء، ليس لديهم موقف ضد طرف. جميعهم لا يريدون شيئاً سوى أن تتوقف الحرب ويعودوا إلى بيوتهم" قاطعه الجنكويزي: "أخبرتك بما عندي لك. فكر وتدبر أمرك. المرّة القادمة لن يكون قصفاً كهذا القصف" ثم نهض وهو يحمل لحيته الشعثاء، وعينه الثالثة وخطواته المتمايسة، التي لا تنسجم مع هيئته. بعد أن رحل الجنكويز قال أحد النازحين، الذين كانوا يسترقون السمع: "لقد رأيت بعيني هذا الجنكويزي وجنوده، ينقلون النساء إلى منازل الأشخاص الذين فروا قبلنا" ثم استطرد: “تأتي الكثير من النساء، ويقفن في طوابير خارج الحي الذي كنا نعيش فيه. الجنكويز يسمحون لهم بالدخول، ويختارون من يحلو لهم شكلها، لتدخل المنازل. كنت أسمع أحياناً صراخاً، لكن ماذا يمكنني أن أفعل؟ لا شئ! لذلك هربت إلى هنا بعد أن فقدت كل أفراد أسرتي في القصف. انا الناجي الوحيد" ربت شيخ الزين على كتفه في حنان وقال مواسياً: "كلنا هنا أفراد أسرتك. أنت هنا في أمان. لا تخش شيئاً. غمّة وتزول" لم يناموا ليلتهم. كانوا مستيقظين إلى أن تسللت الشمس خلال فتحات نوافذ التكية، التي تحطم زجاجها. تلقي بأشعتها الملونة على الجدران الداخلية والأبنية التي لم تخلو من بقايا أنقاض صغيرة متناثرة هنا وهناك. وكان شيخ الزين من مجلسه، يتفحصهم جميعا بعينيه الحادتين كعيني صقر. بدوا له جميعاً طاعنين في السن. اصفرت وجوههم وأصبحت عيونهم فارغة لا قرار لها! حمل هيكله ومشى مترنحاً نحو غرفته، وبالكاد وصلها. رّمى نفسه على الفراش، وغرق في نوم عميق.
الفصل الثاني:
| |

|
|
|
|
|
|
Re: كوابيس الجنكويز (الجزء الثاني من المطاليق (Re: احمد ضحية)
|
الفصل الثاني: خريف الجنرالات أحس برغبة في مغادرة الغرفة ليرى ما يحدث. ورغم المطر الذي تساقط عليه، ورغم الرّياح التي راحت تضرب وجهه كالسياط، غرز ود التويم مخالبه في باب الحوش، وظل يمد النظر إلى نهاية الطريق الممتد نحو النهر. كان الطريق ينحدر بين سهلين، يلتقيان عند جبل 'كارناسي' وعلى جانبي هذا الطريق، نهضت مساكن البلدة المترامية. وكان كل مد يندفع من النهر، يهدد هذه البيوت بالدّمار والزوال: "كأن الحرب وحدها لا تكفي لتدمير البلاد الكبيرة" قال ود التويم في سره. كان الجو عاصفاً كالمعتاد في خرائف الوادي، التي ظلت تفاجئ سلطات السدود المتعاقبة على البلاد الكبيرة كل عام، منذ أكثر من نصف قرن!! دون أن تكون هناك استعدادات مبكرة؛ لحماية وادي الذهب، من الفيضانات والسيول. خلال أكثر من نصف قرن، يهيج النّهر كل عام في نفس التوقيت من السنة! وتتسابق أمواجه في الارتفاع والاندفاع؛ نحو الشواطئ الترابية والرملية.. ونحو الممرات التي تنحدر في سهول الوادي، التي شيد عليها الأهالي بيوتهم. وتتحد سيول الأمطار مع فيضان النهر، فتزحف مياه الدنيا كلها لتهدم البيوت بكل عنف وقسوة! وأخيراً بدأت مياه السيول والأمطار وفيضان النهر في الانحسار، وانشغل الناس باستنفار بعضهم البعض، للمساعدة في إعادة بناء ما تهدم. عندما يفيض النهر وتزحف السيول، كان سكان الوادي يتعلقون بمساكنهم أكثر. قال حسن الترزي: "يبدو أن الفيضان دمر الوادي بأكمله هذه المرّة. فعدد كبير من البيوت تهدّمت. الخسائر في الحلة الجديدة مخيفة" في السنوات التي سبقت اندلاع الحرب، كان الأهالي (رغم فقرهم) يكافحون لإعادة بناء ما تهدم. لكنهم الآن بسبب الحرب، سيصبحون جميعاً في العراء لقرنٍ قادم. "فتح لهم شيخ الزين بيوت التكية" "بيوت التكية تشيل منو وتخلي منو؟ نازحين الحرب، أم ضحايا السيول والأمطار وفيضان النهر؟" زئير الرّياح في الوادي، وهدير الموج وضربات المطر المروعة، كل ذلك حمل إلى أهالي الوادي؛ ذكرى بعيدة عن 'طوفان نوح' فشعروا وقتها؛ أن نهاية العالم قد اقتربت! كان إحساسهم يشبه إدراك عميق، أنهم هم أنفسهم جزء من الماضي، وجزء من عالم قديم تهاوى قبل وقت طويل! كان العالم ينتهي في الوادي من وقت لآخر. وعند تشييد عالمهم الجديد، يظلون بلا إجابة، على: لماذا يصرون على إقامة بيوتهم في كل مرّة، في مجاري السيول؟ لماذا يشيدونها في نفس المكان؛ الذي أُغرمت السيول والفيضانات بالتهامه دون رحمة! "لقد عاش أسلافنا هنا، ولا يمكن أن يكونوا على خطأ. ليس أمامنا سوى الاستمرار بإكمال حياتنا هنا!" "لا يوجد مكان مثالي خالي من المتاعب في البلاد الكبيرة، أنها بلد مغضوب عليها" قال ود التويم. مضت أيام الفيضان والأمطار والسيول، وهبط على حاضرّة 'دار صباح' ليل مشبع بمزّيج غرّيب من الرّطوبة الخانقة. فيما كانت 'ريح أبو الفضل' قد هبّت من 'الربع الخالي'، تحمل بين جناحيها شجن بدويات 'جزيرة العرب'، ودنفهن في ليالي شهواتهن المحمومة ورغباتهن الشبقة، المتلهفة لفحولة بدوي ضائع و يائس مسكون بالحنين. وتنهشه الحُمى. ترمي به إحدى القوافل التائهة في الصحراء، إلى مضاربهن بعد طول إنتظار وصبر. عبرت ريح أبو الفضل 'البحر الملون'، قُبيل منتصف الليل، ثم ما لبثت أن التقت برّيح دافئة، قادمة من الصحراء الكبرى.. حلتا في بعضهما متعانقتين. توحدتا في رّيح واحدة تخللت أشجار 'الأراك' بضراوة. وعبرت إلى تخوم الحاضرّة، وتخطتها مكتسحةً التلال والسهول، تاركةً وراءها أشجار 'النيم' والليمون وشُجيرات 'الرّيحان' و'الحناء'. فيما كان لحظتها 'وادي الذهب' في وسط البلاد الكبيرة، يشهد ثورة نباتات 'اللفلاف' الظلية المتسلقة، وهي تخنق 'رواكيب' البلدة القديمَّة و'كشاشاتها'، وتتسلل كزوار الفجر شقوق الأبواب و النوافذ، التي تمددت خلفها نساء البلدة الحزانى، وهن يئنين تحت وطأة رجالهن المكتئبين، في الغرف النائية على أطراف 'الحيشان'، التي نهشت الحرب والأمطار أسرارها. كانوا جميعهم يحاولون باستماتة، مقاومة الدّمار الذي خلفته الحرب والفيضانات والسيول في نفوسهم، باستعادة جُذوة حب قديمَّة، بددتها مآسي الوادي الآسيان. في هذا الجو الحار المشبع بالرّطوبة، فتح سكان البلدة القديمّة رجالاً ونساءاً نوافذهم، وخرجوا إلى الحيشان الواسعة، وقد خلعوا ثياب نومهم. تعروا إلا من ثيابهم الداخلية، طلباً لنسمات هواء عابرّة. وأحست حنان العانس العملاقة جارّة ود التويم، تحت وطأة هذا الجو الخانق، أن كارثة توشك على الوقوع. مدت رأسها تتلصص من السور الداخلي، الذي يفصل بين بيتها و بيت جارتها أمونة العسل زوجة فضل السيد. الشابة الفاتنة. رأتها تجلس عارّية في قلب 'الحوش'، وهي تحمل 'هبابة' سعف، تحاول استدعاء الهواء من العدم. كانت في وحدتها المجيدة؛ تتملى في جسمها البديع، عندما شعرت بنظرات حنان المصوبة نحوها من فوق السور، نظرت باتجاهها نظّرة غامضة! ولم تخاطب إحداهن الأخرى! كأنهما خشيتا افتضاح الأفكار الشريرة، التي خطرت على بال كل منهما، في هذا الجو المنبعث من أعماق جهنم يدعوهن للتعري، وإطلاق العنان لمشاعرهن الحبيسة. فيما كانت كل البلدة وقتها، تحبس أنفاسها داخل روحها، تترقب القيامة أو مطلع الفجر! و كان ود التويم وقتها رغم انشغالاته، أشبه بولي صالح من أولياء 'جبل الأولياء' الغابرين. إذ كان يمضي في كل مساء، ليقوم بجولته التفقدية المعتادة. أول مرّة فكر فيها في تفقد الحي، كان في تلك الليلة بعد الحرب بأسابيع قليلة.. كانت النجوم تتلألأ في السماء كحبات أرز شحيحة الإضاءة. وكانت حرارة الجو الخانق قد ارتفعت؛ ممسكةً بتلابيب كل شيء. في تلك الليلة حتى هو (ود التويم شخصياً)، الذي كان قد شارف على السبعين، والذي اكتسب جسمه عبر السنوات العامرة بتقلبات الدهر خبرّة عظيمة، من تعامله مع كل أنواع طقس البلاد الكبيرة المضطرب في 'قِبلها الأربعة'. كان هو (ود التويم شخصياً) لحظتئذ، يحترّق من شدّة الحر والسموم. فقرر أن يخرج، عله يتنسم هواءاً تائهاً تحت السماء، التي تظلل البيوت البائسة حوله. كعادته تأكد من إغلاق باب البيت، ونظر ناحية دكانه، ثم دس المفاتيح في جيبه، واتجه عبر الأزقة الضيقة للبلدة القديمّة. امتلأ فجأة بسرور غامض، وأحس بأن روحه تحررت. وأن جسداً مختلفاً قد حل محل جسده. جسد شاب قوي، احتل كيانه.. "كل هذا الإحساس تبعثه مجرد نسمة هواء عابرة؟". قال في نفسه. وكان الليل قد أوغل، و تلألأت النجوم، فيما كان نصف قمر معتم، يتأرجح في كبد السماء. أغلقت البيوت أبوابها، وانطفأت أضواء المصابيح البعيدة، وغرقت البلدة القديمّة في ظلام دامس! أبواب قلبه وحدها كانت مفتوحة! والمصابيح التي بداخله وحدها كانت مضاءة، والبلدة التي بداخله، وحدها كانت تعج بالحيّاة. وكل شئ فيها يتألق فجأة على غير المعتاد، مع انتظام الهبوب وتبدد 'الكتمة' الخانقة! في طريق عودته وهو ينهي جولته، وما أن اقترب من داره، حتى رأى شيئاً متكوماً قُرب جدار بيت 'امونة العسل'. اقترب منه. كان يشبه إنساناً منكفئ. اقترب أكثر. تبين فيه شابة مسدلة الشعر. عندما افاقت على ظله فوقها، تملكها الفزع. خافت وارتعشت، واخفت وجهها في حجرها. حاول قدر طاقته أن يهدئها. واقترب منها وهو ينظر إليها في حنو. وعندما هدأت حكت له بصوتٍ باكٍ، أن الجنكويز أو المطاليق.. لا تدري.. قد ذبحوا زوجها، وهربت لا تلوي على شئ، حتى وصلت هنا. في هذا الوقت المتأخر، وتكوّمت مستندة على الجدار. حدّق في الأرملة الشابة، وقد أحس أن قلبه ينفطر. تأوه بحزنٍ وقال لها: "ابك.. خففي عنك الحزن" رفعت المرأة رأسها إلى هيكله الواقف فوقها في بطء، كأنها تتوق إلى سماع المزيد، عن مصائب الدنيا وآلامها وأحزانها. وكأن ذلك هدأ اضطرابها وأسكن من روعها. مسحت عينيها، ثم رفعت يدها وأشارت إلى الدماء الجافة على ثوبها: "إنها دمائه. فقد وضعت رأسه على حجري، قبل أن يدفعني الجيران لأهرب على عجل!" ثم أضافت: "لن أغسل هذا الثوب أبداً ليذكرني به إلى الأبد!!" قال لها بصوتٍ حنون: "أعرف ناجين كثر، احبائهم قُتلوا أمام أعينهم بدم بارد. امتلأت حيشان بيوتهم بالدّم، لكن الأمطار هطلت، والسيل سال.. غسل الدماء. وعادت 'حيشانهم' مخضرّة بشجر الحناء و الريحان و أزهار صباح الخير، وأثمرت أشجار الليمون من جديد" ثم أضاف: "حتى أشجار النيم أزهرت. نعم.. الأمطار والفيضانات، والينابيع التي تفجرت في البلاد الكبيرة، وشمس الصيف 'القيطوني' لا محالة ستغسل الدماء، وينسى أهالي البلاد الكبيرة كل شىء.. كل شئ" واصلت المرأة نواحها. بكت بكاءاً مُراً. وبعد فترّة ليست قصيرّة أضاف: "انظري إلى هذه البيوت حولك. جميع من يعيشون فيها، قد فقدوا أحد أحبائهم.. قتلهم الجنكويز أو المطاليق أو كتائب الظل، سيان.. جميعهم ذرفوا الدموع. خففوا من الأحزان التي تفيض بها قلوبهم بالبكاء. ابك أيتها المرأة الشابة" ثم تهاوى قربها، فيما أخذت هي تلطم خدها وتنوح. فانتظر؛ وبعد أن هدأت تماماً سألها عن إسمها، فقالت في نشيج: "ستهم"
| |

|
|
|
|
|
|
Re: كوابيس الجنكويز (الجزء الثاني من المطاليق (Re: احمد ضحية)
|
كانت تنتحب ككل أرامل البلدة القديمّة، وهن يضربن على صدورهن؛ ويرتمين فوق أجساد أزواجهن الذين فارقوهن بغتةً دون وداع، أو الأمهات اللواتي انتزع الجنكويز أرواح أبنائهن، فينحن في لوعة تقطع نياط القلوب. أو الفتيات اليتيمات اللواتي يشتد عويلهن، كلما مرّت صورة آبائهن في طيف الذكريات. والجارات المكلومات في أحبائهن، وهن يدفن رؤوسهن في الرّماد، كلما خطرت على بالهن مغامراتهن السرية، التي دُفنت مع الراحلين.. بكائهن يمتزج بالصراخ والنحيب، المندلع من كل فج.. كان مشهد ستهم ومثيلاتها هو التعبير الحي عن ما يطلق عليه 'إسم المصيبة'. وكالعادة في امتصاص المصائب.. مع إحساس أجساد النائحات بالتعب، يبدأ العويل والنحيب يخفت شيئاً فشيئاً، وتبدأ كل واحدة منهن تجد العزاء في الثرثرة، و الكلام الذي ينتقل من مآسي الحيّاة الكبرى، إلى التفاهات في هذه البلدة اليائسة. ثم يبدأن كعادتهن يتسللن واحدةً تلو الأخرى، بحثاً عن طعام ومكان للنوم. ليبدأن عند اسيقاظهن في صبيحة الغد، موفورات النشاط فيبدأن جولة جديدة من البكاء والنواح والصراخ والعويل!.. ورُغم روح التضامن العميقة، و اللطف الذي كن يبدينه تجاه بعضهن البعض، إلا أن وراء ذلك كله كان يختبئ إحساس عميق بالشقاء والبؤس! "ستهم لن تختلف عنهن.. أنهن النساء!" قال ود التويم لنفسه، وهو يطرد الخواطر الشريرة التي خطرت له، ثم قادها من يدها كالطفل، وطرق على باب جارّته حنان، التي كانت كعادتها تتسلى بالنظر من ثُقب الباب. لا يمنعها ليل أو نهار. فتحت له الباب وقلبها يكاد يقفز من صدرها وقالت: "ما الذي جاء بك في هذا الوقت المتأخر يا ود التويم؟" ثم رأت المرأة التي كانت تقف خلفه، وقد حجبها جسده، فقالت بحدّة: "من هذه؟" "إنها ناجية من هجوم مسلح هذا المساء. قُتل زوجها أمامها وهربت. لجأت إلى حينا. هل تسمحين لها بالمبيت عندك، حتى ننظر غداً في أمرها؟" رّحبت بها العانس المروعة وأدخلتها. وهي تغلق الباب خلفهما ثم طارده صوتها: "لا تقلق عليها. ستكون في أمان، طالما نحن حتى الآن في أمان" كانت حنان العانس التي تجاوزت الأربعين بقليل، قد سكنت هذا البيت منذ ولادتها كوحيدة لوالديها. وكان ود التويم وقت ولادتها في منتصف عقده الثاني، ولا يزال يذكر سمايتها، كأنها حدثت ليلة البارحة. وليس من شك أن أربعين سنة من الجيرة المضطربة، تكفي لأن يعتاد المرء على طباع أي شخص، أيا كانت غرابة أطواره، منذ الميلاد إلى التورط في حيّاة هذه البلدة اللعينة! كانت حنان في طفولتها وصباها الباكر، قبل الرحيل المبكر لأبويها، فتاةً متألقة تفيض بالحيوية والتفاؤل، لكن بعد حزن الفقد، وتغلغل اليأس من مجئ نصيبها المؤجل في الزوج، وجدت عزائها في الأكل بشراهة، فبدت بمرور الوقت أشبه بأولئك الضائعين، الذين يدفعهم الاكتئاب والتشاؤم، للاعتقاد أن كل شيء مصيره العدم، وأن لا معنى للحياة وأن الموت أكثر رّحمة من الحياة في هذه البلدة، رغم أن جميع من كرهوا هذه البلدة، التصقوا فيها التصاقا لزجاً لا فكاك منه، حتى عندما يموتون يدفنون فيها، فتبقى أرواحهم معلقة في أشجار النيم واللالوب إلى الأبد! تمنى لهما ود التويم أحلاماً بعيدة، واتجه نحو داره. ومنذ تلك الليلة، وما أن يخلد جيرانه إلى النوم، حتى يبدأ ود التويم بالطواف حول بيوتهم. يغلق هذا الباب المفتوح. ويتوقف إذا لمح ضوء يلقي بشعاعه من نافذة مفتوحة، مصحوباً بصوت طفل باك، فيطرق الباب ليطمئن عليه ويعرض مساعدته. عندما هجم الجنكويز و كتائبهم من المطاليق وميليشيات الظل، في ذلك الفجر الغامض؛ على الثوار المستجيرين بمقار الجيش، وهم يهتفون: 'حرية، سلام وعدالة'، وأغلق 'الجيش' جميع مقارّه في وجوههم، فيما كانوا يرون الموت يحدق بهم من كل اتجاه. وقد صعقتهم الصدمة؛ أن من يهجمون عليهم الآن بينهم 'الجيش' نفسه! لحظتها فقط أدرك الثوار ما كان يقوله 'الرُّحل'. ولحظتها فقط أيقنوا بهلاكهم وهلاك البلاد الكبيرة! وقتها في خضم الهجوم، تفجر الدّم ساخناً من الجُرح الغائر على فخذ عباس، وسال على الأرض. أحس بآلام رهيبة تعذّبه. ضغط بكلتا يديه على الجُرح في فخذه، وأجال البصر حوله. كانت خيوط الفجر الأولى تتسلل ببطءٍ شديد، ورّياح خجولة قد هبّت من جهة النّهر! نظر إلى السماء؛ وبصوت واهن قال: "يا رب ساعدني" وزحف مبتعداً عن أرض المعركة. تشبث بشجرّة نيم. استند عليها؛ وحاول أن يفتح إحدى عينيه الدامعتين، وتحرّكت شفتاه اليابستين المزرقتين، وحاول أن يتأوه. لكن عيناه كانتا قد تجمدتا؛ وبقيتا مفتوحتين. نصب طوله بمشقة، ومضى متعثراً من شدّة الألم، والدّم يرسم خلفه خيوطاً رفيعة متقطعة على الأرض. بدت له عتمّة الفجر الموشح بالضباب، أشبه بظلمّة حالكة السواد؛ وغاب عن الوعي. عندما فتح عينيه؛ رأى 'كارو عبد الجليل'. وتناهى إلى مسامعه صوت سعدية بنت الجزار تغني، ورائحتها تعبق في فضاء البلدة القديمّة. تتغلغل في هدهدة طفل فارقه النّوم، ثم أغمض عينيه مرّة أخرى، وأصبح خارج الوقت!.. لكنه ظل يسمع حفيف شجر 'النيم'، تعبث به نسائم الصباح؛ والرّائحة المدمرة لآل الجزار، وأصوات المريدين في تكية شيخ الزّين. لم يكن عباس (الذي منذ هذه اللحظة، سيصبح اسمه: 'عباس الأعرج')؛ وحده من أُصيب في أحداث الاعتصام أمام مقر القيادة العامة. فقد قتل الجنكويز والمطاليق وكتائب الظل، كل من كان في مرمى نيرانهم. وكل من استطاعوا قتله. ورموا بالجثث في النيل، وهي موثقة بالحبال ومثقلة بالصخور. واستطاع عباس أن يسبح، بعد أن تم القائه في النّهر حياً. وكانت الأيام التي سبقت وتلت المجزرة، قد شهدت اغتصاب الكثير من الفتيان والفتيات، الذين اعتقلتهم كتائب الظل في مقارها السرية، قبل أن يموتوا تحت التعذيب، و يدفنوا في مقابر مجهولة. و أصيب كثيرون بإصابات بالغة، وهم نيام على أرصفة الشوارع. وما حدث لعباس الذي تمكن من النجاة حياً، لهو شئ يسير لا يذكر، مقارنةً بفظاعة الجرائم التي تم ارتكابها. قبل أن يرتكب الجنكويز والمطاليق هذه المجزرة، كانوا قد حاصروا المعتصمين من كل الاتجاهات، ثم اقتحمت قواتهم مقر الاعتصام؛ بكل أنواع الأسلحة. وفي الأيام التي تلت ذلك؛ انتشر الأهالي على جانبي النّهر، يخرجون الجثث التي تم إغراقها. ولأيام عديدة كان النّهر يقذف إلى شاطئيه بالجثث، التي جرحها السمك من لحومها. قُبيل مجزرة الاعتصام؛ كان أبوشوتال قد حصل على الفتاوى الملائمة، التي تبيح له إهدار دم المحتجين، واغتصاب المعارضين وقتلهم من شيخ عبد الجبار سيف. فمنذ استولى 'العراب' على السلطة في البلاد الكبيرة، نشط تلاميذه الجنكويز، الذين خلعوا ملابسهم العسكرية؛ وارتدوا جلاليب وعباءات الشيوخ، وأرسلوا لحاهم الشعثاء، ووجوههم الشريرة، واستولوا على دُور العبادة، ولم يتركوا منبراً إلا ووضعوا قبضتهم عليه. وأخذوا يحرضون أبوشوتال على العنف ضد الأهالي 'حفاظا على لُحمة الأمة'، وحرموا وحللوا على هواهم، خدمةً لأغراض النظام الجنكويزي الغاشم. وتبريراً للإرهاب. وادعوا أن الملائكة تدعم سلطتهم، وتبارك خطواتهم وتتقدم ميليشيات معاركهم وحروبهم، في مواجهة 'المنكر والدفاع عن النفس' وأفتى لهم شيوخ الضلال، بجواز هدم بيوت المعارضين وحرقها، واغتصاب النساء 'ما ملكت إيمانهم'، وأن كل ذلك 'في سبيل الله'. كفروا مناوئيهم واستحلوا دماءهم 'جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم'. وقد برز اسم عبد الجبار الضلالي، كأحد شيوخ الجنكويز الأكثر تبريرياً للعنف وتطرفاً، فهو من خاطب المعتصمين أمام مقر القيادة العامة للجنكويز قائلاً: 'طاعة أبوشوتال واجب شرعي، والخروج عليه حرام وهذا الاعتصام حرام. معركتنا بين الحق والباطل'. وكان قبلها بأيام، وعندما استمرت الاحتجاجات، التي اندلعت لأكثر من عام دون توقف، قد أفتى أبو شوتال بجواز قتل ثُلثي الشعب، ليعيش الثُلث المتبقي في سلام. وقد أباح للجنكويز (من مقرّه بعد هروبه إلى الأستانة)، في عقابيل اندلاع الحرب الإفطار في رمضان، بزعم أنهم يقاتلون 'أعداء الله والأمة'. وأنكر عبد الجبار الضلالي 'مواطنة' الأهالي، ورفض الإعتراف بحضارات البلاد الكبيرة القديمّة، (التي سبقت كل الأديان) جملةً وتفصيلاً. وقال إن آثارها 'رجس من عمل الشيطان'. وحرّم عيد الأم والأب و الحب والزواج، وجملة الأعياد الخاصة، التي تعبر عن التقدير والود والتعايش والمشاعر الصافية. ومجد فقط العيد السنوي لانقلاب الجنكويز؛ باعتباره أكثر الأعياد قدسية! مع أن الجنكويز لم يتورعوا عن قتل الناس في الأشهر الحُرُم المقدسة! وكان عبد الجبار الضلالي، يفسر الآثار 'المنسوبة' للسلف على هواه؛ ويضع الأحاديث التي 'زُعمت' إليهم في غير مواضعها، وعندما سُئل عن التعذيب واغتصاب الفتيات والرجال، على أيدي كتائب الظل أثناء الحرب قال: "ذلك جهاد ومن القُربات إلى الله" واعتبر أن من يُقتل من المقتصبين 'شهيد يرفل في دعة وسرور، بين الملائكة والحور العين والغلمان المخلدون'. ويبدو أن الفتاوي كانت بالنسبة له لُعبة استغرقته تخريجاتها، فظل (من الأستانة) يشجع أبوشوتال وجنكويزه على الصمود والاستمرار في الحرب، من أجل الحفاظ على 'بيضة الدين'. كأن الدفاع عن بيضة الدين مسؤولية الآخرين فحسب، وعليهم أن يموتوا وحدهم في سبيل حماية هذه البيضة! قال شيخ الزين لمريديه: "هؤلاء مجرمين أهانوا البلاد الكبيرة، وأهانوا الدين وضيعوه، أنهم جناة على الدين قبل أن يكونوا جُناةً على أهاليهم ووطنهم". في طوافه الليلي حتى كلاب الحي، التي أكلت الجثث المتعفنة، وأصيبت بالسعر.. كانت تهدأ عندما تراه، و تهز ذيولها مرحبةً به في أدب. ولا يجن جنونها مرةً أخرى، إلا بعد أن يبتعد. كان في طوافه لا يستثنى من جيرانه أحداً.. حتى حنان العانس الضخمة، التي لا تكف عن وضع الخطط لاصطياده بعلاً، يستبد بأمرها ونهيها. وإذا اقتضى الأمر يسعدها ضربه لها من شدّة الحب والغيرّة. انفجرت أمونة العسل في وجهها: "لو كان ود التويم آخر رجل في العالم، لما سعيت إليه. ألا ترينه: بطن غائرة. أضلاع بارزة. وساقين وذراعين؛ أشبه بساقي وذراعي هيكل عظمي، وجلد متجعد شاحب شحوب الموتى، ووجه مدبوغ بصروف الحيّاة في بلاد كهذي البلاد. لا أدري ما الذي يعجبك فيه؛ وليته يرضى؟!" سحبت حنان رأسها من السور، وتراجعت في حوش دارها. وقد بلغ منها الغضب ذروته. كان ود التويم يحرص على تفقدها، والإطمئنان عليها وهو يقول في نفسه: "وما الدنيا سوى أن نعتني ببعضنا". وعند هذا الخاطر يرمى ود التويم بيت جارته حنان، بنظرة مرعوبة ويهمس لنفسه مذعوراً: "في بيوت هذه البلدة اللعينة، توجد مخلوقات بائسة تحترق. وتبحث في عذاب دفين، عن وسيلة تخمد بها نيرانها". هذه العانس التي تزن طناً من اللحوم والشحوم الرديئة، لطالما حاولت لفت انتباهه، منذ لحظة سلخها في كفاح مستميت، لجسدها السمين وكتفيها العريضين من باب بيتها، حتى لحظة عبورها الشارع إلى دكانه، بمشيتها المترجرجة التي تروع الآمنين. وتهتز لها أشجار النيم المنتشرة في أزقة البلدة. تقف أمامه وتقول بصوت تفوح منه رّائحة الرطوبة: "طبخت لك فروج بزيت اللألوب، ستأكل معه أصابعك" وتتمهل وهي تنحني مقوسة، حتى يتمكن من رؤية الفيضان الجاثم على صدرها من فتحة التوب، تضع فروجها على طربيزة دكانه بسرعة، وتستدير بحسم وهي تقول: "لا تزعج نفسك بإحضار الصحن سآتي لأخذه". وقبل أن تسمع رده، تنصرف والجبلين الصغيرين اللذان تحملهما في مؤخرتها، يدكان الأرض دكاً. كل ذلك يحدث وقد انعقد لسانه. كان يشعر أنها المخلوق الوحيد، الذي أخافه في حياته كلها. قال له جقندي ذات مرّة مازحاً: "هذه المرأة حتى الحرب فشلت في امتصاص دهونها، لو رقدت عليك ستتفكك صواميلك كلها". فقطب جبينه بوجه جقندي مغتاظا ولم يرد. وفي مرة أخرى قرر الشاعر أن يرفع ضغطه فقال: "هل تصدق يا ود التويم، أن أجدادنا من الزواحف البشرية التي تسكن باطن الأرض!" فسخر منه جقندي وهو يقول: "اذا استطعت إقناعنا بأننا من سلالة السحالي، فكيف سيقتنع ود التويم أن جدته، التي كانت تفخر بأصولها الشركسية حتى وهي في النزع الأخير، ليست سوى سحلية بغيضة؟!" ثم نظر ود التويم إلى الشاعر وقال بجدية: "رأيك شنو؟" بوغت الشاعر لكنه ضحك وقال مداعباً: "لا شك عندي أن جارتك، من فصيلة الديناصورات" و فوق سماء البلدة التي روعتها الحرب، في كل ليلة أثناء طوافه، كان يسمع صيحات الطيور الكاسرة، وهي تتنازع على بقايا كلب ميت، أهمل الأهالي احراقه. وكان يرى السماء تدور. والنجوم تسبح في مدارات غير مداراتها. وكان يشعر بالأهالي وقد فاض بهم الكيل، عاجزين عن تحمل وطأة الحنين إلى بلادهم المفقودة. فيتنهد ويقول: "هذه البلاد من البلدان القليلة التي يتعذر حكمها موحدة!". وفي بيت جارته حنان، يرى بعين خياله ديكها العجوز، الذي كف عن 'صياح الفجر' منذ عقود طويلة، لا يزال ينفض الريشات الثلاثة المتبقيات في جناحيه، وينظر بعينيه الهرّمتين إلى السماء في تساؤل عميق. ثم ينكفئ على نفسه في أسى! وهناك في حوش التومات الأرامل، كان حمارهن المكادي الشبق. يستقبل حمارّة الجيران التي تسللت كعادتها، عبر فراغ السور الداخلي الفاصل بين البيتين، والذي كان قد هدمه المطر، وبسبب ظروف الحرب عجزوا عن إعادة بنائه، ويستنشق وجهها بقوّة، ويتشمم رائحة مؤخرتها بلهفة، وبينما ترفع الحمارة الشهوانية ذيلها، ينهق الحمار المكادي.. ويواصل ود التويم طوافه. ليفاجئ جارته العانس السمينة مرّة أخرى، وهي لا تزال تتلصص خلف ظلمة الثقب. فمثل كل ليلة من ليال عنوستها المجيدة، كانت تعجز عن النوم. تغادر غرفتها نصف عارّية، وتمضي بثدييها الضخمين، لتنحني على الثقب. تمد بصرها تراقب ود التويم في طوافه الليلي. وعندما ينتهي ود التويم من جولاته في الثُلث الثالث من الليل، يعود إلى داره. يجمع حزمة من الريحان، ينثرها على وسادته؛ ويغرق في نوم عميق لا يزوره خلاله طيف حنان. ثم لا يلبث أن يستيقظ بعد ساعة أو ساعتين فيستحم، ويغير ملابسه ويفتح دكانه، ليشرع في إعداد عقاقيره الشركسية السحرية، مع أولى خيوط الفجر. ثم تستيقظ العصافير في أعشاشها على أشجار النيم، وفراغات أسقف البيوت. وعندها فقط يرى فضل السيد داخلاً بيته للتو.. كعادته يعود مرهقاً متثائباً، تفوح منه أحياناً رائحة (الخُمرة والدلكة)، التي تقطع المسافة الفاصلة بينهما، تباغت أنف ود التويم بتشفي. لا أحد يعرف أين يغيب طوال الليل؟ ولا أحد يجرؤ على سؤاله. لكنهم جميعاً يتهامسون: "أنه أحد نهابين البيوت الجنكويز أو المطاليق، وإلا كيف يتحرك في الليل مطمئناً هكذا؟.. لابد أنه من جواسيس الجنكويز أو المطاليق، البلد كلها عطالى، لا يوجد عمل سوى الحرب، فأين يذهب كل ليلة؟!' كانوا يخشون أن يؤدي فضولهم إلى مقتلهم أو اعتقالهم. وقد رأوا في هذه الحرب اللعينة ما رأوا! فبعد الحرب بأربع أسابيع، وجد الأهالي جثث ثلاث شباب من أبناء الجيران، في الخور الذي أمام بيت أحدهم (كان فضل السيد قد اتهمهم قبل اندلاع الحرب، بالتحرش بزوجته أمونه العسل). كانت جثثهم ممددة جوار بعضها البعض باتجاه القبلة، و أعضائهم الذكورية قد أزيلت من قاعدتها، وأجسامهم خرمتها القذائف. وما أن تطأ قدميه الغرفة، حتى يرتمي فضل السيد على فراشه، ويستلقي إلى جوار زوجته (أمونة)، التي لم يغشى النوم عينيها طيلة الليل. تحدق في جسده المنهك بحقد، وقد ألقت جانباً بملابس نومها، فيما جسدها في هذه اللحظة بالذات، من فجر البلدة القديمة الرمادي الشاحب يحترق. فترتدي ثيابها وتخرج إلى المطبخ، وهي ترميه بنظرة كراهية أخيرّة. في الحقيقة أن أمونة العسل تسببت بجمالها النمرود، في كثير من الأضرار الجسيمة للبلدة، فبسببها قُتل الشبان الثلاث، كما أشاع رواد مقهى حليمة. والحقيقة أن الشبان الثلاث، لم يُقتلوا بسبب أمونة ولا يد لفضل السيد في ذلك. فما حدث أن ثلاث من المتفلتين الذين لديهم ثأر شخصي مع هؤلاء الشباب، بسبب ممارستهم الجنس مع إخواتهم، هجموا عليهم أثناء خروجهم من سوق 'النساوين'. قتلوا اثنين في الحال، فيما اندفع أحد المتفلتين ليمسك بالشاب الثالث الذي ولى هارباً، ولحق به. وأراد الشاب أن يمسكه من وسطه، لكن المتفلت راغ منه وخطأ خُطوّة إلى الخلف. واستل المتفلت سكينه. صرخ الشاب وهو يرى المتفلت، يحمل إليه الموت، وعينيه تقدحان بالشرر، وهو يشتمه بالبذاءات. ثم قفز إلى الأمام رافعاً سكينه، ولكن الشاب المذعور انحرف عنه جانباً، حتى كاد المتفلت يسقط على الأرض. ثم تمالك نفسه واندفع منحنياً نحو الشاب، وضربه في بطنه برأسه ضربة كادت تفقده وعيه، ولكن الشاب تماسك واستجمع قوته، وبينما كان المتفلت لا يزال منحنياً، حاول الشاب الجري مرّة أخرى، لكن المتفلت مد رجله وأوقعه، وأسرع بدفع سكينه عميقاً في جسده. طقطقت عظام الشاب وانبثق دمه غزيراً، فيما المتفلت ينتزع السكين و هو يطلق صيحة فرح: "انت مين.. ميت" غطى الشاب جرحه بكفه، وانحنى متمايلاً ليتكئ على جذع شجرّة نيم. ومرّة أخرى في خطوات وئيدة متعرجة، اقترب المتفلت منه، صلب ذراعيه من الخلف ودفعه أمامه، إلى حيث بقية المتفلتين؛ مع جثتي الشابين الآخرين. كان الشاب ينزف وخياشيمه ترتعش، وقد أحس بقواه تخور وتمنعه عن المشي. فجره المتفلت ورماه بين جثتي صديقيه. مدد المتفلتين الشبان الثلاثة، فوق بركة دمائهم. في نزعهم الأخير مرت بخواطرهم كالبرق الخاطف، الذكريات نفسها، التي تمر في اللحظة الفاصلة بين الحياة والموت، رأة ثلاثتهم كل حياتهم.. وغطت عيونهم سحابة سوداء داكنة، ثم لم يعد أحدهم يرى سوى جثته هو وحده وسط بركة من الدماء!
| |

|
|
|
|
|
|
Re: كوابيس الجنكويز (الجزء الثاني من المطاليق (Re: احمد ضحية)
|
كانت أمونه العسل في ريعان شبابها. ذات جسد فاتن حيوي ونشط. السبب الوحيد الذي جعلها تتزوج ابن عمها فضل السيد هو ستره لها، بعد أن حبلت من أحد الجنكويز، الذي كانت قد أحبته بجنون، ولم تتوقع أن يهجرها بعد أن أخبرته بحملها منه. جرحها عميقا بإنكاره أبوّة الجنين، أكثر من جرحها بالهجران. وكانت كلما نظرت لفضل السيد (الذي لم يمسها أبداً منذ تزوجها) ممدداً إلى جوارها يتثاءب أو غارقاً في النوم، تحلم لحظتها أنها في رفقة شاب ممشوق القوام مثلها. حاجباه مقرونان، وشاربه كث، وشعر صدره كثيف، تضيع داخله أناملها. تمسك بيده؛ و يخطوان معاً داخل الجنة. يأكلان من تفاحها، ومع آخر قضمة وهو يضع ذراعيه حول خصرها، تنظر نحوها جارتها حنان العانس الشريرة بريبة وشك، وتقاطع حلمها في نبرّة غيرّة واضحة: "أنت تصفين ود التويم" "هذا صحيح.. في شبابه، قبل قرن من الزمان!" في تلك الليلة الخانقة نفسها، خلع الشاعر ملابس نومه، ونهض متجهاً إلى النافذة، التي كان يفصلها من النّهر عدد من البيوت والمباني والحوانيت، وسوق شعبي تاريخي صغير يتوسط الحي. وقف أمام النافذة، يتلمس بعض الهواء، في ذلك السكون الموحش والعميق، الذي غرق فيه كل شئ في ظلام دامس. فيما كانت شجرّة النيم العجوز؛ عند منعرج الزقاق الطويل المفضي إلى النهر، قد انتهزت فرصة إطباق الحرارة الخانقة؛ أنيابها على عنق البلدة. واستمرت تنشر في الأزقة الضيقة، نوعاً غريباً من الروائح: مزيج من رّائحة النيم و رّوث الطيور. ظل الشاعر للحظة واقفاً بجسده الفارع، محاطاً بكل هذا السكون، متكئاً على حافة النافذة بمرفقيه. وظل هكذا من شدّة الحرارة، يستعيد ماضي معالم البلدة، دون أن يطرف له جفن؛ في وحشة هذا الليل المريب، بحرارته الخانقة، التي تنذر بكارثة وشيكة. مد بصره يعبر الميدان الفسيح، الذي يفصل بيوت المجذومين المنفية عن بيوت البلدة، على مبعدة من تقاطع الطرق الرئيسية، التي تربط البلدة بحواضر البلاد الكبيرة.. كان قد خططها الأهالي بأنفسهم منذ الأزل. وظلت جميعها لا تفضي إلى قلب البلدة القديمة! سوى طريق واحد مع شارع أصغر، ينتهي إلى الشارع الرئيسي في الميدان الفسيح، الذي يقوم على ناصيته كشك الليمون. وبطريقة ما متعرجة، كان الشارعان يتقابلان مرّة أخرى عند سوق 'النساوين'. وكان الأهالي يستخدمون كلمة 'نساوين' وقتها لفرط أدبهم، عندما كانوا لا يزالون محافظين، إذ كانوا يستخدمون هذه الكلمة، ككلمة بديلة لكلمة "عاهرات". وكانت النساوين ساكنات الحي، جلهن من الهاربات من أهلهن؛ وقد أُهدرت دماء بعضهن، أو نفين أو نزحن في سنوات الجفاف والتصحر والقحط والمجاعة، وتخلفن عن العودة؛ بعد أن عادت الخرائف تمطر مرّة أخرى في ديارهن. أو كُن من ضحايا الحروب، اللواتي أفتقدن كل سند. أو مجرد نساء فقيرات، سُدت في وجوههن سبل العيش. أو متمردات شققن عصا الطاعة على التقاليد الراسخة، ولذن ببيوت النساوين، يلتمسن الدفء لأجسادهن الظمأى. وسوق 'النساوين' لم يكن سوقاً بذلك المعنى، فهو مجرد صفوف من البيوت المعزولة عند تخوم النّهر، في منحناه المنحدر إلى خارج البلدة. وكانت مداخله دون نظام محدد سوى الفوضى. ورغم أن السلطان 'حجر'، في أواخر أيامه، كان قد شن حملة شعواء على هذا السوق، وكل الأسواق الشبيهة به في البلاد الكبيرة، وحظر 'النساوين'، ولم يعد لهذه المهنة وجود 'قانوني'. إلا أن المهنة نفسها، انتشرت على نحو 'غير رّسمي' انتشار النّار في الهشيم. الأمر الذي هدد الأسر المحافظة! ومنذ اعتلى أبوشوتال السلطة تحت ستار (التنظيم الديني الخاص للجنكويز) خلفاً لدرع سيده، الذي لم يكن يكترث للتدين كثيراً، أصبح من العسير التمييز بين 'النساوين' و 'النسوان'. فيما مضى، كانت أكثر الأيام؛ التي يشهد فيها سوق 'النساوين' نشاطاً محموماً، كان ذلك عندما تأتي 'مراكب الجنكويز' من الصعيد، محملةً بالمنهوبات والبضائع. فالجنود الجنكويز الذين كانوا يقاتلون الثوار هناك، في طريق عودتهم إلى الديار، كانوا يحملون معهم كل ما يستطيعون حمله. كانوا يقطعون حتى الأشجار، لبيعها للنجارين! وكذلك الفارين من جحيم الحرب من أهالي الصعيد. وهؤلاء كانوا ما أن تدلقهم المراكب على اليابسة، حتى يتوجهون بحثاً عن 'سوق النساوين'، اللواتي لم يكن ترهل صدورهن و عجيزاتهن؛ يؤثر في جمالهن وسحرهن، وقدرتهن على إطلاق مردة الشهوات، من قماقم أجساد زبائنهن المحرومين، بضحكاتهن العابثة، و نظراتهن الخبيثة اللعوبة. كانوا يقفون أمام أبواب بيوت النساوين صفوفاً، ينظرون شذراً للحارس الجنكويزي، الذي يقف أمام كل باب ينظم الصفوف، وهو يحمل في يده سوطاً من العنج، لفرض القانون والنظام؛ وإدخال كلٌ في دوره، دون محاباة أو انتهاك لمبادئ العدالة. في هذه البيوت يستحم هؤلاء المعذبون، ويتعطرون ويمارسون الجنس، بعد حرمان أشهر عديدة خذلتهم فيها حورّيات النهر، ذوات الذيول السمكية، التي تلمع في انكسار ضوء الشمس على أجسادهن المنحوتة، ويأملون أن لا تخيب حوريات 'البر' بذيولهم الرجراجة ظنونهم! في قفا سوق النساوين مباشرة، كانت تقع المقابر التي لم يعد أياً من الأهالي، يعرف فيها أيهم قبر قريبه، في فوضى القبور التي سقطت شواهدها، أو تشابهت وانمحت الأسماء عنها. ولم يكن ذلك أمراً مهماً على كل حال، فقد كف أهالي البلدة القديمة، (منذ انتشرت المقابر الجماعية)، منذ وقت طويل، عن زيارة أحبائهم الراحلين، وهم يحملون 'طعام الزيارة' للفقراء الذين يرتادون القبور. بعد أن أصبحوا جميعا فقراء، و عاجزين حتى عن إطعام أنفسهم. مع نهاية سوق 'النساوين'، تبدأ محلات 'النقلتية' و'البروش' و'النطوع' و'الفرك' والدجاج والفراريج والأرانب، حيث كانت تتناهى دائماً الأصوات العالية، والثرثرة والمزاح والضحكات العابثة. وكان عازفي 'أم كيكي' الذين يعيش بعضهم في القوز النائي خارج البلدة، والذي يعج ببيوت الخمر البلدي، يأتون إلى سوق النساوين كل صباح. يقفون أمام الصفوف، ويعزفون أنغامهم الشجية. يأخذون ما يجود به المصطفين، الذين تزيد أنغام 'أم كيكي' من مضاعفة إحساسهم ببطء خُطى الزمن، فيما أنغامها تشعل نيران شهواتهم، في انتظارهم المرير لدورهم الذي لا يأتي! عندما تولى أبو شوتال السلطة، حوّل الجنكويز البلاد الكبيرة، إلى مركز للتجارّة غير المشروعة، ومحطة رئيسية للتهريب العابر إلى ما ورائها. فازدهرت مع هذا التحول شبكات 'التجارة بالنساوين'، فبعد أن هبت زوابع الثورات المسلحة 'لرجال الدين المزعومين المتطرفين'، تجتاح سلطنات وممالك المناطق المتاخمة للبلاد الكبيرة. قنن الجنكويز هذه التجارّة بتشريع 'جهاد النكاح'، وبدأوا يرسلون الفتيات المخدوعات إلى 'إخوتهم في الله' الذين 'يقاتلون في سبيل القضية'، ليخففن عن هؤلاء 'المجاهدين' وطأة حروبهم الضارية، ضد سلاطينهم وملوكهم 'أعداء الله العملاء الخونة الفاسدين المفسدين'. وهكذا اتخذ سوق النساوين، شكلاً مختلفاً عن ما كان عليه، في أي لحظة من لحظات التاريخ المقدس للبلاد الكبيرة. وعندما يتأمل الشاعر أحوال البلاد الكبيرة الآن، في هذه اللحظة الخانقة، التي انتهت فيها الثورة إلى حرب بين الجنكويز والمطاليق، يرى بوضوح أن الثورة لم تكن ثورة شباب يافعين فحسب، فقد تدفقت خلف هتافات (الكنداكة)، كل سيول المشردين والمعاشيين والمعاقين والعجزة والأرامل، وجميع من أصابتهم حروب البلاد الكبيرة، بالاكتئاب والأمراض والوساوس والظنون! قُبيل اندلاع الحرب، كان وسطاء كُثُر، قد راوحوا بين السلطان 'الدود' و قائد المطاليق إدريس، لانتزاع فتيل الأزمة بينهما. وكان الوسطاء قد استمروا، يجرون الكثير من المحادثات المكوكية، حتى اللحظات الأخيرة لاندلاع الحرب. ونقلت الحكامات عن أحد الوسطاء 'الرُّحل'، أن الدود و إدريس لم يشاركا في الإجتماع، الذي انعقد في مقر القيادة العامة للجنكويز؛ بوسط حاضرة الوادي. الذي كان مزمعاً انعقاده في الساعة العاشرة من صبيحة اندلاع الحرب. ووفقاً لشهود من أعيان البلدة القديمة، والمستشار الشخصي لإدريس، أن إطلاق النار بدأ في معسكر 'دبة المرفعين'، جنوب حاضرة الوادي، حوالي الساعة الثامنة والنصف صباحاً، بتوقيت البلدة القديمة. أي قُبيل ذلك الاجتماع المزمع بساعة ونصف. ومن ثم تصاعد العنف بسرعة، وعم أرجاء البلاد الكبيرة. بعد قصف معسكر 'دبة المرفعين' مباشرة، اقتحم المطاليق المرابطين أمام القيادة العامة للجنكويز، بوابة المقر السيادي. قتلوا كل الحرس الذين قاوموهم، وأصابوا قائد الحرس في مؤخرته بجرح خطير. وصعدوا في طريقهم إلى مقر الدود، واشتبكوا مع حرسه الخاص الذين، جعلوا من أجسادهم ساتراً تلقى القذائف دونه. بعدها فتشوا المقر ركناً ركناً، دون أن يعثروا سوى على كاتبة مكتب الدود نصف عارية، ولم يكن للدود أثر! كان الدود قد بدأ مداعبات الحب وهو عار تماماً، عندما سمعا الصيحات الأولى وأصوات القذائف، ساعدته على ارتداء ملابسه بسرعة، وعاونته على الهروب من الباب السري، الذي دلتهم عليه. لكنهم لم يعثروا على الدود، فالباب كان يفضي إلى حديقة خلفية قديمّة، تنتهي عند النهر. فظنوا أن تمساح ضل طريقه، سياكله قبل بلوغ الضفة الأخرى. لم يكن السلطان الدود يولي شكاوى الأهالي، أدنى قدر من الإهتمام. فقد انصرف منذ أعلنه ابوشوتال ولياً لعهده، إلى بناء إمبراطورية مالية في الاستانة ليس لها مثيل. حتى أصبح من أثرى الأثرياء من سلالة الجنكويز، عبر التاريخ العريق للحشاشين. لم يكن الدود يأبه للمشاكل التي تعترض حيّاة الأهالي، و يعانون منها، فآخر ما كان يخطر على خياله المحدود، التساؤل حول ماذا يأكلون أو يشربون، وكيف هي حالتهم الصحية، وامزجتهم واستقرار زيجاتهم، أو طلاقاتهم وقصص حبهم الفاشلة! وهل خمدت فيهم جذوة الحب و الشغف اللعين، الذي لطالما أقض مضاجع عوانس البلدة القديمّة، أم أن هؤلاء العوانس الماجدات، لا زلن بانتظار عشاقهن البعيدين، يتناهشهن أرق رائحة سعدية وأمها، الممزوج في رائحة النعناع وورق الليمون، الذي يتخلل سهر لياليهن الطويلة! كان الدود جاهلاً حتى بموجة البؤس والاكتئاب، التي اجتاحت الوادي، خلال أكثر من ثلاث عقود من فساد المخلوع أبوشوتال! ولم يكن ثمّة شئ بالإمكان أن يحرك في تبلده المقيم ساكناً. لذا؛ كان الأهالي الساخطين يتغذى غضبهم المزمن، من شعورهم بأنهم لا يشاركون الدود وفلوله النازحين من حاضرة البلاد الكبيرة إلى دار صباح، (والذين كونوا هناك، حكومة مشردين. داعمين للكراهية والحرب، في عقابيل اندلاع الحرب) مباهج السلطة في بلادهم الغنية. ولهذا ممتلئين بروح التشفي، كان أغلبهم ينتظر بسرور وغبطة، تلك اللحظة الوشيكة؛ التي يسمعون فيها خبر رحيله وفلوله المحتوم إلى الأبد! منذ هُزم الدود في معارك القيادة العامة للجنكويز، واختبأ في السرداب ك############ يتيم مثير للشفقة، لم يعد بالنسبة للجنكويز وكتائب الظل الموالين للمخلوع أبو شوتال، هو الشخص نفسه الذي ائتمنوه على سلطانهم على البلاد الكبيرة. وهم الذين لطالما دبروا لأسباب أقل من خسارة الحرب بكثير، انقلابات عديدة ضده. نجح نائبه إدريس في إحباطها جميعها. والحقيقة أن الدود كان مغضوباً عليه من الجميع، فحتى رواد 'الاندايات' كانوا يحملونه مسؤولية غلاء الخمور البلدية و'البنقو'، وتدني مستوى الأغنية الشعبية؛ والدعارة الفنية. وليس هذا فحسب، إذ حملوه إلى جانب كل ذلك، مسؤولية إنشاء الميليشيات؛ التي أصبحت خطراً أدى إلى الحرب والدمار، ومسؤولية انفصال الصعيد القديم، (لأنه انشغل بجلسات الطرب التي تؤمها 'القونات') على حد زعمهم! ولم يضيع رواد الإندايات أي فرصة؛ تنسب إلى انحلاله وتهتكه؛ كل ما ألم بالبلاد الكبيرة من آلام ومآسي؛ عبر تاريخها المشبوه والغامض! وعلى كل حال؛ لم يكن رواد الإندايات وحدهم؛ هم الذين تصدوا لتعريته، فقد أشار إدريس أيضاً في أحد خطاباته الشهيرة، إلى مجونه ووصفه رسمياً ب 'السكير الذي لا يصلي'. حتى أنه زعم ذات مرة تحت تأثير السكر أنه 'رب الفور'. وهو وصف مدمر لرجل، يفتتح مخاطاباته للأهالي ب: 'هي لله. لا للسلطة ولا للجاه'. وهو وصف أخطر أخطر لرجل درج على الزعم، أنه يحارب لأجل 'العقيدة والوطن وبيضة الدين' وفي الواقع مال الأهالي إلى تصديق إدريس، نظراً لتجربة عمله الثرة مع الدود في إجهاض ثورة دار الرّيح الأولى، والاحتجاجات التي انتظمت البلاد الكبيرة، وقادت إلى عزل أبوشوتال. فوقتها كان إدريس يأخذ تعليماته المباشرة من الدود. وفي الحقيقة كان الدود قد لجأ إلى إدريس، بعد خسارته كل المعارك، التي خاضها ضد متمردي الصعيد ودار الريح، بسبب أنه كان دائماً يترك جنوده يقاتلون في الميدان، ليبقى 'جلالته' مخموراً على فراش امرأة! حسب مزاعم بعض الخبثاء، في الدائرة الضيقة لإدريس! وعندما استعان الدود للمرّة الأولى بادريس؛ لإيقاف هذه الهزائم، لم يتوقع إدريس أن أول مرّة يقابله فيها في مقر قيادته، يصادف فيها أيضاً قافلة من النساء تخرج أمامه، ريثما يلحق بها بعد أن أجل اجتماعه الأول بادريس لهذا السبب! الأمر الذي جعل إدريس يتساءل: "من يكن هؤلاء النسوة، حتى يؤجل إجتماع بهذه الأهمية لأجلهن؟" فرد عليه مرافقه البدوي الخبيث بعفوية: "إنهن جواريه!" "ومتى سباهن. وهو يُهزم في كل المعارك؟" "اشتراهن من نخاسة متمردي دار الريح" قال جقندي موجهاً حديثه للشاعر: "أنت تعلم أن أهالي الوادي بسطاء، رغم ادعائهم الوعي. يسهل لأي شخص أقل بؤساً من الدود، خداعهم بالمعلومات الزائفة، التي ينشرونها كالنار في الهشيم، وكل ما أشتد بؤس ناشر الشائعة نشرها الأهالي أكثر" في الواقع لم يسلم الدود من أي فرية، وظل حتى لحظة هروبه من البلاد الكبيرة، والتحاقه بزوجته وأبنائه في الأستانة يكافح باستماتة لتكذيب الشائعات. ولم يكن ماهراً في ذلك! وفي الحقيقة أن الشائعات؛ كانت تستهدفه من أكثر من جهة، منذ فشل انقلابه على إدريس، وتحوّل انقلاب إدريس المضاد إلى حرب. وأرغم على الاختباء في سرداب.. أصبح غالبية شعب البلاد الكبيرة أعداءه، ويطيب لهم نسج الشائعات ضده كما يحلو لهم. ومن الجهة الأخرى الجنكويز المتطرفين، الذين حطم جشعه وضعفه وافتقاره لمواهب القيادة أحلامهم، تحولوا ليصبحوا من أخطر 'أعدقائه'، فهم أصدقائه لكونهم يقاتلون معه المطاليق، وأعدائه من جهة أنهم يريدونه 'كبش الفداء' لكل جرائمهم بتحميله وزرها، وفي الوقت نفسه تمهيد الطريق لهم؛ للانقضاض على السلطة والانفراد بها، وبعدها يقضون عليه! وكذلك متمردي الصعيد والسافل؛ الذين رأوا أن الانحياز إليه في حربه ضد قومهم وبني جلدتهم؛ الذين يساكنونهم الصعيد ودار الريح، وقد اختلطوا بهم وتزاوجوا معهم، صور لهم خيالهم المبدع، أن الحرب مع الدود ضد المطاليق، ستحقق لهم أمجاداً لم يحلموا بها في تاريخ دار الريح المترامية الأطراف، وبعدها يمكنهم القضاء على الدود والجنكويز، والانفراد بالسلطة على كامل البلاد الكبيرة، ليسوموا شعبها المعذب المزيد من العذاب! وفي قلب هؤلاء جميعاً كان يقف المطاليق، الذين كانوا يرون الدود وحلفائه ك 'أنصاف رجال'، إذ ينظرون لهم من موقع البدو الأقوياء، الذين يسمون الأشياء باسمائها ويحافظون على كلمتهم، ويفضلون الموت على الاختباء في سرداب. أو إدارة المعارك بعيداً عن ميادين المواجهة المباشرة، والمتاجرة بأقوات الأهالي البسطاء. حسب زعمهم! كل هؤلاء شحذوا سيوفهم وخيالاتهم، ومزجوا الحقائق بالأكاذيب، التي انطلقت تحاصر الدود من أقصى دار الريح إلى أقصى دار صباح، ومن أقصى الصعيد إلى أقصى السافل. لذلك كان من سابع المستحيلات، أن يُكتب للرجل وحلفائه الذين شملتهم الشائعات، الانتصار في حربهم الضارّية. حتى لو سانده السلطان العثماني ذات نفسه، وليس السمسار الخديوي الضئيل! كان الدود يستشعر كل ذلك، ولهذا السبب كان دائم الشكوى من تفاهة شعبه وجحوده، وظل حتى قبل اندلاع الحرب وحبسه في السرداب، يصب جام غضبه على إدريس قائد المطاليق وشقيقه عتام، اللذان كانا يتصدران أي حديث من أحاديثه، مهما بعُدت صلته. حتى أنه بعد أن تمكن من الهرب من السرداب، تحت حماية الفصيلة الاوكرانية، ومرافقيه الجنكويز الأربعة، و جلس إلى 'ست الشاي' في طريق هروبه، حرص على أن يشير إليهما وإلى المطاليق في اقتضاب. وكان مرافقيه يعلمون أن سر كراهيته الشديدة لإدريس، بسبب أن الأخير كان يستهين به، ولا يطيع أوامره ولا يعترف بقيادته. بل كان يرى نفسه أن الدود ليس نداً له من الأساس! الأمر الذي أورث الدود حقداً وكراهية عميقين لإدريس، لكنه لم يكن يجاهر بذلك، إذ كان يزعم طوال الشهور الطويلة للحرب، أن رفضه السلام وإصراره على استمرار الحرب، بسبب احتلال المطاليق لبيوت الناس: "يجب أن يخرج إدريس من بيوت الناس، ويذهب بمطاليقه من حيث أتوا. وإلا سأستمر في الحرب إلى الأبد!" وفي الحقيقة أن كلا الطرفين احتلا بيوت الناس، والفارق الوحيد بينهما، أن الدود كان يقصد بالتحديد بيت أمه، وبيوت قادة الجنكويز وقصره السلطاني والقيادة العامة. (بل أن لُعبة احتلال البيوت، راقت لفقراء كُثر من الأهالي، فمضوا هم أيضا يحتلون البيوت الفارهة، التي لم يخطر على بالهم -لولا هذه الحرب- مجرد الوقوف أمام أبوابها من قبل!).. لذلك كان زعم الدود مردود، وذلك لأنه كان مفهوماً للجميع، أنه يتفادى أن يقول صراحةً: "أخرجوا من بيت أمي وقصري!" الأهالي جميعهم كانوا يعلمون، أن الدود لا تهمه بيوتهم، ولا الأوبئة والأمراض التي تنهش أجسادهم وأرواحهم العليلة. ولا المجاعة التي ستقضي عليهم، إذا لم تتوقف هذه الحرب اللعينة! وفيما كان الأهالي يفكرون على هذا النحو، كانت خُطى فصيلة الانقاذ الأوكرانية، داخل السرداب المظلم (الذي يخترق أرض البلدة القديمة، في شبكة معقدة لآلاف الأمتار) تتقدم بحذر، وقد ارتفعت لعنات أفرادها وصياحهم، وهم يقتربون شيئاً فشيئاً، من المكان الذي اختبأ فيه الدود كفأر مذعور. وامتزجت أصداء أصواتهم مع أصوات مرافقيه، التي باتت تتناهى إليهم بوضوح. مضى الدود معهم كسير الخاطر وحزين، وهم يشقون طريق العودة عبر أحد الأنفاق المفضية إلى جروف النهر، لتأخذهم المراكب التي كانت بانتظارهم.
| |

|
|
|
|
|
|
Re: كوابيس الجنكويز (الجزء الثاني من المطاليق (Re: احمد ضحية)
|
تركوا السرداب والأنفاق والنهر خلفهم، وأصبحوا في السهل، باعشابه اليابسة، والنسور التي احتلت فضاءه، تجوب متحينةً الفرص، لالتهام الجثث المتعفنة. والعصافير القليلة المتبقية رأوها، وهي تبحث عن أعشاش آمنة. غطت مشاعر الدود سحابة داكنة، وهو يرى قيف النهر، الذي غمرته أشعة الشمس مظلماً وكئيباً، وجبل 'كارناسي' يبدو أمامه غارقاً في دخان يتموج في عتمّة الفجر. و البلدة القديمّة التي يشقها النّهر إلى نصفين، خلف السرداب. نصفها الآخر أمامه بدا مبدداً في خط غسق الفجر الشاحب. لدى هروبه تحت حماية فصيلة المرتزقة الأوكرانيين ومرافقيه الأربعة، شعر وهو يعبر النّهر تحت حمايتهم، بالبلدة القديمّة تبتعد؛ واستحوذ عليه نوع غريب من الانقباض! بدا لحظتها غريباً عن بلدته، وعن هوائها وبيوتها. قبابها وسكانها بلهجاتهم وسحناتهم المتنوعة، ورّائحة الليمون والنعناع والرّيحان، وحفيف أوراق أشجار النيم؛ الذي لطالما تغلغل في الهمسات المختلسة، واللحظات المسروقة. وبوح العشاق في الليالي المقمرة! أثناء هروبه من السرداب كانت روائح الجثث المتعفنة، وجُرأة الكلاب المسعورة المنتشرة على الطرقات، بمثابة عذاب إضافي لشخص مثله، ظل حبيساً لأكثر من خمسة أشهر، داخل سرداب مظلم. عطن. ملئ بالقوارض والصراصير والهوام. وما أن بلغ الضفة الأخرى للنهر، تحت حماية المرتزقة الأوكرانيين، وابتعد عن رّائحة العفن التي لا زالت آثارها عالقة في فضاء البلدة، وفي خياشيميه الملتهبة، حتى فوجئ بثلاث كلاب، ذات لون طوبي شاحب؛ تركض نحوهم بجنون. صاح أحد مرافقيه: "إنها مسعورة بسبب أكل جثث القتلى!" اردى المرتزقة الاوكرانيين الكلاب المسعورة، قبل أن تبلغ هدفها، فسقطت وهي تعوي في صوت متحشرج، قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة. وبعد أن استرد رباطة جأشه، طلب من مرافقيه التوقف عند أول 'بائعة شاي' يصادفونها في طريقهم داخل الأحياء، التي كانوا لحظتها قد بدأوا ينزلقون في زقاقاتها بحذر. استسلم الدود لاغراء رّائحة 'اللقيمات'؛ تناول قطعة واحدة وانتشى برائحتها، ثم التهمها شيئاً فشيئاً في شرّاهة، وهو يتلمظ شفاهه بنهم. ثم أخذ يأكلها كلها واحدةً إثر أخرى، حتى أتى على الصحن! فناولته صحناً آخر. وبالفعل تناول بشرّاهة كبيرة، صحنين كبيرين من 'اللقيمات'، وخمسة أكواب من قهوة البلدة القديمة الثقيلة. دون أن يعزم على أي من مرافقيه والمرتزقة الأوكرانيين حوله، وتبسط في الحديث إلى 'ست الشاي' وقال لها: "ليس معي نقود. لكن خذي هذه العصا الثمينة". وطلب من مرافقيه المساعدة في انتزاع العصا 'الشهيرة' من بين المقتنيات، التي كان أحد مرافقيه قد أدخلها في زكيبة، ناء بها ظهره طوال طريق الهروب من السرداب. مع آخر 'لقيماتة' ورّشفة قهوّة؛ قال برضا وهو يمسح على كرشه الضامر، مصرحاً بصوت سيادي مهزوم: "هذه أفضل قهوّة شربتها، وأفضل لقيمات أكلتها في حياتي" وكان هذا صحيحاً، على عكس عادته في تأليف الأكاذيب لأتفه الأسباب. فست الشاي هذه هي صاحبة أشهر المقاهي في البلدة القديمّة، لا يضاهي شهرّة مقهاها سوى محل السمك، الذي تملكه شقيقتها وكان يؤمه قبل الحرب، كبار المسؤولين والسياح وأثرياء البلاد الكبيرة، وتصادف أنها في تلك الصبيحة (على غير عادتها) بعد أن نال منها الأرق ليلة البارحة، أبكرت في فتح المقهى بنفسها، وشرعت في إعداد اللقيمات والمشروبات الساخنة، قبل أن يحين موعد توافد عاملات المقهى. لكأنها كانت تتوقع أن يُشرف أحد 'المسؤولين الكبار' محلها في هذا الفجر الغامض، لكنها لم تتوقع بطبيعة الحال، أن يكون المسؤول هو السلطان الدود نفسه، الذي لا يمكن أن يكون محبوساً داخل السرداب، وفي الوقت نفسه جالساً على 'بنبر' وثير من 'البنابر' التي خصصتها للسياح وعلية القوم. فيما كان كل مرافقيه وقوفاً حوله! ورغم أنها 'شبهته' منذ البداية، إلا أنها لم تتعرف عليه، بعد أن ترك السرداب آثاراً مدمرة على ملامحه وهيئته. إلى أن قطع هو الشك باليقين؛ وقال بصوت جني يخرج من قمقم: "أنا السلطان الدود. خرجت من السرداب لتوي" عندما شدد على كلمة (السلطان) بين شفتيه، ومض طيف ابتسامة خاطفة بين أسنانها سرعان ما ابتلعته، فقد كانت تعلم أن الدود نادى بنفسه سلطانا على البلاد الكبيرة، كونه ولي عهد أبوشوتال، مثلما تعلم بعد حبسه في السرداب، أنه لم يفلح في البقاء كسلطان، أكثر من الفترة الانتقالية التي اندلعت فيها هذه الحرب اللعينة. وفسر هو طيف ابتسامتها الخاطفة، (التي ظنت أنه لم يلمحها)، بأنه تعبير عن فرحها بتشريف فخامته مقهاها المتواضع. وشعر لأول مرة بامتنان أحد رعاياه له، وقال: "ليسوا جميعهم جاحدين" وشعر برغبة في الكلام. كان يريد أن يحكي ما حدث له منذ هجم المطاليق على القيادة العامة للجنكويز، وكيف نجا. حكى لها عن حراسه الذين فدوه بأرواحهم، وكيف أنهم تركوا خلفهم أرامل ويتامى وكز على أسنانه: "لن أتخلى عنهم أبداً. لن أتركهن يشعرن بالترمل. ولن يشعر أبنائهن باليتم". فارتفع حاجبا ست الشاي، وابتلعت ما دار لحظتها في خاطرها، إذ بدا لها مفهوماً أن يتبنى هؤلاء اليتامى. لكنها لم تفهم ما الذي سيفعله بخمسة وثلاثين أرملة!.. وشكت أن يكون داء السعر انتشر وتسلل إلى السرداب. وتركته يشبع رغبته في الحكي. حكى عن الأشياء التي رآها، والتي عاناها في السرداب. ثم صمت فقالت بصوت متردد: "فخامتك كل أهالي البلاد الكبيرة، فقدوا واحداً أو أكثر من احبائهم. لم ينجو أحد من الحزن والألم" في الحقيقة كانت 'ست الشاي' النحيلة الهادئة، مستمعة جيدة وذكية وزلقة اللسان، ولم تكن موهبتها الكبيرة في صناعة 'القهوة واللقيمات' فحسب، بل في موهبتها لإرضاءه في تلك اللحظة، بعد أن قل زبائنها كثيراً بعد اندلاع الحرب، حتى أنها باتت تعتمد اعتماداً كلياً على سكان الحي، الذي يقع فيه مقهاها. وحتى هؤلاء أصبحوا مفلسين، وقد عزفت غالبيتهم العظمى عن ارتياد محلها، وأصبحت 'تأكل من سنامها' مدفوعةً بإصرار غريب على الصمود، وعدم إغلاق المقهى مهما حدث: "على جثتي" ردت، عندما سألها لماذا لم تغلق المحل، وقد أصبحت القذائف العشوائية تطال كل مكان. وهو يعطي البلدة القديمّة ظهره، ميمماً وجهه شطر دار صباح، حيث نزح جنكويزه إلى تخوم البحر الملون. مر في طريقه بكثير من الوجوه المثبتة بوهن على هياكل عظمية. كانت الكوليرا ووباء السل قد انتشرا في وادي الذهب، كما قالت ست الشاي بلطف، وهي تخبره عما فاته أثناء 'عزلته' في السرداب. هكذا قالت 'عزلته'. تفاديا للحرج! في الحقيقة أن المصائب التي تسببت فيها الحرب، جعلت الأمر ينتهي بالأهالي إلى الخوف من الأوبئة والأمراض والموت جوعاً، أكثر من خوفهم من المطاليق أو الجنكويز. فقد بدا السل في الانتشار في عقابيل إجتياح القوات المتقاتلة، لكل المزارع في مناطق سيطرة الطرف الآخر وتدميرها، وسرقة كل المحاصيل المخزنة. وحصار الحواضر على امتداد البلاد الكبيرة، بحيث أصبح الحصول على الطعام أمراً مستحيلاً. اشتدت حدة شعور الدود بالغربة.. كان غريباً تماماً عن أرض أسلافه كلها! ولم يخطر على باله لحظتها، خلال هذه الأحاسيس الجياشة من الغربة القاحلة، سوى وجه وزيره الحقود الماكر الجنرال نورين، الذي أورده بنصائحه الخبيثة في كل هذه المهالك! صحيح أن الجنرال لم يكن يملك المواهب القيادية العديدة، التي لم تتوافر أيضاً في قادة المليشيات الأخرى، وعلى عكس ما أعتقد (الجنرال شخصياً) أن صوته الرّخو، الذي أراد أن يحاكي به صوت نُخب وادي الذهب، وفصاحتهم وطريقتهم في الكلام؛ ليجد القبول في أنديتهم اللزجة البائسة، إلا أن ذلك في الحقيقة؛ كان يُثير سُخرية أهالي وادي الذهب، واشمئزاز أهالي دار الريح، الذين يشعرون به أشبه بمنبت، يدعي أصولاً ليست أصوله، ويتنكر لما ادعاه في الآن نفسه! مع ذلك أصبح الجنرال، من أكبر قادة متمردي ميليشيات الصعيد ودار الريح. إذ لم يكن (سيادته)، أقل تأثيراً أو أهلية منهم، في حدود قدراتهم المتواضعة، وإمكاناتهم الطبيعية المحدودة؛ وأحلامهم الوضيعة. وعدم سماحهم الصارم للمقربين منهم بقول الحقيقة.. ومثل رفاقه قادة القوة الموحدة، كان حساساً جداً للنقد، بحيث أن ملاحظة تافهة كانت تخرجه عن طوره دون عناء. فيما مضى كان الجنرال نورين، أحد أهم عناصر عسس الجنكويز وقادة كتائب ظلهم. لكن؛ في عقابيل انشقاق شقيقه الأصغر عنهم، وقيادته لمليشيا متمردة من كتائب الظل المنشقين، كانت قد نجحت في تخطي المسافة المترامية؛ التي تفصل بين دار الريح في أقصى مغيب الشمس؛ ووادي الذهب الذي يتوسط البلاد الكبيرة. وتمكنت من اجتياح البلدة القديمّة، لتضع حكم السلطان ابوشوتال ومصيره، في مهب ريح صرصر لساعات طويلة، انخلعت فيها قلوب الأهالي، واحتبست أنفاسهم.. "بدت كدهور من الترقب والمخاوف الجنونية". قال جقندي، فيما كان الشاعر يتململ. ثم استطرد: نجحت بعدها كتائب الظل والجنكويز، في القضاء على تمرده، وقتله على نحو بشع. (علقوا جثته ذات الساق الواحدة، التي ملأتها الاخرام.. وقد تدلت منها أحشاءه، في مدخل البلدة القديمة لسبعة أشهر. وصنع أبوشوتال من ساقه عصاةً أنيقة. طلاها باللون الأبنوسي، وطعم مقبضها بالعاج المستجلب من الصعيد الأقصى. وكان يهزها في وجوه الحشود أثناء خطبه المضللة؛ المحشوة بالابأطيل والأكاذيب عندما يستبد به الطرب، بسبب هتافات الأهالي 'المؤيدة لحكمه' وغناء 'القونات' الضائعات). في الحقيقة؛ كان هزّه العصا في وجوه الأهالي، يحمل رسالة خبيثة مبطنة للأهالي والرحل والمطاليق والمشردين، الذين درج الجنرال على وصفهم بعبارة 'أعدائنا العملاء الخونة'. في عقابيل إحباط محاولة شقيقه الفاشلة، هرب الجنرال إلى خارج البلاد الكبيرة. وأخذ يؤسس عن بُعد ميليشياته الخاصة به؛ من الناجين في هجوم شقيقه 'صاحب العصا الساق الأنيقة'، وبقايا كتائب الظل والجنكويز، الذين تعود أصولهم إلى دار الريح، وقد استقر في وجدانهم أنهم مستهدفين من 'إخوتهم في الله الجنكويز' والظلاليين الآخرين، لكون أصولهم لا تنتمي للبلاد الكبيرة. وهكذا شكّل هؤلاء ميليشيا عرقية؛ مماثلة للمليشيات التي كان يعج بها الصعيد ودار الريح. أثناء اجتماع الجنرال بقادة ميليشيات الصعيد ودار الريح الآخرين، لتوحيد قواتهم معه في قوّة واحدة تقضي على الجميع، وتنتزع السلطة قال: "لن ندمر بيوت الجنكويز وكتائب الظل. هذه البيوت فاخرة ومن حقنا أن نستولي عليها ونسكنها". كان مفهومه للجنكويز وكتائب الظل فضفاضاً، فبالنسبة له هم كل الأهالي، الذين لا تتحدر أصولهم من دار الريح والصعيد. وربما في لحظة ما إذا نجحت مخططاته، سيشمل مفهومه للجنكويز وكتائب الظل، كل العرقيات التي لا ينتمي عرقياً إليها، وقد يتقلص المفهوم في خاتمة المطاف، لينحصر في حدود أسرته الصغيرة. لقد كان الجنرال خبيثاً ماكراً، يستعذب تنمية الأحقاد والضغائن ورعايتها بضمير شره! "هذا الأفعى السامة عنصرياً بغيضاً". لطالما كرر جقندي ذلك محذراً منه إدريس. الذي كان وقتها بعد سنوات من المهانة، عاجزاً عن تحمل أي أحقاد عنصرية، تجدد ذكريات الإبادة البغيضة، التي لطالما جاهد الهروب من مواجهتها ونسيانها. السبب الوحيد الذي جعل الجنرال، بوصفه قائداً أعلا للقوة الموحدة، التي انحازت إلى الدود وجنكويزه وكتائب ظله، في حربهم الضارية ضد قائد المطاليق إدريس، هو حلمه باستثمار حاجة الدود (الذي كسرته شهور الحبس في السرداب) إليه، لبناء إمبراطورية ضخمة من الثروات المهربة وأموال الإغاثات، التي يبيعاها في السوق السوداء، دون أن ينتبه لخططهما الوضيعة أحد. وقد أتاح له موقعه الجديد، وظروف الحرب والفوضى العارمة، التي حجبت الكثير من الحقائق الكارثية! تنفيذ هذه الخطط، التي سرعان ما تكشفت خيوطها، وأصبحت حديث رواد الاندايات والمقاهي، في أصقاع البلاد من أقصاها إلى أدناها. كانت غاية أحلام الجنرال في شبابه، أن يتزوج من إحدى حسناوات دار صباح، لتنجب له 'جنكويزياً صغيراً بلون قمحي وشعر سبيبي ناعم'. لكن لم يمهل والده وعمه بذور هذا الحلم أن تنمو وتكتمل وتثمر، إذ عجلا بتزويجه من إبنة أخيهم المتوفى، قبل أن تختطفه إحدى حسناوات دار صباح اللعوبات. وبرز هذا الحلم مجدداً عند اندلاع الحرب، التي ساعدت مناخاتها الجنسية الخصبة، نتيجة شعور الناس بالحاجة لمقاومة الموت وخوفهم من الانقراض، على نمو بذور الحلم القديم وتفتق بتلاته، فلم يتبق للجنرال سوى قطاف حُلمه. وهكذا عين 'سدن' كاتبة لمكاتباته الرّسمية. وكانت سدن الحسناء العشرينية الفاتنة، تنحدر من أسرة عريقة، دمرت الحرب ممتلكاتها ونفوذها وأحلامها السلالية العظيمة. وكانت وظيفتها الحقيقية في البداية، لا تتخطى حدود الثرثرة معه ومؤانسة وحدته. قُبيل الحرب كانت سدن قد خُطبت لأحد أبناء الجيران من العائلات الكبيرة، الذي قضى نحبه في مرمى قذائف كتائب الظل والمطاليق، أثناء عبوره الجسر المفضي إلى داره، منذ الأيام الأولى للحرب. ومنذ اللحظة الأولى التي رأى فيها الجنرال سدن تقف عند بوابة قصر الدود؛ تزور إحدى معارفها القدامى؛ الذين نزحوا إلى حاضرة دار صباح؛ ووجدوا موطئ قدم في قصر الدود، حتى تقدم منها وقد أطل برعم الحلم القديم وأزهر. أحبها الجنرال حباً منقطع النظير. وأصبحت كاتمة أسراره وأهم أعوانه، الذين يعتمد عليهم اعتماداً تاماً. قبل أن يتزوجها سراً، خشية غيرّة ابنة عمه وجبروتها الذين يهد الجبال. فكانت سدن لا تغادر مكتبه الذي أثث جزء مفصول منه كغرفة نوم، إلا في وقت متأخر من الليل. الجنرال منذ نزح إلى دار صباح بعد سقوط حاضرتها على يد المطاليق، لم يعد بحاجة لتبرير تأخره في العودة إلى البيت لزوجته، التي لم تعد تسأله السؤال المعتاد: "لماذا تأخرت؟" ولم يعد مضطراً لاختلاق المبررات: "كما تعلمين ظروف المملكة و الحرب والمسؤوليات والمعارك في دار الريح". كانت زوجته تتفهم المسؤوليات الجسام، التي ألقتها الحرب على كاهله. كما أنها كانت واثقة من عدم قدرته على فعل أي شئ، من ذلك النوع الذي مضى على فعلهما له وقت طويل. وهي تعد نفسها محظوظة، أن جذوته لم تخبو وتنطفئ؛ إلا بعد أن ملأ عالمها بخمسة أبناء يشبهونها. ولذلك لم تكن قلقة من جهته، حتى لو رأته عارياً على فراش خادمتها! تجذرت سدن في وجدان الجنرال دون رقيب، بحيث أصبح يشعر بأن من المستحيل، أن يعيش من غيرها. فيظل بعد عودته كالعادة متمدداً جوار زوجته المترهلة، التي جف فيها ماء الحياة مكتئباً، حتى تحين مواعيد عودته إلى مكتبه في الصباح التالي. وما أن يرى سدن تدخل من الباب متأخرة كعادتها، حتى تجري الدماء في عروقه بقوّة ألف حصان، وينتفض وجدانه، وتومض عينيه ببريق غريب! ويتألق حتى يسيل لعابه! كانا يستلقيان على فراش غرفة النوم داخل المكتب، دون أن يخلعا ثيابهما، ودون أن يستسلما لقيلولة الظهيرة، بعد أن فشل في أكثر من ثلاثة محاولات، في ممارسة الحب معها. في أول أيام 'زواجهما العرفي'، رأى شبح زوجته المترهلة يتمدد بينهما، فشعر بفزع لم يشعر بمثله طوال حياته النضالية المجيدة. منذها قرر الاكتفاء بالتمدد إلى جوارها، دون أن يخبرها بالسبب. وكانت هي من جهتها قد استنتجت، أن جسده الذي اكتنز بالمؤامرات والدسائس، أصبح عاجزاً عن الاستجابة لروحه التواقة، لإرضاء شغف مفاتن جسدها الصبي. في الحقيقة لم تكن المشكلة تكمن في داء السكر وحده، وحاجته الملحة للبول كل دقائق معدودات. كان السبب خفياً، فشل أطباء عاصمة الخلافة التركية الذين زارهم مراراً وتكراراً، من التوصل إليه وعلاجه، رغم أنهم لم يتركوا تحليلاً معملياً لم يجروه له. ولم يكن حظه مع الأطباء النفسيين، بأحسن حالاً من أطبائه العموميين والاختصاصيين! آخر الملائكة في خاتمة المطاف استمع لنصائح زوجته الجبارة، ولجأ إلى الأطباء الشعبيين، ثم وجد قدميه تسوقانه لمقابلة دجال مشعوذ كئيب، أعطاه أنواع مختلفة من الأعشاب، التي لم تُجدي نفعاً أيضاً، فاستسلم لقدره وانشغل بجمع الثروات، إلى أن لاحت سدن في أفق حياته، فقلبت عاليها سافلها، وجددت الجُرح القديم! "لهذا السبب هو قاس وفاسد وحقود. يريد الانتقام من الأهالي، عقاباً على ذنب ليس لديهم عنه أدنى فكرّة" لا يفتأ جقندي يكرر فيرد عليه الشاعر: "هو الوحيد الذي يعلم السبب، وإن ادعى غير ذلك!" أضاف جقندي: "ولهذا السبب بعد أن تزوجت مع وقف التنفيذ، استجابت سدن لنزوات المتمرد المارشال أبو جيبين.. رفيقه ومنافسه في قيادة القوة الموحدة" كان المارشال قد وضع يده على أغنى مناجم الذهب في دار الريح. ولم يكفه ذلك من الاستمرار في شراكته لتجار الجنكويز، تجارة الادوات والعقاقير الجنسية والبنقو والحشيش. فأثناء عملها ككاتبة لمراسلات الجنرال، كانت قد حددت أهدافها. ولم يمض وقت قصير على عملها، حتى لاحظت الاهتمام الفائق، في عيني المارشال النهمتين! عند غروب الشمس، وبعد مغادرة الموظفين لم تمض إلى مكتب الجنرال كالمعتاد، إذ كانت تنتظر المارشال في الصالة الواسعة. كان خارج مكتبه طوال النهار. رأته يدخل من باب المبنى بخطوات واثقة. وما أن رآها حتى هرول ناحيتها مرحباً، كان هذا اللقاء هو لقائها الثاني به وهما وحدهما، بعد اللقاء الأول عند جسر الأرخبيلات. قادها من يدها خلال الصالة الواسعة، التي تفضي إلى مكتبه. الذي كان شباكه الزجاجي الكبير، يطل على فناء ضيق، يتسلل منه ضوء الشمس الغاربة، بما يكفي لرؤية كليهما وجه الآخر. جلسا على مقعدين متقابلين، بحيث تلامست ركبتيهما. كان يرتدي ثياباً صيفية خفيفة، بدا فيها أكثر فتوة وجاذبية وشباباً، عما كان عليه وهو يلقي عليها التحايا كل صباح، ويتجاذب معها أطراف الأحاديث البائسة، التي لا معنى لها. بأسلوب يحاول أن يجعله مرحاً دون جدوى. "مهما تبسط يظل قميئاً سمجاً" كان ذلك هو رأي الجميع فيه. الذين كان بعضهم يضيف: "أنه ليس أكثر من أراجوز" لكنها لم تكن تراه بعيون الآخرين. بل بعيونها. في البدء لم يقم بأية مبادرة لاغرائها. حاول تفادي ارتكاب أي خطأ من أخطاءه المعتادة مع النساء، عندما يخطو خطواته الأولى، فيجد نفسه قد أفسد كل شئ. لكنه في هذه اللحظة بالذات، وبكل خبراته التاريخية العظيمة، قدر أن لابد له أن يبادر.. و بجُرأة يُحسد عليها اقترب منها. تركته يدنو حتى أحست بأنفاسه الدافئة تلفح وجهها. ثم أشاحت بوجهها جهة الباب. فقال: "لا تخافي لا أتوقع مجيء أحد" ثم استغرق معها في أحاديث شتى. وبصوت هامس، وبنظرة متبادلة مليئة بالشوق واللهفة المضطرمة، (كأن أتون حب قديم وقتها انبعث من ركام السنين التي أضاعها في فيافي دار الريح)؛ ومن تحت رماد الحرب في الوديان، انبعث ذلك اللهب قوياً متقد الجذوة. تكاد نيرانه تحرق قلبه. في البدء حرص كلاهما على أن لا يلمس الآخر، حسبهما أن يجلسا هكذا الساعات الطوال، يتبادلان الأحاديث ونظريات الحرب الخاسرة، التي فشل فيها بامتياز! نفذ السكون المخيم على المكتب إلى قلبه، ففتح طيات قلبه أمامها طية طية. رفعت وجهها إليه وقد بدت عليه صُفرة خفيفة، وطرفت أهدابها الطويلة برهةً، وقد نفذت مشاعره إلى جسدها. وملأته بالرغبات. تناول كفيها بلا تفكير، وأخذ يمسح عليها بيديه في رفق. ويطوي أصابعها ويبسطها ويضحك ضحكته الماسخة. حاولت أن تخفي اضطرابها، لكن لم تحاول أن تقاوم جيشان العواطف التي استبدت به. لوهلة تركت له نفسها، وقد احتقن وجهها. وأغلقت عينيها كعذراء صغيرة، فيما كانت شفتاه تدنو من شفتيها ببطء شديد. ثم ثابت إلى رشدها فجأة، فأرسلت صيحة خافتة اختلط فيها الفزع بالخجل: "لا. دعني دعني" لكنه لم يتراجع. كادت أن تستسلم. لكنها استمدت من ضعفها قوة، ودفعته عنها بعيداً وهي تقول في صوت متحشرج: "لا لا ارجوك" ضغط على أسنانه دون أن يجيب بكلمة، وعاود الكرة. (كان المارشال لحظتها يخوض أحدى حروبه البائسة)؛ وكادت أن تستسلم، ثم وثبت بعيداً عنه بقوة، واندفعت تجلس بعيداً. (وشعر بنفسه انهزم في حربه الصغيرة). كانت أنفاسها اللاهثة تتلاحق بعنف. وقد سرت في جسدها رعدة، أشعلت فيه النار. ظلت متمالكةً. وعندما اقترب مرة أخرى يحاصرها (قبل أن يقرر الانسحاب)؛ كانت خيوط المطر الشتوي وقتها، قد بدأت تتحدر بلطف على زجاج النافذة. كانت قد اطلعت المارشال على سر، سيئن الجنرال تحت وطأة معرفة المارشال به كثيراً. ليس هذا فحسب، فبمرور الوقت كانت كل أسرار الجنرال في حوزة المارشال، وأصبحت رقبته تحت رحمته. ورغم هزيمته في حربه الصغيرة البائسة، كان المارشال سعيداً بأن أحد منافسيه 'الأقوياء'؛ (كما كان يطلق على منافسيه)، لم يعد بذات الخطورة، التي تهدد أحلامه القيادية المتوهمة! قال جقندي: "هؤلاء الخونة الحثالة في سبيل السلطة، يمكن أن يفعلوا كل شئ. ليس هناك خط أحمر يتوقفون عنده". ثم استعادت ذاكرته الهرمة، وقائع أكثر من عقدين من الزمان، عندما وصل تمرد ثوار الصعيد الأقصى إلى ذروته، ومضت جحافلهم تجتاح القرى والبلدات، حتى تخطت حدود وسط البلاد الكبيرة، وتوغلت في الوسط. الأمر الذي أنذر وقتها الجنكويز وكتائب الظل، أنهم إذا لم يتحركوا لاحتواء ثوار الصعيد بأي ثمن، لا محالة أن جحافلهم ستصل إلى حاضرة البلاد الكبيرة. عندئذ مضى أبوشوتال، وتصالح مع قائد ثوار الصعيد. وتعانقا علناً وسط غناء الحكامات والقونات وايقاعات الوازا وأم كيكي.. وفي بيت الضيافة وقع أبوشوتال لقائد الثوار، على اتفاق كامل للانفراد بحكم كامل جغرافيا الصعيد، دون أن ينازعه أحد. قال جقندي: "كانت تلك قاصمة ظهر البلاد الكبيرة" فما حدث سمم علاقة البلاد الكبيرة بممالك الجوار المتاخمة للصعيد، والتي كانت ظروف تنوعها السكاني، مماثلة. وانذرها ذلك بأن ما حدث؛ لا محالة سيصبح مصدر إلهام للقبائل الحدودية المشتركة، ما قد يقودها هي الأخرى للانفصال. قال جقندي وقتها: "أن الخدمة التي سيقدرها الشعب ولن ينساها لأبو شوتال، أن يتنحى ويغادر البلاد الكبيرة إلى الأبد" وقتها كان ود التويم منغمساً في عالمه الخاص، فكلما دنا من حنان، التي يكبرها بربع قرن، أمكنه أن يكتشف بعض مظاهر علاقته الوثيقة بها منذ وقت طويل، (والتي لم يلاحظها من قبل) إلا بعد أن بدأ جقندي والشاعر يلمحان له في ثرثراتهما العابرة. كيف غفل عنها؟ لسنوات وهو يشهد نمو هذه العلاقة ولا يشعر بها! لم يكن من قبل يفسر فضولها في النظر عبر ثقب الباب، أو تحركاتها حوله في المدى، الذي صورته إيحاءات جقندي والشاعر. ثم فجأة بدأ يركز على كل حركاتها وسكناتها.. عندما تمر به وتتبادل معه حديثاً عابراً، فيتأملها ويقول: "تبدو أكثر بشراً وسعادة من مألوف عادتها"، ويظن: "رُبما أنها التقت عاشقاً، سمعت منه ما ظلت تنتظر سماعه". أو عندما تتبعه إلى دكانه، تتخلل صوتها نبرّة نشوّة ومرح، فيفكر: "أنها ربما ستخبره عما قريب بأن أحدهم تقدم لخطبتها" بدأت الملاحظات والوساوس التي زرعها فيه الشاعر وجقندي تتنامى، ولا تقف عند حد! وبغض النظر عن كل شيء، كان يرى أنها لا يمكن أن تفكر فيه، على النحو الذي يتصوره جقندي أو الشاعر، وذلك لأنه رجل مسن. وصحيح أنها تخطت الأربعين بقليل، إلا أنها مع ذلك تصغره كثيراً! "يا رجل أنت لا تزال شاباً. الدهن في العتاقى، والشجر الكبير فوقه الصمغ" يقول جقندي. ويفكر ود التويم، هو يتخيل العلاقة بين اثنين يفصل بينهما ربع قرن. وهكذا أخذ يفكر في هذه الأحاسيس الغامضة الجديدة، التي زرعتها فيه مداعبات صديقيه اللدودين. فيأكله فضول مرير مجرد من الوهم، تقف إلى جانبه شواهد قديمّة باهتة، بلغت ذُروة تجليها عندما، أطلقت سراح شعرها الأسود الطويل، وحسرت ثوبها عن صدرها الزلزالي (الذي لم يعد بعد الآن يراه كذلك). أو عندما رفعت ذراعيها في وسط حوش بيته (عندما أطعمت ضيوفه، وجاءت لتسترد أواني الطعام الفارغة بعد مغادرتهم)، لتفتح بيديها مشبك سلسلتها، خلف عنقها. وكانت هذه الحركة، (الكفيلة بتدمير الصمود الأزلي لود التويم)، قد انعكست على ظهرها كله، فقد وقع 'التوب'؛ وتحت فستانها الضيق تغيرت معالم جسدها على نحو بديع. فلأول مرة لا يراها 'ضخمة' ولا 'سمينة'، (كما كان يراها دائما مثل الجميع). لحظتها أثارت فيه الأهداب الطويلة الناعمة، المطلة من إبطيها وذراعيها المزغبين المرفوعين على ذلك النحو، إحساسا أبدياً نسيه منذ زمان بعيد.. وفوجئ بخصرها الرفيع (لم يكن مطلقا يظن أن لديها خصر)، الذي لطالما قمعته العباءات الفضفاضة؛ والفساتين الواسعة. لحظتها فقط شعر بالسلطة القمعية لجسدها الرائع الضخم، الذي اهتز في ارتباك وخجل، وهي ترفع التوب، وتتمايل كموجة تتكسر على خليج نمرود، في وسط الحوش وتحت ضوء الشمس الغاربة، الذي انعكس بهدوء على صدرها وردفيها، أحس بكل السلطات القمعية، تتحالف وقتها لتملأ فراغه الأبدي! في المكان الذي وقع فيه 'توبها' في وسط الحوش، زرع ود التويم زهور صباح الخير، وشجيرات ريحان داخل سياج من الحناء! وكان كل صباح يشرب قهوته عند هذا السياج، قبل أن يمضي ليفتح دكانه! وظلت هذه البقعة المباركة، سرّه الدفين، الذي لم يبح به لأحد! سأله جقندي: "لا أفهم لماذا تزرع هنا في هذا المكان غير الملائم بالذات، بينما أمامك في هذا الحوش الواسع، ألف مكان يناسب هذه الزراعة!!" "إنه بيتي وأنا حر أزرع حيث أشاء، في الأرض أو السقف أو الهواء. في حدود بيتي!" ورغم تراكم الشواهد يوما بعد يوم، إلا أنها (في تقدير ود التويم) ليست كافية لقطع شكه بيقين جقندي والشاعر، إلا باتخاذ خطوة في هذا الاتجاه. لذا وقد امتلأ ذهنه بأفكار جديدة، لم يكن فيما مضى ليصدقها، راودته رغبة لا سبيل إلى مقاومتها، في الخروج لزيارة جقندي وتبادل الحديث معه "لكن أين يجد جقندي؟"
الفصل الثالث:
| |

|
|
|
|
|
|
|