أنا حجيت مرتين واعتمرت ست مرات، وكل مرة أمشي فيها الحرم بحس بنفس الشعور، رغم إنو المكان بيتغير والتوسعة شغالة على قدم وساق، والشوارع مرات بتكون مقفولة عشان البناء. لكن الحاجة الوحيدة الباقية وما بتتغير هو الفن المعماري المدهش في الحرم! يعني لمن تقيف قدام الكعبة وتشوف الثوب الأسود المطرّز بالذهب، الكاسين بيهو الكعبة وتشوف العمدان والقباب والزخارف،والرخام بتحس بيهو تحت رجليك(بااارد) ولما تشوف خلق الله الكتااار كل واحد متشمر كانو بيسابق فى سباق مرثون، ده وغيرو بخليك تحس بحاجة فوق الطبيعي، كأنها ما بس مجرد فن للعمارة، بل حاجة بتحملك لعالم تاني مليان رهبة وإجلال، بالذاتزحمة الناس فى الطواف وهم مهرولين بين الصفا والمروة..!
لكن لمن تتأمل، بتلقى إنو ده فن بشري بحت"فكرة"، نفس الفكرة الحاصلة في معابد المسيحيين والبهائيين والهندوس والبوذيين، كلها مليانة نقوش وزخارف تحسسك بعظمتها. والإنسان لمن يشوف الجمال ده، بيحس إنو الحاجة دي أكبر منو، ودي النقطة البتخلى الواحد يحس بالقداسة. الحاجة الغريبة إنو مش بس الجمال المعماري هو البيدى المكان رهبتو وقداستو بل الزحمة بتاعت الناس ذاتها بتقنعك ان هذا المكان مقدس، يعنى معقول الملاين دى كلها تكون مغفلة ساى! يعني لمن تشوف ملايين الناس جايين من كل أنحاء العالم، دافعين قروش ومسافرين بالطيارات وبالبواخر، وبذلوا مجهود عشان يكونوا في المكان ده، ده ذاتو بيدّيك إحساس إضافي بالقداسة، لأنو العقل بيقول: “لو كل الناس دي متحمسة للحاجة دي، أكيد هي مقدسة وعظيمة !” وده بيزيد إيمان الزائر بالمكان، لأنو ما بس شايف الجمال، لكن شايف الناس كمان متأثرة بيهو. وعليه نجدو هو كمان يتأثر بيهو حتى لو كان قلبو فى جهة وعواطفه فى جهة اخرى، مؤكد ح يفك قلبو عكس الهوا ويمسك قوى فى عواطفه..!
لكن كمان في ناس مستفيدين من الموضوع ده، سواء كانوا رجال دين، حكومات، أو شركات. الحكومات بتعرف إنو دي مناسبة بتجيب ليها نفوذ اقتصادي وسياسي، فبتحافظ على الطقوس وترعاها عشان تفضل مستمرة. والشركات، خاصة العالمية، بتلقى دي فرصة تسوّق بيها منتجاتها، من الإقامة والنقل لحد المشروبات والملابس والتذكارات الدينية من السبحة ، الطاقية والى جهاز المحمول. عشان كده، الفكرة دي لازم تستمر، لأنو في مصالح ضخمة مرتبطة بيها.يعنى لو السلطات الدينية مثل الأزهر "الشريف" لو قال خلاس من هذا العام ونقوم نلغى الحج،لأنه فى خطر بتاع كرون، على بالحلال فى شركات زى كوكوكولا ح تقوم تحارب الأزهر وتقول ليه انت كافر..!
لكن السؤال المهم: لو ما كان في الفن المعماري الباهر ده، وكانت الأماكن المقدسة مجرد مباني عادية بدون زخارف ولا نقوش، هل كان الشعور بالرهبة والقداسة حيكون بنفس القوة؟ هل تعداد الناس يكون بذات الحجم؟
الإجابة ببساطة: لا وبالذات فى زمنا هذا، فلو كانت الكعبة مجرد بناء مربع عادي، بدون الزخارف والستارة السوداء المرصعة بماء الذهب، ولو كان الحرم بدون تلك القباب والأعمدة الضخمة والمآذن المزخرفة، ما كان حيكون بنفس الإحساس وذلك الزخم . لأنو الإنسان بالفطرة بيتأثر بالجمال وبتفاعلات غيره مع ذلك الجمال، فكل ما كان المكان أكثر فخامة وإبداع، كل ما حس الإنسان انه ده مكان عظيم ومقدس. ده ما بينقص من قداسة المكان في حد ذاتو، لكن الفن المعماري بيساعد في ترسيخ الفكرة وزيادة تأثيرها النفسي على الزوار.
بمعنى تاني، لو الناس بتشوف نفس الزخارف والجمال دا في معابد أخرى وحولها كم هائل من الزوار ، برضو بتحس بنفس الرهبة، لأنو العقل بيفهم الجمال كرمز للقوة والعظمة، والناس عندها ميل طبيعي لربط الجمال بالإلهي. وده السبب الخلّا الحضارات القديمة كلها تهتم بالنقوش والمعابد الضخمة، لأنو الفن بيدى إحساس بأنو الحاجة دي أكبر من الحياة نفسها. ولكن فى النهاية هى فكرة الإنسان الفنان وليس المقدس عايز كده..! والفكرة بطبيعتها قديمة لأنها مجرد قص ورص وتوليف للقديم..!
فبالمختصر، لو شلنا الفن المعماري من الأماكن المقدسة، حتفضل مقدسة للناس البيعرفو قدسية القداسة، الناس البتجتاز المجسمات وعايزة تصل لما وراءها.. لكن بالنسبة للعوام الشعور العميق بالرهبة والقداسة ما حيبقى بنفس القوة لو المكان مافيهو فن ومافيهو ناس كتار يزورونه، لأنو الإنسان دايماً بيتأثر بالمظاهر والجمال وتفاعلات غيره من الناس، وده جزء من طبيعتو الغريبة والعجيبة..!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة