|
Re: مارك أوجيه... أنثروبولوجي الأنبياء والدرا� (Re: محمد عبد الله الحسين)
|
ينتمي أوجيه، المولود في العام 1935، إلى رعيل أصغر سناً من جيل 1968 الفرنسي. وعلى خلاف غيره من الأسماء اللامعة لهذا الجيل ممن كانوا حينها في تظاهرات الشوارع أو متمرّسين مع طلابهم داخل قاعات الدرس الجامعية، فإن أوجيه كان في مكان بعيد جداً من باريس، في مدينة طفولته التي تعلّم فيها أن يكون رحالاً بفضل والدين أحبّا المشي. في كتابه "الزمن أطلالاً" (2003)، يصف لحظة استمع، وكأنه في حلم، إلى أنباء الانتفاضة الفرنسية. كان ذلك عبر مذياع ترانزستور بث الأخبار بينما كان يحتسي البيرة المثلّجة في بقالة تملكها عائلة لبنانية، على أطراف قرية في ساحل العاج. حين فرّ ديغول إلى بادن بادن في ألمانيا، إثر المظاهرات، كان أوجيه في المراحل الأخيرة من بحثه الميداني عن قبائل الألديان في غرب أفريقيا. حتى العام 1977، واصَل عمله الأفريقي، فاحصاً المنطق الداخلي للطرائق التي توظفها المجتمعات المحلية، بشعائرها وطقوسها وممارستها اليومية، لإنتاج تمثلاتها الذاتية أمام أفرادها وأمام الغير. في تلك المرحلة الأولى من عمله البحثي، اشتغل أوجيه، بين موضوعات أخرى، على دراسة طقوس المعالجين الروحانيين والأنبياء المحليين في ساحل العاج وتوغو، وأدوارهم السياسية، قبل أن يقوم بسلسلة من البحوث الميدانية في أميركا الجنوبية، ليدرس تيمات قريبة، كان بعضها متعلقاً بالقناعات الدينية التوفيقية وممارستها التي انتجتها المجتمعات المستعمَرة تحت ضغط التبشير المسيحي. "الأنثروبولوجيا دائماً هي اختصاص في البدايات"، كما يقول أوجيه، وهي "بدايات تبعث رائحة الموت"، أي أنها المجال الأكثر استشعاراً للانتقال من عصر إلى آخر. كان الأنثروبولوجي، مع العسكري والمبشّر، من أوائل علامات العولمة. لكن، ومع انحسار الاستعمار في عقدي الستينيات والسبعينيات، فقدت الأنثروبولوجيا موضوعها. كان هذا مقدمة لعصر تلاشت فيه الغرائبية، وإن ظلّت المُغايَرة حاضرة. مثَّل ذلك الإدراك، نقطة ارتحال فارقة لأوجيه وللأنثروبولوجيا، فهو كان على رأس عدد من الباحثين قاموا بمراجعة منهج البحث وثنائيات الداخل/ الخارج، والقريب/ البعيد. فبدلاً من موضوع الأنثروبولوجيا التقليدي، أي البحوث المتعلقة بالشعوب البدائية و"غير الأوروبية" في جغرافياتها النائية، استحضر أوجيه تلك الأدوات التي طوّرها أثناء عمله في أفريقيا لدراسة القريب والداخل الأوروبي. في كتابه "في المترو"(1986)، حيث قدم دراسة لمترو باريس، قام بمزج بين البحث الميداني والذكريات والإحالات إلى الأعمال الأدبية مع تأملاته الفلسفية، ليجعل من النص الأنثروبولوجي نصاً أكثر شمولاً وذاتية. ستشمل اهتمامات أوجيه في المركز الكوزموبوليتاني، أنثروبولوجيا مدن الملاهي في "ديزني لاند وأماكن أخرى" (1997)، والطقوس الحضرية لركوب الدراجات الهوائية في كتابه "في مديح الدراجة"(2009)، والتقدّم في العمر، في "الجميع يموتون صغاراً: زمن بلا شيخوخة" (2014). بوتيرة دؤوبة، عمل أوجيه على دفع الأنثروبولوجيا لتواكب التطورات في حقول الإنسانيات، وبالأخص الفلسفة. في كتابه الأشهر "اللامكان: مقدمة إلى أنثروبولوجيا الحداثة الفائقة" (1992)، يستلهم أوجيه الـ"هيتروتوبيا" (المكان الآخر) من ميشال فوكو، ويسحب الأنثروبولوجيا الفرنسية إلى ما بعد حداثة برونو لاتور، وبهذا يدشن مرحلة ثالثة من عمله. كان من شأن تسريع الحداثة الفائقة للتاريخ وتقليصها للمكان، أن يحفز على إعادة التفكير في مهمة الأنثروبولوجيا وموضوعها. استعاض أوجيه عن الفصل بين البعيد والقريب وانتقاله السابق من الأول إلى الثاني، بدراسة عوالم معاصرة، متعدّدة لكن متصلة. وبحسبه، فإن تلك العوالم تساهم في تشكيلها ثنائية الهجرة والسياحة، وتتوزّع بين مواقع "لاأمكنة ملاذات" كما في مخيمات اللجوء ومسارات الهجرة غير الشرعية، ومواقع "لا أمكنة حاضرة في الصور" تلك التي تنتجها "غريزة التصوير" السياحية. بالضرورة، تنتج اللاأمكنة خبرة اللازمن أو ما يطلق عليه أوجيه "الزمن خالص". فكما نزعت الحداثة، السحر عن العالم القديم وأساطير التأسيس الدينية، وزرعت مكانها أساطيرها الخاصة، فإن ما بعد الحداثة نزعت السحر عن عالم الحداثة هذا، لتسقط طوباويات النظريات الكبرى وأيديولوجيات المستقبل. هكذا وجد دارسو الأنثروبولوجيا أنفسهم أمام عالم بلا ماضٍ وبلا مستقبل، إلا أن أوجيه ظلّ على قناعته بأن الأنثروبولوجيا ممكنة بل ضرورية، كي تتصدّى لمهمتها الفريدة، أي كتابة تاريخ متجدّد باستمرار موضوعه هو الحاضر.
| |
 
|
|
|
|