معظم السودانيين يخرجون من بلادهم مجبرين ..ويكون كل حلمهم ان يرجعوا اليها ويعيشوا فيها ويدفنوا فى ترابها .. لذلك نجد حتى الذين هاجروا الى اوربا والاميريكتين، يقومون بشراء الاراضى وبناء بيوت فى السودان ..وحلمهم الاكبر ان يرجعوا الى السودان .. بالنسبة لى شخصيا كانت الغربة عبارة عن رحلة بالقطار تتوقف فى سندات ومحطات ..واجد مشقة فى الحمام وكل شئ ..وحلمى هو الوصول الى محطتى التى اقصدها ..واحتضن الوالدين واخوتى واهلى وجيرانى ..واخد دش فى حمام بيتنا العتيق ولو كان بصابون غسيل او فنيك حق شندى ..واتسوك بمعجون ابوصفقة بعد عصره حتى " الزيت" ..واصلى فى برش ماهل او مصلاية من جلد خروف اخر عيد اضحى ..ومن ثم اتجه الى عنقريب يتلاعب الهمبريب بملايته ....وامى حينها تنادى على بركة: جيب مخدة من جوا لاخوك .. ويبدأ فاصل قهوة وبخور ..وونسة وبعدها شاى مغرب ..وامى تعطى مفتاح دولابها لراوية لتحضر علبة "الكعك" لفخرالدين ..ويضحكوا ويقولوا ليها اشمعنى فخرالدين. .وهى ترد: انا امك يا فخرالدين .. وفى رمضان اقوم بقيادتهم لصلاة المغرب ..واتذكر ابى وادعو له ودموعى تجرى وامى واخوتى يدعون من خلفى ...واشم رائحته فى جميع اركان المنزل ..هنا كان يصلى . وهنا كان يقرأ مصحفه ..وفى هذا السرير كان ينام ..وعندما ازوره اجلس دوما معه فى نفس السرير ..فقد تعودت ان انام فى يده منذ طفولتى واقرا معه الصحافة والايام ..وعندما اصبحت رب اسرة لم يختلف الامر ..فاجلس مجاورا له واميز رائحته ..ويفرح بوجودى معه ويكره سفرى ..ويتمنى يوم استقرارى بالوطن ...وهو يردد: شوف يا فخرالدين ..انت بالنسبة لى اصغر من عمرو ولدك ..انت ايضا طفلى الصغير ..وكان يرفض ان اخرج من المنزل بدون تناول افطارى..ويحنو على وكانى رضيع.
فى القطار تحس بالقلق وتريد ان تصل بيتك وتاخد حمام طووويل وتشرب من موية الزير حتى ترتوى ..لان كل شئ فى البيت لها مذاق وهوى مختلف جدا ..لذلك فان الغربة هى القطار او اللورى او الباخرة ..وسفرية طويلة ومرهقة جدا ..
الحرب اجبرت اهلنا على ترك بيوتهم ..واصبحوا الان ركاب قطار ..كما كنا فى غربتنا .. وقد يقول قائل باننا خرجنا بمزاجنا وان الذين اخرجتهم الحرب من بيوتهم ..خرجوا مجبرين ..ولكن الحقيقة اننا ايضا خرجنا مجبرين وان لم نكن بنفس الطريقة والسرعة والنهج ..اضافة الى ان المؤلم حقا هو ان هنالك اغراب لم يكتفوا بنهب بيوت اجدادونا واباؤنا ..بل قاموا باحتلالها ........................... .......وفيها رائحة اباؤنا وكل ارثنا وذكرياتنا ..... وباذن الله عائدون عائدون عائدون ..لننوم فى الحوش ونسمع اذان الجامع ..وكابلى فى الاذاعة يردد: وعروس فى جبينها هلال ..ومن امدر لبيت المال
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة