الزاكي عبد الحميد أحمد "شذرات ثقافية من الأدب والفن والسياسة"، مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، أم درمان 2021. 432 صفحة.
من محاسن الصدف وخلال زياراتي المتكررة لمركز عبد الكريم ميرغني الثقافي بأم درمان أني سعدت باقتناء هذا الكتاب الذي صدر مؤخراً عن ذات المركز. وما أن بدأت في قراءته حتى تبيّن لي مقدرة الكاتب المُدهشة على الإمتاع والتشويق، وكأني مسافر نهاراً على قطار يتهادى عبر الأزمان والعصور، فتتغير المناظر ويزداد الإمتاع كُلّما توغل القطار في السير، حيث ينقلك الكتاب في سياحة رائعة ما بين الأدب والفن والسياسة.
بدا لي أن المؤلف لم يخطِّط لإصدار هذا الكتاب، بل كان يقرأ مستمتعاً ليتعرّف على الكثير من ضروب التراث والثقافة والأدب الأجنبي والشئون الإفريقية والعالمية وشيء من التراث السوداني الشفاهي والمكتوب، مع الاحتفاظ بوثائقه التي استقصى منها مادة الكتاب وموضوعاته، وقد أدرك بحصافة القارئ المثقف قيمة ما لديه من علم، فأراد أن يضع هذه "الشذرات" أمام القارئ ليتعرف هو الآخر على طائفة من الألوان والشذرات الأدبية، وبذا تنداح المعارف وتبسط، وهذه رسالة سامية حيث لم يضن الكاتب بها علينا ونزع عن نفسه صفة الغيرة والتنافس المعروفة في أوساط المثقفين والمتعلمين حين أراد أن يملك الآخرين ما امتلك من علم ومعرفة ويوفر عليهم جهداً غير يسير.
جاء الكتاب في أربعة أجزاء، الأول (من صفحة 15 إلى 82) يحتوي على مقالات أو إن -شئت- قطوف، حسب تعبير المؤلف، من الأدب، وقد اختار لكُلِّ مقال من المقالات عنواناً يتناسب مع مضمون المقال مستلهماً تعابير مُنتقاة من التراث العربي والعالمي مثل: "العين عبرى والفؤاد في دَدٍ"، و"الصمت حكم وقليل فاعله"، و"ربّ مخطئة من الرامي الذَّعاف" وغيرها. في هذه العناوين تتجلى قدرة المؤلف على تطويع اللغة وعقد المقارنات وبعض التأملات الفلسفية التي لم تخطر على بال أحد، من ذلك مثلاً محاولته الجريئة في الربط بين المفكر العربي الأندلسي الشهير أبو بكر محمد بن عبد الملك المعروف بابن طفيل ( 1100 إلى 1185) وعلماء وأدباء عصر النهضة والتنوير في أوروبا ومنهم فرانسيس بيكون والشاعر الإنجليزي الكبير الأكسندر بوب. لم يكتف المؤلف في هذا الجزء باستعراض ما قرأ فحسب، بل انتقل بنا إلى عالم السينما فكتب عن فيلم شاهده في ثمانينيات القرن الماضي بعنوان "الصبية قارعة الطبل" ، والفيلم في الأصل مبني على رواية من تأليف الكاتب جون لوكاريه حيث يحاول مؤلف هذا الكتاب الذي بين يدينا ببراعة أن يعكس العلاقة التي تربط بين الفيلم ومسألة الشرق الأوسط ومحنة فلسطين وتداعيات بعبع معاداة السامية التي واجه بسببها مؤلف الرواية ومخرج الفيلم هجوماً شرساً من بعض النُّقاد بسبب تناول الرواية بموضوعية هذه القضية الشائكة. والأعجب من كُلِّ ذلك محاولة المؤلف المقارنة بين الشاعر العربي الجاهلي الأعشى وهتلر النازي الألماني وجراهام جرين الكاتب والروائي الإنجليزي، ولا أريد في هذا العرض أن أفسد على القاريء الكريم متعة العثور على تفاصيل تلك المقارنات البديعة.
أما الجزء الثاني من الكتاب ( ص83 إلى ص121) فيتناول المؤلف بعض الشئون الإفريقية ويسير على نفس النهج الذي اختطه في الجزء الأول فيختار لمقالاته قضايا الاستعمار والتحرر الوطني في القارة الإفريقية ومسائل الإبادة الجماعية التي يفيدنا فيها الكاتب أن أول ممارسة لها في القرن العشرين قد تمّت على يد النازيين الألمان في جنوب غرب إفريقيا (ناميبيا). يعتبر هذا الجزء في نظري ذو قيمة إضافية للكتاب ولا بُدّ أنه سيكون مفيداً للطلاب والمهتمين بالقانون والعلوم السياسية والشئون الإفريقية عموماً، حتى وإن لم تكن المقالات قد تناولت المقالات هذه القضايا بتفاصيل كافية تشفي غليل المتخصص وإنما هي "شذرات" بحسب قول المؤلف تعطي إشارات ومن أراد الاستزادة فحسبه المراجع الإضافية التي أثبتها المؤلف في ذيل كل مقالة من المقالات.
الجزء الثالث من الكتاب يجيئ تحت عنوان "سرديات" وأرى أن استرعي هنا اهتمام القارئ الكريم قبل أن أدلف إلى هذا الجزء أن يلقي نظرة عابرة على ما اقتبسه الكاتب من قول مأثور لابن قتيبة في صدر هذا الجزء استهلالاً للآتي من المقالات. وفي الواقع أن هذا الجزء يعد هو الأطول بين أجزاء الكتاب (من ص 124 إلى ص 389) وهو عبارة عن مقتطفات في الأدب والفن والسياسة طوّف بنا خلالها المؤلف فيكتب عن الأدب العربي والإنجليزي ويقدِّم لنا إضاءات لا تخلو من أصالة وفي لغة عربية رفيعة تحفزك على متابعة القراءة والانتقال بسلاسة من موضوع إلى آخر دون ملل أو ضجر، ولعلّ من أمتع المقالات في هذا الجزء تلك المتعلقة بـ"وطني السودان"، فقد تناولت شيئاً من سيرة "الشاب الألمعي" معاوية محمد نور، وعرجت بنا على أشعار بت مسيمس ولا أعرف من أين أتى المؤلف بهذا التعبير السوداني الشائع "يا بت مسيمس اقلبي تيمس"، ولا شك أن التيمس ذلك اللوري الشهير الذي جاب البلاد طولاً وعرضاً لم يكن له وجود في حياة "ست الاسم"، وعلى كُلّ فالأمر طريف ويحتاج لإعمال بعض الخيال لتقريب صورة المقارنة بين بت مسيمس ولوري التيمس، غير أنه ليس من المهم البحث عن صلة بت مسيمس ولوري التيمس بقدر أهمية السرد الرائع لملابسات مقتل غردون باشا على يد الأنصار وما اعتور سادة الإمبراطورية البريطانية من أسى لمقتله وتصميم على الانتقام، وتجلّى ذلك في مقتل عبد القادر ود حبوبة وما رثته به شقيقته من كلمات مؤثرات أورد المؤلف أبياتها الشهيرة التي تغنّى بها الراحل بادي محمد الطيب كما أورد في نفس المقال أبيات الشاعرة بت مسيمس والتي تغنّى بها الراحل بادي كذلك. وليس بعيداً عن الغناء يكتب المؤلف عن "الوسيم القلبي رادو" رائعة الفنان أحمد المصطفى. وما أحدثته من تداعيات في نفس المؤلف مصحوبة بذكريات الطفولة الباكرة ومحاولات العزف على صفارة القصب. ويحدثنا في مقال تال مرة أخرى عن بت مسيمس والشاعر حدباي صاحب أغنيات الحقيبة مثل "زهر الرياض في غصونو ماح" و"البي صباها" وغيرها من أغنيات رائعات. وفي الواقع فإن الأبيات من رمية "جلسن شوف يا حلاتن" التي نسبها المؤلف لحدباي وصارت شعاراً لبرنامج حقيبة الفن هي في الحقيقة من أشعار الشيخ محمد ود الرضي وليس من أشعار حدباي. نلتقي مرة أخرى بالحقيبة في مقال "يا جميل يا نور الشقايق" وعالم فوز وحدباي وخليل فرح ومحي الدين أبو سيف وتوفيق صالح جبريل وبعض رواد الحركة الوطنية الآخرين، حيث يكتب المؤلف عن صاحبات صالونات الأدب في التراث العربي حيث يحاول المؤلف الربط بين "فوزنا" السودانية وبعض صويحباتها مثل مدام دي باري وبعض الشهيرات في الأدب العربي كسكينة بت الحسين بن علي. يعيدنا المؤلف في هذا الجزء للاستعارات التي اتخذها المؤلف عناوين لمقالاته الباذخة مثل "اسمك صار وطنا" و "المسك بعض دم الغزال" ليعود بنا إلى التراث السوداني بعناوين مثل " يا جميل يا نور الشقايق" و"العزف على الأناشيد القديمة" وغيرها.
أما الجزء الرابع والأخير من الكتاب فيحتوي على مواد تراثية نقبها المؤلف من بطون كتب التراث ثم عالجها اعتماداً على نصوصها الأصلية وقام "بعصرنتها" ، على حسب تعبيره، دون الإخلال بمضامينها ومنها قصة ذلك الشاعر الجاهلي الذي دفن حياً ليكون بذلك أول مبدع عربي ينال هذا المصير المفزع. وقد جاءت المقالات طريفة في تناولها وتجعلك مستغرقاً في تأملات ومقارنات بين ماضٍ تليد ذهب ولن يعود وحاضر يحاصرك بكُلّ معاناته وآلامه ومصاعبه و"بلاويه" ولن تجد من كل هذه الكآبة الماثلة إلا بمثل هذا الضرب من الكتابة الإبداعية.
وبعد،
هذا كتاب ممتع ومؤانس مستوعب لموضوعاته وغني عن القول إنه يجيىء في سياق ما قيل عن خير الجليس.
المؤلف جاد ومتمكن من أدواته وباحث وموثق ممتاز، والكتاب بين يديك عزيزي القارئ فاقطف منه ما تشاء من زهرات وثمرات..
د. الحاج سالم مصطفى مركز محمد عمر بشير للدراسات السودانية جامعة أم درمان الأهلية مارس 2022
(عدل بواسطة حيدر امين on 03-22-2022, 05:52 PM) (عدل بواسطة حيدر امين on 03-22-2022, 05:53 PM) (عدل بواسطة حيدر امين on 03-22-2022, 05:53 PM)
03-22-2022, 06:43 PM
حيدر امين حيدر امين
تاريخ التسجيل: 07-13-2008
مجموع المشاركات: 2881
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة