تكييف المآلات الاقتصادية/الاجتماعية والسياسية لثورة ديسمبر المجيدة وأليات الحلول (1-10)

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-15-2025, 02:46 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2020-2023م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
11-28-2021, 02:35 PM

حسين أحمد حسين
<aحسين أحمد حسين
تاريخ التسجيل: 09-04-2014
مجموع المشاركات: 1281

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
تكييف المآلات الاقتصادية/الاجتماعية والسياسية لثورة ديسمبر المجيدة وأليات الحلول (1-10)

    01:35 PM November, 28 2021

    سودانيز اون لاين
    حسين أحمد حسين-UK
    مكتبتى
    رابط مختصر



    تكييف المآلات الاقتصادية/الاجتماعية والسياسية لثورة ديسمبر المجيدة وأليات الحلول (1-10)

    تقديم

    لنترحم على روح شهداء ومفقودي الثورة السودانية منذ القدم، وبخاصة شهداء ثورة ديسمبر المجيدة التي أبهرت هذا الكوكب، وندعو بالتعافي العاجل المستدام لجرحانا وبطول العمر لهم والطُمأنينة والهناءة وهدأة البال.

    ونرجو أن تقوم مكان الثكنات العسكرية المنتشرة بين أحياء الخرطوم (بعد ترحيلها إلى خارج الكنتور المدني الكائن والمتوقع) مدائن لأسر الشهداء وكل خدماتها بالمجان لقاءاً لما قام به هؤلاء الأفذاذ من وضع الحد الفاصل ما بين الأخلاق واللا - أخلاق.

    كما بقيَ أنْ أُنوِّه بأنَّ هذه الأطروحة تأشيرية، وبالتالي تحتاج إلى نقد حازق يحمل الكاتب على عدم الكتابة مرة ثانيةً كما يقول أستاذنا الجليل بروفسير بشرى الفاضل.

    1- إرهاصات الثورة قادتها ومنظموها

    إذا نظرنا للوقاع من الناحية الاجتماعية، فإنَّ الأوضاع التي سبقت ثورة ديسمبر 2018 المجيدة ولمدة ثلاثين عاماً، كانت أوضاعاً تُكرِّس لتمييز الإخوانويين على سواهم (وأحياناً بالمفهوم العالمي وليس القطري للإخوانوية حتى) منذ مؤتمرهم القاضي بتسخير الجن للاستراتيجية القومية الشاملة في مطلع تسعينات القرن الفائت (أعاذنا الله وإياكم منهم ومن جنِّهم). فأثروْا بفقه الاستباحة وبفقه الضرورة وبالفساد والإفساد والسرقات الجارية إلى يوم النَّاس هذا ثراءاً فاحشاً، ضيَّع على البلد فرصاً استثمارية، بحسب الاقتصادي الجليل بروفسير عبد الوهاب بوب، ما يُقارب التريليون ونصف دولار.

    وبقدر ما كان الفساد من هذه الجهة عظيماً، كان الإفقار من الجهة الأخرى أعظم؛ للحد الذي وصل بحال بعض أرباب المعاشات والعمال والموظفين إلى مرحلة عدم القدرة الحياة، كما أنَّ هناك العديد من الأسر أودعت فلذات أكبادها لدار المايقوما لأنَّهم عجزوا عن كفالتهم. ولا غروَ أن وصل معدل الوفيات اليومي في السودان في العام 2017 إلى 1700 شخص؛ مما حدا بالإخوانويين الإتجار في البشر والمقابر؛ وكنا على وشك أن نستمع لإعلانات في الفضائيات السودانية من نوع توجد مقابر درجة أولى في مقابر فاروق وأُخرى فاخرة بمقابر الصحافة، لو لا لطف الله وبركات الشهداء؛ فشكراً شهداءنا.

    وقد أصبح من المشاهد العادية في السودان مشهد معاشي أو موظف خارج الثورة الديجيتالية (قاضي/ممثل/روائي/فنان) كان في السابق وضَّاح المُحىَّ ولكنه الآن يتسول، ولاعب كورة لا يقوى على المشي، وروائي كبهنس يموت من البرد في طرقات القاهرة، وموسيقي كالقدسي يموت غريباً في سُكنى البؤساء والمنبوذين باليمن؛ وكلُّ ذلك بسبب الإفقار والجوع؛ والقائمة تترى.

    وإذا نظرنا إلى الواقع من الناحية السياسية، فإنَّ الإنقاذ كانت منفردة بالحكم، وقد عارضها كل الذين وقعوا على ميثاق التجمع الوطني الديمقراطي كما هو معلوم (الاتحادي الديمقراطي/الشريحة التجارية، حزب الأمة/الشريحة الزراعية، الحزب الشيوعي، والحركة الشعبية لتحرير السودان، الحزب الاشتراكي العربي الناصري وبعض المستقلين). وقد أنجز التجمع الوطني الديمقراطي في بواكير أيامه العديد من المؤتمرات الواثقة التي كان أهمها مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية عام 1995 والذي بلور مفهوم الدولة المدنية ومنهج الحكم الديمقراطي كنظام حكم عقب فترة سيئة الذكر الإنقاذ.

    وبطبيعة الحال، كان التجمع الوطني الديمقراطي يعوِّل على دعم العالم الخارجي اللامحدود له لكونه ظل طيلة أيامه منادياً بالنظام الديمقراطي ومنافحاً عنه. كما أنَّه كان يرى في التحالف مع شرائح رأس المال عضُداً مهماً للديمقراطية والدولة المدنية القادمة.

    غير أنَّ الذي فات على تجمعنا الموقر أنَّ العالم الخارجي كان يدعم حركات التحرر والكيانات المناهضة للدكتاتورية داخل الدول الفقيرة في إطار مفهوم الحرب الباردة، ولما انتفت تلك الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي، أي بتمدد التشكل الاقتصادي الاجتماعي الرأسمالي على كل الكوكب، انخفض الدعم لهذه الكيانات وغيرها إلى أقل من 1,. % كما ورد ذلك في كتابات قريفين الذي أثبت بما لا يدع مجال للشك أنَّ العون الإنساني ظاهرة متعلقة بالحرب الباردة ومنحصرة ومنتهية في إطارها (Griffin 1992).

    ولعل ما يؤكد على ذلك أيضاً أنَّ بعض أثرياء النظام الرأسمالي من أمثال بِل قيتس، كان يُنفق على الأعمال الخيرية في دول العالم الثالث أكثر مما تنفق الإدارة الأمريكية في السنوات التي أعقبت نهاية الحرب الباردة، خاصةً أنَّ دافع الضرائب ما عاد يقبل بهذا الإنفاق غير المبرر.

    ومن الناحية الأخرى، كان تعويل التجمع الوطني الديمقراطي على شرائح رأس المال في البقاء طويلاً في خانة المعارضة لشريحة رأسمالية أخرى حليفة داخل حلف القوى الاقتصادى – The Power Block (شريحة رأس المال المالي/الجبهة الإسلامية القومية) مغالطة بيِّنة وحقيقة تؤكدها مجموعة المصالح المتضادة والمتناقضة لكيانات التجمع الوطني الديمقراطي بطبيعة الحال. ولذلك كانت هاتان الشريحتان أول المتململين (تخرجون، تهدون، تخرجون، ثم تعودون وتندغمون) والمغادرين للتجمع الوطني الديمقراطي، والمنضمين لحلف القوي الاقتصادي بقيادة الشريحة الرأسمالية المهيمنة (الجبهة الإسلامية القومية)؛ وذلك لعمري مكانهما الطبيعي في تراتبية التحالفات الطبقية في السودان. وبالفعل قد تقبَّلتهما الشريحة المهيمنة بكل رحابة صدر وأرجعت ما أخذته منهما إليهما. وقد حدث/ويحدث ذلك ببساطة لأنَّ شرائح رأس المال في حلف القوى الاقتصادي، لا تُقصي بعضها البعض إقصاءاً نهائياً في لعبة السياسة.

    هذا الواقع أعطى سيئة الذكر الإنقاذ مسوغاً للحوار (ترغيباً وترهيباً) مع الحركات التي تحمل السلاح، فكانت أُولى الحوارات مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، التي تمخضت عن إتفاقية نيفاشا والتي بموجبها شاركت الحركة النظام المتساقط في السلطة.

    غير أنَّ النظام المتساقط هذا، لم ينجز اتفاقية نيفاشا بغرض مشاركة الحركة الشعبية له في السلطة بشكل حقيقي ونهائي، بل كان يري في هذه الاتفاقية وحواراتها تقليل لكُلفة الحرب التي بدأت تأكل مسروقاتهم وتُنغِّص عليهم عسيلتَها؛ فالحوارات مع الحركة أقل كُلفة من محاربتها بطبيعة الحال. وذات السيناريو امتد بالتزامن (أو قريب من ذلك) ليشمل اتفاقية أبوجا مع حركة حسين أركو مني مناوي، وفيما بعد قبلت بعض الفصائل بموالاة النظام عبر الحوار الداخلي (حوار الخرطوم) الذي قُصِدَ منه اجتذاب موالين جدد من الحركات المسلحة، وبالأساس شق صفوف الحركات المسلحة التي لم توالِ وإضعافها لتُذعن للنظام. وبالفعل دخلت الحركات المتعنتة لاحقاً في حوارات مفتوحة في أديس أبابا والدوحة التي زادت على الثلاث سنوات، وبكل تأكيد حوار ثلاث سنوات بفنادقها والوجبات بسوائلها (العصائر والشاي والقهوة وغيرها) أقل كُلفة بكثير من احتراب ثلاث سنوات؛ غير أنَّ الحركات الرئيسة كانت عصية على الإذعان.

    ولكن يظل توالي الحركات المسلحة التي صالحت نظام سيئة الذكر الإنقاذ توالياً قلِقاً ولا يُتوقع منه الاستدامة بطبيعة الحال، وذلك لتناقض المصالح الجوهري بين الإثنين في ثنائية الهامش – المركز، وفي إطار تاريخ عريض من الغبن الاجتماعي والمظالم. وبالتالي سرعان ما اكتشف السودانيون في الجزء الجنوبي من القُطر أنَّ نظام الإنقاذ غيرُ جادٍ في مسألة إشراكهم في السلطة وتقسيم الثروة (وذلك ما تؤكده أيديولوجيتهم الإقصائية التي لا ينفع معها أيُّ نوع من حسن الظن)، الأمر الذي لم يجدوا معه بُدَّاً من التفكير في الانفصال، فأجْرَوْا الاستفتاء بينهم لهذا الغرض وانفصلوا وأخذوا معهم 70% من عائدات البترول؛ ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى خرج السيد حسين أركو منِّي مناوي من تلك المولاة النشاز.

    أما من الناحية الاقتصادية فإنَّنا نجد أنَّه مع انفصال الجنوب ببتروله بدأت الأوضاع الاقتصادية تتفاقم يوماً بعد يوم، وبدأ الشعبُ السوداني في التململ الذي تجسد في هبة سبتمبر 2013 المباركة التي أُقمِعت بوحشية وبضميرٍ مثقوب وبدمٍ بارد. ثم توالت أزمات النظام حتى وصلت في 2014 مرحلة تنصل الحكومة عن التزاماتها تجاه الشعب السوداني، وأعلنت عجزها عن تغطية طلبات الجمهور والدولة من السلع والخدمات، وتركتها جملةً وتفصيلاً للقطاع الخاص (أي حررت سعر الصرف) الذي لم يرقبْ في فقيرٍ إلَّاً وذِمة. فكان أنْ جلب للشعب السلع المنتهية الصلاحية والأدوية المضروبة والغير مطابقة لمعايير الهيئة السودانية للمواصفات للمقاييس؛ وزادت طينةُ الوضع بِلَّة حينما امتنع الخليجيون في العام 2015 عن دعم النظام المتساقط لمَّا بدأ يتقافز على الأحلاف (اليوم مع السعودية وأمريكا، وغداً مع إيران وروسيا).

    يُتبع ...






                  

11-29-2021, 11:24 PM

حسين أحمد حسين
<aحسين أحمد حسين
تاريخ التسجيل: 09-04-2014
مجموع المشاركات: 1281

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تكييف المآلات الاقتصادية/الاجتماعية والس (Re: حسين أحمد حسين)

    ستكون الحلقات منزلَّة كل على حدة.

    كما فاتني أن أُنبه إلى أنَّ هذه الأطروحة قد نشرت من قبل في منبر شارك بصوتك منذ أكثر من 7 أشهر في إحدي حلقات الزوم. وأرجو ألاَّ يستغرب الناس عدم مواكبتها للأحداث الجارية الآن لأنَّها سابقة لها.

    (عدل بواسطة حسين أحمد حسين on 11-30-2021, 01:13 PM)
    (عدل بواسطة حسين أحمد حسين on 12-01-2021, 01:19 PM)

                  

12-01-2021, 01:29 PM

حسين أحمد حسين
<aحسين أحمد حسين
تاريخ التسجيل: 09-04-2014
مجموع المشاركات: 1281

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
تكييف المآلات الاقتصادية/الاجتماعية والسياسية لثورة ديسمبر المجيدة وأليات الحلول 2-10) (Re: حسين أحمد حسين)
                  

12-01-2021, 01:22 PM

حسين أحمد حسين
<aحسين أحمد حسين
تاريخ التسجيل: 09-04-2014
مجموع المشاركات: 1281

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
تكييف المآلات الاقتصادية/الاجتماعية والسياسية لثورة ديسمبر المجيدة وأليات الحلول 2-10) (Re: حسين أحمد حسين)

    تكييف المآلات الاقتصادية/الاجتماعية والسياسية لثورة ديسمبر المجيدة وأليات الحلول 2-10)

    1-1 اكتمال الشروط الموضوعية والذاتية للثورة

    إذاً، بانقطاع الحبل السري الخليجي الذي كان يغذي سيئة الذكر الإنقاذ (وهي في الأصل ما كانت تنفق عطايا الخليج على الشعب السوداني، بل على عناصر تنظيمها ليتحملها الشعب السوداني ديوناً فيما بعد)، وبتضافر العوامل السياسية والاقتصادية/الاجتماعية في الداخل، بدأ الشعب في تنفيذ بعض الإضرابات والاعتصامات والعصيانات المتلاحقة في العام 2016 و2017 خاصةً حينما فقد الناس القدرة على الاستمرار، وبدأوا يسقطون ويموتون بنقص السعرات الحرارية اللازمة لبقائهم أحياءاً. فحينها أدرك الشعب أنَّه لا مُحالة ميِّتٌ إمَّا بالرصاص أو المسغبة، وعليه أن يختار مِيتته التي يريد، فاختار الشعب أن يموت وهو يُقاتل عدوَّه (راجع مقالنا: أمام الشعب السوداني خياران إما العصيان المدني أو المسغبة).

    والذي يؤكد على سوء حيوات الناس آنئذ، أنَّ معدل النمو قد أصبح سالباً في السودان في العام 2018 (-2.3%) ومعدل زيادة الدين السنوي في ظل الإنقاذ وصل 3.3%، وقد بلغ معدل البطالة العام 15%، ومعدل البطالة الخاص بالشباب إرتفع إلى 29.7%، وقد وكان معدل سعر صرف الجنيه السوداني مقابل الدولار 63.8%، وبدأ متوسط الدخل القومي للفرد في الانخفاض بنسبة تراجع بلغت 62.2%، وبالتالي تراجع إجمالي الدخل القومي في العام 2019 إلى 25.5 مليار دولار؛ الأمر الذي جعل دخل السودان القومي يأخذ المرتبة رقم 182 من جملة الـ 192 دولة التي شملها تصنيف الدول بحسب إجمالي الدخل القومي في العام 2019 (راجع البيانات في موقع البنك الدولي والانكتات).

    هذا الواقع أدي في العام 2018، ومن وجهة نظر الاقتصاد السياسي البحتة (وغيرها من النظرات)، إلى اكتمال الشروط الموضوعية والذاتية لاسقاط النظام في المشهد السوداني. وكل المؤشرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المذكورة أعلاه قد بدأت في صياغة واقعٍ جديد؛ إلتقطه من التقطه وغفل عنه من غفل. غير أنَّ العقل الجمعي السوداني بدأ يتبلور حول نضوج المشهد لإسقاط النظام، فنهض كطائر الفينيق من رماده ليقود ثورة التغيير الوسيمة في السودان.

    فما عاد الناس يهابون النظام ولا أجهزته القمعية، وبدأوا يتحدثون عن الثورة ويفشون الثورة بينهم، مستفيدين من وسائل التواصل الاجتماعي في البيت، في الشارع، في المسرح، وفي الحافلات (شاب ينتصب واقفاً فجأةً ويُحدِّث الناس عن الثورة)، وفي المساجد (شاب يستأذن الإمام ويشرع في الحديث عن الثورة – منتهراً المتقاعسين عنها كقول أحدهم: قم يا عبد الحي مثالاً)، وفي المباريات العامة لكرة القدم (حين يهتف اللاعبون والمشجعون تسقط بس).

    1-2 ولادة الملحمة ومجتمع الاعتصامبطبيعة الحال، كانت غالبية مكونات ثورة ديسمبر المجيدة من جميع فئات المجتمع في السودان؛ فسيئة الذكر الإنقاذ قد صيَّرت جميع الناسَ فقراء خلا عناصر تنظيمها اللئيم الزنيم ومن وَالاهُم. ففي ساحات الثورة يوجد المشردون والأُورنيشية وستات الشاي، والكيانات النسوية، والقوي الحديثة، وأرباب المعاشات/المفصولون تعسفياً، والعمال والموظفون، والمهنيون، وأساتذة الجامعات والطلبة، رجال الطرق الصوفية (ومن ينسى منحوتة الشيخ أزرق طيبة القائلة: الطريق إلى الله يبدأ بإسقاط النظام)؛ وبعض الشرائح الرأسمالية المنحازة للتغيير دون الانحياز لقضايا المُغيرين الثوريين (لكونها كانت تتحرى موضع الهيمنة أكثر من تحريها لقضايا الثوار والانحياز لها) في سائر ولايات السودان.

    كانت المظاهرات تبدأ بزغرودة - شارة ولادة التغيير، فيخرج المتظاهرون من مسام الأرض في كل مكان في السودان. واستوى واعياً تجمع المهنيين السودانيين في الداخل (وفي الخارج) يصدر جداول التحركات اليومية ويوجه الشباب في مسارات حازمة للوصول إلى غاية الثورة وهي اسقاط النظام بالرغم من وابل الرصاص والبمبان، حتى اكتملت جمهرتهم ذات أقدار أمام القيادة العامة في 06/04/ 2019، بخلفية أنَّ الجيش كان يخرج ملبياً لرغبات الجماهير حينما كان الجيش هو قوات الشعب المسلحة الذي غنَّت له عشة الفلاتية "يجوا عايدين"؛ لا قوات الجبهة الإسلاموية القومية التي شيمتها القتل الخسيس الذي بدأته بعد يوم من وصول الثوار للقيادة.

    وباختصار، تلك هيَ القوى التي شكَّلت مجتمع الاعتصام المنصهر والمتراحم والمتلاحم والمترابط والمتعاون والمتكافل، مجتمع "عند خُتْ ما عندك شيل"، مجتمع "يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور"، مجتمع "يا ثائر قوم اتسحَّر"، مجتمع "مخالف سعادتك"، مجتمع "وطن الجدود نفديك بالأرواح نجود".

    أمَّا جيش مليشيات الكيزان، وجيش الجنجويد والبرهان، ما كان لينحاز للثورة لو لا تدخل شرفاء كوادر الجيش الوسيطة الشجعان بوخزهم وتهديدهم له للانحياز للثورة. فانحازت النخب العسكرية من بعد تهديد الكوادر الوسيطة لهم انحيازها المعلول (مُكرهاً أخاك لا بطل)، والتي شرعت في التو في تدبير انقلاب مزدوج: آني ضد كوادر الجيش الوسيطة، وبالتقسيط ضد الثورة المدنية السلمية.

    ظلَّت تعمل هذه النخب في الظلام للقيام بعمل خسيس يُبقيها في السلطة على حساب الثورة وكوادر الجيش الوسيطة، فراحت تبحث عن بطانة/حاضنة بين الثوار (شارته لقاء البرهان بإبراهيم الشيخ في ساحة الاعتصام للحظات، وداخل القيادة العامة لساعة ويزيد، ومن وراء الكواليس مع المهدي وغيره)، وعززت ذلك عن طريق وسطاء خليجيين، الذين إلتقوا بشرائح رأس المال التقليدية والليبراليين الجدد، وبعض المنظمين للنضال اليومي في السودان وفي الخليج؛ فكان أن وُلِدت قحت الناعمة التي شرعت في إخصاء الثورة.

    2- اللحظة التأسيسية للانحراف بالثورة: اتجاهاتها وكيفيتها لعمري أنَّ مجتمع الاعتصام قد أكَّد لكل الليبراليين الجدد على مستوى الكوكب أنَّهم كانوا يُحاربون الاشتراكية في المكان الخطأ. فهي ليست في روسيا ولا الصين ولا كوبا ولا غيرها من دول المعسكر الاشتراكي؛ إنَّها راسخة في وجدان الشخصية السودانية كما يشير الكثير من مفكرينا كأمثال الشهيد محمود محمد طه والمرحوم محمد إبراهيم نقد. ولم يستطع نظام سيئة الذكر الإنقاذ إعادة صياغة الشخصية السودانية وفق الهوى (الإخوانوي ولا) الرأسمالي النيوليبرالي - كما يقول بروفسير مارك دوفيلد - بالآلة العسكرية نيابة عن الليبراليين الجدد ومؤسسات تمويلهم الدولية بالرغم من أنَّه قد حرَّر اقتصاده فوق ما يطمع هؤلاء الليبراليون الجدد وكل مؤسساتهم الدولية (Mark Duffield: 2007).

    وبالتالي كان لابد من عمل شئ من شأنه السيطرة على هذا التغيير، فحجَّ إلى ساحة الاعتصام كل سفراء الدول الرأسمالية (حتى اسرائيل المُقاطَعة كانت حاضرة) ومعهم مخابراتُهُم. كان العمل الاستخبراتي يتَّخِذ شكل التنسيق بين جميع الدول الغربية والعربية والأفريقية في ساحة الاعتصام. وقد بدا واضحاً أنَّ الغربَ قد شرع باكراً عبر دول الجوار الإقليمي في التخطيط للسيطرة على هذه الثورة وضبطها ليبرالياً (أي على الإيقاع الرأسمالي النيوليبرالي) بالرغم من أنَّ اليسار السوداني (أشعاره وملاحمه: أشعار محجوب شريف، وحميد، وأزهري محمد على، وهاشم صديق، وآخرين) كان هو الحادي لهذه الثورة وقائدها المظفر.

    2-1 بداية الانحراف بالثورة عن غاياتها: رُبَما لا أحد يعلم على وجه الدقة ما تم بين العسكر وقحت الناعمة التي فاوضتهم للانحراف بالثورة، ولكننا سندرك ذلك من التحليل المتئد لخطاب الشراكة المدنية – العسكرية الموتور على طول مساره دون كلل أو ملل. وعلى أيِّ حال، فإنَّ أفراد قحت الناعمة الذين اصطفوا ليُنيبوا الثوار في المفاوضات مع العسكر، والذين يشغلون معظم الوظائف القيادية في حكومتنا الانتقالية اليوم، ومن بينهم من له صلات مباشرة بالمخابرات الغربية ودول الخليج والليبراليين الجدد، هم المسئولون بالدرجة الأولى من الانحراف بالثورة من جوهرها الاشتراكي (عندك خت ما عندك شيل) وزجها في واقعها النيوليبرالي الطاغي والمهيمن؛ الذي لم يتردد في حسم من يقف في طريقه كغصة حَلِق أو فَوَاق صيرورة (Hiccup)، تماماً كما فعلت الميركانتالية بالثورة المهدية التي كانت تمثل حالة انتحارية هي الأُخرى بسباحتها عكس تيار الميركانتالية الجارف قبل قرنٍ ونيف.

    والمحسوس، أنَّ المفاوضين بدأوا فجأةً يتحولون إلى "قحت ناعمة" بعد تعاطي الرِّشى وصدور التعليمات/التهديدات الواضحة لهم بالابتعاد عن اليسار السوداني الجذري، ولا بأس بالقوميين العرب. وصارت تُعقد الاجتماعات تلو الاجتماعات بين قحت الناعمة والعسكر، وبدأت تأخذ طابعاً تطويلياً أوصل الثوار إلي حالة من الإحباط والملل المقصودين لذاتهما، والذي لم ينفع معهما شدو عركي ولا نانسي ولا عقد الجلاد.

    وفي هذا الأثناء تحول تآمر لجنة البشير الأمنية الذي كان إرهاصاً إلى فعل مادي عنيف، يوم صوَّبت عناصر النظام السابق بنادقها من مدينة البشير الطبية على الثوار الموجودين أمام القيادة العامة صبيحة السابع من أبريل 2019، والذي ردت عليه بعض القوات التي كانت تتمركز أمام قيادة القوات البحرية بقيادة قوات من كوادر الجيش الوسيطة، والتي لمع من بينها النقيب حامد عثمان حامد والملازم أول محمد صديق وآخرون، وقد فقدنا في تلك الليلة المشؤمة 25 شهيداً بينهم عدد قليل من العسكريين؛ جعل الله مثواهم الفردوس الأعلى جميعاً (بينهم إبن أُختنا أحمد عبد الرازق/أحمد رِزقا وبقية السامقين، رحمهم الله أجمعين وتقبل شهادتهم).

    وعلى أيِّ حال فعلت قحت فعلتها التي فعلت (بعد ترغيب العسكر لهم وترهيبهم، وبعد أن تمَّ اعتقال العديد من كوادر الجيش الوسيطة وقتل البعض وإرسال البعض الآخر قسراً لليمن وفصل آخرين، وبعد إلتقاء بعض قيادات الحركات المسلحة في الخليج خاصةً تلك التي تبحث عن راحة البال بعد أن أنهكها الصراع الطويل المسلح نحو المناصب) وانحرفت بالثورة في أول خيانة لها للشهداء والثورة والثوار في 11 أبريل 2019، يوم قبلت بالشراكة المدنية – العسكرية الخُمسُمُشكِل، وهي بعد صاحبة اليد العليا المعضدة بثوارها وبكوادر الجيش الوسيطة من أمثال حامد عثمان حامد ومحمد صديق وزملائهم الأشاوس الذين حموا ظهر الثوار من خسة وتآمر النخب العسكرية والمليشيوية.

    ونأسف في الحقيقة لعدم تلبية قحت الناعمة مناداة الثوار لهم بالتنسيق مع كوادر الجيش الوسيطة والتواصل معهم بشكل مباشر لحمايتهم ولدعم الثورة، ونأسف لأنَّ قحت الناعمة المتآمرة لم تسأل عنهم وعن ما حاق بِبَعضهم لمخالفتهم أوامر قادتهم. وعلى أيِّ حال منا نحن الثوار ألف شكر يا نشامة، والرحمة والمغفرة لشهدائنا المدنيين ولشهداء كوادر جيشنا الوسيطة، ولن تنساكم ذاكرة الوطن أبد الدهر.

    وعلى العموم توالت الأحداث؛ وكانت قمة الإحباط يوم قيل للناس اجتمعوا لسماع تشكيل الحكومة، فجاء إلى ساحة الاعتصام ليلتها أكثر من سبع مليون سوداني يُنيرون هواتفهم النقَّالة كمِجَرةٍ عظيمة؛ ولكنَّ قحت الناعمة قد أفجعتهم وأوجعتهم ليلتها حين أرجعتهم بِخُفيْ حُنين.

    وقد سُئل الأصم ساعتها سؤالاً مباشراً: لماذا لا نعلن مدنيتنا من داخل الاعتصام: فأجاب إجابة تهويلية خالية من الثورية وهو بعد صاحب اليد العليا بذلك العدد المهيب من الحضور، وبكوادر الجيش الوسيطة حيث قال: "هذا الأمر سيعقِّد الموقف ويؤزِّمه"؛ دون أن يشرح للناس كيفية ذلك التعقيد والتأزُّم اللذين تكلم عنهما. وفي اعتقادي لم يكن ذلك الرد الغير مواكب لروح الثورة تقديراً فردياً من الأصم، وإنما من واقع حيثيات معلومة ومرتَّب لها سلفاً (راجع مقالنا: نحو اعلان الحكومة المدنية من داخل الاعتصام وتحت حماية الكوادر الوسيطة للقوات المسلحة: 09/مايو 2019).

    فالشاهد، لقد كانت تلك ليلة فارقة، حيث بعدها بدأت أعداد المعتصمين تقل شيئاً فشيئاً، مما أغرى بعض أعداء الثورة بمباغتة المعتصمين في أكثر من مرة وفي مناطق مختلفة من الاعتصام بعد اعتداء 07/04/2019. وعلى أيِّ حال أتى المفاوضون بعد تلك الليلة بتشكيلاتٍ باهتةٍ للحكومة الانتقالية والتي سرعان ماتمَّ رفضها، وتغيَّر تشكيل الحكومة مرتين بعد ذلك لما احتوته سدتُها من كوادر صارخة ومستفذة من الإخوانويين العسكريين المنتمين للنظام المتساقط، غير أنَّها استقرت فيما بعد 11/أبريل 2019 على لجنة البرهان الأمنية الحالية المليئة بكوادر الكيزان في الجيش، مُشكِّلةٌ بذلك أول انحراف لثورة ديسمبر المجيدة عن أهداف تغيير النظام.

    هذه اللجنة الأمنية بقيادة الجنرال السفاح عبد الفتاح البرهان هِيَ التي جربت مرةً فض اعتصام القيادة العامة بذريعة الممارسات التي كانت تحدث في كولمبيا – الصنيعة الاستخباراتية لفض الاعتصام، والتي تلجلج مفاوضو قحت الناعمة عن إدانة فضها الأولى فشجبتهم الثورة بقولها أنَّ كولمبيا جزء من الاعتصام، فأدانوا فضها على استحياء.

    وعلى أيَّةِ حال، تلك اللَّجلجة حول "ما اتُفِق عليه مسبقاً من فض الاعتصام من جهة كولمبيا" هي التي دفعت بالسفاح البرهان ليعلن القطيعة بينه وبين قحت الناعمة في البث التلفزيوني الشهير الذي كان طابعه الضغط على قحت الناعمة للإذعان لهم ومفارقة خط الثورة والثوار إلى الأبد كما تم الاتفاق عليه، وبالعدم سيفضح اتفاقه معها إن لَّم تذعن.

    وعلى أيِّ حال، جرت مياه عديدة تحت الجسر، والتأم المتآمرون على ثورتنا من جديد لتنفيذ فض الاعتصام المتفق على تنفيذه سلفاً بعلم وترتيب وتوقيع قحت الناعمة من جهة كولمبيا وغيرها للمرة الثانية، بعد إفشال الثوار لمحاولة فض كولمبيا الأولى نتيجة لجلجة قحت الناعمة.

    لقد قتلت لجنة البشير الأمنية وشركائها من أفراد قحت الناعمة (الذين يتداوى بعضهم سراً في العيادات النفسية داخل وخارج السودان) أكثر من 2700 ثائر صائم (في محاولة الفض الثانية للاعتصام والمتفق عليه قبل محاولة الفض الأولى كما نوَّهنا بعاليه): قتلاً خسيساً، وغادراً، وجباناً؛ رمياً بالرصاص، وحرقاً بالنار، وإغراقاً في النيل، ودفناً للثوار أحياءاً في غرب أمدرمان، وزجَّاً بهم في مشارح المستشفيات في كل السودان؛ واغتصاباً للحرائر والأحرار داخل دور العبادة؛ الأمر الذي حدا ببعض شرفاء المؤسسة العسكرية تقديم استقالتهم منها صبيحة فض الاعتصام مباشرة لما اقترفت تلك النخبة السفاحة من جرمٍ في حق شعبها.

    وعلى العموم، عقب تلك الفظائع صار المفاوضون المدنيون الخائفون على كشف أمرهم بواسطة العسكر (وهو أمرٌ وشيك لو يعلمون) أميل لتنفيذ رغبات العسكر وتبريرها من تنفيذ رغبات الثوار، ليبتعدوا بذلك عن إغضاب العسكر لكي لا يفضحوا صنيعهم القذر هذا؛ حتى وصلت بهم الجُرأة والوقاحة هذه الأيام لقول: "أنَّ العسكر هم من غيَّر النظام".

    على أيِّ حال، انتبه السفاحون العسكريون والمدنيون عقب المظاهرة الطوفانية المهيبة في يوم 30/06/2019 التي حاول خالد "سلك" ورهطه الزنيم تشتيتها؛ وبعد فض الاعتصام الثاني بتلك الطريقة الخسيسة (التي لا يُمكن أن يقوم بها جيش محترف ضدَّ شعبه، إلاَّ بموافقة الفصيل المدني المفاوض)؛ أنَّ هذه الثورة لا يمكن أن تخمد بفض اعتصام. فصاروا بمعاونة قحت الناعمة (ترغيباً وترهيباً أيضاً) يمارسون انقلاباً بالتجزئة؛ على أن تتعهَّده قحت الناعمة بالطمر عليه بلعب دور "متعهد النفاق/حاجب السلطان/غلام بزرجوازية الدولة" كما كان في العهد الأموي، وبلعب دور "متعهد الأخلاق" المنوط به شحن الناس ضد اليسار السوداني الجذري ودفعه ومغالبته نحو باب الخروج بأِّيِّ كُلفة، لأنَّه لا محالة سيفضح إجرامهم.

    ("اللحظة التأسيسية" شبه جملة مقتبسة من أستاذنا الجليل د. محمد محود).

    يُتبع ...
                  

12-01-2021, 01:46 PM

حسين أحمد حسين
<aحسين أحمد حسين
تاريخ التسجيل: 09-04-2014
مجموع المشاركات: 1281

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تكييف المآلات الاقتصادية/الاجتماعية والس (Re: حسين أحمد حسين)

    تكييف المآلات الاقتصادية/الاجتماعية والسياسية لثورة ديسمبر المجيدة وأليات الحلول (3-10)

    2-2 الانقلاب بالتجزئة الأول

    إنَّ الانقلاب بالتجزئة الأول الذي شرعت في ممارسته لجنة البرهان الأمنية، قد كان باستخدام قحت الناعمة عنوةً فيه. وقد حدث ذلك أبَّان صياغة الوثيقة الدستورية، وذلك حينما صِيغَتْ وثيقتان إحداهما مع كل قوى الحرية والتغيير بكامل إجماعهم عليها، والأخرى حاكتها قحت الناعمة مع العسكر بمعزل عن إجماع كل قوى الحرية والتغيير. وحينما سُلِّمت الوثيقة المُجمع عليها بواسطة كل قوى الحرية والتغيير للمكون العسكري للدراسة، تمَّ تغييبها بطريقة دراماتيكية بواسطة لجنة البرهان الأمنية وقحت الناعمة، وجِئَ بالوثيقة الأخرى التي وافقت عليها قحت الناعمة منفردة مع العسكر، وتمَّ تسويقها تحت مشهد "باركوها يا جماعة" دون أن يطرف لقحت الناعمة عين في السؤال عن سبب تغييب الوثيقة الأولي، والأتيان بوثيقة أُخرى مغايرة. (وعلى أيِّ حال هذا أمر سنتركه للمجلس التشريعي يوم يخرج من السرداب، ليعرف كيف وقعت قحت الناعمة في أحضان العسكر، ولماذا شاركتهم في انحراف الثورة عن أهدافها، وشرعت في تزوير التاريخ بتغيير وثيقتنا الدستورية).

    ومن عجبٍ حتى المراقبين من الاتحاد الأفريقي والدول العربية والغربية قد اشتركوا في "مسرحية باركوها يا جماعة" تلك، وذلك بعدم تحديد المسئولية الأخلاقية والقانونية عن ضياع الوثيقة الأولي (وعدم إعادة طباعتها حتى) وقبول الوثيقة البديلة حتى من غير نقاش خلا موقف اليسار السوداني الجذري الذي انسحب عن مسألة المصادقة عليها. ثم انبرى متعهدو الأخلاق والنفاق من غلمان بورجوازية الدولة ووكلاء الليبراليين الجدد يمدحون الوثيقة البديلة تماماً كمن صاغها في الخفاء أو اطلع عليها مسبقاً، ويُعيبون على من عارضها الموقف النشاز بزعمهم (د. محمد الحسن ولد لبات: 2020).

    على أيِّ حال في 18 أغسطس 2019 تم التوقيع على الوثيقة الدستورية المزوَّرة، والتي جاءت كلها في صالح المكون العسكري بكامل علم قحت الناعمة والموافقة عليها ومباركتها والدفاع عنها، والتي من أهم بنودها:

    1/ تبلغ مدة الفترة الانتقالية 39 شهرا اعتباراً من توقيع الإعلان الدستوري، على أن تجرى انتخابات في نهايتها.

    2/ تعطى الأولوية في الأشهر الستة الأولى من الفترة الانتقالية لإرساء السلام بين الفصائل السودانية في المناطق التي تشهد نزاعات.

    3/ تُكلَّف الحكومة الانتقالية العمل على إعداد إصلاحات قضائية واقتصادية ووضع الأسس لسياسة خارجية متوازنة.

    4/ يتألف المجلس السيادي من 11 عضواً هم ستة مدنيين وخمسة عسكريين. وستتولى شخصية عسكرية رئاسته في الأشهر الـ 21 الأولى على أن تخلفها شخصية مدنية للأشهر الـ 18 المتبقية.

    5/ يشرف المجلس على تشكيل إدارة مدنية انتقالية قوامها حكومة ومجلس تشريعي.

    6/ يسمي تحالفُ قوى الحرية والتغيير رئيسَ الحكومة على أن يصادق المجلسُ السيادي على تعيينه.

    7/ تتألف الحكومة من 20 وزيراً على الأكثر يختارهم رئيس الوزراء من بين مرشحين يقترحهم التحالف، باستثناء حقيبتي الدفاع والداخلية اللتين يختار وزيريهما الأعضاء العسكريون في المجلس السيادي.

    9/ يتم تشكيل المجلس التشريعي في غضون 90 يوما من توقيع الاتفاق على أن تخصص نسبة 67 في المئة من مقاعده لتحالف قوى الحرية والتغيير، أما النسبة المتبقية فستكون متاحة للأحزاب الأخرى غير المرتبطة بالبشير.

    10/ تكون القوات المسلحة ومثلها قوات الدعم السريع جزءاً من المؤسسة العسكرية وستكون بإمرة قائد القوات المسلحة.

    11/ تنظم القوانين والأنظمة الراعية لعمل القوات المسلحة وقوات الدعم السريع العلاقة بين المؤسسة العسكرية والسلطة التنفيذية.

    12/ يكون جهاز المخابرات العامة هيئة تنظيمية مهمتها جمع المعلومات وتحليلها وتقديم تقارير بشأنها إلى السلطات المعنية، ويكون جهاز الاستخبارات خاضعاً للسلطة التنفيذية وللمجلس السيادي.

    13/ يكفل الإعلان حق كل مواطن بالحرية والأمن ويحظر التوقيفات العشوائية.

    14/ يكفل الإعلان حق كل مواطن بحرية المعتقد والتعبير ونشر المعلومات والوصول إلى الصحافة.

    15/ يعتبر الإعلانُ الوصولَ إلى شبكة الإنترنت حقاً ما لم يتعارض مع النظام العام والأمن والآداب العامة.

    16/ يكفل الحق بالتجمعات السلمية، ويمنح كل فرد الحق في تشكيل الأحزاب السياسية والجمعيات والنقابات والاتحادات المهنية و/أو الانضمام إليها (الحرة 17 أغسطس 2019).

    وبالرغم من أنَّ بنود هذه الاتفاقية مخالفة للوثيقة الأولى المغيَّبة، فإنَّ جلَّ بنودها هي نفسها قد خالفها المكون العسكري بانحياز مدنييِّ المجلس السيادي البيِّن (ترغيباً وترهيباً) لرغبات المكوِّن العسكري وما انفكَّ يفعل، بما يشي بأنَّ هناك انقلاب بالتجزئة يجري في الخفاء.

    فمثلاً: بعد تحديد الـ 39 شهراً لكل الفترة الانتقالية وتمديد حوارات السلام في جوبا فوق الستة أشهر المذكورة في الوثيقة الدستورية بنحو عامٍ ونيف (وهو أمرٌ مخالف للوثيقة الدستورية المزوَّرة)؛ يجري الآن مناقشة خرق الوثيقة الدستورية للمرة الثانية بتمديد آخر للفترة الانتقالية بعد تشكيل ما يُعرف بمجلس الشركاء (مما يجعل التمديد - لا السلام - هو المقصود من قِبَل لجنة البرهان الأمنية)، انتزاع ملف السلام بواسطة المكون العسكري وهو من صميم عمل الحكومة المدنية دون مسوغ دستوري أو قانوني، جاءت كل الإصلاحات القانونية والاقتصادية لصالح عناصر النظام المتساقط، جعل الجيش وقوات الدعم السريع خارج سلطة رئيس الحكومة وتبعيتها لقائد المؤسسة العسكرية معيق لقرارات السلم والحرب التي تراها الدولة المدنية ومكرِّس للانقلابات على الدولة المدنية، أبطأت الحكومة في تكوين المحكمة الدستورية لأنَّها هي المناط بها تأييد القرارات النهائية بجرائم القتل ومحاكمة أفراد النظام السابق وترؤس حكومة الفترة الانتقالية في غياب المجلس التشريعي، تعيين وزير الدفاع ووزير الداخلية من مهام مجلس الوزراء وليس من اختصاصات المكون العسكري، لم يتم تشكيل المجلس التشريعي حتى الآن للخوف من إعادة صياغة الوثيقة الدستورية، مازالت قوات الدعم السريع بقيادة منفصلة وميزانية منفصلة رغم تسمية تبعيتها للمؤسسة العسكرية وهي مثال للمسكوت عنه.

    على أيَّةِ حال، سأتناول هنا عدد من المخالفات للوثيقة المزوَّرة بواسطة قحت الناعمة ولجنة البرهان الأمنية كُلاَّ على حدة، لأنَّها تشكِّل مع مباركة قحت الناعمة لها والدفاع عنها، لحظة فارقة وحالة انقلابية مكتملة الأركان على "النموذج السوداني المدني/العسكري الفريد" الذي لطالما مدحه دولة الرئيس د. عبد الله حمدوك. وفي الحقيقة عدم الانتباه لهذه الحالة الانقلابية البيِّنة الملامح قد جعلت مدنييِّ الفترة الانتقالية من أفراد قحت الناعمة أكثر عسكرية من المكون العسكري، الأمر الذي يجعل الفترة الانتقالية برمتها على المِحك في مقبل الأيام إذا لم يتم تغيرهم (وإذا لم يتم تغييرهم فاعلموا أنَّ كل ما جاء بعاليه صحيح).

    2-3 الانقلاب بالتجزئة الثاني

    كان الانقلاب بالتجزئة الثاني لِلَجنة البرهان الأمنية في يوم 03/02/2020، يوم أنْ ذهب الجنرال البرهان سراً ليلتقي برئيس وزراء اسرائيل في العاصمة اليوغندية عنتيبي بدون تفويض من مؤسسة الدولة (ثلثي مجلس الوزراء ومجلس السيادة مجتمعين)، وبدون علم رئيس الوزراء، وبدون مراعاة للأمن القومي والاستراتيجي للسودان؛ وهو بعد رئيس المجلس السيادي، ورئيس مجلس الأمن والدفاع.

    وهذا الوضع يؤكد فيما يؤكد بعد توقيع قحت الناعمة على فض الاعتصام، أنَّ الجنرال يتجاوز مهامه التشريفية في المجلس السيادي، ويتجاوز المؤسسية في إطار منظومة الدولة التي أقرتها الوثيقة الدستورية المزوَّرة وكذلك في إطار منظومة الأمن والدفاع، وبتجاوزه للرئيس الفعلي للحكومة، وتلقيه للأوامر مباشرة من الأمريكان أو عبر عرب الخليج الذين يطوقونه ويطوقون قحت الناعمة بالرِّشَى السخية.

    هذا الواقع قد أغضب الرئيس حمدوك، مما حدا به القول للأمريكان والخليجيين أنَّ مسألة التطبيع مع اسرائيل مسألة سنتركها للمجلس التشريعي. الأمر الذي جعل السفاح البرهان يشرع في تجاوز المجلس التشريعي بتكوين مجلس شركاء السلام الغير شرعي هو الآخر (كما سيجئ في الانقلاب الثالث أدناه)؛ فقط ليقطع الطريق على قرارات حمدوك وليقطع الطريق على قيام المجلس التشريعي بقيام مجلس الشركاء الزنيم.

    ومن يظن أنَّ هناك تناقم في اتخاذ القرارات بين المكون العسكري والمكون المدني في السلطة الانتقالية، فهو واهم. ومن يظن أنَّ جُلَّ المكون المدني يعمل لصالح الحكومة المدنية فهو واهمٌ أيضاً؛ فالأمر أعقد مما نتصور بكثير.

    2-4 الانقلاب بالتجزئة الثالث

    الانقلاب بالتجزئة الثالث للسفاح البرهان على الحكومة المدنية انقلاب مركب، وذلك لكونه كان قائماً على استيلاء ملف السلام من مجلس الوزراء بالباطل ودون وجه حق ودون موافقة المجلس التشريعي (ثلاثا مجلس الوزراء + مجلس السيادة)، ولكونه انبنى على باطله هذا تكوين مجلس شركاء السلام الذي أنكره حمدوك؛ وما بُنِيَ على باطل فهو باطل.

    لقد كان الغرض من استيلاء ملف السلام من حمدوك، هو تطويل محادثات السلام لأطول فترة ممكنة كما جاء بعاليه. كما أنَّ قيام مجلس شركاء السلام كان المنوط به تمديد الفترة الانتقالية بعد أن تعبت جوبا من استضافة المناقشات العبثية المفتوحة، وبالأساس لقطع الطريق على قيام المجلس التشريعي والمحكمة الدستورية وقيام حكومة مدنية مكتملة الأركان.

    وانبرى بطبيعة الأحوال أصحاب المصلحة من التطويل وتعطيل المجلس التشريعي، كأمثال سارق ذهب السودان السفاح حميدتي ومتعهدي النفاق من أفراد قحت الناعمة والحركات المسلحة المرتشية، في التطبيل لمجلس شركاء السلام على حساب أهمية المجلس التشريعي والمحكمة الدستورية بالرغم من عدم اعتراف حمدوك به.
    والآن نكرر بأنَّ مجلس شركاء السلام سيصبح قاعاً صفصفاً متى ما قام المجلس التشريعي، وسيتبعه كل ما قام به السفاح البرهان من جحفلة قواتنا المسلحة لقتال إثيوبيا والأرواح التي قُتلت أو أيِّ توقيعات وانفاق للمال العام خارج مؤسسة الدولة، وسنشرع في محاكمته (راجع مقالنا منفيستو ثورة ديسمبر المجيدة للربع الأول من 2021).

    2-5 الانقلاب بالتجزئة الرابع

    الانقلاب الرابع للسفاح البرهان على مؤسسة الدولة المدنية هو اجتراح الحرب على إثيوبيا من دون التئام مجلس الوزراء ومجلس السيادة والتصويت على قرار الحرب بثلثى الأعضاء. بل الأخطر من ذلك أنَّ رئيس وزراء السودان آخر من يعلم، وفوق ذلك حينما أعلن البرهان الحرب على إثيوبيا كان رئيس مجلس وزراء السودان في زيارة رسمية لدولة إثيوبيا. الأمر الذي يعني أنَّ الانقلاب بالتجزئة قد وصل مرحلة اللامبالاة برئيس مجلس الوزراء كرئيس للدولة السودانية، وبقراراته، وبأمنه الشخصي، وبأمن الوفد المرافق له؛ وهذا من جانب البرهان.

    أما الخطر المطلق على الدولة المدنية بما يؤكد أنَّ الانقلاب على المدنية على وشك الاكتمال، يتبدَّى حينما يخرج أحد أعضاء مجلس السيادة "المدنيين" كمحمد سليمان الخليفة مدافعاً عن سلوك البرهان المخل بالمؤسسية والمنفرد بقرارات السلطة ومُبرِّراً له، وهو بعد مدني أُتِيَ به ليمكِّن للسلوك المدني والثقافة المدنية لا أن يصير عسكرياً أكثر من العسكر أنفسهم (راجع مقالنا: لعناية الأخ محمد الفكي: نختلف مع تبريرك لجرم الجنرال بإعلان الحرب على إثيوبيا جوهرياً وفنياً/مؤسسياً وأخلاقياً، 16/01/ 2021).

    والآن بعد إحاطة حمدوك إحاطة كاملة بواسطة قوى قحت الناعمة المتماهية مع العسكر على حساب الدولة المدنية، وبالليبراليين الجدد وممثليهم من مؤسسات التمويل الدولية فإنَّ الثورة ودولتها المدنية يصبحان على المِحك.

    2-6 الانقلاب بالتجزئة الخامس

    من الملاحظ أنَّه كلما اقتربت فترة تسليم رئاسة مجلس السيادة للمدنيين، اختلق المكون العسكري حدثاً يُعطِّل به تسليم رئاسة مجلس السيادة للمدنيين، وكما هو معلوم فإنَّ 17 نوفمبر 2021 هو موعد رئاسة المدنيين لمجلس السيادة. والناظر أيضاً لاختلاقات هذا المكوِّن العسكري السفيه الذي يُعطِّل بها تسليم السيادة للمدنيين، هي في الحقيقة ميزانة كاملة وإنفاق مالي وانفلات أمني وأخطر من ذلك خسائر في الأرواح. وسوف يظل هذا المكون العسكري الإخوانوي يفعل ذلك ليُعرقل أيَّ سانحة من شأنها أن تجعل الحكومة المدنية حكومة مكتملة الأركان، وقادرة على مراجعة كل قوانين وقرارات مجلس السيادة تحت قيادة المكون العسكري؛ كتلك التي تصب في محاكمة عناصر النظام السابق وقتلة شهداء الاعتصام محاكمة ناجزة ونافذة؛ ولابد من عرقلة وصول المكوِّن المدني للسيادي ومنعه من صياغة دستور وقوانين انتخاب وغيرها تحرم وصول الإخوانويين للسلطة وتحرمهم من ممارسة السياسة في السودان، كما يحدث الآن في تونس والجزائر ومصر.

    والآن بيننا وبين 17 نوفمبر 2021 شهراً واحداً هو شهر إكتوبر. وفي هذا الأثناء بدأ المكوِّن العسكري السفيه والقَتِل يُهيئ الساحات منذ فترة للاختلاق القادم، وذلك في شكل انفلات أمني واستباحة لأعراض الناس وأموالهم بواسطة نظاميين تابعين للمكون العسكري، وفي نفس الوقت ينسب عجز الحكومة على معالجة الإنفلات الأمني الذي اقترفته أيديهم النظامية لعجز مجلس الوزراء عن القيام بمهامه في حفظ الأمن.

    ولم يكتفِ المكوِّن العسكري بذلك، بل راح يُنسق مع إحدى المسارات (مسار الشرق) التي اختلقها خصيصاً لذلك في مفاوضات جوبا لعرقلة تسليم السلطة للمدنيين في نوفمبر، وأملى عليها قولها: "أنَّها لن تفتح الطرقات والمطارات وخط الأنابيب والموانئ للصادر والوارد إلاَّ إذا حُلَّتْ الحكومة الانتقالية وأُلغيَت لجنة تفكيك التمكين لنظام يونيو 1989، وتفاوض معهم السَّفَّاحان البرهان وحميدتي، لا رئيس وزراء السودان دولة الرئيس حمدوك".

    على أيِّ حال، هذه الذرائع لا تشبه إنسان الشرق، ولكن تشبه الإخوانويين وشركائهم السَّفَّاحين من أمثال البرهان والتشادي الذي يسكن قصر رئاسة السودان هو وأُسرته.

    وإمعاناً في الخسة والغدر بالثورة ومدنييها، ولتنفيذ مخطط البرهان الجهنمي، أقال السفاح بالأمس القريب أكثر من 32 ضابطاً من كوادر الجيش الوسيطة الدَّاعمة للثوار (كيف تقيل ملازمين ونقباء ورواد ومقدمين وعقداء وأنت قد اجترحت حرباً على دولة جارة؛ بمن تقاتلها إذا فُرضت عليك الحرب يا أخزاك الله)، ثمَّ أوزع لكوادر جيش وسيطة أُخرى في سلاح المدرعات بقيادة بكراوي (والانتقام منه لأجل عيون السفاح حميدتي) لعمل انقلاب مهمته تصفية أكبر عدد من صغار الضباط المنظور مساندتهم للثورة والثوار في سلاح المدرعات؛ وكل ذلك ليضمن نجاح الانقضاض في نوفمبر على المدنية بالكامل؛ ولكن هيهات وهيهات.

    يراهن البرهان والفلول والحرباء حميدتي (أرجو أن تنتبهوا لاستراتيجية هذا التشادي المتطفل على اقتصاد السودان، فهو دائماً مع المنتصر وصاحب الغلبة. كان مع البشير ضد الحركات، ولما أدرك سقوطه مال نحو الثورة، ولما بدأت لجنة البشير الأمنية بقيادة السفاح البرهان في سرقة الثورة مال نحو اللجنة الأمنية وذبح الثوار بدم بارد ليثبت ولاءه لها، والآن لما عرف أن الثوار من الممكن أن ينقضوا على البرهان في أيِّ لحظة بعد انقلاب بكراوي ورفع التمام للشهيد عبد السلام وصحبه، بدأ يُغيِّر البوصلة. والمهم عنده دائماً هو استمرار تهريب اليورانيوم والماس ومكعبات الذهب إلى الخارج تحت كل الأوضاع. ولذلك هو دائم التكيُّف كما يوصيه مستشاروه) على موت الثورة بالعراقيل التي يحدثونها للحكومة المدنية وخنقهم لاقتصادها، وعلى عدم إكتراث العالم للانقلابات في أفريقيا.

    ولكن نسي الفلول والبرهان والسفاح التشادي حميدتي أنَّ الأربعة انقلابات التي شهدتها أفريقيا هذا العام كلها فاشلة حتى الآن. وإذا كان العالم قليل الإكتراث بانقلابات أفريقيا، إلاَّ أنَّه اهتمَّ كما لم يفعل من قبل بمسرحية انقلاب بكراوي ورفقائه في السودان (فأدانتها أمريكا ودول الترويكا، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، ومجلس الأمن).

    ونقولها لكم نحن الثوار بالفمِ الملئان: لن تعودوا إلى السلطة مرة ثانية بإذن الله الواحد الأحد، وخيرٌ لكم أن ترعووا وتسألوا أنفسكم: هل رجع العَبُوديُّون إلى السلطة، هل رجع إليها النميْريُّون؟ لن تعودوا إن شاء الله وفي أجسادنا قلوبٌ تنبض.

    يُتبع ...
                  

12-03-2021, 04:01 AM

حسين أحمد حسين
<aحسين أحمد حسين
تاريخ التسجيل: 09-04-2014
مجموع المشاركات: 1281

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
تكييف المآلات الاقتصادية/الاجتماعية والسياسية لثورة ديسمبر المجيدة وأليات الحلول (4-10) (Re: حسين أحمد حسين)

    تكييف المآلات الاقتصادية/الاجتماعية والسياسية لثورة ديسمبر المجيدة وأليات الحلول (4-10)

    2-7 تحديد المسئولية عن انقلابات التجزئة في الفترة الانتقالية

    2-7-1 مسئولية المكوِّن العسكري وقحت الناعمة

    من الحقائق المهمَّة التي لم ينتبه إليها الكثير من المحللِّين والدارسين، هِيَ أنَّ لجنة البشير الأمنية بقيادة البرهان، وهِيَ إخوانوية مائة بالمائة، لم تكن لتنحاز للثورة والثوار إلاَّ تحت ضغط كوادر الجيش الوسيطة وصغار الضباط، التي أمهلتهم 48 ساعة للتحرك السريع بعد أن اعتصم الثوار أمام القيادة العامة، أو بالعدم سيتم اعتقالهم والتحفظ عليهم ومحاسبتهم والتصرف من غير وضع أيَّ حسابهم لهم كقادة للقوات المسلحة.

    ومنذ تلك اللحظة التي تضافر فيها ضغط الثوار في الشارع خاصةً بعد مجيئهم لساحات القيادة العامة، وضغط كوادر الجيش الوسيطة وصغار الضباط من داخل القيادة العامة، كان هؤلاء الجنود المجهولون من كوادر الجيش الوسيطة والثوار المعتصمون، محطَّ التفكير والتخطيط المباشر لِلَجنة البشير الأمنية بقيادة السفاح البرهان، بغرض التصفية والإبعاد من الجيش للضباط، وبغرض فض ساحات القيادة العامة من المعتصمين.

    وقد تكرَّست هذه الحقيقة في أذهان لجنة البشير الأمنية يوم حمى أشاوس القوات البحرية (حامد عثمان حامد ومحمد صديق وصحبهم الميامين) ظهر الثوار حين أمطرتهم عصابات المؤتمر الوطني بوابلٍ من الرصاصِ قادماً من جهة مبنى عمارة البشير الطبية.

    لقد ذكرنا في المقالات السابقة أنَّ لجنة البشير الأمنية قد تولَّت أمر تصفية كوادر الجيش الوسيطة بنفسها (فصلت عدد كبير من رفاق محمد صديق، وشخصه الكريم، وأرسلت البعض لليمن، والبعض الآخر تمت تصفيته، ثم فصلت 32 ضابطاً من كوادر الجيش الوسيطة وصغار الضباط قبل أقل من عشرة أيام؛ أعلاهم رتبةً كان عقيداً، وستفصل بعد محاولة الانقلاب الوهمية الأخيرة عشرات من كوادر الجيش الوسيطة بالمدرعات الداعمين للتحول المدني الديمقراطي؛ والجرم مستمر على كوادرنا الوسيطة للأسف)، وقد اختارت لمن يعمل وسط الثوار أُناساً خارج دائرة اليسار الجذري، بل هم أقرب لشرائح رأس المال التقليدية أو منشقة عنهم إن لَّم يكونوا كاموفلاجات لها، ليقوموا بمسألة الانحراف بالثورة ترقيباً وترهيباً ومخادعةً في أحيان كثيرة.

    وبالتالي لم تكن لجنة البشير الأمنية بحال من الأحوال شريكاً في التغيير كما تدعي أو يدَّعي متعهدو النِّفاق السياسي من المدنيين الذين اقتربوا من هذه اللجنة وخادنوها. بل هي في الحقيقة أول من شرع في عملية تصفية الثورة بانقلابات التجزئة.

    وعليه أول من يُسأل أخلاقياً عن وتيرة وتسلسل انقلابات التجزئة أعلاه، هو لجنة البشير الأمنية (لاحقاً المُكوِّن العسكري) ومن نصَّبَ نفسه مفاوضاً بين جماهير الثوار في ساحة الاعتصام مع هذه اللجنة (لاحقاً قحت الناعمة). وكما قلنا من قبل، أنْ لا أحد يعرف على وجه الدقة ماذا تمَّ بين المفاوضين الذين يشغلون اليوم معظم وظائف الفترة الانتقالية ولجنة البشير الأمنية، وقلنا أيضاً سنستجلي ذلك بالتحليل الدؤوب المثابر والطويل النَّفَس للخطاب السياسي والشفاهي لنموذج الشراكة المدني – العسكري القلِق، خاصةً في لحظات الاختلاف بينهم، حيث كلُّ إناءٍ بما فيه سينضح.

    وكما ذكرنا من قبل أيضاً، فقد أُوكِلَتْ لقحت الناعمة مهمة مركزية هِيَ إبعاد اليسار السوداني الجذري من المشهد الانتقالي بأيِّ وسيلة من الوسائل ولا بأس بالبعثيين. ومن أملى ذلك عليهم، هم درابنة النظام السابق في شخص المُكوِّن العسكري و"عسكوطفيلياته"، والليبراليين الجدد في الداخل والخارج، ورغبة المفاوضين أنفسهم في أن يحتلوا أو يقودوا السودان من موقع الهيمنة الجديد. وينبني كل ذلك بطبيعة الحال على ملموس تتبعناه لفترة طويلة مفاده أنَّ:َ "شرائح رأس المال وكاموفلاجاتها لا تُقصي بعضها البعض إقصاءاً نهائياً في لعبة السياسة".

    وبالفعل قد بدأت قحت الناعمة في قتل الروح المعنوية للثوار بالتطويل المتعمَّد والمدفوع القيمة، وبالإخفاقات المتكررة في إنجاز حكومة مدنية تلبي تطلعاتهم، وبالاتفاق المسبق على تشتيت هذه الجموع ليبدأ الشركاء الجدد في تنزيل نموذج حكم يلبي تطلعات من يتنافسون على موضع الهيمنة الجديد، وبالتجاهل التام لتتبُّع أحوال كوادرنا الوسيطة التي دافعت عن ثوارنا والتنسيق معهم لضرورات المرحلة رغم مناشدتنا المتكررة لهم.

    وما يدفعنا لترجيح هذا المنحى في التحليل هو عدم وجود سبب واحد "يتيم"، يجعل الثوار أصحاب الجماهير الغفيرة واليد العليا والقدح المُعلَّى في التغيير يقبلون بدَنِيَّةِ التغيير؛ ولكن ذلك قد حدث على أيِّ حال، والمرجَّح أنَّه قد حدث بسبب تبدُّل أخلاق المفاوضين (ربما بالترغيب والترهيب والمخادعة وغيرها). وما يُعضد هذا الاتجاه في التحليل أيضاً هو استعجال المتآمرين المتنافسين على موضع الهيمنة لتحويل هذا التآمر المتَّفَق عليه، من فعل غيبي إلى فعل مادي. وهذا الفعل المادي قد بدأ شريراً للأسف في يوم 07/04/2019، يوم قتلت لجنة البشير الأمنية 25 ثائراً وعسكرياً أمام بوابة القوات البحرية، ثمَّ توالت الهجمات حتى وصلت ذروة مأساتها في عملية فض الاعتصام في 03/06/2019، حيث قتل المتآمرون من شبابنا أكثر من 2700 شهيد (بحسب الإحصاءات الأمريكية) أمام القيادة العامة وما انفكَّوا يفعلون.

    ولعلَّ تنزيل ذلك النموذج على الأرض، كان من الممكن أن يكون أكثر فداحةً على الثوار واليسار الجذري فيما بعد، لو لا بقاء جذوة الثورة حيةً، وإصرار الثوار وتجمُّعُهِم وكرَّتُهُم تارة أُخرى على المتآمرين في أكبر مظاهرة طوفانية عرفتها الإنسانية في 30/06/ 2019 (يا نجيب حقهم يا نموت زيَّهم).

    ومن وقتها أمعن المكوِّن العسكري الفلولي في التجزئة على نار هادئة، وطفق المتآمرون يتكالبون من جديد على ثورة الوطن الوسيمة، تحفهم الوفود الأفريقية والعربية والعالمية والأممية، ليُصيغوا فيما بعد وثيقتين دستوريتين إحداهما فوق الطاولة والأخرى تحتها، وفي غفلة من الزمان تُغيَّب الوثيقة المتفق عليها ويُجاء بالمحرَّفة، فيتمُّ التوقيع عليها وينتهي الأمر على هذا النحو الذي ذُبِحَ فيه ما تبقَّى لقحت الناعمة من أخلآق.

    2-7-2 كِفل رئيس وزراء السودان في الانقلابات على الدولة المدنية

    إذا كان هناك ثمة شئ يجب أن يُشكر عليه د. عبد الله حمدوك، فهو شجاعته وقبوله أن يكون رئيساً للوزراء في السودان عقب أفسد نظام حكم عرفته الإنسانية، وفي ظل ما ذكرناه بعاليه من عوج الثورة الخديج المُتآمر عليها من الداخل والخارج. وفي الحقيقة قد عقد السودانيون على حمدوك كلَّ آمالهم، وأيَّدوه تأييداً لم يُحظَ به رئيسٌ في السودان من قبل. والرجل من الناحية الأكاديمية والمهنية والأخلاقية أهلٌ لكلِّ ذلك، ولكنه من حيث الشكيمة وقوة الشخصية والكارزما ومنازلة العسكر قد أفجعنا وكاد يُضيَّع علينا ما تبقَّى من الثورة الخديج تلك.

    فيا سعادة دولة الرئيس حمدوك، يوم قلتَ بعد أداء القسم "أنَّك من اليوم فصاعداً رئيس لكل السودان"، استبشرنا خيراً بأنَّ الرجل يحمل في جُعْبَتِهِ حلاًّ كاملاً لكلِّ مشاكل السودان في إطار مشروعه الوطني الذي لطالما بشرنا به (وبشرنا آخرون بنظائر أُخرى له). ولكن حينما تقدمنا معك وجدناك تتنازل من صميم ما هو حصري لك كرئيس وزراء السودان للمكوِّن العسكري (اللجنة الأمنية للنظام السابق المناصرة حتى اللحظة لعناصره) على حساب الدولة المدنية وأحلام الشباب وتطلعاتهم للحرية والسلام والعدالة؛ وذلك تنازلٌ في لا ضرورة، وأنت عندك من الشباب القائل (أُكرِّر): "لو خضتَ بنا هذا البحر لخضناه معك".

    فأولاً، يتجسَّد قولنا بعاليه في سلام جوبا الذي هو من صميم عمل رئيس مجلس الوزراء، ولكن المكوِّن العسكري اختطفه منك ولم تنبُسْ بِبِنتِ شفة. ولما اختطفه منك كان الغرض الحصري من ذلك هو تطويل زمن التفاوض لأطول فترة ممكنة من شأنها أن تُعطِّل قيام المحكمة الدستورية التي سوف تبِتْ في قضايا الإعدام بالنسبة لقتلة الثوار، والمجلس التشريعي الذي يجب أن يتم تشكليله في غضون 90 يوماً (أي بعد 30 يوماً من الزمن الحقيقي المضروب لتحقيق السلام وهو ستة أشهر)، والذي يجب أن ينظر في شرعية ولا- شرعية الكثير من القوانين والقرارات الصادرة في الفترة الانتقالية.

    ولما أوشك السلام على الانتهاء، مازال المكوِّن العسكري يتغوَّل على صميم مهامك الوظيفية، وذلك حين أعلن عن قيام مجلس شركاء السلام، وهو مجلس زنيم لم نرَ له أيَّ ضرورة غير الإمعان في تعطيل قيام المجلس التشريعي، بالقدر الذي بدأت معه بعض الحركات المسلحة ستتنكر قيامه بعد قيام مجلس شركاء السلام خاصةً في اجتماعاتهم المغلقة (تقرير هبة محمود سعيد: الراكوبة 22 نوفمبر 2019).

    ثانياً، إذا كانت الوثيقة الدستورية الشائهة قد أعطت المكون العسكري الحق (وهو حق حصري لرئيس وزراء السودان ذهب للمكون العسكري لغباء المشرِّع أو تآمرِه) في اختيار وزيري الدفاع والداخلية كأشخاص (وقطعاً سيكونون من عناصر النظام السابق)، فأنت المسئول الأول عن صرف الأوامر للوزارتين وتسييرهما ومتابعة وتقييم أدائهما ومحاسبتهما، وفصل أفرادهما من الخدمة إن شئت. فوزير الدفاع وأعلى سلطة موجودة في الجيش السوداني تتبع لك حصرياً، وليس لأيِّ جهة أُخرى.

    وبالتالي كيف تسمح بأن يسحب المكون العسكري عناصر الجيش والشرطة من حراسة لجنة إزالة التمكين والعقارات المستردة من عناصر النظام السابق دون مساءلة، والأمر في حقيقته تمرد بالكامل على صلاحيات رئيس مجلس الوزراء وقراراته؛ بل هذا انقلاب بالكامل على سلطاتك وأنت مسئول من استمراره.

    ثالثاً، وكما قلنا في مقالات سابقة، فإنَّ قرار الحرب قرار دولة وأنت رئيس الدولة؛ وليس بقرار مكون عسكري، ولا بقرار مجلس الأمن والدفاع، ولا بقرار رئيس مجلس السيادة. وهو في مدنيتنا الخمسمشكل هذه يُتَّخَذ بثلثي أعضاء مجلس الوزارء ومجلس السيادة مجتمعين. وكم أعجب كما عجبتُ من قبل ومازال عجبي قائماً، في أن يُعلن السفاح البرهان الحرب على إثيوبيا من غير علمك ومن غير موافقة المجلس التشريعي، بل أنّهَ أعلنها وأنت في زيارة رسمية داخل إثيوبيا بكل ما يحمل تصرفه من لامبالاة ودون مراعاة لأمنك الشخصي وأمن الوفد المرافق لك؛ وإلى الآن لم نرَ أيَّ تحقيق عام أو مساءلة لمجترِح الحرب ومن معه من قِبَل شخصكم الكريم في هذا الصدد.

    هذا الحدث والحدث الذي قبله في ثانياً أعلاه (أنا لم أتحدث بعد عن محاولة اغتيالك التي أصبحت مثل التحقيق في عملية فض الاعتصام) فيهما تمرد على رئيس الدولة يستوجب اعتقال اللجنة الأمنية للبشير برمتها ومحاسبتها واستبدالها بمكون عسكري آخر من مؤسسة قوات الشعب المسلحة متناغم مع روح الثورة وداعم للتحول المدني الديمقراطي وبناء الدولة المدنية المكتملة الأركان، وليس مسخَّراً لتقويضها ليل نهار.

    رابعاً، تعلم أنَّ سفاحي لجنة البشير الأمنية يتخوفون من قرب أيلولة رئاسة مجلس السيادة للمكون المدني، الذي سيشكل المجلس التشريعي والمحكمة الدستورية لا محالة، والذي ربما يعيد النظر في كثير من تشريعات الحكومة الانتقالية الخرقاء بفعل صنيع المكون العسكري الإخوانوي كما جاء بعاليه. وبالتالي إلتحام المكون العسكري الإخوانوي بحاضنته الإخوانوية في 02/10/2021 بقاعة الصداقة على حساب الشريك الأصيل في الوثيقة الدستورية هو انقلاب مكتمل الأركان، ويجب أن يرفع لمجلس الأمن الدولي فوراً وشركاء السودان، وأنت مازلت تقوم بدور أجواد الخير.

    وفي الحقيقة لا فرق بين ما قام به الفلولي تِرِك في شرق السودان من تخريب الموانئ والطرق والمطارات لإعاقة الدولة المدنية، وتعطيل خط السكة حديد في عدد من المناطق لكي يصل قطار ثوار عطبرة، وذلك الصنيع القذر الذي قام به برطم في قفل طريق أمدرمان دنقلا حلفا عند مدينة الدبة؛ وبين ما يقوم به المكوِّن العسكري الفلولي من انقلابات بالتجزئة (آخرها ما حدث في قاعة الصداقة) لكي لا يصل المكون المدني لرئاسة مجلس السيادة والمدنية الصِّرفة للدولة في 17 نوفمبر 2021.

    وأخيراً يا دولة الرئيس حمدوك: وزيرة خارجيتك التابعة حصرياً لك تُؤمر بدعوة السفراء والبعثات الدبلماسية من وراء ظهرك من قبل جهة غير مخوَّلة البتَّة بذلك، وأردولك الفاسد الذي يعمل ضدك، ووزير ماليتك الفلولي وابن الفلول يعادي مدنيتك ويُعطِّل كل قرارات لجنة إزالة تفكيك التمكين بوزارة المالية لأنَّها تمس عناصر تنظيمه الفلولي؛ والكل في منصبه حتى الآن (كيف تأمنهم على أمال الدولة المدنية)؛ وأنت مازلت تمارس دور أجواد الخير؛ أين المؤسسية يا رعاك الله.

    فيا عزيزي دولة الرئيس حمدوك (ويا كل الأعزاء من دعاة المصالحة الوطنية والمشروع الوطني)، ربما أنَّكم تستأنسون في مشروعكم الوطني بفتح مكة، والكل يريد أن يكون أخاً كريماً وابنَ أخٍ كريم (رئيس لكلِّ السودانيين)؛ ولا تثريب. ولكن لا تنسَوْا أنَّ رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم قد قال في شأن عتاة مجرمي مكة الأربعة: "والله لن أتركهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة" - معني الحديث.

    ولما كانت العبرة في مثالنا أعلاه ليست بالعدد بقدر ما هي مرتبطة بالإجرام والعداء السافر والتآمر على الدين الجديد آنذاك؛ وفي واقعنا السوداني الإجرام والعداء السافر للثوار المدنيين العُزَّل (وقتلهم وسحلهم وإغراقهم في النيل واغتصاب بعضهم) وللدولة المدنية والتآمر عليها الذي وصل حد محاولة اغتيال رئيسها والمحاولات الست العسكرية للانقلاب عليها؛ لكلِّ ذلك كان لابد من تنظيف الخدمة المدنية والعسكرية وكل القطاعات العامة والخاصة من عتاة حراس المعبد القديم (درابنة النظام القديم كما يقول د. قصي همرور) وإن تعلقوا بأستار الكعبة؛ المجرمين الذين يعيقون التحول للمدنية كأمثال أفراد المكون العسكري الشاخص الآن، وخط الثورة الموازي للتحول المدني من أمثال هجو وبرطم والجاكومي وأردول ومريم ومناوي وتِرِك وغيرهم من المدسوسين الذين بدأ ينكشف أمرهم في اجتماع يوم الثاني من أُكتوبر 2021 بقاعة الصداقة.

    وإذا لم تقم بذلك التنظيف يا دولة الرئيس (وهو واجب ديني كما استنَّه حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم) فإنَّك ستذبح ثورتنا من الوريد إلى الوريد. ونحن لن نسمح بعد اليوم لسفاح ولا لمخادن للسفاحين أن يُملئ علينا وفاقاً أخرقاً ولا مصالحة وطنية مِلئها الغبن والإحن من غير محاكمات عادلة، ولن نجلس من الآن فصاعداً مع من قتل أبناءنا تحت سقف واحدٍ أبداً، ويجب تغيير المكون العسكري السفاح الحالي هذا ومن يُشايعه من المدنيين، بمكون عسكري آخر شريف (وما أكثر العسكريين الشرفاء المنحازين للثورة داخل قوات الشعب المسلحة) منحاز للدولة المدنية والتحول الديمقراطي وليس منحازاً لأعدائها؛ رُفِعَتْ الأقلامُ وجَفَّتْ الصُّحُف.

    خاتمة

    على كوادرنا الوسيطة المنحازة للدولة المدنية الديمقراطية داخل مؤسسة قوات الشعب المسلحة والقوات النظامية الأخرى، أن تكون جاهزة لاعتقال المكوِّن العسكري المجرم وبقية أعضاء لجنة البشير الأمنية المجرمين متى ما صدرت الأوامر لهم من رئيس الوزراء الحالي أو من يخلفه. فهؤلاء القتلة السفاحون لابدَّ أن يمثلوا أمام القضاء العادل الشفاف والنزيه بما اقترفت أياديهم في حق أبنائنا في ساحات الاعتصام وغيرها. وعليهم أن يكونوا جاهزين لانتخاب مكوِّن عسكري داعم للتحول المدني الديمقراطي فيما تبقى من عمر الفترة الانتقالية.

    يُتبع ...

                  

12-06-2021, 00:33 AM

حسين أحمد حسين
<aحسين أحمد حسين
تاريخ التسجيل: 09-04-2014
مجموع المشاركات: 1281

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
تكييف المآلات الاقتصادية/الاجتماعية والسياسية لثورة ديسمبر المجيدة وأليات الحلول (5-10) (Re: حسين أحمد حسين)

    تكييف المآلات الاقتصادية/الاجتماعية والسياسية لثورة ديسمبر المجيدة وأليات الحلول (5-10)

    3- أصحاب المصلحة في معمعان الفترة الانتقالية

    3-1 من هم أصحاب المصلحة في التغيير

    في البدء دعونا نُعيِّن من هم أصحاب المصلحة في التغيير، ومن هم أصحاب المصلحة في عدم التغيير. وفي الحقيقة من واقع تحليل مضني للفئات/الطبقات الاقتصادية الاجتماعية في السودان منذ ما قبل الاستقلال إلى يوم النَّاسِ هذا (سائراً في ذلك على نهج أستاذنا Tim Niblock)، وجدتُ أنَّ الشرائح الاجتماعية التي لها مصلحة مباشرة في التغيير هي الشرائح العمالية وأرباب المعاشات وعموم المستضعفين والقوي الحيَّة الحديثة التي جسَّدها مجتمع اعتصام القيادة العامة وشرائح البورجوازية الصغيرة/المهنيين المنحازة نُبلاً وأخلاقاً وإنسانيةً لهذه الشرائح العمالية والضعيفة والقوى الحيَّة الحديثة التي تشكل اليوم 67% من سكان السودان.

    أمَّا أصحاب المصلحة في عدم التغيير فهم أحزاب الشرائح الرأسمالية المختلفة (خاصةً الشريحة ذات الهيمنة كما يصفها قرامشي) ذات العقلية الريعية والمَنْحَى الخراجي في الاستثمار، ومؤخراً لَحِقتْ بهم العسكوطفيليات – وهي نخب العسكر المترسملة حديثاً بالفساد داخل المؤسسة العسكرية السودانية، والبورجوازية الصغيرة المتحالفة مع هذه الفئات؛ وبالتالي كل هذه الفئات لا ترغب في الديمقراطية ولا في تغيير الأنساق الاقتصادية الاجتماعية الموروثة منذ زمان المستعمر.

    وبالتالي هذه الشرائح الاقتصادية الاجتماعية (التي أطلقنا عليها حلف القوى الاقتصادي The Power Block) هى بهذا الوصف المسئول المباشر عن كل الانقلابات العسكرية على ثورات السودان الشعبية؛ إذ أنَّ العسكر بمفردهم، وبخاصة قبل ترسمل نخب المؤسسة العسكرية، لا يستطيعون أن ينجزوا انقلاباً عسكرياً من غير حاضنة رأسمالية داخلية أو خارجية. وعليه فهي أيضاً المسئولة بالأساس عن قطع الطريق على ثورة ديسمبر المجيدة حينما همست للعسكوطفيليات بالاستمرار في السلطة وعدم تسليم السلطة لتجمع المهنيين السودانيين باعتبارهم جماعة غير ناضجة سياسياً.

    ويحدث ذلك ببساطة لأنَّ ما نالته هذه الشرائح الرأسمالية والعسكوطفيليات بالديكتاتورية لم (ولن) تنله بالديمقراطية؛ التي من شأنها أن تمنع العلاقات الفاسدة وتمنع استغلال الإنسان لأخيه الإنسان؛ وتمنع على وجه التحديد استغلال الشرائح الرأسمالية والعسكوطفيليات للشرائح العمالية والمستضعفة والمهنية والقوى الحديثة. وبهذا المنطق، فإنَّ عدالة/تجانس واتزان وديمقراطية واستدامة معادلة الإنتاج (معادلة الإقتصاد القومي الكلية) هى الأساس المادي لأى نظام سياسي ديمقراطي مستقر، وبالتالي أىُّ اختلال فيها يؤدي إلى الاختلال في ذلك النظام السياسي، وينزع عنه صفة الديمقراطية والشرعية والاستدامة ولو بعد حين (راجع كتابنا: حسين 2018).

    ولما كانت إدارة معادلة الإنتاج بما يخدم كافة شركاء العملية الإنتاجية/الاقتصادية هي إدارة للاقتصاد القومي بأكمله ودفعه نحو تحقيق العمالة الكاملة فالثورة الوطنية الديمقراطية ولو بمعناها الليبرالي، عليه فإنَّ العمال والمستضعفين والقوى الحية الحديثة والمهنيين المنحازين لهم (كما أشرنا بعاليه وكما فصلنا في المرجع أعلاه) هم الأكثر استفادة من الديمقراطية وهم سندها الحقيقي والأحرص على استمرارها واستدامتها من شرائح رأس المال والعسكوطفيليات والشرائح البورجوازية المنحازة لهم، وذلك لأنَّها ببساطة تمنع عنهم الاستغلال والابتزاز الذي تمارسه هذا الشرائح الرأسمالية والعسكوطفيليات، بل هم حارس الديمقراطية الذي ظلَّ مغيَّباً عمداً في المشهد السياسي السوداني منذ الاستقلال وحتى يوم الناس هذا كما سنرى أدناه.

    ولنتبيَّن مصدر الإختلال في المعادلة السياسية القائم على الإختلال في المعادلة الاقتصادية القومية منذ الاستقلال حتى الآن، سنقوم بعرض معادلة الإنتاج/الاقتصاد في صورتها المجردة، ثم نضاهيها بما يدور في واقع التشكل الاقتصادي الاجتماعي والسياسي السوداني لنصل إلى أعداء التغيير الديمقراطي الحقيقيين وإلى السبب الجوهري وراء عدم استقرار الديمقراطية وبالتالي قِصَرها (11 سنة ديمقراطية مقابل 55 سنة ديكتاتورية) في الأرينة السياسية السودانية.

    وبالتالي إذا نظرنا إلى معادلة الإنتاج المجردة والمبسَّطة نجدها تتكون من الآتي: الإنتاج/الاقتصاد القومي = العمل + رأس المال + التنظيم + الأرض + (عوامل أخرى - كالتقدم التكنولوجي والمعلوماتية - سنضعها في الصورة الصفرية (...) للتبسيط).

    وإذا أخرجنا هذه المعادلة من التجريد إلى الواقع - أى إلى إطار التشكل الاقتصادي الاجتماعي في السودان، فإنَّنا نجد أنَّ معادلة الإنتاج = (العمال والمستضعفين، القوى الحيَّة الحديثة، والقوى المهنية المنحازة لهم) + (رجال الإعمال، ورواد الأعمال من المهنيين المنحازين لهم) + (البورجوازية الصغيرة/المهنيون المعنيون بالتنظيم وتوازن المعادلة الكلية/القومية) + (بورجوازية الدولة وهِيَ أجسام الخدمة المدنية والعسكرية المستقلة (أو هكذا يجب أن تكون) كموظفي القطاع العام، القضاء، البوليس، الأمن، الجيش، وغيرها + (...).

    وإذا أمعنا النظر بمايكروسكوب التحليل الطبقي للمعادلة أعلاه وبحثنا عن حرَّاس عناصر الانتاج فيها على مستوى الأرينة السياسية في الواقع السوداني، سنجد أنَّ حراس عنصر العمل (العمال والمستضعفين والقوى الحية الحديثة والقوى المهنية المنحازة لهم) مغيبون عمداً في المشهد السياسي السوداني وبمؤامرة كُبرى من قِبَل شرائح رأس المال والعسكوطفيليات وشريحة البورجوازية الصغيرة المنحازة لهم والنظام الرأسمالي العالمي منذ الاستقلال حتى يوم الناس هذا؛ بل هى أعظم سرقة سياسية في تاريخ السودان؛ وندلِّل على ذلك بالآتي:

    (أ) (لا يوجد حزب للعمال والمستضعفين والقوى الحية الحديثة والقوى المهنية المنحازة لهم في السودان قائم بالأصالة عن نفسه منذ الاستقلال حتى اللحظة) + (توجد أحزاب للشرائح الرأسمالية) + (توجد أحزاب للبورجوازية الصغيرة يميل جُلُّها للشراكة مع الشرائح الرأسمالية خاصة في غياب حزب للعمال والمستضعفين والقوى الحية الحديثة والقوى المهنية المنحازة لهم) + (بورجوازية الدولة (بعسكوطفيلياتها) التي عليها الحفاظ على ما هو قائم في المجتمع أمام عينيها ظنَّاً منها أنَّه يمثل كل عناصر المجتمع) + (...) = معادلة إنتاج/معادلة اقتصاد كلي/قومي متحيزة لصالح رأس المال.

    (ب) (توجد أحزاب بورجوازية صغيرة تتحدث بشكل غير عضوي باسم العمال والمستضعفين والقوى الحية الحديثة والقوى المهنية المنحازة عضوياً لهم، ولكنها على نحوٍ ما متحالفة مرحلياً لمدة 66 سنة مع شرائح رأس المال بزعم انجاز قضايا العمال والمستضعفين والقوى الحية الحديثة والقوى المهنية المنحازة لهم) + (توجد أحزاب رأسمالية قائمة بذاتها) + (توجد أحزاب للبورجوازية الصغيرة التي تعتاش على شرائح رأس المال بشكل واضح) + (بورجوازية الدولة بعسكوطفيلياتها) + (...) = عملية إنتاجية متحيزة لصالح رأس المال.

    وتُقرأ هذه المعادلة بحسب عدد الأحزاب المسجلة رسمياً كما جاء في سودان تربيون 2014 البالغ 75 حزباً كالآتي: (صفر للأحزاب العمالية والمستضعفين والقوي الحية الحديثة والقوي المهنية المنحازة لهم) + (3 أحزاب رأسمالية) + (72 حزب وسط/بورجوازية صغيرة/مهنيون وكلها تعتاش سياسياً بالحديث عن الفقراء واقتصاديا بالتحالف مع الأغنياء) + (بورجوازية الدولة المترسملة عسكوطفيلياتها حديثاً) + (...) = عملية انتاجية متحيزة لصالح رأس المال.

    (ج) لاستعدال هذه المعادلة المتحيزة رأسمالياً (على الأحزاب المتحدثة باسم العمال والمستضعفين والقوى الحية الحديثة والقوى المهنية المنحازة لهم أن توسع مواعينها لتشمل فعلياً كافة العمال والمستضعفين والقوى الحيَّة الحديثة والقوى المهنية المنحازة لهم؛ وتشمل حتى تلك المنضوية طائفياً تحت شرائح رأس المال وغيرها؛ أو أن تتحول إلى حزب للعمال والمستضعفين والقوى الحية الحديثة والقوى المهنية المنحازة لهم؛ أو تسكت عن التحدث باسمهم لينجلي الموقف السياسي عن ضرورة قيام حزب يخصهم ليدافع عنهم بالأصالة لا بالوكالة) + (3 أحزاب رأسمالية) + (72 حزب وسط/بورجوازية صغيرة) + (بورجوازية الدولة المفكَّكة عسكوطفيلياتها والمنحازين لها) + (...) = معادلة انتاج/معادلة اقتصاد قومي عادلة/متجانسة ومتوازنة وديمقراطية ومستدامة، تنحو باتجاه العمالة الكاملة، فالثورة الوطنية الديمقراطية في نهاية التحليل ولو بالمعنى الليبرالي؛ وبالتالي غير متحيزة لصالح رأس المال، بل لكل فئات المجتمعً.

    ولذلك نحتاج لرئيس وزراء منحدر من الأسر الفقيرة العمالية والمستضعفة والقوى الحية الحديثة والقوى المهنية المنحازة لهم، ليكون قادراً علي إدراك واقع الاقتصاد القومي المتحيز رأسمالياً وبالتالي قادراً على معالجة هذا الاختلال، وواعٍ لمتطلَّبات المرحلة؛ التي تتلخَّص في أن يكون للعمال والمستضعفين والقوى الحيَّة الحديثة والقوى المهنية المنحازة لهم في السودان حزب يخصهم، ويدافع عن حقوقهم بالأصالة لا بالوكالة؛ وذلك فقط (وأكرر فقط) لجعل الاقتصاد القومي عادلاً ومتجانساً ومتوازناً وديمقراطياً ومستداماً وغيرَ متحيِّزٍ لصالح رأس المال فقط، بل لكلِّ فئات المجتمع.

    أقول ما أقول بخاصة، لأنّنا وجدنا أنَّه حينما تتقاطع مصالح العمال والمستضعفين والقوى الحيَّة الحديثة والقوي المهنية المنحازة لهم، مع مصالح أحزاب البورجوازية الصغيرة المتحدثة باسمهم فقط والمتحالفة مرحلياً مع غريمهم لانجاز مصالحهم لمدة 65 سنة، فكثيراً ما تنتصر أحزاب البورجوازية الصغيرة هذه لمصالحها على حساب مصالح العمال والمستضعفين والقوى الحيَّة الحديثة والقوى المهنية المنحازة لهم.

    فمثلاً، حينما ضيَّقت الانقاذ الخِناق على الشعب السوداني، هاجر معظم أفراد البورجوازية الصغيرة المتحدثة فقط باسم العمال والمستضعفين والقوى الحية الحديثة والقوى المهنية المنحازة لهم (بمن فيهم كاتب هذا المقال)، وتركوا العمال والمستضعفين والقوى الحيَّة الحديثة والقوى المهنية المنحازة لهم، يواجهون مصيراً قاسياً من الظلم والقهر والاستغلال والمسغبة والمرض الذي أوصلهم إلى مرحلة عدم القدرة على الحياة (Life Dysfunctioning) في كثيرٍ من الأحيان.

    والملاحظ في إطار المناقشات التي دارت/وتدور مع لجنة البشير/البرهان الأمنية، فإنَّ البورجوازية الصغيرة في إطار قوى الحرية والتغيير (قحت) المتحالفة باطنياً مع شرائح رأس المال والعسكوطفيليات، بدأت تميل لقبول معادلة الاقتصاد القومي المتحيِّزة رأسمالياً في إطار نموذج الحكم المدني - العسكري القابضة عسكوطفيلياته على السلطة والاقتصاد منذ الحادي عشر من أبريل 2019. وعلى عكس ذلك، فالبورجوازية الصغيرة المنحازة للعمال والمستضعفين والقوى الحية الحديثة والقوى المهنية المنحازة لهم، كانت ترصد من موقعها الطبقي الطليعي والمستنير انحراف النموذج المدني - العسكري عن أهداف الثورة، وكانت ترصد انقلاب لجنة البرهان الأمنية المنجَّم منذ بواكير ظهوره.

    وعليه هذه الأوضاع تتطلب أن تكون للفئات العمالية والمستضعفة والقوى الحيَّة الحديثة والقوى المهنية المنحازة لها (أصحاب المصلحة الحقيقيين في التغيير المدني الديمقراطي في كل السودان) حزبها القائم على أمرها (أكرِّر) بالأصالة لا بالوكالة لأغراض خلق نموذج اقتصادي متوازن وغير متحيز رأسمالياً. ومن الممكن أن يكون هذا الحزب هو حزب الحرية والتغيير كما اقترحه بروفسير بشرى الفاضل، ومن الممكن أن نسميه أيضاً الحزب المدني الديمقراطي كما قال بذلك أستاذنا عمر يحى الفضلي (أو حزب العمال والقوى الحديثة كما اقترحه شخصي الضعيف)؛ غير أنَّ المهم في كل ذلك أن تضم هذه المسميات العمال والمستضعفين والقوى الحية الحديثة والقوى المهنية المنحازة لهم، بالقدر الذي يرفع إسهامهم في السياسة السودانية من عتبة النقابات الفئوية ولجان المقاومة إلى عتبة الأحزاب السياسية ويرفع إسهامهم في الجانب الاقتصادي لمرحلة خلق نموذج اقتصادي متوازن وديمقراطي ومستدام؛ وبالتالي نكف عن استغلال أصحاب المصلحة الحقيقية في التغيير مرة واحدة وإلى الأبد.

    يُتبع ...
                  

12-18-2021, 01:46 AM

حسين أحمد حسين
<aحسين أحمد حسين
تاريخ التسجيل: 09-04-2014
مجموع المشاركات: 1281

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
تكييف المآلات الاقتصادية/الاجتماعية والسياسية لثورة ديسمبر المجيدة وأليات الحلول (6-10) (Re: حسين أحمد حسين)

    تكييف المآلات الاقتصادية/الاجتماعية والسياسية لثورة ديسمبر المجيدة وأليات الحلول (6-10)

    3- 2 أقدار أصحاب المصلحة في التغيير في السودان

    (يقول الأديب الطيب صالح، قدَّس الله أسراره وأقواله: لو قلتُ لجدي أنَّ الثورات تُصنعُ بإسمه، والحكومات تقوم وتقعد من أجله لضحك؛ الفكرة تبدو شاذة فعلاً").

    مازلتُ أعتقد اعتقاداً جازماً أنَّه ما من شئ يحمل المفاوضين في قوى الحرية والتغيير - بعد الفض الأول والثاني للاعتصام بتلك الطريقة الخسيسة والجبانة والمجرمة والمؤلمة والبشعة بواسطة لجنة البرهان الأمنية - على التفاض مع قتلة أصحاب المصلحة الحقيقيين، إلاَّ أن يكون لهم سهم في هذا المخطط الإجرامي الجهنمي على نحوٍ ما. ولا أعرف إلى اللحظة نوعية المصل/المخدِّر الذي يمكن أن يتعاطاه المفاوضون المدنيون البريئون ليَعْبُروا ويجوزوا على مثل هذا الأمر غير المحتمل، وليأتوا ويقعدوا مع قاتل أصحاب المصلحة في التغيير تحت سقفٍ واحدٍ مصافحين مفاوضين مقهقهين آكلين معهم وشاربين، وفوق ذلك ناعتين لِلَجنة البشير/البرهان الأمنية بأنَّها مشاركة في صناعة الثورة.

    ولابدَّ لى هنا أنْ أُحيي سيد المناضلين، بلا منازع، المناضل "الفذ الثابت" العفيف الشريف المرحوم الأستاذ على محمود حسنين؛ فقد كان، رحمه اللهُ بالرحمة الواسعة، وحده أُمَّةً مُعارضة؛ لم يساوم ولم يُهادن ولم يُفاوض عدوَّه.

    أما وقد انحرفت الثورة عن مسارها بعد السابع من أبريل 2019 بفعل تآمر البورجوازية الصغيرة والتآمر الراسمال/عسكري - رغم مناداتنا لتصحيحها في مقالات عديدة – وخاصةً بعد فض الاعتصام الأول (الثامن من رمضان 2019) والثاني (الثالث من يونيه 2019)، فستبقى المليونيات هى الرَّادع لكلِّ من تحدثه نفسه بالمزيد من الانحرافات بعيداً عن أهداف أهل المصلحة، بل هي اعتصام متحرك في وجه تآمرات البورجوازية الصغيرة وحلفائها من الشرائح الرأسمالية والعسكوطفيليات لجعل التعاطي من قضايا أهل المصلحة أقلَّ شذوذاً يا حبيبنا الطيب صالح، بل يجب أن ينقلب الهرم الطبقي رأساً على عقب ليدير أصحاب المصلحة مصلحتهم بأنفسهم كما تعمل لجان المقاومة الآن.

    هذا الواقع رتَّب على أصحاب المصلحة الحقيقية في هذه الفترة الانتقالية الثالثة أقدار عجيبة في ظل ثُنائيات النموذج المدني – العسكري الخمسُمُشكل، واليساري واليميني، والمتوجه للخارج برؤى الاقتصاديين الأمميين والمشدود للداخل برؤى اللجنة الاقتصادية للحرية والتغيير، وبين دعاة الدولة المدنية وحراس المعبد القديم - درابنة المنافذ (كما ينعتهم دكتور قصي همرور، أو بحسب معنى المفردة في اللغة الفارسية).

    أفدح الأقدار التي يمر بها أصحاب المصلحة الحقيقيون في التغيير هو نسيانهم كليةً في كل المعادلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الجارية في الفترة الانتقالية، وفوق ذلك نعت البعض لهم (جهراً أو سرَّاً أو بلسان الحال) والتعامل معهم كمغفَّلين نافعين لجهة إحداث التغيير؛ ظنَّاً منهم أنَّهم بلوائِحهم وتنظيماتهِم ومكرِهم وأسلحتهم يستطيعون أن يجلبوا التغيير. وبالتالي كل الكيانات الموجودة في الساحة السياسية الآن – أحزاب ومسلحين – يتعاملون مع أصحاب المصلحة الحقيقيين في التغيير بهذه الطريقة وبهذا النعت الجارح واللا- إنساني.

    والذي يؤكِّد على صحة هذا الزعم هو عدم الالتفات كليةً لقضايا أسر الشهداء والمفقودين والجرحى المكلومين وتركهم غُفلاً لِلَجنة أديب مثقوبة الضمير، وعدم الالتفات للاحتياجات الملحة لأهل المصلحة الآخرين من الأمن والقوت الضروري والسكن الكريم وإرجاع النازحين وإرجاع أراضيهم وحواكيرهم إليهم. وفي المقابل يتبارى الانتهازيون وسارقو الثورات ومتعهدو النضال من مكوِّن عسكري بفلوله وأحزاب وحركات مسلحة وقحت الناعمة؛ يتبارون جميعاً في تسلُّق دماء الشهداء (كما يقول الشاعر عاطف خيري) ليعتلوا المناصب في الوزارات وليصبحوا ولاة ولايات؛ ويتعاملون مع من بذلوا أرواحهم للتغيير بلسان الحال والمقال المذكور بعاليه؛ ويا للعار.

    ولهؤلاء نقول:

    1/ إنَّ صاحب المصلحة في التغيير - الشهيد/المفقود/المجروح/الصحيح - الذي ينعته لسان حالكم أيها المتحاصصون بالمغفل النافع، هو شخصٌ حُرُّ العقلِ وحُرُّ التفكير، وأجدرُ النَّاسِ بمكاسب إحداث التغيير من مُتحزِّبٍ عَجِزَتْ أو أذهَلَتْ وظائفُ أعضائِهِ عن الفعل الحر وتحقيق حُلم التغيير، بسبب تقيُّدِهِ بلائحة حزبية أو غريزة خوف أو ما شاكلها.

    2/ إنَّ الشهيد/المفقود/المجروح/الصحيح الذي ينعته لسان حالكم بالمغفل النافع، هو وقودُ التغيير الحقيقي وشهيدُهُ الأول (وإنتَ بتاع مِلِح كما يقول عاطف خيري)، وله براءتان: براءةٌ من النِّفاق السياسى، وبراءةٌ من سرقة التغيير المتجلي في المحاصصات الرخيصة التي تجري أمام أعيننا الآن.

    3/ إنَّ الشهيد/المفقود/المجروح/الصحيح صاحب المصلحة الأوَّل في التغيير من ينعته لسان حالكم بالمغفل النافع، هو شخصٌ أكثرُنا إقداماً وشجاعةً على الإطلاق، وأنفَسَنا جُهداً في إفعال التغيير بلا مقارنة. بل هُوَ المسئول الأول من تحويل التغيير من فعل غيبى إلى فعل مادي محسوس (هم مشو قايلنَّك معاهم وإنتَ تسأل مين معاهم - عاطف خيري).

    4/ كلما ارتفع عدد أصحاب المصلحة في التغيير الذين تنعتونهم بالمغفلين النافعين، تزدادُ فرصُ التغيير، والعكس صحيح. فمثلاً؛ فى السابق كان عدد الأحزاب أقل من 7، فقامت ثورتان. وفي عهد الإنقاذ وصل عدد الأحزاب أكثر من 75 حزباً إذا أضفنا لها الحركات المسلحة، ولم تقم ثورة واحدة مُفضية إلى التغيير منذ ثلاثة عقود لأنَّها – أي هذه الأحزاب المتشرذمة - لا تلامس قضايا أهل المصلحة الحقيقيين في التغيير. وهذا ما تؤكده بروفسير إريكا جينويث في قاعدتها القائلة إذا اجتمع 3.5 -5% من عدد السكان في حركة سلمية في أي مكان (لا يُشتَرط فيهم إنتماءاً حزبياً على الإطلاق كما يدَّعي متعهدو النضال السياسي) تتضاعف إمكانية التغيير عنها في الحركات العنيفة والملسحة {ومن عندي أضيف المتحزِّبة أيضاً} (Erica Genoweth Carr Centre Discussion Paper 2020).

    5/ علينا تبجيل من ينعتهم لسان حالكم - أيها المُتحزِّبون المتحاصصون على المناصب - بمُغفلي التغيير النافع، بإزالة هذه الجملة ومعها لفظة "الكتلة الحرجة – التي استخدمتُها في مقالاتي الباكرة بحدس سلبي وأعتذر عن ذلك" من قاموسنا السياسي بالكلية واستبدالها بأهل المصلحة في التغيير، وعلينا أن نُجلَّهم ونُبَجَّلُهُم بدلاً من أن نسئ إليهم ونجرح أُسرهم؛ فجُلُّ الشهداء منهم.

    ويا للعار أن يعتصم جرحى ثورة ديسمبر المجيدة أمام مجلس الوزراء لنيل حقوقهم في العلاج ولا يلتفت إليهم أحد، بل البعض "يتغابى فيهم العرفة". وشكراً لبعض الصحف السيارة التي انتاشت مجلس الوزراء، حتى خرج علينا رئيس مجلس الوزراء قائلاً: "أنَّه لم يكن يعلم بأنَّ جرحى ثورة ديسمبر معتصمون بالخارج"؛ كأنَّه يدخل مجلسه بمظلة ويخرج منه بمنطاد.

    ثُمَّ ثانيا، كيف نثق فى وعيك الديمقراطى وثقافتك المدنية، وأنتَ تنعَتُ كلَّ من هو خارج منظومتك الحزبية وغيرها من المنظومات بهذا المصطلح اللا - إنسانى الجارح، الذى يحمل من معانى استغلال الإنسان لأخيه الإنسان ما يفوق استغلال الرأسمالى النيوليبرالي للعامل.

    أما كان الأجدر بك أن تنجز مهامَّك الحزبية والمنظوماتية على نحوٍ ديمقراطىٍّ جاذبٍ للآخر لينتمي إلى منظومتك، بدلاً من أن تُعلِّق عليه كلَّ أسباب فشلِك وتقصيرِك فى تحقيقِ أحلامِك السياسية، وحين يجلب لك التغيير تنعته بالمغفل النافع؛ نعتاً باطنه وظاهره النيِّة المُبيَّتة لسرقة ثورته والتغيير الذي بذل فيه روحه.

    على أيِّ حال، الذي لا لُبس فيه، أنَّ أكبر عدد لأصحاب المصلحة الحقيقيين في التغيير (بالمقارنة بكل ثورات السودان السابقة) قد كان موجوداً في مجتمع الاعتصام أمام القيادة العامة. هذا المجتمع قد حوى النَّاسَ من جميع بقاع السودان المختلفة، وقد كان عددهم يفوق عضوية أيِّ حزب تنطع أو يتنطَّع بالأغلبية والنضال من أجل التغيير في السودان (ولن أُحدثكم عن المظاهرات الطوفانية السلمية في 21 أُكتوبر 2021 وما تلاه).

    ولعمري ذلك الجمع من أهل المصلحة قد كان متقدماً جداً على كل الأحزاب السياسية والنقابات والهيئات التي أقعدت بها لوئحُها وجِدالُها الداخلي عن الدخول الباكر في ركب التغيير، والكلُّ قد لَحِقَ به فيما بعد. ودليلنا على ذلك أنَّ عدد الذين تم اغتيالهم وإصابتهم من بين الذين ينتمون لهذه الأحزاب والهيئات والنقابات ومنظومات المجتمع المدني الأُخرى أقل من أصابع اليد الواحدة في كل منظومة من هذا المنظومات على حدتها. أما عدد الموتى بين سائر أصحاب المصلحة (من تنعتهم بالمغفلين النافعين يا رعاك الله) كان هو الأكبر بلا منازع، إذا كنا معنيين بالمجموعة البشرية التي أفضى فعلها الثوري إلى التغيير (2700 قتيل بحسب الإحصاءات الأمريكية في ساحة الاعتصام وحدها، وأكثر من 300 شهيد منذ 21 أُكتوبر حتى الآن في مدن وقرى السودان المختلفة).

    وأقول ما أقول، وأنا أٌقِر بأنَّ كل هذه الأحزاب والهيئات كانت تعمل بشكل دؤوب منذ انقلاب الإنقاذ عام 1989 لإسقاط النظام، ولا نحن مِمَّن يغمطهم دورهم في التغيير؛ غير أنَّ الفعل المفضي للتغيير ولحظة الثورة وانفجارها وتوهجها قد باغت جميع هذه المنظومات الاجتماعية مما يعني أنَّ التواصل مع الجماهير كان ضعيفاً؛ فمن كان ينتظر الثورة في العاصمة باغتته من الريف، ومن كان يتحرَّاها في عطبرة، فاجأته من سنار والدمازين؛ وعلى ذلك قس.

    6- لم يكن الشعب السوداني في الحقيقة (خاصةً أكثر أصحاب المصلحة سموَّاً كأسر الشهداء والمفقودين والجرحى) مكترثاً لمن يقود الثورة والسودان بعد أن أسقط نظام البشير وتقيأ الإخوانوية والعسكرية معاً وإلى الأبد. فكلُّ ما خلا أنصار النظام السابق (الجوع ولا الكيزان) كان من الثقاة في نظر الشعب وثواره - في نظر أصحاب المصلحة؛ ويا لخصوصية الفارِق والبعض ينعتهم بالمغفلين النافعين.

    غير أنَّ كواليس إدارة بوليتيك الفترة الانتقالية المُعقَّدة قد أفرزت العديد من الواجهات السياسية التي بدأت تسيطر على الموقف وتجيِّرُهُ لمصالحها الشخصية والحزبية والتنظيمية والحركاتوية الضيقة: كالليبراليين الجدد المدعومين من أذرع مخابرات الدول الغربية والعربية وسفرائهم، وتكنوقراط اليسار المُبعد من مزاولة شئون الدولة لفترات طويلة، وورَّاث شرائح رأس المال التقليدية الخراجية التي كانت مهيمنة تحت حراسة الاستعمار القديم والجديد والمدعومة حالياً من دول الخليج ونخب العسكر، والفلول – حراس المعبد القديم وكاموفلاجاتهم التي تلبس لباس الثورة الوسيمة (دهب، برطم، الجاكومي، تِرِك، هجو، إلخ) الذين يريدون استعادة السلطة المنتزعة منهم، ولجنة البرهان الأمنية العسكوطفيلية والعناصر التي اشترى ولاءها العسكر والخليجيون الذين يريدون بقاء العسكر في السلطة، وقوى الحرية والتغيير المدعومين بالثوار ولجان المقاومة وأحد شقيْ تجمع المهنيين السودانيين، وأُسر الشهداء وأهل المصلحة الحقيقيين اللامنتمين والذين لا يلتفت إليهم أحد.

    7- من الملاحظ أنَّ حمدوك طفِقَ طوال الوقت يختار عناصر حكومته من هذا الاحتياطي البشري مركِّزاً على أهل اليسار وأهل غرب السودان في بداية أمره، ثم بدأ يستخلفهم من واقع تجربتهم العملية معه في تسيير المرحلة الانتقالية بأهل اليمين وغالبيتهم من غرب السودان المتمثلين في عناصر قحت الناعمة وما شاكلها من الكاموفلاجات التي تلبس لبوس الثورة.

    ولكن علينا أن نُنوِّه هنا إلى أنَّ المقارنة التي يحاول أن يجريها دولة الرئيس د. عبد الله حمدوك من واقع المحك العملي والتجربة لتوظيف أهل اليسار ثم توظيف أهل اليمين المتمثل في أفراد قحت الناعمة لا يستقيم لمقارنة شفافة ومنتجة. وذلك بحسبان أنَّ أفراد كثر من موظفي حمدوك التابعين لقحت الناعمة قد كانوا يعملون إلى قيام الثورة داخل أجهزة النظام السابق، والبعض يشاركه المال والأعمال والمشاريع الاستثمارية. فإذا ما قارناهم بموظفين أُتِيَ بهم من خارج تجربة الإنقاذ وكانوا لفترات طويلة خارج الوظيفة بسبب ظلم الإنقاذ نفسها لهم، وأسسنا معايرة أدائهم على هذا النحو، ففي ذلك ظلمٌ آخر لهم (راجع: مقالنا: جمهورية السودان حكومة المنفى السودانية الأهداف والمبررات 08/01/2015).

    عليه يجب أن تُعطي الحكومة المدنية في الفترة الانتقالية قدراً من الوقت لرفع القدرات لبعض العناصر التي كانت بعيدةً عن العمل العام ولفترات طويلة إذا كانت الدولة ستحتاج إليهم في مقبل الأيام. وأعتقد بما لا يدع مجالاً للشك أنَّ أكاديمية السودان للعلوم الإدارية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP – Sudan) يمكن أن يوفر هذه الخدمة لحكومة الفترة الانتقالية.

    وبالتالي ما أن يتأهل الغريمان يستطيع السيد رئيس الوزراء (أيُّ رئيس وزراء) أن يحدثنا بمن يريد أن يعبر وينتصر: بقحت الناعمة المتماهية في اليمين والفلول والعسكر، أم باليسار السوداني بكل أطيافه وأصحاب المصلحة القربين منه، أم بالإثنين معاً في إطار مشروعه الوطني الذي لطالما بشَّرنا به. ونرجو أن يكون المشروع الوطني بعيداً عن هوى الإخوانوية والمناطقية والجهوية، وأهم من ذلك أن يكون قائماً على العلم والمعلومات والمؤسسية.

    8- وهنا كأن التاريخ يُعيد نفسه؛ إذ لم يبتعد كثيراً فعلُ التوازنات في هذا المشهد الراهن عن مشهد التوازنات التي عملها المستعمر إبان الفترة الكلونيالية والتي سادت فيما بعد الاستقلال، حيث كان المستعمر القديم والحديث منحازاً لشرائح رأس المال على حساب كل المجموعات الأخرى التي لا تملك إلاَّ قوتها الجمعية لنيل حقوقها وللتأثير في الأحداث تحت قيادة اليسار.

    وقد كان اليسار السوداني الجذري (واليسار في المنطقة التي حولنا) مراقباً مراقبة لصيقة من قِبَل الاستعمار القديم والحديث خاصةً منذ ثورة 1924. وقد كان ممنوعاً من الوصول للسلطة حتى بالوسائل الديمقراطية والبقاء فيها؛ وذلك إلى حين اكتمال تمدد النظام الرأسمالي على كل الكوكب؛ وقد تجسد ذلك في طرد نوَّاب الحزب الشيوعي السوداني من البرلمان في ستينات القرن الفائت حتى بعد أن حمكت المحكمة بلا دستورية ولا قانونية طردهم منه (حسين: 2018، ص ص 31 – 49).

    والآن، لا يُمانع الليبرليون الجدد على مستوى النظام العالمي من وصول اليسار للسلطة ولو من باب التدجين والترويض (حمدوك وشلة المزرعة مثالاً)، لا سيما أنَّهم يتمتعون نسبياً بقدر من الأخلاق العالية وانعدام الفساد بينهم، ويريدون مصلحة بلدهم التي هي من مصلحة استقرار النظام العالمي نفسه (تزداد الأرباح والتنمية المستدامة في المدى البعيد كلما أهتمَّ النظام الرأسمالي بالجوانب الاجتماعية – كريستين لاغارد، ندوة ويلبيلدون 2014).

    وبالتالي على اليسار السوداني بكل أطيافه اقتنام هذه الفرصة التي سمح بها التشكل الاقتصادي الرأسمالي في الوقت الراهن، ويحزو حزو اليسار في الصين وكوبا وشيلي كما سيجئُ تفصيلُهُ لاحقاً.

    مطالب أصحاب المصلحة القديمة المتجددة

    1- لا شئ يعلو فوق تحقيق العدالة لأسرة الشهداء (لن نذكر المفقودين من الآن فصاعداً فهم ضمن الشهداء) والعلاج للجرحى وأصحاب الإعاقات البدنية والنفسية والعقلية بسبب ما تجرعوه من تعذيب ومن هول الفاجعة. ولن يتم ذلك إلاَّ بتحقيق دولي في هذه القضية؛ فلجنة أديب غارقة في التسيُّب والتطويل المتعمَّد المتماهي مع رغبات لجنة البشير/البرهان الأمنية وفلولها في التهرُّب من المثول للعدالة.

    2- على دولة رئيس وزراء السودان د. عبد الله حمدوك (أو من يخلفه) ألاَّ يترك مهامه التي تقع مباشرة تحت سلطاته الحصرية (كملف السلام، وتبعية وزراة الداخلية وجهاز الأمن، ووزارة الدفاع بقائدها العام للقوات المسلحة، لكون رئيس مجلس الوزراء هو القائد الأعلى للقوات المسلحة كما في كل دساتير العالم المؤقتة والدائمة)، وبالتالي عليه أن يُقيل كل أعضاء المجلس العسكري والفلول العسكريين من القوات المسلحة لكونهم معوِّقين للانتقال السلس للدولة المدنية الديمقراطية، ومعوقين للعدالة الانتقالية، ومعيقين للدورة الاقتصادية الطبيعية لدولة السودان باحتكارهم أكثر من 82% من إيرادات البلد.

    وإذا كان لابد من مكون عسكري بحسب نصوص الوثيقة الدستورية من الآن حتى 17 نوفمبر 2021 وما بعده، فليكن المكوِّن العسكري من شرفاء القوات المسلحة المنحازين للتحول المدني الديمقراطي، والذين يسدون قرص الشمس داخل هذه المؤسسة العريقة. وليعلم حمدوك أنَّنا لن نسمح بعد الآن لوزرائنا المدنيين ولا لأُولئك المدنيين الموجودين في مجلس السيادة، بالجلوس مع قتلة أبنائنا على سدة حكم واحدة؛ وبالتالي حمايتهم وتحصينهم من المثول للعدالة بما اقترفت أيديهم في ساحة الاعتصام ومناطق السودان المختلفة، ويجب أن يُقدموا فوراً للعدالة.

    3- تشكيل المجلس التشريعي من سائر أهل المصلحة (وخلوِّه من التنفيذيين والسياديين والعسكريين لأنّهَ منوطٌ به مراقبتهم)، والمحكمة الدستورية، والمفوضيات المختصة، وتنظيف القضاء والنيابة العامة من فلول النظام المتساقط، وتنظيف الشرطة فور أيلولة الدولة للمدنيين في 17 نوفمبر 2021 (أو بعد انتزاع السلطة من الانقلابيين العسكريين).

    وعلى المجلس التشريعي والمحكمة الدستورية إعلان بطلان سلام جوبا ومجلس الشركاء المترتب على ذلك البطلان، لأنَّ كل شئ فيه تمَّ بواسطة جهات غير مختصة دستورياً وغير مفوضة رسمياً بذلك من رئيس مجلس الوزراء صاحب الاختصاص الحصري بالأمر. وعلى رئيس مجلس الوزراء بالتشاور مع المجلس التشريعي والمحكمة الدستورية وعبر مفوضياته، الوصول في وقتٍ وجيز لاتفاقية سلام من داخل البرلمان تُراعي مطالب أهل المصلحة الحقيقيين الذين أفضى فعلهم الثوري إلى تغيير النظام؛ وليس فقط مصالح لوردات الحرب السايكوباتيين الذين عجزوا عن أن ينجزوا التغيير عبر الحرب لمدة 20 سنة (مناوي، جبريل، حميدتي وغيرهم)، وليس عبر كاموفلاجات النظام البائد الذين يلبسون لبوس الثورة ويخادنون لجنة البشير/البرهان الأمنية (دهب، برطم، الجاكومي، ترك، هجو، وآخرين).

    4- إعادة كل مؤسسات وشركات الاقتصاد المدني التي تحت إمرة القوات النظامية لولاية وزارة المالية، وخضوع كل الشركات ذات الطابع العسكري للنظام المالي والمحاسبي لوزارة المالية وتوريد أرباحها للخزانة العامة، ليستفيد منها كل أصحاب المصلحة في التغيير من أفراد الشعب السوداني، وبالتالي تتفرغ القوات الأمنية للماهم الحصرية المهنية لكلٍ منها. كما يجب إعادة كل الشركات الحكومية المخصخصة تمكيناً لدائرة القطاع العام.

    5- تنظيف الخدمة المدنية وشركات الدولة والجيش والشرطة وجهاز الأمن من عناصر النظام المتساقط خاصة من يُسمون بدرابنة المنافذ، الذين يُعيقون بشكل مباشر وغير مباشر عملية الانتقال المدني الديمقراطي، وإعادة المفصولين. وحل كل المليشيات العسكرية خاصة مليشيا الدعم السريع التشادية (وما شابهها) وعدم تخصيص ميزانية منفصلة لها ابتداءاً من العام 2022.

    6- لم يكن خروج أهل المصلحة في 21 أُكتوبر 2021 ليقولوا للسفاح البرهان ورهطه أنَّنا أكثرُ جمعاً وأعزُّ نفراً من فلولك العسكريين في الزي المدني والرسمي والمؤلفة قلوبهم بالخراف والجزور والثيران والموز والطحنية، بل خرجوا لإقالة البرهان ورهطه (عسكر ورؤساء حركات ومدنيين) بسبب خيانتهم للتحول المدني الديمقراطي وعهوده ومواثيقه (الوثيقة الدستورية على علاَّتها وتزويرها). وبالتالي كل أهدافنا أعلاه لاحقة لإقالة البرهان ورهطه، وإذا كان لابد من التمسك بالوثيقة الدستورية حتى 17 نوفمبر القادم وما بعده، فلابدَّ أن يجئ المكون العسكري من عسكريين داعمين للتحول المدني الديمقراطي وهم كثر في المؤسسة العسكرية السودانية.

    7- لعناية دولة رئيس وزراء السودان الحالي أو القادم: أيِّ تشكيل لخلية أزمة بها عسكريون من لجنة البشير الأمنية الحالية (المكون العسكري) مرفوضة جملةً وتفصيلاً؛ فنحن أهل المصلحة قد قررنا ألاَّ نجلس مع قتلة أبنائنا تحت سقف واحد إيذاناً بتقديمهم للمحاكمة. وإذا كان لابد من مكوِّن عسكري كما نصَّت الوثيقة الدستورية المثقوبة وكما جاء بعاليه، فليكن من شرفاء القوات المسلحة المناصرة للتغيير.

    يُتبع ...
                  

12-22-2021, 04:49 AM

حسين أحمد حسين
<aحسين أحمد حسين
تاريخ التسجيل: 09-04-2014
مجموع المشاركات: 1281

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
تكييف المآلات الاقتصادية/الاجتماعية والسياسية لثورة ديسمبر المجيدة وآليات الحلول (7-10) (Re: حسين أحمد حسين)

    تكييف المآلات الاقتصادية/الاجتماعية والسياسية لثورة ديسمبر المجيدة وآليات الحلول (7-10)

    4- التكييف الاقتصادي/الاجتماعي والسياسي للثورة السودانية

    ما يجب التنويه به أنَّ هناك مراقبة لصيقة لحال ومآل الثورة السودانية من قِبَل كل الفاعلين الدوليين والإقليميين ومخابراتهم على مدار الساعة، وذلك بغرض ترويضها وإدارة شئونها وِفق نظام التطور الرأسمالي النيوليبرالي. ويبدو أنَّه لا منجى من النظام الرأسمالي النيوليبرالي إلاّ إليه وهو في أوجِ هيمنته الآن، وتحت سقفَ القطبية الآحادية الرأسمالية التي تقود العالم في الواقع الراهن، خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي - راعيا غرماء النظام الرأسمالي الامبريالي قبل ثلاثة عقودٍ ونيف، ومع التحول المهول لروسيا من الاشتراكية إلى الرأسمالية المفرطة والنهمة والدموية أحياناً (في المثال السوري).

    وفي ظل هكذا واقع، نرجو ألاَّ ينخدع اليسار السوداني بوجود مرافيده وبعض أعضائه الأمميين والقطريين على سدة الحكم في الفترة الانتقالية الراهنة، بأنَّ النيوليبرالزم قد بدأت تُغيِّر من مواقفها تجاهه بالكامل؛ ليس بعد، ليس قبل أن يقبل بالتدجين وينخرط في نموذج النيوليبرالزم بشكل سلس. فالأمر مقصودٌ به الآن إخماد الثورة السودانية وامتصاص الغضب الكامن فيها، أو قل السيطرة عليها وعدم تصديرها إلى بقية العالم الذي استوى على الحقيقة النيوليبرالية منذ العام 1989.

    وشدَّ ما يُقلِق النيوليبرالزم الآن، هو استلهام الثورة السودانية في كل العالم: في الجزائر، وفي لبنان، وفي تشيلي، وفي فرنسا، وحتى في عقر دار النيوليبرالزم بأمريكا حيث اتخذت "حركة الانتباه لأهمية حياة السود (Black Lives Matter) من ثورة السودان نموذجاً يُحتذى به؛ وقد اشتغلنا معهم عبر تويتر لتوجيه الحركة نحو الفعل السلمي ونبذ العنف للانتصار لقضيتهم، استناداً كتابات بروفسير إريكا جينويث حول الحركات العنيفة والسليمة التي غطت الفترة من 1900 إلى 2006 العام (https://www.hks.harvard.edu/wiener-conference-calls/erica-chenoweth.

    ويجب الانتباه إلى أنَّنا الآن في خِضمِّ المرحلة الثانية من تغيير المشهد من الوجوه اليسارية، إلى وجوه الرأسمالية التقليدية الخراجية/ الريعية وقحت الناعمة، والتي في اعتقادي سيعقبها في المرحلة الثالثة الانتقال للوجوه النيوليبرالية (أحفاد مختطفي الاستقلال، أبناء سارقي ثورة أُكتوبر، والجيل الثالث من سارقي ثورة أبريل، وربما بعض كاموفلاجات الفلول التي تدرس وتعمل حالياً في الغرب) أو للوجوه اليسارية والأممية إن أبديا مهنية عالية بعد نيل العديد من برامج تنمية القدرات، وإن ابتعدا عن الأيديولوجيا كما يكرر حمدوك من وقتٍ لآخر.

    4-1 حيثية

    ما يجب ذكره هنا، أنَّ المشهد السوداني لم يخرج في إطاره العام منذ العهد التركي المصري عن مسار طريق التطور الرأسمالي: الميركانتالي في ذلك الزمان، والنيوليبرالي في الوقت الراهن. وهنا ينشأ سؤالان مرتبطان بفحوى التغيير، الأول: إذا كانت الثورة المهدية بحسب بعض التقديرات هي عبارة عن "فَوَاق صيرورة - Hiccup" أو قُلْ "حالة انتحارية" في ظل سيادة وهيمنة المد الميركانتالي الجارف والعنيف آنئذٍ، فكيف نُكيِّف ثورة ديسمبر 2018 المجيدة في ظل الظروف الراهنة التي انهار فيها النظام الاشتراكي، والتي أصبح فيها الاتحاد السوفياتي/روسيا حالياً رأسمالياً شرِهاً ودموياً أحياناً، تماماً كالنظام الرأسمالي النيوليبرالي الذي يتخذ الحرب عنصراً سرمدياً لإعادة صياغة الشعوب وفق النموذج الرأسمالي؛ هل هي ثورة رأسمالية ليبرالية لتصحيح مسار رأسمالي ليبرالي، أم هي ثورة يسارية/اشتراكية تسبح ضد سيادة وهيمنة النظام النيوليبرالي الجارف الدموي العنيف؛ وبالتالي نتوقع هلاكها أو تفكيكها كما هو جارٍ أمام أعيننا الآن؟ والثاني: أي نوع من أنواع الدولة يصلح لتكييفاتنا المنظورة لثورة ديسمبر المجيدة: الدولة الدينية، العلمانية، أم المدنية؟

    وللإجابة على السؤالين أعلاه، فلابد لنا من استعراض تجارب اليسار العالمي في الوقت المعاصر، لنستقي منها الدروس، ونبحث عن إمكانية أن يلعب اليسار السوداني دوراً مهماً داخل المنظومة الآحادية للنظام الرأسمالي العالمي النيوليبرالي الذي نعيش فيه الآن.

    4-2 اليسار العالمي والسوداني: إمكانيات التعافي والاضطلاع بمهام المرحلة

    نرجو أن تكون بداية التعامل الكريم الجاري أمام أعيننا الآن مع الحكومة السودانية من قبل الرأسمالية العالمية النيوليبرالية ومؤسسات تمويلها الدولية، بالرغم من وجود عناصر يسارية في سدة الحكم، هي البداية الحقيقية ونقطة التحول المركزية للسماح لليسار السوداني الوصول للسلطة (لطالما كان ممنوعاً من الوصول إليها منذ الاستقلال كما جاء آنفاً)، ولانتباذ العقيدة الرأسمالية (الأمريكية) المتبنية للكينزية العسكرية القائمة على متلازمة الحرب في طريق تطورها الرأسمالي (تناقص الأرباح/الكساد – الحرب – التسوية الاقتصادية الجبرية – تناقص الأرباح/الكساد من جديد – فالحرب من ثان – ثم التسوية الاقتصادية الجبرية ثانيةً – وهكذا دواليك) أسوة بمنافسيها.

    وفي الحقيقة لن يضير الرأسمالية العالمية النيوليبرالية (الدولة الأمريكية والغرب الأوروبي) لو أنَّها جنحت لتنمية الشعوب المتخلفة بصيغة خالية من الحروب، بصيغة تعمل تحت شعار "نحو نظام إنساني عالمي جديد". فالعالم يحتاج إلى "دالة إنفاق إنسانية ودالة منفعة لانهائية"، وأعتقد أنَّ اليسار العالمي (والسوداني بخاصة) مؤهل لفعل ذلك داخل المنظومة الرأسمالية نفسها لأنَّه يتمتع بقدرعالي من الأخلاق (ينفق ولا يسرق، يُعمِّر ولا يُدمِّر، يستثمر ولا يُبَذِّر، وفوق ذلك صديق للبيئة).

    فمثلاً؛ الصين التي التزمت جانب الكينزية المدنية منذ العام 1979، ولم تستثمر فلساً واحداً منذ ذلك التاريخ على أيِّ نوع من أنواع الحروب أو الإنفاق العسكري، استطاعت أن تزيح الفقر اليوم عن 800 مليون صيني {يقترب الرقم من ثلاثة أضعاف سكان الولايات المتحدة الأمريكية ويزيد على ثُمن سكان العالم} كما قال رئيسها في شهر فبراير 2021 (راجع: الاقتصادية، 24/02/2021).

    ويبلغ احتياطي الصين من العملات الصعبة 3.166 تريليون دولار، واحتياطيها من الذهب بلغ في يونيو 2020 1948 طن، وتستثمر الصين في السندات الأمريكية بما يزيد على 1.1 تريليون دولار بحسب العين الاخبارية (العين الإخبارية، اكتوبر: 2020).

    أما أمريكا صاحبة الـ 45% من الانفاق العسكري في كل العالم لنفس الفترة، فقد أنفقت 3000 مليار دولار على الحروب، وتمتلك 725 قاعدة عسكرية حول العالم. وفي 16/10/2020 وصل عجز الموازنة العامة في أمريكا 3.132 تريليون دولار بحسب آر تي العربية على الإنترنت، ويتخلف النظام الصحي الأمريكي عنه في دولة كوبا المحاصرة بالجوار، فقط لأنَّه ليس من أولويات النخب الأمريكية (Stiglitz 2008)، (راجع صفحة برونو غيق على الفيس بوك، أو ترجمة بروف عبد الله على إبراهيم لذات المقال: سقوط النسر بات وشيكاً، 24/04/2019)، (آر تي العربية على الإنترنت، أُكتوبر 2020).

    وروسيا الآن تتقدم بخطى حثيثة نحو معدلات نمو إيجابية رغم اقتصاد الكورونا الذي أقعدها وأقعد الكثير من الدول في عام 2020. ويقول الخبير المصرفي الكبير ميخائيل زادورنوف أنَّ الناتج المحلي الروسي سيرتفع إلى 3% - 3.5% في 2021، وهو ما يوافقه فيه البنك الدولى، وسيظل سعر الفائدة 4.25% دون أي زيادة في 2021. وقد حقق النظام المصرفي الروسي في 2020 أرباحاً بلغت 1.6 تريليون روبل خلافاً للقطاعات الأخرى التي لا تستطيع أن تعمل من منازلها، وسيظل معدل سعر صرف الروبل مقابل العملات الأجنبية في حالة ارتفاع ما لم تتجدد العقوبات على روسيا (آر تي 26/02/2021).

    وكوبا التي عانت حصاراً امريكياً لمدة 60 عاماً، وحصاراً خاصاً في الفترة الرئاسية لترمب، وتراجعاً كبيراً في نمو الاقتصاد (الذي وصل 11% في 2020) بسبب جائحة كورونا، مازالت تمتلك نظاماً صحياً يتفوق على النظام الصحي الأمريكي. وها هِيَ بعد أن حققت قدراً مهماً من العدالة الاجتماعية بين سكانها، وملَّكت عدداً قليلاً من القطاعات الحيوية لقطاع الدولة، ها هِيَ تفتح اقتصادها للقطاع الخاص كما قالت وزيرة العمل مارتينا إلينا فيتو؛ الأمر الذي جعل قائمة النشاطات الخاصة المصرح بها تزداد من 127 إلى 2000.
    (https://www.bbc.com/arabic/world-55972191)

    وتشيلي التي ظلت تتقلب حكوماتُها بين الاشتراكيين والرأسماليين في الـ 15 سنة المنصرمة/الجارية (متشيل باتشلت – سباستيان بييرا – جابرييل بوريك)، فالذي ظل ثابتاً رغم ذلك التقلُّب هو معدلات نموَّها الموجبة خلافاً لتداعيات اقتصاد الكورونا (6% في 2020، و4.2% لسنة 2021). ومن المتوقع أن تعود حيوية كل أنشطتها الاقتصادية إلى واقع ما قبل الكورونا في 2022؛ وذلك بفضل السياسات الحكيمة من الاشتراكيين والرأسماليين معاً الذين يتبارون في تكريس أنفسهم كخدَّام مدنيين لشعبهم، دون أن يَفِتُّوا عضدهم بالحروب والنزاعات التي ليس من ورائها طائل (http://www.oecd.org/economy/chile-economic-snapshot/http://www.oecd.org/economy/chile-economic-snapshot/.

    ودونكم في هذا الخصوص ما غرد به بالأمس 20/12/2021 الخاسر خوسيه أنطونيو كاست منافس الفائز جابرييل بوريك في الانتخابات التشيلية: "تحدثت للتو مع جابرييل بوريك وهنأته على نجاحه الكبير... {و} من اليوم هو الرئيس المنتخب لتشيلي ويستحق منا كل الاحترام والتعاون البناء؛ تشيلي أولاً على الدوام". وفي المقابل قال جابرييل بوريك في اتصال هاتفي مع الرئيس المنتمي لتيار يمين الوسط سيباستيان بنييرا والمنتهية ولايتُهُ في مارس المقبل: "سأكون رئيساً لكل التشيليين" (المصدر: آر تي 20/12/2021).

    ورحم الله الزعيم العمالي النبيل توني بن إذ يقول في بعض أقواله المأثورة: "إذا كان بمقدورنا أن نوجد المال لقتل النَّاس، فإنَّه سيكون بمقدورنا أن نوجد المالَ لمساعدتهم"، "إذا كان بإمكانك أن تكون في حالة عمالة كاملة بالإنفاق على قتل الألمان، فلماذا لا يكون بإمكانك أن تكون في حالة عمالة كاملة ببناء المدارس الجيدة والمستشفيات الجيدة والمساكن الجيدة" (https://www.azquotes.com/author/1213-Tony_Bennhttps://www.azquotes.com/author/1213-Tony_Benn.

    وأنا أجرؤ وأقول: "إذا كان بإمكان ألصين التفوق على أمريكا بالكينزية المدنية، فلماذا لا تنتبذ أمريكا الكينزية العسكرية وتتبنَّى الكينزية المدنية وتتفوق بها على الصين، وهِيَ بعد مؤهلة أكثر من الصين لذلك"، خاصةً في ظل إدارة بايدن التي شرعت في إنفاق ما يزيد على الـ 2 ترليون دولار على البني التحتية (هل نحن أمام تحول من هذا النوع يا أمريكا، ليته يكون كذلك).

    واسمحوا لي أن أخوض بقليل من التفصيل في التجربة التشيلية لأنَّها شديدة الشبه بالمخاض الذي يمر به الشعب السوداني الآن، حيث أنَّنا إذا لم نوجِّه كل إهتمامنا بالسودان وأهله فإنَّ تشاكس الثنائيات التي تكلمنا عنها بعاليه قد يورد البلد المهالك.

    فأهل تشيلي في حقيقة أمرهم أُناس ذوو أفكار وعقليات بنائية؛ بحيث أن سلفادور الليندي حينما حكم تشيلي لم ينادِ بكنس آثار من سبقوه، ولم يفعل ذلك حتى الديكتاتور بيونشيه ولا من خلفوه، ولكنَّهم بنوا عليه. ولهذا السبب كانت تشيلي من أكثر البلدان استقراراً وتطوراً بنائياً في المجال الاقتصادي من بين الدول التي حولها، حيث جمعت تجربتها بشكل متوازن بين تحرير الاقتصاد والانفتاح على العالم الخارجي الذي أنشأه بيونشيه، وبين سيطرة الدولة على ما يجب أن تسيطر عليه لخلق اقتصاد متوازن ومستقر وكفؤ (https://smileeng.ru/ar/mythology/vremya-v-chili-kratkaya-istoriya-chili-razvitie-chili/https://smileeng.ru/ar/mythology/vremya-v-chili-kratkaya-istoriya-chili-razvitie-chili/.

    وبالتالي حينما قررت تشيلي أن تنتهج طريق التطور الديمقراطي المدني في بداية تسعينات القرن المنصرم، فإنَّها قد انتهجت منهجاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً شديد الفرادة والخصوصية، ويكاد يستعصي على كل المفاهيم التبسيطية التقليدية لتعريف النمازج الاقتصادية المألوفة. وهذه المزاوجة بين رأسمالية الدولة وريادة القطاع الخاص في تشيلي هي المسئولة عن اضطراد معدلات النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي والاجتماعي فيها، بالقدر الذي جعلها تتطلع للخروج من التنميطات التي تطلقها الدول الغربية على الدول الغير متقدمة
    (http://www.siyassa.org.eg/News/1674.aspxhttp://www.siyassa.org.eg/News/1674.aspx.

    فالاقتصاد التشيلي جمع بين الأهداف الاقتصادية قصيرة المدى والأهداف الاقتصادية طويلة المدى، القائمة على البناء المؤسسي القاعدي السهل التطبيق والشفاف واللاريعي، وذلك لتجنب الشعوبية التي تُقيِّد صانعي السياسات. أيضاً، فقد فطنت تشيلي باكرأ إلى حقيقة أنّ السياسات الاجتماعية الداعمة لبعض فئات المجتمع قد تكون جيدة في مرحلة معينة من مراحل البناء التنموي، ولكن يجب تغييرها مع تطور القوى المنتجة والسعات الانتاجيةَ. كذلك قد تلمَّست تشيلي الدور الحاسم للقطاع الخاص وأسواقه المالية والانفتاح على العالم في دينمائية التنمية ونقل التكنولوجيا، فشجعت الاستثمار الخاص المحلي والعالمي وريادة الأعمال خاصة مع انعدام رأس المال المالي والبشري، ووازنت بين حوافز الاستثمار وسياسات توزيع الأرباح بالقدر الذي يجعل العملية التنموية مستدامة. كما وعت تشيلي حقيقة أنَّ اقتصاد السوق الحر (مع أهميته في تخصيص الموارد وزيادة الانتاجية وتعزيز النمو الاقتصادي) من غير تنظيم الدولة له، سيكون غير قادر حتى على صيانة نفسه، وبالتالي لابد من التدخل لتنظيمه كما يقول جورج سوروز (Soros 2002)، (راجع أيضأ:رودريغو فوينتس و كالوديو سابيلي: خيارات السياسات الاقتصادية في المراحل الانتقالية في تشيلي: دروسا لليبيا؟، تقرير مشروع بحثي، سبتمبر 2011).

    من هذا الملمح العالمي يمكن لليسار السوداني الذي ظل ممنوعاً من الوصول للسلطة حتى نهاية الحرب الباردة، أن يصل إليها الآن؛ فقط لا عن طريق القرارات الفوقية التي تمليها النيوليبرالزم ومؤسسات تمويلها الدولية كما هو شاخص أمام أعيننا في السودان الآن بغرض امتصاص الغضب الثوري عند الشباب وتدجين الثورة؛ وكأنَّنا في كل ركنٍ من أركان العالم مجرد موظفين عندها؛ ولكن بصيغ أُخرى نابعة من معادلة/دالة الإنتاج (الإنتاج = العمل + رأس المال + التنظيم/الإدارة + الأرض + (عوامل أخرى)، وأكثر استدامة لتوازن وديمقراطية اقتصادنا ورفاه شعبنا. وذلك بأن يكون لعناصر الإنتاج المذكورة في المعادلة أعلاه تمثيل حقيقي وأصيل على مستوى الأرينة السياسية؛ بحيث يكون هناك حزب/أحزاب للعمال يدافع عن حقوقهم بالأصالة لا بالوكالة، وحزب/أحزاب للرأسماليين يدافع عن حقوقهم، وحزب/أحزاب للبورجوازية الصغيرة يدافع عن حقوقهم، وتبقى بورجوازية الدولة (القضاء، والخدمة المدنية، والشرطة، والجيش، وسائر المؤسسات البيروقراطية) ممثِلة للأرض في كامل الحيادية والاستقلالية.

    وطالما أنَّ هناك حساسية في الداخل والخارج من مفهوم مصطلح اليسار (الذي يوضع على محك الاختبار في هذه الفترة الانتقالية من قِبَل مؤسسات التمويل الدولية)، فمع وجود حزب للعمال ستنقسم أحزاب البورجوازية الصغيرة بحسب طبيعتها إمَّا متحالفة ومدافعة عن العمال؛ وإمَّا متحالفة ومدافعة عن الرأسمال. وهذا الواقع سينتهي وشيكاً ليجعل المعادلة الاقتصادية في حالة توازن وتشغيل كامل وديمقراطية اقتصادية، واستدامة التوازن الاقتصادي ستؤدي إلى استدامة الاستقرار السياسي واستدامة الديمقراطية السياسية حتى بلوغ مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية ولو جاءت بالمعني النيوليبرالي حتى.

    وأنا أجرؤ وأقول: في غياب حزب للعمال والقوى الحديثة والمستضعفة، لن يحدث توازن على مستوى الاقتصاد وسوف تغيب الديمقراطية الاقتصادية، ولن يحدث استقرار سياسي في السودان، ولن تُستدام ديمقراطية/تغيير سياسية/سياسي فيه، ولن يصل اليسار السوداني لسدة الحكم. وبالتالي التحالفات المرحلية/التكتيكية/سمها ما شئت/ مع شرائح رأس المال لاستدامة التغيير وتوازن الاقتصاد والديمقراطية ولإنجاز قضايا العمال، هو عين التسيب السياسي؛ إن لَّم يكن مقصوداً لذاته بواسطة البورجوازية الصغيرة وشرائح رأس المال للطمر على أهمية وجود حزب للعمال والقوى الحديثة ولسهولة ابتزازه واستغلاله؛ وكذلك (أي البورجوازية الصغيرة وشرائح رأس المال) تفعلان.

    عليه نرجو من اليسار السوداني أن ينتبه لهذه الحقائق، ويخضعها للنقاش، فهي وسيلته الوحيدة للوصول للسلطة بشكل ديمقراطي.

    يُتبع ...
                  

01-01-2022, 03:47 AM

حسين أحمد حسين
<aحسين أحمد حسين
تاريخ التسجيل: 09-04-2014
مجموع المشاركات: 1281

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
تكييف المآلات الاقتصادية/الاجتماعية والسياسية لثورة ديسمبر المجيدة وأليات الحلول (8-10) (Re: حسين أحمد حسين)

    تكييف المآلات الاقتصادية/الاجتماعية والسياسية لثورة ديسمبر المجيدة وأليات الحلول (8-10)

    4-2-1 هل نحن أمام ثورة يسارية أم هي ثورة داخل طريق التطور الرأسمالي

    النَّاظر لوقائع التاريخ المادي (سيرورته وصيرورته) يجد أنَّه لا مجال في الوقت الراهن للحديث عن ثورة شيوعية أو اشتراكية؛ فهما يبدوان ميتافيزيقيتين حالياً. وبالتالي على مدنيتنا الاكتفاء بإنجاز الثورة الوطنية الديمقراطية ولو جاءت بالمعنى الليبرالي حتى، وذلك لتحقيق شعارات الثورة: حرية سلام وعدالة في إطار الدولة المدنية؛ أي تحقيق شعارات دولة المواطنة.

    وحتى الثورة الوطنية الديمقراطية لا يمكننا إنجازها دون تحقيق قدر من العمالة الكاملة في الاقتصاد أو قريباً منها، والعمالة الكاملة هِيَ الأخرى لا يمكن الوصول إليها في غياب حزب للعمال والقوى الحديثة والمستضعفة (ليُنافح بالأصالة عن عنصر العمل)؛ ذي المصلحة الحقيقية في التغيير الذي يُفضي إلى توازن معادلتى الاقتصاد والسياسة وديمقراطيتهما واستدامتهما وتوازنهما؛ واللتان لا يتحقق لهما التوازن والديمقراطية والاستدامة في غياب حزب العمال والقوى الحديثة والمستضعفة هذا، كما جاء بعاليه.

    وأقول ما اقول لسبب بسيط هو أنَّ التشكل الاقتصادي الاجتماعي الرأسمالي المهيمن (الذي فيه الاقتصادي محدِّدَاً ومسيطراً) في الوقت الراهن لم يولِّد واقعاً متنافياً يشير إلى بزوغ الاشتراكية ناهيك عن الشيوعية، بل في حقيقة الأمر أنَّه قد أمعن في الرسملة والرسملة المتوحشة "النيوليبرالية"؛ خاصةً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي. وبالتالي فإنَّ التشكل الاقتصادي الاجتماعي النيوليبرالي الكوكبي هو المحدد الرئيس والأوحد لوقائع التاريخ المادي للعالم، وبالتالي يبتعد كثيراً عن نمط الإنتاج في ظل نظام اشتراكي، وهو أبعد ما يكون عن نمط الإنتاج في ظل الشيوعية بطبيعة الحال.

    وفي تقديري المتواضع أنَّ شحذنا (كتقدميين/كيساريين) للهمم نحو إنجاز الاشتراكية أو الشيوعية واستطالة الحلم من غير أن ينفتح التشكل الاقتصادي الاجتماعي على أيِّهما، سيرهق شعوبنا بطول الأمل وخيبات الأمل وربما اللاجدوى؛ كوننا سنفعل ذلك بحرق المراحل، والتاريخ المادي للشعوب بنائي ولا يعرف حرق المراحل، ولكنَّه يتناقضها ويولد منها واقعاً متنافياً في إطار سيرورة أزلية مرتبطة بمصالح الشعوب الآنية والاستراتيجية (الحلم وقود الاستمرار للمرحلة التالية بطبيعة الحال، أي للثورة الوطنية الديمقراطية، ولكنه لن يتجاوز الثورة الوطنية الديمقراطية (لن يحرق مرحلتها) ليزج بنا في المراحل التالية الشاهقة الميتافيزيقية البعيدة المنال.

    4-2-2 كيف لمن ينادي بالمدنية تكون دولته دينية أو علمانية؟

    كان حلمُ شبابنا الأوفياء أن تكون دولتهم مدنية، لا دينية ولا علمانية ولا عسكرية؛ (مدنياااااااو والسلام). غير أنَّ حراس المعبد القديم يجرونهم نحو الدولة الدينية - العسكرية، والبعض الآخر (لاسيما اليسار) يجرهم إلى الدولة العلمانية، غير أنَّ المطلب الرئيس مازال هُو المدنية. ونرجو من صنَّاع الفكر ومنتجي المعرفة أن يُترجموا هذا الحلم إلى واقع دون تعسُّف؛ فهو مشروع ومن أجله استشهد الآلاف وفُقِدوا وجُرِحوا.

    وهذا الشباب الواعي حينما لفظ الدولة الدينية المدعومة بالعسكر، فهو يعلم أنَّ عقلية الدولة الدينية "الثيوقراطرأسمالية" ليس لها حلول لقضايا السودان المصيرية القائمة على التنوع الثقافى والإثنى والدينى إلاَّ بالبتر والإقصاء والتهميش (ولذلك كان الشعار: يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور). وكذلك فهو يعلم أنَّنا إذا أخذنا العلمانية الإلحادية القُحَّة كما كانت عليه في الدولة السوفياتية قبل العام 1989 والتي تعني "منع الدين من التدخل فى شئون الدولة ومنع الدولة من التدخل فى الشئون الدينية بغرض مساواة جميع النَّاس أمام القانون، والتعاطى مع معتقداتهم بالطريقة التى لا تخل مطلقاً بحقوقهم الأساسية"، سنجد أنَّ هذا القانون قد تعسَّف على جميع المتدينين أقلية كانوا أم أغلبية.

    ولكن بانهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي فقد انتفت العلمانية الإلحادية، وسادت بدلها العلمانية السياسية التي لا تعادي الدين. بل إنَّنا نجد أنَّ بعض الدول قد أقرَّتْ العلمانية فى دساتيرها، لكنَّها لم تجد بُدَّاً من التعاطى مع الدين (Political secularism can accommodate religions)، لا سيما مع وجود مصلحة أو فتح من شأنه أن يُخرج الرأسمالية من أزماتها كما فعلت البروتسانتينية الكالفينية مثلاً، أو كما فعلت الإخوانوية التي حررت الاقتصاد السوداني فوق ما يطمع النظام النيوليبرالي ومؤسسات تمويله الدولية، أو كما طرقت بريطانيا باب البنك الإسلامي البريطاني إنْ كان له بعض المعالجات التي يمن شأنها أن تُخرجهم من أزمة 2008 على سبيل المثال.

    وفي هذا السياق من العلمانية السياسية قد فُتِحَ الباب للأقليات لممارسة بعض شعائرهم وطقوسهم الدينية، ولكن ليس بالقدر الذي "يرفع عنهم الحرج العقدي في كثير من الأحيان". وإذا كان بالإمكان لدولة العلمانية الإلحادية أنْ تتنزل فى أرض الواقع من جديد – وذلك خيارٌ محتمل – فكلُّ ما هو دينى سيكون على المِحَك؛ وهذا مصدر خوف وقلق كل المتدينين في السودان وغيره.

    وبالتالي نرجو أنْ تبتدع العلمانية السودانية (اليسار السوداني) حلولاً تُجيبُ بها على مثل هذه التساؤلات بشكل ديمقراطى غير متعسِّف، حتى لا ينفر منها المتدينون المدافعون عنها أو الذين يتخذونها شأناً مؤقَّتاً وحتى إشعار آخر (الفكر الجمهورى مِثالاً).

    ولم تسلم "دولة نقد المدنية" نفسها؛ التي أوجدت مفهوم الدولة المدنية للقاموس السياسي المحلي والعالمي" من هذا التعسف والسلوك اللاديمقراطي رغم إقرارها بأنَّ معتقدات النَّاس – بحسب ما يقول الحزب الشيوعى السودانى - لا تخضع لمعيار الأغلبية والأقلية (وفي هذا فوت فكرى للحزب الشيوعى السودانى على الأحزاب الأخرى التى تنادى بديمقراطية الأغلبية)، غير أنَّ الحزب الشيوعى السودانى لم يُخبرنا عن المخرج المدنى الديمقراطى السلس والغير متعسف لمناداة الأغلبية أو الأقلية بتطبيق شرائعهم عليهم وعلى الآخرين إذا ما وصلوا لسدة الحكم.

    فمثلاً، أين تذهب حقوق الأقليات إذا كان الناطق الرسمى للحزب الشيوعى السودانى السيد يوسف حسين رحمه الله قد قال ذات مرة في حوار أُجرِيَ معه بالراكوبة الموقرة: "إذا جاءتنا الشريعة الإسلامية بالديمقراطية فسنقبل بتطبيقها". وهذا يعنى أنَّ بعض الأقليات ستقبل بهذا التطبيق كَرْهاً فى حالة فوز الأغلبية المسلمة بالإنتخابات. وإذا بعد أربعَ سنوات خسِرَ دعاة الشريعة مقعدهم، هل سنمنع تطبيق الشريعة على من أراد أن يُطبقها على نفسه لأنَّ أقلية علمانية أو مدنية فازت بالسلطة؟ كيف العمل إزاء هذه القضية التى لا تقبل بأى تعسف فكرى أو سياسى كما يشير الحزب الشيوعى السودانى ذات نفسه؟

    إذاً يستبين من الحديث أعلاه أنَّه ثمةَ مشكلة بالنسبة لكلِّ نوع من أنواع الدولة حينما يكون الحديث عن المعتقدات بشكل عام، وحينما يكون الحديث عن معتقد الأغلبية ومعتقد الأقلية على وجه الخصوص، كما أنَّ للدولة الدينية مشكلة أُخرى متعلقة بالحرية (لا أُريكم إلاَّ ما أرى) والديمقراطية (إلغاء الأحزاب كما جاء ذلك في كتابات حسن البنَّا).

    والجدير بالذكر هنا، أنَّ الثلاثة أنواع للدولة تُقِر بالتنوع الثقافى، والإثنى، والدينى، واللغوى فى السودان. وبالرغم من هذا الإقرار، إلاَّ أنَّ المشرعين المعنيين بقضايا السودان المصيرية فى إطار كلِّ دولة من الدول الثلاث، يلجأون إلى حلول غير متناغمة مع هذا التنوع وفوق ذلك تعسُّفية وبالتالي غير ديمقراطية. بمعنى آخر إنْ جاءت الأغلبية للسلطة عمَّمَتْ معتقدها على حساب المعتقدات الأخرى، وإن جاءت الأقلية للسلطة تعسَّفت على نحوٍ ما على دين الأغلبية أو على دينها هي نفسها فقط لتبقي طوال مدتها في الحكم. وفقط لننظر لحال الخرطوم الآن في إطار فصل الدين عن الدولة المرحب به عند البعض، والمدان عند البعض الآخر.
    أقول ما أقول، ومن الممكن الخروج من حالة التكلُّس والكسل الفكريَيْن السائدة في السودان الآن مع قليل من الاشتغال بالفكري على حساب السياسي، ومناقشة الأُطروحات الثلاثة بقلب مفتوح من قِبَل المهتمين بالفكر، إذا كانت هناك إرادة مجتمعية حرة وواعية لتجنيب البلد ويلات التمزُّق والفُرقة والشتات. وفي هذا الإطار من الممكن للدولة المدنية أن تتحول من مجرد شعار لهذه الفترة الانتقالية إلى برنامج عمل قابل للتنفيذ والاستمرار.

    4-2-2-1 الدولة المدنية فيما بعد "دولة نقد المدنية" وكيفية تعاطيها مع معايير الأقلية والأغلبية

    في اعتقادي الحل لمسائل التعسف السياسي والفكري مازال كامناً في "دولة نقد المدنية" نفسها. وبالتالي مع قليل من القراءة الدلالية لفكر الأستاذ المرحوم محمد إبراهيم نقد (symptomatic reading) رحمه الله، نستطيع أن نخرج من حالة التعسف الفكري والسياسي التي نجدها في إطار الدولة الدينية والعلمانية؛ والمدنية التي يشتغل أهلها بالسياسي أكثر من الفكري؛ وبالتالي انصرفوا عن مهمة الإجابة على كيفية "عدم خضوع المعتقدات لمعايير الأقلية والأغلبية".

    فمثلاً، في تعريفنا للدولة في موضع آخر قلنا أنَّها هي: “حزمة الإجرآءات القانونية والمؤسسية المعبرة عن مجتمع بعينه، على بقعة أرض بعينها، بالكيفية التى تُكسبها اعترافاً دولياً وسيادةً على تلك البقعة من الأرض” (وقلنا لنستحضر ولادة دولة الجنوب – رغم قيصريتها – حتى نتبيَّن ونتحقَّق من تعريف الدولة).

    وبالطبع هذا المفهوم هو التعريف العلمى الذى يستخدمه أىُّ نوع من أنواع الدولة (دينية، علمانية، مدنية) لإنجاز الحقوق والواجبات المتبادلة بينها وبين مواطنيها. وبعبارة أخرى هذا التعريف يُمثل الشروط العلمية لإنجاز مهام الدولة فى أىِّ مكان، وعلى أىِّ دين/لا – دين كانت. كما أنَّ الدولة بهذا التعريف ليست معصومة من التعاطى مع معتقدات النَّاس؛ بل إنَّها تتأثر بمعتقدات شعبها وتؤثِّر فيها، فى إطارٍ من الجدل الحميم والمحتدم. ويحدث ذلك ببساطة لأنَّ القيم الإنسانية منبعها المعتقدات (الدين)، وبالتالي تمثل المرجعية الأخلاقية للدولة والمجتمع. ويجب ألاَّ يتوقع السياسى الناضج إجابة سهلة على عواقب إقحام الدين فى الدولة أو فصله عنها؛ فالمخاض طويل بطبيعة الحال (راجع على الإنترنت حسين: 27/12/2015، حول مفوم الدولة وأنواعها وتعاطي كل نوع مع قضايا السودان المصيرية - الشريعة الإسلامية مثالاً 1-4).

    والمهم فى كل ذلك هو أنْ تتعاطى الدولة مع معتقدات شعبها بالطريقة التى لا تخل مطلقاً بالحقوق الأساسية لكافة مواطنيها، وأن تتعامل معهم على قدمِ المساواة. وعلى ضوء هذا المفهوم العام للدولة دعونا نعرف دولتنا المدنية المناط بها إخراجنا من التعسف الفكري والسياسي المرتبط بحقوق الأقليات والأغلبيات في إطار عمليات تداول السلطة.

    4-2-2-2 تعريف الدولة المدنية – الحلم (مدنياااااو)

    الدولة المدنية هى: "جملة الإجراءات القانونية والمؤسسية المُتَوَصَّل إليها ديمقراطياَ، أىْ وِفق دستورٍ ديمقراطىًّ (مؤقت أو دائم) مُنبثقٍ عن عقدٍ اجتماعىٍّ مدنىٍّ جامعٍ معبِّرٍ عن إرادة المجتمع بكل تنوعاته؛ وغير خاضعة لتأثيرات القوى الاجتماعية فى ذلك المجتمع ولا لأيديولوجياتها ولا لنزعاتها؛ مهمتها إنجاز الحقوق والواجبات المتبادلة بين الدولة المدنية والمجتمع فى إطار دولة مواطنة ديمقراطية؛ وتتعامل مع تنوعات ذلك المجتمع بالطريقة التى لا تخل مطلقاً بتلك الحقوق والواجبات لكافة المواطنين؛ وأن تتعامل معهم على قدمِ المساواة بلوغاً لمرحلة الديمقراطية المستدامة/الثورة الوطنية الديمقراطية".

    وتأسيساً على ما جاء بعاليه، فإنَّ الإطار المعرفى للدولة المدنية (البارادايم) هو الثورة الوطنية الديمقراطية (وليس أيُّ سياق آخر سابق لها) ولو جاءت "أُكرِّر" بالمعنى الليبرالي/النيوليبرالي. بمعنى آخر بدون النزوع نحو الثورة الوطنية الديمقراطية، فإنَّ الدولة المدنية لن تتنزل إلى أرض الواقع. وكما سيجئ لاحقاً، فإنَّ الأساس المادى للثورة الوطنية الديمقراطية هو اتزان معادلة الإنتاج (عمال/قوى حديثة + رأسماليين/إنتربِرينيرز + التنظيم/ البورجوازية الصغيرة + الأرض/بورجوازية الدولة + (…) = الإنتاج/العملية الإنتاجية والعمالة الكاملة/الثورة الوطنية الديمقراطية فى نهاية المطاف)؛ أى ديمقراطيتها. ولن تكون معادلة الإنتاج هذه ديمقراطية فى غياب تنظيمات المجتمع المدنى الممثِّلة لكل عناصر الإنتاج في هذه المعادلة؛ وعلى سبيل الحصر أعنى غياب حزب للعمال والقوى الحديثة والمستضعفة فى السودان (حزب مجتمع الاعتصام/حزب أصحاب المصلحة الحقيقية في التغيير).

    4-2-2-3 محددات الدولة المدنية - الحلم

    يمكننا من التعريف الوارد أعلاه، ومن مقالة لدكتور أحمد زايد (دكتور أحمد زايد: “ماذا تعنى الدولة المدنية”، الشروق الألكترونية، 26 فبراير 2011)، ومقابلة مع د. محمد شحرور (https://www.youtube.com/watch؟v=fS-RtARjfaw)،https://www.youtube.com/watch؟v=fS-RtARjfaw)، أن نعيِّن محددات الدولة المدنية وأركانها التى إنْ غاب أحدها انزلقَ مفهوم الدولة المدنية إلى الدولة الدينية أو العلمانية أى انزلق إلى عِلَلِهما (كل ما يجئ بين معكوفتين فهو يخصص د. أحمد زايد، ود. محمد شحرور في هذه الفقرة:

    1/ من أهم محددات الدولة المدنية هو رغبة المجتمع فى الخروج من البوهيمية (الجنجويدزم) إلى الحال المدنى (مطلب شهدائنا الأبرار)، بالتوافق على عقد اجتماعى يشمل كافة قطاعات المجتمع، ويتحوَّل فيما بعد إلى دستورٍ دائمٍ مُعبرٍ عن إرادة ذلك المجتمع وإجماعه، فى صورة مؤسسات وقوانين لا تطالها تأثيرات القوى المجتمعية أيَّاً كان مصدرها: الفرد أو الجماعة أو الطائفة أو المذهب أو مجموعات الضغط، غايتها تنظيم الحياة العامة وتنظيم خيارات الناس دون اعتداء بعضهم على بعض، وحماية الملكية الخاصة وتنظيم العقود وشمولية تطبيق القوانين على كافة أفراد المجتمع دون استثناء لذى جاهٍ أو سلطان.

    2/ ومن أهم محددات الدولة المدنية أنَّها: دولة القانون ودولة القضاء المستقل، ودولة المؤسسات الأُخرى التشريعية والتنفيذية المستقلة؛ وذلك لضمان إرساء المبادئ العدلية وشموليتها.

    ولعلَّ "أهم سمة من سمات دولة القانون هى ألاَّ تخضع حقوق الفرد فيها لأىِّ انتهاك من قِبَل أى طرف آخر، وذلك لأنَّ سُلطة الدولة دائماً حاضرة وهى فوق سلطة الأفراد، ويلجأ إليها كل أفراد المجتمع حينما تُنتهك حقوقهم أو تكون قابلة للإنتهاك” (د. أحمد زايد أعلاه).

    3/ من محددات الدولة المدنية هى تنامى الوعى المدنى والعقيدة المدنية التى تنبنى على “السلام والتسامح وقبول الآخر واحترام خصوصياته والمساواة فى الحقوق والواجبات والثقة فى عمليات التعاقد والتبادل المختلفة”. وهذه القيم تمثل ما يُطلق عليه “الثقافة المدنية” وهى ثقافة تخلقها استدامة حكم القانون واستدامة الديمقراطية (أىْ الثورة الوطنية الديمقراطية) القائمة على اتزان معادلة الإنتاج التى لا تتحقق إلاَّ بوجود حزب للعمال والقوى الحديثة والمستضعفة كما جاء بعاليه، وهى تقوم على مبدأ الإتفاق والتراضى (أساس التوليفة المُثلى)، وتعززها أعراف وأنساق عديدة غير مدونة تمثل عصب الحياة اليومية للمواطنين (وما أعظم هذه الأعراف والأنساق عند أهل السودان)، تصوغ لهم “مبادئ التبادل القائم على النظام لا الفوضى، وعلى السلام لا العنف، وعلى العيش المشترك لا الفردى، وعلى القيم الإنسانية العامة لا الفردية ولا المتطرفة” (المرجع أعلاه).

    فالثقافة المدنية تخلق من المواطنين نشطاء مثقفين مدنياً (شباب شارع الحوادث ونفير مِثالاً) يعرفون ما لهم وما عليهم، ويساهمون بفعالية فى تحسين ظروف مجتمعاتهم، بحيث يرتقون بوعيهم المدنى بشكلٍ مستدام، ويُمجِّدون كلَّ ما هو "عام، كالأخلاق العامة، الصالح العام، الملكية العامة، المبادئ العامة، ويحرصون دائماً على كل ما يتصل بالخير العام” (المرجع أعلاه).

    4/ من محددات الدولة المدنية أنَّها “دولة مواطنة”، يُعرَّف الفردُ فيها “تعريفاً قانونياً اجتماعياً على أنَّه مواطن (بدون ألقاب) فى المجتمع له حقوق وعليه واجبات يتساوى فيها مع جميع المواطنين. وإذا كان القانون يؤسس فى الدولة المدنية قيمة العدل، وإذا كانت الثقافة المدنية تؤسس فى الدولة المدنية قيمة السلام الإجتماعى، فإنَّ المواطنة تؤسس فى الدولة المدنية قيمة المساواة والقيم الإنسانية جميعها” (المرجع أعلاه).

    5/ ومن أهم محددات الدولة المدنية هى الديمقراطية – والتي تبدأ من علاقات الإنتاج لا من الأرينة السياسية، وهى بالتالى الصمام الذى يمنع أخذ السلطة بالقوة والغصب بواسطة “فرد أو نخبة أو عائلة أو أُرستقراطية، أو نزعة أيديولوجية”. إنَّ الديمقراطية هى سبيل الدولة المدنية الوحيد لتحقيق كلِّ ما هو عام، “كما أنَّها هى وسيلته للحكم العقلانى الرشيد وتفويض السلطة وانتخابها وتداولها سلمياً. إنَّ الديمقراطية تتيح التنافس الحر الخلاَّق بين الأفكار السياسية المختلفة للمواطنين، وذلك بما ينبثق عنها من سياسات وبرامج مكرسة لتحقيق المصلحة العليا للمجتمع، ويكون الحَكَم النهائى لهذا التنافس هو الشعب؛ لابصفة شخوصه، ولكن بما يطرحونه من برامج وسياسات” لتحقيق أهداف معادلة الإنتاج (د. أحمد زايد، سبق ذكره).

    فالديمقراطية تُزَكى الثقافة المدنية التى تَرْقى بالمجتمع وتحسِّن ظروفه المعيشية. ولا تتحقق الديمقراطية إلاَّ بمزيدٍ من الديمقراطية؛ أىْ “بقدرة الدولة المدنية على خلق مناخ عام للنقاش والتبادل والتواصل الاجتماعى بين المجموعات المدنية المختلفة والآراء المختلفة وغيرها. ويشمل هذا المناخ العام فى المستوى الجزئى الجماعات الفكرية والأدبية والروافد الثقافية، ويتدرج ليشمل الجمعيات الأهلية والمنتديات والمؤتمرات العامة، وصولاً إلى النقاشات التى تدور فى أروقة النقابات وجماعات الضغط ومنظمات المجتمع المدنى الأخرى والحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية" والتي أساسها وأُسُّها هو علاقات الإنتاج.

    هذا المناخ العام يجب أن يكون مستقلاً ومدنياً وغيرَ مُحَرَّضٍ بالأيديولوجيا، ليكون بمستطاعه القدرة على طرح الفهوم والأفكار بشكل ناضجٍ وحرٍ ونزيه. وبالتالى هذا المناخ العام هو الذى يُحرِّض المجتمع على ابتداع الأساليب المدنية النوعية فى التثاقف العام والتواصل الجمعى، ويخلق من الحوارات المتنوعة والمتباينة فُسيفساء مدنية مُقترنة بالهم العام. “ويتأسس هذا المناخ المدنى العام بالفعل التواصلى الحوارى الذى يقوم على احترام أفعال الآخرين وأفكارهم ومعتقداتهم والاستجابة إليها بشكل مدنى عقلانى من غير فوضى أو رفض” (د. أحمد زايد، سبق ذكره).

    4-2-2-4 موقف الدولة المدنية – الحلم من الشرائع والمعتقدات

    لا تقوم الدولة المدنية بمعاداة الدين (أىِّ دين) كما كان الحال على عهد الدولة العلمانية الإلحادية فى الاتحاد السوفياتى السابق، حيث كانت الدولة تأمر وتنهى وتمنع وتُحرِّم، "والتحريم ليس من اختصاصها بل هو من اختصاص الدين". كما لا تسمح الدولة المدنية باستغلال الدين لمصلحة دنيوية وبالتالى تجرح قُدُسِيَّتَهُ وتستهزء به كما تفعل الدولة الدينية فى السودان وغيره من الدول، حيث كان الدين يُحرم ويأمر وينهي ويمنع، "والمنع ليس من اختصاصه، بل من اختصاص الدولة، لأنَّه لا يملك أداة الإكراه" (د. محمد شحرور، رابط الفيديو السابق ذكره أعلاه).

    ولا تتسربل الدولة المدنية بدِين أغلبية ولا بدين أقلية كما هو الحال فى بعض نماذج دول العلمانية السياسية كبريطانيا. وفي الحقيقة ليس من مهام الدولة إدخال الناس الجنة أو النار (بل أنا أجرؤ وأقول: أنَّه لا توجد دولة دينية من الأساس، ولكن قد تتسربل الدولة بدين الأغلبية أو الأقلية لتحقيق مكاسب سياسية). غير أنَّ الدولة المدنية تؤكد على أهمية الدين كجزء لا يتجزأ من منظومة الحياة المدنية (ولا يمكن فصله عن المجتمع كما فعلت العلمانية الإلحادية)، وكقيمة إيمانية روحية بالغة التأثير فى حياة النَّاس ومعزِّزة لجوهر الثقافة المدنية من جهة كون أنَّ الدين هو “الداعم الأهم للأخلاق والحاض على الإستقامة والالتزام لا سيما فى الشئون التعاقدية؛ بل هو عند البعض الباعث على حب الخير للنَّاس والإخلاص فى العمل والنجاح فى الحياة عموماً" (د. أحمد زايد سبق ذكره).

    إذاً، فالدولة المدنية لا تتسامح مطلقاً مع الإبعاد القسري للدين عن حياة الناس، ولا تتسامح مطلقاً مع استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية؛ وبالتالى تحويله إلى موضوع خلافى وجدلى وإلى تفسيرات تُسئ إليه وتبعده عن عالم القداسة وتدخل به إلى عالم المصالح الدنيوية الضيقة الزائلة. فالدين فى ظل الدولة المدنية ليس أداةً للسياسة تُجيِّرُهُ أنَّى شاءت لتحقيق مصالحها، ولكنَّه بالمقابل فهو أسمى القِيم فى الفضاء المدنى، وتتطور علومُهُ وفهومُهُ بقوة فكره ومنطقه الداخلى؛ بعيداً عن منطق التطرف والعنف اللذيْن لا يُسمح بهما البتة فى إطار الدولة المدنية سواء جاء هذا العنف من قبل الدولة أو المواطنين.

    وبهذا الفهم فإنَّ الدولة المدنية لا تتعامل مع الأديان (الشريعة الإسلامية، الشريعة المسيحية، الشريعة اليهودية، الشريعة الإحيائية، والشريعة الوضعية، وغيرها) بالمنطق المتعسف التى تمارسه دولة العلمانية الإلحادية أو الدولة الدينية، ولكنَّها تلجأ إلى التخيير كقيمة مدنية ديمقراطية محقِّقة لشروط المواطنة. وبالتالى من حق المواطن (أى مواطن) أن يختار نوع القوانين التى يود أن تُطبَّق عليه حيث سلطة الدين مرجعيتها الضمير؛ سواء أكانت قوانين دينية (شريعة) أو وضعية، ويجب أن تُسجَّل فى سجلِّه المدنى ويحويها رَقْمُهُ الوطنى وأنْ تُطبقها عليه الدولة، حيث سلطة الدولة مرجعيتها القانون. كذلك فإنَّ الدولة المدنية تكْفُل له الدخول تحت الشِّريعة والقانون الذى يُريد، وتكْفُل له الخروج منهما متى ما يريد تحت ضوابط تكفل احترام المعتقدات فى الحالتين.

    ولعل فضيلة التخيير المدنية هذه ستُساعدنا فى تجاوز مأزق الدولة الدينية المتاجِرة بالأديان، والتى تود أن تفرض قوانينها الدينية بمنطق الإكراه، ومنطق الأغلبية والنخبوية والأُرستقراطية. كما يُساعدنا ذلك التخيير بالنفاذ بالعبارة الحصيفة التى أوردتها دولة نُقُد المدنية “لا تخضع المعتقدات لمعيار وعلاقة الأغلبية والأقلية” إلى غاياتها؛ وهى حرية الاعتقاد، وحرية اختيار القوانين التي يريد المعتقِد تطبيقها عليه بواسطة الدولة، واحترام المعتقدات، وحرية الانتقال بين المعتقدات، وتحرير المعتقد من عسف السياسة وتركه للفضاء المدنى.

    نعم ربما تكون هناك مشكلة فى ذهن المشرِّعين والمراقبين متعلقة بكثرة الشرائع وكثرة القوانين، ولكنَّها فى نهاية المطاف تعبِّر عن تنوعنا بشكل مدنى ديمقراطى خالى من التعسف والإكراه والجبرية (لكلٍ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجا – المائدة 48)، ويجب أن يكون الدستور الدائم للسودان معبِّراً عن هذا الواقع أيضاً. كما أنَّ تتعدد القوانين وتعدد الشرائع وما يُصاحبُها من الحرج العقدى الظاهرى عند البعض من عدم علو الدين الخاتم على الأديان السابقة (ومن لم يحكم بما أنزل الله)، أهون من أن يكون التعسُّف سبباً فى حروب وفتن لانهائية.

    لقد جرَّب السودان التعسف منذ الإستقلال إلى يومِ النَّاسِ هذا، وكانت النتيجة فُرقة أبناء الوطن الواحد، واحترابهم الدائم وانفصال جزءٍ عزيز من بلدهم، وبُغِّضَ إليهم كلُّ ما هو دينى. فلماذا لا نجرِّب التخيير؟ فبدلاً من أنْ تُطبَّق علىَّ الشريعة إكراهاً كما تفعل الإنقاذ ودولتها الدينية، فلتُخيِّرُنى الدولة بمسلك مدنى ديمقراطى (وهنا تسقط صفتها الدينية وعلمانية شخوصها معاً) فى القوانين التى أحب أنْ تُطبَّق علىَّ: قوانين الشريعة الإسلامية (المسيحية واليهودية وغيرها)، القوانين الوضعية، أو أى قوانين أُخرى. وهنا تظهر عدد من الحقائق التى لا يراها المتعسف ولا المتعسف عليه فى إطار الدولة المدنية:

    1- ستتبدَّى للنَّاس لِأَوَّل مرة إمَّا سماحة المعتقدات الدينية (وغيرها من الشرائع) كما يزعم أهلها فيكثر أتباعُها، أو وجاهة القوانين الوضعية فيزداد أنصارها. وإذا كان اللهُ عزَّ وجلَّ مُتِمَّاً نوره ولو كَرِهَ الكافرون، فَفِيمَ الخشية من التخيير؟ هل هى حيطة وحرص من الحاكم إذا لم يُكره النَّاس على الشريعة فإنَّ النَّاس سيهجرون دين الله؟ هل هى خشية من الله لأنَّ الحاكم طبَّقَ شرائعَ أخرى إلى جوار شرع الله؟ ونقول على العكس، النَّاس يهجرون دين الله بسبب القدوة السيئة التى تستخدم الدين كغطاء للفساد والإفساد، وبسبب الإكراه أكثر مما لو خُيِّروا.

    إذاً تطبيق الشريعة بتلك الطريقة الشائهة المتعسِّفة لا يخلو من الأغراض الدنيوية، وفى ذلك تشويهٌ للدين، وطمس لمقاصده، وعلى النَّاس أن يعملوا بكلَّ ما أوتوا من حصافة فكرية لمنع هذا العبث بالأديان السماوية والإحيائية من قِبَلِ المستهزئين بها وردِّ قدسيتها لها.

    2- سينتقل النَّاس من أُفقِ الأيديولوجيا الدموى إلى أُفقِ المناخ المدنى الخصيب بالسلام الاجتماعي، والذى تنشط فيه حرية الفكر المحرَّضة بالعقل الحر والتفكير الحر، بغرض إنتاج المعرفة الدينية، وتطوير الفكر الدِّينى وإخراجه من حالة التكلُّس التى هو فيها الآن. والجدير بالذكر أنَّ الشريعة الإسلامية لم تُنْعَتْ بالسمحاء، إلاَّ لأَنَّ مِضمارَها هو الفِكر الحر المتأتى من التخيير. ولم تتطور الشريعة الإسلامية عبر قرونها الطِوال في جزيرة العرب إلاَّ لأنَّ أهلَها أكثرُ اشتغالاً بالسلطان من الاشتغال بالفكر، والاشتغال بالسلطان يُضيِّق مساحة التخيير. ولذلك لا غُروَ أنَّ معظم الذين أهتموا بالفكر الدينى في الإسلام هم مسلمو الهامش من خارج جزيرة العرب (اشهر علماء الحديث الستة هم من خارج الجزيرة العربية).

    3- وفى إطار الدولة المدنية لن يُسمح بأى نوع من أنواع العنف الدينى أو الثقافى أو الإثنى أو اللغوى، أو العنف الأيديولوجى/السياسى/الاقتصادى أو الجسدى أو اللفظى المُجيَّر لخدمة أى شرخ فى البناء المدنى، وسوف يُفسح فقط للفكر الحر والتفكير الحر ليكونا مُدْخَلَيْنِ مُهِمَّيْنِ فى مجال المعرفة المعلومة الأدوات فى إطار الدولة المدنية. وبهذه الكيفية سيكون بالإمكان حل كل مشاكل السودان المصيرية بأُفقِ الدولة المدنية ذى القدرة الحقيقية على حماية التنوع فى البيئة السودانية الغير متوفرة لدى الدولة الدينية والدولة العلمانية معاً. وبالتالى فى إطار هذا الأفق المدنى يمكن أن يعود الجنوب (إن رغب)، ومن ثم نسعى إلى آفاق جديدة من التماسك واللُّحمة والاستقرار والانطلاق نحو مستقبل مزدهر.

    4- فى إطار الدولة المدنية، ستنتهى حالة النفاق الدينى وتطبيق الشريعة على الفقراء دون الأغنياء، وسيُحاسب النَّاس بالشرائع التى اختاروها ومضمنة فى سِجِلِهِم المدنى ورقمهم الوطنى، ولا مجال هناك للمحاباة والمحسوبية فى إطار القضاء المستقل والسلطات الأخرى المستقلة. وليس ثمة خوف فى أن يقل عدد النَّاس المناصرين للشريعة ولا توجد أىُّ أرضية لذلك؛ فالمسلم المُحَقِّق لن يتراجع عن تطبيق الشريعةِ عليه فى إطار الدولة المدنية أو فى غيرها. بل على العكس، فيومئذٍ ربما نجد كثيراً من أعضاء الجبهة الإسلامية القومية سيختارون قوانين غير قوانين الشريعة الإسلامية لتُطبق عليهم (وربما غادروا السودان إلى بلدان لا تُطبَّق فيها الشريعة الإسلامية من الأساس)، لطالما تحايلوا على تطبيقها على أنفسِهم بسبب فسادهم وطبقوها على الفقراء والمساكين.

    ومن هنا يجب أن يعلم الجميع أنَّ الإنقاذ ترفض الدولة المدنية؛ لا لأنَّها “إسم دلع” للعلمانية وقد جاء بها الشيوعيون كما كانت تروِّج الإنقاذ في السابق وفلولها الأن، وقد فنَّدنا ذلك فى مقلات سابقة، ولكن لأنَّ الشريعة الإسلامية حينما تكون فى يد القضاء المستقل فى إطار الدولة المدنية، ستُطبَّق على الوجه الأكمل وسوف تطال أهل الإنقاذ أجمعين قبل غيرهم على حسب إفادة د. حسبو عبد الرحمن الذى قال: "كلُّ أعضاء حزبه فاسدون”. كما أنَّ تطبيق الشريعة الإسلامية إذا خرجَ من يدِ الإنقاذ الفاسدة إلى يدِ القضاء النَّزيه المستقل فى إطار الدولة المدنية، فإنَّ دولة الإنقاذ الدينية سوف تُحْرَم من أهم عنصرين من عناصر برنامجها الأيديولوجى “الإسلام هو الحل”، وهما النِّفاق والمتاجرة بالدين، وسوف تقف عارية من أى نوع من أنواع الأخلاق.

    5- حينما تكف الدولة عن حشر أنفها سلباً فى طريقة تدين النَّاس وإثنياتهم وثقافاتهم ولُغاتهم، واختياراتهم السياسية تخمد الفتن والحروب القائمة على أساسها، وتتحول ميزانية الحرب بالنسبة للدولة إلى ميزانية مواطنة؛ ميزانية مدنية تخدم إيجاباً ذات التنوع الدينى والإثنى والثقافى واللغوى.

    6- فى إطار الدولة المدنية (دولة المواطنة والديمقراطية) ستكون البرامج الحزبية ملحمة من التنافس على كيفية خدمة المواطنين بواسطة الخادمين المدنيين، وستكون مُكرَّسة لعكس استحقاقاتهم من حقوق المواطنة وواجباتها فى العملية الإنتاجية (عمال/قوى حديثة + رأسماليين/إنتربِرينيرز = الإنتاج/العملية الإنتاجية/الثورة الوطنية الديمقراطية) بما يخدم توازنها، ولن تكون مكرَّسة للأنا السياسية أو الأيديولوجية أو الإثنية أو الجهوية أو اللغوية أو لمطامع فردية؛ فالكلُّ رابح فى ظل الدولة المدنية وبشكلٍ ديمقراطى.

    4-2-2-5 محصلة

    على كل فرد من أفراد الشعب السودانى الشجاع أن يدلف إلى فضاء التخيير – الفضاء المدنى، ويختار القوانين التى يود أن تُطبَّقَ عليه ويكون مسئولاً عن تلك الخيارات؛ فالسؤال فردي أمام الله، وأن يُغيِّرَها متى ما يشاء. وأقول لكلِّ مسلمى السودان الذين يريدون أن تُطبَّقَ عليهم الشريعة الإسلامية السمحاء: إرفضوا تطبيقها من قِبَل الإنقاذيين وجبهتهم المسماة زوراً وبهتاناً بالإسلامية، لأنَّها غير مؤهَّلة أخلاقياً لتطبيقها، واطلبوا تطبيقها من قِبَل الدولة المدنية حيث القضاء المستقل والنزيه الذى يتعامل مع الضعيف والشريف على قَدَم المساواة.

    يُتْبَع ...
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de