|
Re: الأستاذ محمود محمد طه: د. جعفر الماحي عن عو (Re: عبدالله عثمان)
|
التاريخ يعيد نفسه: عودة طالبان؟!
د. جعفر الماحي
حين تتأمل تجربة الحكم الوطني في السودان، تخرج بقناعة ان الشعب السوداني شعب غير محظوظ تماماً. فهو لم يحظ بحكومة حققت آماله وطموحاته في السلام والعيش الكريم منذ الاستقلال. وقد لخص الاستاذ محمود محمد طه هذه الحالة في عبارته الشهيرة التي قال فيها: " الشعب السوداني شعب عملاق، يتقدمه أقزام"، مشيرا بذلك لتواضع مهارات من تولى قيادة العمل العام من السياسين منذ ذلك الوقت. الا ان المثل الساير يقول لنا "من رأى مصيبة غيره، هانت عليه مصيبته". فقد انتزع الشعب الافغاني عن جدارة لقب 'الشعب غير المحظوظ' من الشعب السوداني. فقد تكالبت على هذا الشعب المسكين كل الظروف لتوقعه في تجارب سياسية قاسية ومريرة ومكلفة، آخرها عودة طالبان للحكم. ويكون بهذا قد مضى أكثر من نصف قرن من الزمان لم يذق فيه الافغان طعما للاستقرار والسلام والتنمية. فتقلبت بهم الأهواء بين الشيوعيين تارة، وطالبان الاولى تارة أخرى، وحكومة مدنية يدعمها تحالف دولي في الثالثة، وأخيراً تجربة جديدة لطالبان.
طالبان الاولى
لم يحتاج الأفغان لطويل وقت، ليدركوا، بعد طردهم للجيش الأحمر السوفيتي من بلادهم، في تسعينييات القرن الماضي، أنهم قد استبدلوا شيطانا بآخر، عندما سيطرت طالبان على مقاليد الحكم في البلاد، وأعلنت عن قيام دولة دينية، لم ير منها الشعب الأفغاني غير السيف والسوط. أخذت طالبان الناس بالشبهات، وأعدمت خصومها في الساحات العامة، وأذاقت حواء أفغانستان الأمرين، من قهر، وتشهير، وجلد، ورجم على الملأ. . تراجعت تحت إمرة طالبان، العلوم، والفهوم، والآداب، والفنون، وكل مظاهر الحياة في البلاد. وتوالى ذلك، حتى جاءت الطامة الكبري في الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١، حين قام تنظيم القاعدة، منطلقاً من افغانستان، باختطاف بعض الطائرات المدنية، وهاجم بها عدداً من الأهداف في الولايات المتحدة الامريكية، كان من بينها مبنى التجارة العالمي بمدينة نيويورك. فدمر المبنى بالكامل، وحوله إلى أنقاض في ساعة من الزمن.. عملية ارهابية بلا نظير، لا في حجمها ولا بشاعتها. قتل فيها حوالي الثلاثة الف شخص، بينهم مسلمون. فكانت الحرب التي انتهت بإزاحة طالبان من الحكم. لتبدأ بعدها مقتلة عظيمة في حملة ارهاب إنتظمت كل القطر، لقي فيها ١٥٧ ألفاً شخصاً نحبهم، بينهم ٤٣ ألفاً من المدنيين، غالبيتهم من الافغان، وذلك حسب آخر إحصاءات الأمم المتحدة. في مثل هذه الظروف، رعى التحالف الدولي تجربة سياسية، اثمرت عن حكومة مدنية منتخبة. نعم معها الشعب الأفغاني بقليل من الاستقرار والحريات والتنمية. غير أن التحالف فشل في اقتلاع طالبان من الوجود تماما، وظلت تشكل تهديدا ماثلا للحكومة المنتخبة طوال هذا الزمن.
وطالبان الثانية؟
والان التاريخ يعيد نفسه. إذ يبدو من تطورات الاحداث المتسارعة التي جاءت بعد انسحاب الامريكان، ان افغانستان مقبلة على ايام حالكة السواد بدخول مقاتلي الحركة العاصمة كابول، لتنهار التجربة السياسية التي رعاها التحالف الدولي لأكثر من عشرين عاماً.
وتجئ بداية القصة، عندما قررت الادارة الامريكية الجديدة سحب قواتها من افغانستان وانهاء وجودها العسكري فيها. قال الرئيس الامريكي بايدن في ذلك ان امريكا انفقت ترليونات الدولارات وفقدت نفر مقدر من ابنائها في حرب لا نهاية لها، وأنها لا يمكن ان تظل في افغانستان الى الابد. وطالب الافغان بحماية بلدهم بأنفسهم. وسرعان ما تبع قرار الانسحاب الامريكي، انسحاب قوات التحالف الغربي واهمها قوات النيتو، كذلك. بنت الادارة الامريكية تقديراتها للوضع، على ان القوات الافغانية ستكون قادرة على رد اي محاولة لطالبان لاستغلال الموقف. فحسب تقديراتها يبلغ حجم جيش الحكومة الافغانية ثلاثمائة الف مقاتل، ولا يزيد مقاتلي الطالبان عن سبعين الف فرد. كما ان جيش الحكومة مسلح باحدث الاسلحة التي انتجها العقل الغربي، يدعمه سلاح طيران لا يتوفر لطالبان. لكن يبدو ان امريكا كانت مخطئة في تقديراتها. ونسيت ان طالبان تقاتل من منطلق ديني شديد التعصب، تهون معه الحياة. ففي هجوم كاسح ومذهل لمقاتلي الطالبان، تساقطت معظم المدن الافغانية سراعاً في ايديهم كما تساقط اوراق الخريف. وتوالى ذلك، حتى دخلت صباح هذا اليوم، الاحد، طلائع قواتها اطراف كابول. اصيب معظم افراد الشعب الافغاني بالصدمة جراء هذا التطور المذهل. ولزموا بيوتهم حفاظاً على حياتهم، وبكت النساء في الشوارع خوفاً مما ينتظرهن على ايدي طالبان، وفي اذهان الكثير منهن ما تعرضن له في تجربة طالبان الاولى في الحكم.
وبعد
ستكون تجربة طالبان الثانية في الحكم نسخة مكررة من تجربتها الاولى. وسترجع بافغانستان عشرات السنين للوراء لان مشروعها هو مشروع مناهض للحياة وعكس حركة التاريخ. وسيدرك الشعب الأفغاني بعد فوات الأوان أنه قد خرج من التاريخ يوم ان سقطت كابول في أيدي هؤلاء البرابرة للمرة الثانية خلال ربع قرن.
أقول هذا وفي ذهني ما قاله الاستاذ محمود محمد طه قبل اكثر من ستين عاما عن مثل هذه التجارب الدينية القاصرة: "الخوض في أصل الدين سير في الوادي المقدس، تخلع فيه النعلان، وتواصل فيه التلبية، ويستشعر عنده الخشوع .. فإذا دخله الذين لا يرجون له وقاراً، فانتظر بوائق الشرور، وجوائح الفتن".
وقى الله الشعب الأفغاني المغلوب على أمره شر الفتن وغيض له طريق الخلاص.
مع تحياتي
| |
 
|
|
|
|