حزن "التقدمي الأخير"!

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-09-2025, 05:27 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2020-2023م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
06-29-2021, 10:49 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
حزن "التقدمي الأخير"!

    10:49 PM June, 29 2021

    سودانيز اون لاين
    عبد الحميد البرنس-
    مكتبتى
    رابط مختصر



    لم يكن جمال جعفر في شقته المشتركة مع الصيني خلال ذلك المساء يحتسي كؤوسه. كان باختصار شديد يتجرعها، على فترات قصيرة متقاربة، تماماً كما لو أنّه يغالب مثل ذلك الحزن الأسطوري لصلاح عبد الصبور. حزن غير قابل للعزاء:

    "لعلكم لا تعرفون الحزن؟
    وإن عرفتموه، فهو ليس حزني!
    حزني لا تطفئه الخمر ولا المياه
    حزني.. لا تطرده الصلاة"

    لا يتبادر أبداً إلى ذهنك أن الوغد المدعو جمال جعفر هذا قد يكون أحد أصحاب الضمائر الحيّة في العالم على وفرتهم "هذه الأيام"، والخمر كما يقال "مقصلة التأنيب". ذلك أن وجود مها الخاتم سعيد برمته لم يكن يعني بالنسبة له سوى "نزوة عابرة". لقد وطأ هذا الوغد اللعين على حياة كاملة. ثم مضى لا يلوي، تالياً، على أي أسى خلّفه هناك باسم الحبّ وراءه.

    فهلمي إليَّ إذن يا سلوى هذا الشعر. هلمي إليَّ أنا.. لا إلى ذلك "التقدميّ المزيّف". أنا الذي ظلّ يبحث عن كتفٍ ما للبكاء.

    أنا الذي لم يحتمل قلبه خسارة وهج حبّ تلوث. حبّ عظيم كهذا أقبل أخيراً دونما وجود ختم يدعى هناك باسم "غشاء البكّارة"!

    "في غرفتي دلف المساء
    والحزن يولد في المساء لأنه حزن ضرير
    حزن طويل كالطريق من الجحيم إلى الجحيم
    حزن صموتْ
    ...
    حزن تمدد في المدينة"

    كان الوغد جمال جعفر يتناول كأساً. يقذف بمحتواها وعيناه مغمضتان في فمه. يُبقيه لحظة هناك. يهز بشدة رأسه ذاك حسن التكوين. ما يلبث أن ينفث آهة تنفرج معها عضلات وجهه المتقلّصة قليلاً. يفتح عينيه باحثاً عن سيجارته المشتعلة دوماً قبل أن يصل ما قد انقطع هناك من حبل الكلام بلذة. نادراً ما كان يصغي. شأن أولئك الأوغاد في كل زمان ومكان. إن فعل يبدو كمن يتزود مكرهاً بوقود لا بدّ منه لمواصلة الكلام عن أمر آخر. حاسة الاستقبال لديه ضعيفة. ضعيفة جداً. قال إن تناول الخمر على ذلك النحو بمثابة عادة لازمته منذ أن بدأ يتعرّف على الخمر لأول مرة عبر طعم العرقي المُر لما كان لا يزال في سنّ السابعة عشرة. لم يستطع الإقلاع عنها حتى بعد قدومه إلى كندا وخلال بعض أمسيات القاهرة، حين كان بعض المسافرين يجلب معه "خمر الأسواق الحرة الراقية". متهكماً على ذاته، قال:

    "ما قد رماه الله لا يرفعه أحد"!

    "ثمة أساطير تُحكى عن حبيبنا العرقي هذا"، قال جمال في هذه المرة ببهجة مغال فيها نوعاً ما. قال كذلك على طريقته الاستعراضية المعتادة عند بداية المساء نفسه: "خذا مثلا آخر هنا، يا الصيني وحامد": كان الرفيق منتصر جيفارا يبرهن في القاهرة على جبروت "حبيبنا العرقي هذا" بحركة ساحرة عادةً ما يصاحبها صراخ الجالسين حوله.. سخطهم ذاك على إهدار "نعمة المنفى المسماة العرقي". كذلك يسكب جيفارا جرعة كبيرة من زجاجة العرقي على البلاط. يشعلها. ترى ألسنة اللهب زرقاء خضراء صفراء ترتفع عن البقعة المراقة. لا تملك أنت لحظتها سوى أن تردد في نفسك قائلاً: "رحم الله هذه السيدة التي تدعى في القواميس الطبية باسم المعدة". كما لو أن معجزة سماوية تحدث أمامي. أخذ الصيني بغتة يشارك في الحوار، متخلّياً عن تلك القواعد التدريبية الصارمة التي تتطلبها وظيفة ساق محترف في كندا. بدا صوته ربما لطول الصمت والإصغاء أشبه بمسار خطى طفل شرع الحين في المشي. قال إن العرقي في بعض مناطق الوطن يتم استخدامه في حالة الطواريء كوقود للسيارة. لم ينتبه جمال جعفر لمعجزة كون الصينيّ شرع يتكلم. قطع عليه حبل الحديث، قائلاً: "قد لا تصدقني هنا يا رجل! أنا لا أسكر أبداً مهما استغرقني الشرب إذا لم أتخيل طعم العرقي المرّ في فمي"!

    أتصور أحياناً أن وظيفة مذيع نشرات أخبار وظيفة ملائمة لجمال. من سوء تقدير كندا أن يعمل جمال كغاسل أطباق في مطعم سويس شاليه. مهنة قد لا تهب شيئاً من عزاء. سوى لرهط أولئك الأشخاص من ذوي الحوارات الداخلية الطويلة الممتدة الصامتة. الصيني بدا لي بمثابة خيار موفّق لجمال كرفيق سكنَى. كان أشبه بصندوق ملائم لاستقبال خواطر رفيقه المختزنة طوال ساعات تلك الورديات الشاقّة. لعل ما يُبقي الصيني على صبره أكثر أن جمال ظلّ يدبج كلامه كخطيب سياسي سابق بالعديد من قصص مشاهير السياسة والثقافة، في "الوطن". ما ظلّ يسمع عنه الصيني في الماضي بكثير من الرصانة في سياق إذاعة نشرات "هنا أمدرمان إذاعة جمهورية السودان الديمقراطية" إذا به يتحول في حكايات جمال عن القاهرة إلى شخص من لحم ودم. يركب الترماي كوزير سابق صحبة جمال في طريقهما إلى ميدان العتبة لشراء ما يسميه جمال لوازم إنسانية كتلك الملابس الداخلية بنسيجها القطني. "ماركة رويال". ظلّ يسعدني بدوري أن أنصت إلى تلك القصص ذات "اللوازم الإنسانية". خاصّة أن ملابسات منفاي في القاهرة كانت غير ملابسات منفى كادر الخطابة الجماهيري جمال جعفر هذا، تلك الملابسات المترفة بمنحة التفرغ للعمل الحزبي.. إعانة شقيقه رئيس الخدم وقتها بقصر الأميرة جواهر آل عبد العزيز في جدة. "كان يا ما كان". كان هناك وزير ديمقراطي سابق "يعشق الرقص على الإيقاعات الغربية"، يقول جمال. ظلّ هذا الوزير يخشى على صورته أن تهتز أمام الجماهير. كان يواصل الرقص سراً أثناء تقلّده الوزارة. يقول لسكرتيرته العجوز المعينة من قبل الحزب الحاكم إن عليه أن يعمل على أوراق متعلّقة بأمن "هذا الوطن المقدس" قبل انعقاد مجلس الوزراء القادم، "لا زيارة اليوم". كان يعطي أوامره لها بصوتِ مَن يهم بفتح ملف حدودي عالق مع دولة مجاورة. لتواضعه الجمّ، كان الوزير يتأكد بنفسه من إغلاق باب المكتب السميك المبطن بالقطيفة الخضراء، بعد أن يلتفت نحوها عبر الباب الموارب مشدداً على لهجته "تؤجل كل المواعيد المتعلقة بخصوص اليوم، يا أستاذة". كان "سعادته" ينفق وقتاً طيباً من الرقص. وحده في أمان العزلة. المزاج معتدل، الهواية مشبعة، الصورة العامة مصانة. ما إن يغادر المكتب، وفي داخله رغبة في النوم لا تأخير، تبتدره السكرتيرة كما تفعل أعقاب كل مرة يأخذه خلالها مزاج الرقص قائلة بوجه جاد، ونبرة رصينة متفهمة "حفظكم الله يا سيادةَ الوزير لخدمة الوطن". مع ذلك، كان الوزير يدرك جيداً أن السكرتيرة تدرك جيداً أنّه يدرك جيداً أنّها تدرك جيداً أنّه كان يرقص، في الداخل. كانت السكرتيرة تراعي في هذا وصايا والدها، أحد مؤسسي "الحزب هذا"، لما أوصاها بالتدبر في قصة لا بدّ لمن يريد لزورقه أن يستقر على بحر السياسة المتقلّب أن يعي مغزاها، "بُنيتي". قصة ألا ترى عيناك ما لا يراد لك أن تراه!






                  

06-30-2021, 07:19 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حزن andquot;التقدمي الأخيرandquot;! (Re: عبد الحميد البرنس)

    ثمن التقدمية:
                  

06-30-2021, 09:21 PM

Osman Musa
<aOsman Musa
تاريخ التسجيل: 11-28-2006
مجموع المشاركات: 23082

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حزن andquot;التقدمي الأخيرandquot;! (Re: عبد الحميد البرنس)



    اخي الكاتب المبدع عبدالحميد
    تحية واحترام واهتمام وتقدير لكل ما تنشره من إبداع.
    ..
    اكرر التحية



                  

07-01-2021, 08:18 AM

موسى العجب
<aموسى العجب
تاريخ التسجيل: 12-07-2015
مجموع المشاركات: 98

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حزن andquot;التقدمي الأخيرandquot;! (Re: Osman Musa)

    حبيبنا تحيات الله الزاكيات
    شوق و وحشه
    باعد الله بينك و بين الاحزان
                  

07-01-2021, 11:07 AM

ابو جهينة
<aابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22832

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حزن andquot;التقدمي الأخيرandquot;! (Re: موسى العجب)

    تحياتي اخي الاديب البرنس

    *
    "ثمة أساطير تُحكى عن حبيبنا العرقي هذا"، قال جمال في هذه المرة ببهجة مغال فيها نوعاً ما. قال كذلك على طريقته الاستعراضية المعتادة عند بداية المساء نفسه: "خذا مثلا آخر هنا، يا الصيني وحامد": كان الرفيق منتصر جيفارا يبرهن في القاهرة على جبروت "حبيبنا العرقي هذا" بحركة ساحرة عادةً ما يصاحبها صراخ الجالسين حوله.. سخطهم ذاك على إهدار "نعمة المنفى المسماة العرقي". كذلك يسكب جيفارا جرعة كبيرة من زجاجة العرقي على البلاط. يشعلها. ترى ألسنة اللهب زرقاء خضراء صفراء ترتفع عن البقعة المراقة. لا تملك أنت لحظتها سوى أن تردد في نفسك قائلاً: "رحم الله هذه السيدة التي تدعى في القواميس الطبية باسم المعدة". كما لو أن معجزة سماوية تحدث أمامي. أخذ الصيني بغتة يشارك في الحوار، متخلّياً عن تلك القواعد التدريبية الصارمة التي تتطلبها وظيفة ساق محترف في كندا. بدا صوته ربما لطول الصمت والإصغاء أشبه بمسار خطى طفل شرع الحين في المشي. قال إن العرقي في بعض مناطق الوطن يتم استخدامه في حالة الطواريء كوقود للسيارة. لم ينتبه جمال جعفر لمعجزة كون الصينيّ شرع يتكلم. قطع عليه حبل الحديث، قائلاً: "قد لا تصدقني هنا يا رجل! أنا لا أسكر أبداً مهما استغرقني الشرب إذا لم أتخيل طعم العرقي المرّ في فمي

    *

    وللعرقي في صفحات مسيرتنا بارض الوطن حكايات تطول وتطول

    سنعود لك بحكاوي

    دمتم
                  

07-01-2021, 02:27 PM

محمد حمزة الحسين
<aمحمد حمزة الحسين
تاريخ التسجيل: 04-22-2013
مجموع المشاركات: 1439

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حزن andquot;التقدمي الأخيرandquot;! (Re: ابو جهينة)

    عندما يلتقي العملاقان البرنس وابو جهينه ...

    يبقي الحضور مهم مهما كان الأمر محزن ...
                  

07-01-2021, 09:03 PM

ابو جهينة
<aابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22832

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حزن andquot;التقدمي الأخيرandquot;! (Re: محمد حمزة الحسين)

    أذكر عندما كنت معلما في عطبرة ، قرر إتحاد المعلمين عمل رحلة لأحد أساتذة اللغة الأجانب في عطبرة الحكومية ، و خرجنا في رحلة على ضفاف نهر عطبرة ، و كان مع القوم ( جالون عرقي حجم عائلي من النوع الهاري ).
    فقام أحد الزملاء بإعطاء الخواجة كأسا مترعة بالمشروب الفنجري ، ( فكتحه ) الخواجة دفعة واحدة كما يفعلون بالبراندي في بلاد الفرنجة ، فتغير لون عيون الخواجة من الأزرق البحري إلى اللون الأحمر الجمري و خرج منهما وميض مشع يذكرني به الآن أفلام مخلوقات الفضاء، ثم وقف و هو ممسك بحلقه ، و فقد النطق لعدة دقائق حتى أشفقنا عليه، ثم دمعت عيناه و لحقناه بالعجور و الفول السوداني لكي يرمم ما تداعى من سقف حلقه و جدران حنجرته.
    هذا الخواجة كتب في مذكراته أنه عاش مع ناس يشربون شرابا لا يقل عن الصودا الكاوية و موية النار ، و لكنهم بدلا من أن يقوموا بإطفاء حريقتها و نارها بشيء بارد كالآيسكريم ، يلتهمون أحشاء الخرفان نيئة و بها كمية من الشطة الحارقة. و أظنه إقترح عمل تشريح لجثثهم فيما بعد ليعرفوا نوعية هذه الحناجر قبل أن ينقرض القوم كالديناصورات.
    ***
    عذرا البرنس لو كانت المشاركة خارج نطاق الموضوع الاصل
                  

07-01-2021, 09:20 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حزن andquot;التقدمي الأخيرandquot;! (Re: ابو جهينة)

    حدث أول لقاء لي بجمال جعفر بُعيد وصولي إلى وينبيك. مع ذلك، ما زلت أتذكر تفاصيل ما دار بيننا، بجلاء شديد وأسى.

    لكأن ذلك يحدث "الآن".

    لكأن الزمن توقّف هناك.

    هل كان بوسعي أن أرفع رأسي، أتفحّص وجهه المخادع هكذا برويّة، إذا ما كنت متزوجاً لحظتها من مها الخاتم؟ هل كان بوسعي أن أفعل ذلك من دون أن تميتني ذكرى فقدان غشاء بكارتها على سرير هذا "التقدميّ الأخير"؟ حتماً، لم يكن بوسعي أن أرفع رأسي في وجه القبح. ربما لأن الأمر أشبه بمطالعة صورتك الذاتيّة منعكسة على مرآة. لقد تركت أنا بدوري مها الخاتم لمصيرها ذاك من دون أعبأ لحظة واحدة أنني أترك في الوحل كذلك مبرر قيمي الثوريّة للأبد. يرغب الإنسان أحياناً بشدة في تغيير العالم نحو الأفضل، من دون أن يكون قادراً على تحمّل مسؤولية خطوة كتلك في الاتجاه؟ أما ذلك، فصوت صديقي الجميل بدر شاكر السيّاب: "وإن يخن الإنسان معنى أن يكون فكيف يمكن أن يكون"؟

    لم يتعرّف هو عليّ. وإن خاطبني من بعد أن قدّمني إليه عمر الخزين، قائلاً: "وقع اسمك هذا أليف، يا حامد عثمان حامد!

    اسمك هذا ليس غريباً عليًّ. لا بدّ أننا التقينا هناك، في القاهرة، يا رفيق حامد"؟ وقطّب جبينه كمن يحاول عبثاً تحديد موقع شخص ما في ذاكرة سريعة العطب. إلا أنّه حوّل تركيزه عني. وانزلق يكمل حكايته التي بدأها قبيل وصولنا، أنا وعمر.
    لقد كنت أنا حامد عثمان، ملك العادة السريّة السابق، أعيش على أيام تواجد جمال جعفر هذا في القاهرة في قاع لا يصل إليه خيال أولئك المترفين من أمثاله. قاع لا يزال يدفعني إلى الرغبة في أكل السكريات بأنواعها برغم التقدم في السنّ.

    قاع الجوع المزمن إلى كل شيء!

    حتى إنني كثيراً ما قد تساءلت في نفسي إن كان سبق في إحدى ساعات ما بعد منتصف الليل لجمال هذا أن أكل خلسة من بقايا طعام يضعها جار كما الحاج إبراهيم العربي في كيس أمام باب الشقة في إنتظار مرور الزبّال في الصباح؟

    ما إن وقعت عليه عيناي، بدا كما لو أن أيام العدل تقتصّ منه على ما قد فعل بحلم حياتي المسمّى: "مها الخاتم سعيد"!

    لم يتبقَ هناك على رأسه من شعر سوى القليل. شعر أبيض على الحواف. لقد غدا الوغد أكثر نحافة. ثمة رعشة خفيفة وفدت إلى أصابع يديه اللتين كان يحرّك بهما الكلمات في الهواء بينما يعتلي منابر تلك الندوات السياسيّة الجامعة. لعل الشيء الوحيد الذي تبقى منه من أيام القاهرة كان "براعة الحديث، في كل شيء، عدا السياسة". باختصار، بدا لي جمال جعفر في منفاه الكنديّ هذا أقرب شبهاً بشخصية نديم في مجالس أحد خلفاء بني "أميّة"، أو "العبّاس"، والأمر سيّان.

    لا أدري للدقة لماذا بدا لي كذلك؟

    قدّمني إليه عمر الخزين، قائلاً: "هذا حامد، من القاهرة، يا جمال". ثم ما لبث عمر الخزين أن توارى داخل صمته الكوني المطبق. يتحدث عمر بالكاد في مجلس يضمّ معه أكثر من فرد. مع أنّه أستاذ سابق. ثم لماذا عليَّ أنا أن أهتم دوماً بمثل أدق تلك التفاصيل لما قد يحدث هنا، أو هناك؟ والحياة تحدث الأغلب من دون وجود الحاجة إلى ما قد يبررها؟

    قال جمال جعفر يخاطبني عندها:

    "ها أنت إذن هنا، في أرض الحرية، أخيراً، يا رفيق"؟ قلت: "نعم". قال: "لم نكن قد التقينا في القاهرة"؟ قلت: "كنت أنت يا جمال جعفر تعتلي المنابر وكنت أنا أتابعك دوماً من على المقاعد الخلفية. يمكن أن تقول إنني لا أحبّ الأضواء مثل بعضهم". ابتسم كمن يؤكد على بداهة أن الرشق بالماء لا يقتل. كان جمال يجلس في لحظة تعارفنا تلك في منتصف ذلك النهار إلى مائدة من موائد "بورتيج بليس"، صحبة آخرين. بدا أمامه كوب من القهوة الإنجليزية شأن موضة المنفيين تلك في وينبيك. بدا كما لو أن حضورنا أنا وعمر قطع عليه حبل الحديث. وكنت أفكر في صورته القديمة، حين رأيته يومها عن بعد خارجاً رفقة مها الخاتم من مطعم لبناني ناحية الميرلاند بضاحية مصر الجديدة في القاهرة؛ عندما سأله أحد المتحلّقين من حوله، قائلاً: "بعدين ماذا حدث يا جمال"؟ قال: "طبعا كان الرجل متناقضاً هنا". أخذ يتبين لي أن جمال يتحدث عن رجل باكستاني يجيد اللغة العربية نوعاً ما. قال: "كلما رآني أتناول شيئاً من دجاج سويس شاليه، يستنكر عليَّ ذلك، قائلاً: هذا هرام، لا يجوز شرعاً، يا أخ الإسلام جمال". "لا عزاء أبداً هناك للضحايا"! كذلك، فكرتُ، بينما أتابع حديث جمال، والأريحية تشع من كيانه، كما لو أنّه لم يطبع حياة مها الخاتم بالأسى حتى الممات.

    كان الباكستاني يعمل في توصيل الطلبات من مطعم سويس شاليه بسيارته الخاصَّة إلى المنازل. بدا أن حجج جمال الفقهيّة لم تقنع الباكستاني. قال: "قلت لهذا الباكستاني، يا هداك الله، لحم الدجاج هذا وغيره يصير حلالاً، حتى لو ذُبح على غير الشريعة الإسلامية بمجرد أن تمد يدك إليه قائلاً: "بسم الله الرحمن الرحيم.. الله أكبر". لم يتزحزح الباكستاني عن موقفه المتشدد. "إلى أن صادف أول رمضان لي مع الباكستاني ورأيته يشعل سيجارة داخل سيارته بينما يغادر المطعم حاملاً بعض الطلبات منتصف النهار". قال جمال في نهاية ذلك المجلس، مخاطباً عمر: "أيها الكينيّ، دع لي هذا المصريّ الآن". كان يقصدني. يبدو أن آثار تلك المنافي الوسيطة قد وضعت بصماتها حتى على أسمائنا وألقابنا وكنياتنا.

    بدأنا المشي تالياً أنا وغريمي جمال جعفر هذا. قال متسائلاً خارج بورتيج بليس: "كيف حال القاهرة، الآن، يا رفيق حامد"؟

    كنت متأكداً أن سكة السؤال الأكثر عمومية عن القاهرة لا بدّ أن تصل بنا في نهاية المطاف إلى زقاق معتم صغير يدعى "مها الخاتم". أليس جميعنا يهفو إلى متابعة ما غرس من بذور في تربة الماضي؟ قلت بخبث مباغت أدهشني بدءا:

    "هل تسأل هنا عن القاهرة أم مها الخاتم"؟

    كما لو أن قلبه قد توقف، في أثناء السير.

    عاد بعد مرور نحو دقيقة بدت كما دهر:

    "دعنا نجلس هناك قليلاً، يا رفيق حامد".

    كان جمال يشير إلى كنبة خالية داخل محطة صغيرة لسيارات النقل العام قبالة بورتيج بليس ولم يبدُ عليه تأثر أكثر من ذلك. هناك، سألني بما بدا الحيرة: "ماذا قلتَ للتو"؟ قلت: "كنت أسمع بعض الناس يرددون عنك ذلك، في القاهرة". قال:

    "ولكنك لم تخبر أحداً ما من الرفاق هنا"؟

    كان في نبرة صوته تلك حتماً لا الخوف.

    بل ثقة من قد أحرز شهرة، في مجال ما.

    لا بدّ أنّه كان يحاول امتصاص الصدمة!

    أي شيء هنا قد يصدم جمال في الأخير، ولا أحد هناك أسرع من جمال نفسه في إفشاء سرّ جمالك. مع ذلك، وجدتني أقول: "أن أفشي ذلك هنا؟ فمسألة تعتمد على طبيعة علاقتنا مستقبلاً هنا". رفع الوغد رأسه أخيراً. أخذ يتمعن في وجهي هذه المرة برويّة. كما لو أنه يعيد تقييميّ. لم يطرف لي جفن في الأثناء. قال بما قد بدا الحيرة التامّة: "لماذا تواصل الكلام معي، يا رفيق حامد، بمثل هذا العداء، ولم نجلس معاً أنا وأنت على نحو خاصّ سوى الآن"؟ كان الوغد لا يزال يلقي بنظرته الصامتة المتمعنة تلك على وجهي. هززت كتفي، قائلاً بلا معنى: "لا أدري، لكنك تدري". كنّا لا نزال نطالع بعضنا البعض بوقاحةِ بدويين اختلفا على ثمن ديّة، حين ابتسم، قائلاً بمخزون خبرته العتيق كوغد لا كسياسي سابق:

    "هل ضاجعتَ مها الخاتم بدورك، يا حامد"؟

    كان طول مغالبة العيش في المنفى قد أكسبني بدوري مناعةً ضد المفاجآت: "هل مها قحبة كما ظلّ يُردد، في القاهرة، نقلاً عنك، يا جمال"؟ كذلك بدا مطرقاً غارقاً في الصمت لما رفعتُ وتيرة التحديّ: "ماذا حدث بالضبط بينكما، في القاهرة"؟

    نهض.

    وغادر.

    لم يُلقِ الوغد عليَّ حتى مجرد نظرة أخرى خاطفة. وأنا لا أدري لِمَ سألته ذلك السؤال وكنت أعلم سلفاً بمثل تلك الدقة من مها الخاتم نفسها بما حدث بينه وبينها. مها الخاتم. حلم حياتي المؤود على سرير جمال الملوكي.. السرير المجرّد عن أي مجد، أو شرف الإبقاء على وعد. إلا أنني أخذت أشعر بعد أن ألقيت عليه السؤال كما لو أن جبلاً من سلسلة جبال حقدي عليه قد بدأ ينزح مبتعداً عن صدري. لم نعد تالياً نتحدث كغريمين لدودين عنها مطلقاً. مع ذلك، كانت مها الخاتم دائماً ماثلة بيننا هناك، حتى في قلب الصمت، كما رائحة ذكرى مشينة. إلى أن عاد جمال جعفر بنفسه مجدداً وطرح في أثناء ذلك الاحتفال بعيد ميلادي الخامس والثلاثين من دون مناسبة ذلك السؤال: "من منكم يعرف مها الخاتم"؟

    ألقى سؤاله هكذا، علناً. لعله وقع ببصره وقتها على هيئتي المتأهبة تلك فامتنع عن بثّ المزيد من الهراء. لا لم يمتنع تماماً. وقد أضاف شيئاً آخر عنها. أضاف وصفاً شاعريّاً متسماً بالدقة لجمالها الخارجيّ الذي طالعني لحظة أن قابلتها أول مرة في مكتب الأمم المتحدة، فضلاً عن عبارة بدت هزيلة أخذت تبث وسط أولئك السكارى موجات أخرى من الضحك:

    "مها الخاتم مناضلة عظيمة حقاً"!!

    رفع كأسه تلك تحيةً لها في الهواء.

    ثم تبعه آخرون وهم يرددون وراءه:

    "مها الخاتم مناضلة عظيمة حقاً"!!

    كما لو أن الحياة وهم على مسرح.

    كما لو أن الوهم حياة على مسرح.

    وهل توجد أصلاً فتاة تدعى "مها"؟

    ظللتُ طوال ما تبقى من الليل أقاوم رغبة ملحة في اقتحام غرفته مجدداً ثم العودة بصورتهما تلك معاً هو ومها الخاتم أمام قلعة صلاح الدين في القاهرة من داخل دولاب ملابسه. كان السُّكر يدفعني مع مرور الوقت في اتجاه. وكان الأمل في لقاء الغد مع عمر وزائرتيه الثملتين يدفعني في اتجاه. لا أدري كيف وجدتني بعدها واقفاً مع جمال جعفر على البلكونة بينما تتناهى إلينا ضجة المحتفلين بعيد ميلادي من داخل الصّالة. ما أذكره أن جمال ارتعب، جحظت عيناه، وبدا كتمثال مُجْسِّدٍ للخوف والهلع؛ حين قلت له بجدية "يمكن أن أقذف بك الآن إلى فروع هذه الشجرة القريبة وأنت وحظّك". هاتفني جمال قبيل حضور عمر وجيسكا وأماندا إلى شقتي في مساء اليوم التالي، متسائلاً ما بين شك ويقين، قائلاً: "بالمناسبة، يا رفيق حامد عثمان، ماذا حدث أمبارح في البلكونة بيننا". أجبته ضاحكاً: "إنها تخاريف الويسكي يا رفيق"!
                  

07-02-2021, 07:45 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حزن andquot;التقدمي الأخيرandquot;! (Re: ابو جهينة)

    عزيزنا أبا جهينة حياك:

    هذه مداخلة من صميم عمل هذا البوست. الحكي بكل ما يثير هناك من مشاعر فرح وحزن وغيرهما. وهو حكي جميل مفعم بحس الفكاهة والسخرية من الذات والاخر في الوقت نفسه. ارجو ان ينال هذا الحكي البديع حظه في سياق روائي أو سياق نص قصصي متكامل. وصف المكان ووصف عيني الخواجة وتقلباتهما عند تجربة تذوق أول كأس.. وصف ينطوي على براعة كبيرة. وقد استوقفني كذلك تطورات الحدث وامتداده في سياق مذكرات الخواجة. كل الود
                  

07-02-2021, 02:40 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حزن andquot;التقدمي الأخيرandquot;! (Re: موسى العجب)

    حياك الله عزيزنا موسى. سعيد بمرورك من هنا. مع امل ان تكون بخير. على انه حزن على بنى ذهنية وطرق في التفكير. كل الود
                  

07-02-2021, 05:32 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حزن andquot;التقدمي الأخيرandquot;! (Re: Osman Musa)

    حياكم الله شاعرنا المبدع عثمان موسى. دوماً أسعد بحضورك ذي المسحة الإنسانية الخالصة. كل الود
                  

07-02-2021, 07:58 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حزن andquot;التقدمي الأخيرandquot;! (Re: عبد الحميد البرنس)

    حياكم الله اخي محمد حمزة الحسين:

    بالنسبة لي أشكرك كثيرأ على كرم لا أستحق. اما ابو جهينة فهو بالفعل كاتب مجيد مده العيش أو طول العيش خارج البلاد وتنوع وتعدد بيئات ذلك العيش بالكثير من التجارب الحية. وقد كتبت عنه قبل سنوات هي من السنوات الذهبية لهذا المنبر. كان بوستا مخصصًا لكتاباته البديعة. والفقد العظيم في حياة ابو جهينة المعلن عنها هنا عبر كتاباته عمق من حسه الإنساني كثيرأ. اتمنى ان تجد أعماله الكثير من النقد الموضوعي. كل الود
                  

07-03-2021, 04:35 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حزن andquot;التقدمي الأخيرandquot;! (Re: عبد الحميد البرنس)

    لا أحب ما يحمل الإنسان داخله أحياناً من رؤى لا إنسانية. لكنني أحب الإنسان في حد ذاته. هذا العابر في المكان والزمن ما أجمل أن نحتفي بوجوده العابر سريع الزوال هذا!
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de