|
Re: الأستاذ محمود محمد طه: د. محمد نجم الدين عن (Re: عبدالله عثمان)
|
*منقول من الفيس بوك صفحة د. محمد مهدي عبدالله* كتب د. محمد نجم الدين عباس:
*٢٦ فبراير* *ذكرى أستاذ سعيد*
قرأت كتب الفكرة الجمهورية وأنا فى المرحلة المتوسطة، حيث كنّا نحضر من الفاشر التي كان يعمل فيها أبى معلّماً إلى الخرطوم فى العطلة الصيفية، وكنا ننزل بمنزل عمي بالديوم الشرقية، وكان عمي محباً للجمهوريين، معجبا ً بالأستاذ وآرائه ويحتفظ بمعظم كتب الفكرة، كما كان يحرص دائماً على الحصول على آخر ما أخرجه الجمهوريون من كتيبات. وكنت أقضي جزءاً كبيرا من وقتي في قراءة كتب الأستاذ محمود، وعن هذا الطريق عرفت الأستاذ وعرفت الفكرة. غير أنّ معرفتي بالأستاذ محمود لم تدخل مرحلة العلاقة (الشخصية) إلا عندما ذهبت إلى منزل الأستاذ سعيد، ثم صرت من رواد ذلك المنزل المبارك فترة من الزمن. كانت الأحاديث التى يرويها لنا الأستاذ سعيد، أو التي تُروَىَ فى مجالسه عن الأستاذ، وعن زمن الحركة هى التي فتحت ذهني على صورة ما للأستاذ، صورة أعطتني بُعدا ثانياً بعد البُعد الذى طالعني فى الكتب وما حملته لي من تصور فكري، بحيث يمكنني القول أنه جسّد لي صورة حيّة للأستاذ أعانتني فى خلق علاقة به كانت بدأت تطالعني فى الرؤى وفى المحبة التى تغمر القلب فى تلك الفترة العامرة المشرقة. كما كانت القيم التى تطالعنا فى ذلك الكتاب الأكبر تشدنا إلى الصانع وصاحب الكرمة كان الأستاذ سعيد إذا تحدث عن الأستاذ، تحدث بشكل وصورة تختلف تماماً عن حديثه عن أيِّ شخصٍ أو شئٍ آخر، كان يتحدث بنبرة، وشكل، وحتى صوت يترك فى النفس وعلى الفور إحساساً بأن الموضوع مختلف تمام الاختلاف عن أىِّ شئٍ آخر مألوف أوغير مألوف، وكان حديثه فى نفسي هو فعل السحر بعينه! سواءً تحدث عن تاريخ الأستاذ فى العمل السياسى، أو تحدث عن سيرته العامة، حتى كيف كان الأستاذ يقطع قطعة الخبز فى الأكل! حدثني فى أول يوم جئته فيه أطلب أن أكون جمهورياً عن الأستاذ، وحكى لي عن حادثة الاعتداء على الأستاذين جلال والباقر الفضل أثناء الحملة بسوق ود مدني، وما قام به من تحركات لعلاج الأستاذين ولتأمين الحملة، وفتح البلاغات فى وجه المعتدين، ثم أخبرني أنه عندما حضر الأستاذ من أم درمان فجأة ودون سابق توقع كيف أنه أخذته مفاجأة مقابلة الأستاذ، وأن الأستاذ قد سأله عمّا حدث فعجز عن النطق رغم أنّه أشرف على كل شئ! ثم سأله ثانية فلم يتمكن من أجابته، ثم سأله للمرّة الثالثة فجرت دموعه من غير إجابة أيضاً! وقد كان لهذه القصة أثر علىيَْ لم يزايلني حتى لحظتي هذه...، فقد كان شديد الوقع فى نفسي هذه العلاقة الغريبة المدهشة بين الأستاذ وأكبر تلاميذه! وقد كان من القصص الغريبة أيضاً والتي أحب الأخ عبد الله عثمان روايتها هنا قصة العم خلف الله قرشي رحمه الله مع قريب له. فقد حكى أنّ أحد أقاربه قد توفيَّ، وكانت أسرته في أم درمان وأن الاستاذ سعيد وقد كان وقتها فى أم درمان قد اتصل بالعم خلف الله وأخبره بضرورة حضوره للعزاء، كما طلب منه إخبار أحد أقارب المتوفى وإحضاره معه اذا أمكن للعزاء. ذهب العم خلف الله وأخبر قريبه وتواعدا على اللقاء فى السوق الشعبي في اليوم التالي. وبعد أن أخذا مكانهما فى البص قال العم خلف الله لقريبه: شوف أنا فى أم درمان أول حاجة بمشي الثورة للأستاذ محمود، وهناك فى سعيد، وبعد داك بمشي العزاء. وقال أن قريبه كان متديناً وكان مشوشاً عليه فى أمر الأستاذ فامتعض وتغير وجهه وظهر عليه الغضب وقال للعم خلف الله: كلامك ده كيف؟ نحن ماشين عزاء تقول لى نمشى لفلان وعلان؟ أنا ما بمشي لمحمود ولا حاجة، نحن نمشي العزاء وبعد داك انت ممكن تمشي محل ماشي. غير أنّ العم خلف الله أصرّ على موقفه وقال له: أنا إن ما مشيت للأستاذ ده ما بمش أى محل.. انت لو ما عايز تمشي معاي ممكن أنا أوصف ليك بيت العزاء وانت تمشي براك، اصلو العزاء ده خبر ما فى جنازة منتظرننا بيها. غير أن قريبه قال انه غير معتاد على المواصلات والمعالم فى العاصمة، وبعد حيرة وافق على الذهاب مع العم خلف الله بعد أن أعلن أنّه لن يدخل إلى منزل الأستاذ بل سينتظر بالخارج. قال العم خلف الله أنه بعد أن وصل ودخل على الأستاذ الذى عزّاه فى قريبه سأله الأستاذ سعيد عن قريبه والذى من المفترض أن يصل معه قال العم خلف الله انّ قريبه ينتظر بالخارج، فأخبر الأستاذ سعيد الأستاذ محمود، والذى قال: مش معقول! وخرج إلى خارج المنزل حيث ذهب إلى الرجل والذى كان يقف فى ظل حائط فسلم عليه سلاماً حاراً ووضع الأستاذ يده الشريفة على كتف الرجل ويده الأخرى فى يده وهو يوالي الترحيب به وقاده هكذا إلى داخل المنزل إلى حجرته، ثم أجلسه إلى جواره، وطلب إكرامه ووالاه بالاهتمام والحديث، يكاد لا ينصرف عنه مطلقا ً! وكان يحدثه عن أهله، وعن الأولياء المدفونين فى منطقتهم وعن قصصهم وأسرارهم. قال العم خلف الله أنّه لا حظ أن الرجل بعد أن كان متبرماً متوجسا ً يجلس على طرف العنقريب، صار ينشرح شيئاً فشيئاً، حتى خلع عمامته وانفرجت أساريره، وبدأ يشارك الأستاذ الحديث، ويحدثه عن ذكرياته أيام الانجليز وغيرها، حتى مرَْ وقت طويل دون أن يبدى الرجل أى رغبة فى الذهاب إلى مشوارهم الأصلي حيث العزاء. فقال له العم خلف الله: يا فلان مش أحسن نمشى على العزاء قبل الوقت يروّح؟ فما كان من الرجل الا أن قال له: ياخي إنت مستعجل مالك؟ خلينا ناخد قعدتنا مع شيخ محمود ده... أصل الوفاة فيها جنازة؟ دى ما خبر ساى ما فى عجلة! قال العم خلف الله انهم حين قاموا للذهاب إلى منزل العزاء قال قريبه للأستاذ: خلاص يا شيخ محمود أنا بامشى بيت العزاء ده وان شاء الله بكرة الصباح بنجيك هنا! وقال ان الرجل صار يداوم على زيارة الأستاذ كلما جاء إلى العاصمة!. وبمثل هذه الذكريات عن الأستاذ، وبما كان يمدنا به الأستاذ سعيد من مدد متصل عن سيرة الأستاذ، نشأ جيل كامل من الأخوان والأخوات الجدد، والذين لم يروا الأستاذ حساً، غير أنهم تشربوا سيرته من تلك المجالس المباركة، والتى تعلّم بالهيئة، وبالمعاملة، وباللمح وبالنظرة، دون تعمّل أوتنطع. ولهذا كان أثرها فى النفوس بالغا ً. وأذكر أيضا أننا فى جامعة الجزيرة كان لنا فى كلية الطب برنامج يسمى برنامج طب الأسرة، حيث يجرى توزيع الطلبة على بعض المنازل فى مدينة ود مدني، حيث يقومون بدراسة الحالة الصحية للأسر، ومتابعة الحالات المزمنة وكيفية تعامل الأسر معها، إضافة إلى موقف التحصين وظروف السكن إلخ. وحدث أنه ذات مساء ونحن فى المنزل المبارك نستعد للجلسة طرق الباب طارق، ففتحه الأخ أيمن عبد المحمود فكان فى الباب طالبتين من زميلاتنا، كانتا قد تم توزيعهما على منزل الأستاذ سعيد، كانتا تريدان الدخول إلى الجزء الخاص بالنساء فى المنزل، غير أنّ الأخ أيمن أصر على إدخالها إلى الأستاذ سعيد أولاً وكانتا مترددتين، فلمحتهما وسلمت عليهما، واصطحبتهما إلى حجرة الأستاذ سعيد. وقف الأستاذ سعيد رغم ظروفه الصحية عندما أخبرته عنهما، فسلّم عليهما ودعاهما للجلوس. فجلستا. وكانتا تريدان الانتهاء من الموضوع الذى جاءتا من أجله بسرعة، غير أنّ الأستاذ سعيد أصرّ على إكرامهما أولاّ وطلب دعوة الأخوات جميعهن من الداخل للترحيب بهنّ فحضرن. ولاحظت زميلاتنا حضور النساء، والطريقة التى يعاملهن بها الأستاذ سعيد، والاحترام الذى يعاملن به الأستاذ سعيد، كما لاحظتا الأدب والوقار الذى يسود المنزل، والروح التى تسري فيه. ثم دار حديث بين الأستاذ سعيد وبينهما عن برنامج طب الأسرة هذا، فأبدى الأستاذ سعيد بعض الملاحظات، وكان يوالى الترحيب بهما. وقد لاحظت انهما بعد قليل قد نسيتا برنامج طب الأسرة وصارتا مندمجتان بالكلية فى ذلك الجو المروحن وظلتا فى المنزل حتى حضرتا الجلسة وقام أحد الأخوان بتوصيلهما إلى الداخلية. وفى اليوم التالي قابلت إحداهما في الجامعة فابتدرتني قائلة بانفعال: ليه ما كلمتنا من زمان؟! وقد أصبحت زيارة الأستاذ سعيد في الفترة الأخيرة وردا ً يوميا ً لعدد كبير من طلاب الجامعة بنين وبنات. كما أذكر أن أحد الضيوف ذات مرة حضر إلى زيارة الأستاذ سعيد وكان يقود عربته الحكومية سائق من أبناء الجنوب، وكانوا فى طريقهم إلى الخرطوم، فرفض السائق الدخول إلى المنزل مفضلا الانتظار فى العربة، وعندما علم الأستاذ سعيد أرسل أحد الأخوان وقال له : أمشى دخّل الراجل ده وقول ليه سعيد قال ليك نحن ما فى زول بيقعد جنب بيتنا برّة من غير ما يدخل. فذهب الأخ وأخبره وألح عليه حتى دخل. وعندما دخل كان منكمشا ولا يبدو عليه الارتياح، غير أنه بعد أن جلس، وشرب العصير والشاى، وجلس لبعض الوقت حتى جاء الفطور، كانت الصينية قد وضعت على الأرض، فنزل من كان فى المجلس إليها ونزل هو معهم حيث كان الصينية الأخرى بها بعض الأخوات مع الأستاذ سعيد فأكلنا جميعاً، ثم شربنا الجَبَنة، والرجل يأخذ فى الاندياح تدريجيا ً حتى اندمج تماما ً فى جو المنزل وصار يتجاذب أطراف الحديث مع الأخوان والأخوات. وكان من الأخوان الذين أكلوا معنا على الأرض الأخ الراحل عز الدين ميرغنى وكان حينها مديرا للحفريات وكان الرجل يعرفه وقد أخذ بأدب القوم وتواضعهم، وقد كنت ألاحظ مدى الارتياح الذى ارتسم على وجهه من المعاملة الكريمة والجو السامي الذى وجده فى ذلك المنزل العجيب كانت أياماً كنسمات الصيف تلك التى قضيناها فى معية الأستاذ سعيد، أياما لا ينقضى الوطر من استرجاعها، بل من معيشتها، فهى لن تكون أبداً تاريخا ّ بعيد الصدى، بل هى إحساس يومي نتنفسه فى النفس الطالع والنازل، حتى أنّ الدمع ليجرى مراراً كلما ألجأتنا مرارة الواقع إلى طيّب الذكريات... قال لى الأخ صديق أبوقرجة فى تعبير صادق وبليغ وكنا نتجاذب الذكرى عن سيرة الأستاذ سعيد والأستاذ جلال: والله الناس ديل لو الواحد ما لاقاهم تاني يكون اتمقلب مقلب كبير خلاص.
د/محمد نجم الدين عباس
| |
 
|
|
|
|