بدا يوثق د. الواثق كمير عن رحلته مع الراحل منصور خالد والحركة الشعبية

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-08-2024, 07:48 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2020-2023م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-07-2021, 04:34 AM

زهير عثمان حمد
<aزهير عثمان حمد
تاريخ التسجيل: 08-07-2006
مجموع المشاركات: 8273

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
بدا يوثق د. الواثق كمير عن رحلته مع الراحل منصور خالد والحركة الشعبية

    03:34 AM February, 06 2021

    سودانيز اون لاين
    زهير عثمان حمد-السودان الخرطوم
    مكتبتى
    رابط مختصر










    الخروج من الذات لملاقاة الآخر! رِحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: الحرَكة الشَّعبية، والبَحْثِ عن السَّلام ووحَدَّة البلاد .. بقلم: د. الواثق كمير
    الحلقة (1)
    رحيل منصور: فقد عظيم في زمن مرير!
    كالعادة، فجعني تطبيق الواتساب “اللعين” بخبر رحيل الدُكتور منصور خالد، مساء الأربعاء الموافق الثاني والعشرين من أبريل الماضي، وأنا في القاهرة. أتاني بالنبأ واتصل بِي للتعزية اثنان من الأصدقاء المُشتركين بيني وبينه: الأستاذة سامية طمبل والصديق الشاب محمَّد إبراهيم مُنعم منصور، وهُما كانا من المُلازمين لمنصور في الآونة الأخيرة، فطفرت مني دمعات لم أشأ حبسها وتركتُها لحالها. وبقدر ما استوعبتُ فَقْدَ أستاذي “معلمي الخاص” وصديقي العزيز دكتور منصور، شعرتُ بحُرقة وأسى ولومٌ قاسي لنفسي لعدم التوفيق في اللقاء معه بعد آخر مرَّة التقيتُه في منزله بالخُرطوم في أواخر فبراير 2012، بالرغم ممَّا بذلتُه من وُعود. ومع ذلك، ظللتُ متواصلاً معه منذ ذلك الحين بعد أن انتقلتُ للإقامة في كندا، خاصة في السنتين السابقتين في أعقاب رحلته العلاجيَّة إلى لندن في مطلع 2019، والتي لم يعُد منها للخرطوم إلا أيضاً في يناير من هذا العام، 2020، ليتوفاه الله بعد ثلاثة أشهر ونيف. كانت الصديقة سامية طمبل همزة وصلٍ بيننا حينما يكون منصور في الخُرطوم، إذ كانت تسجِّل له رسائل صوتيَّة على ‘الواتساب’ يبعث بها لي وتدعه يستمع إلى تسجيلاتي له، كما كانت تقرأ له ما أُرسِلُه من مقالاتٍ طالباً تعليقاته. أمَّا في لندن، فكان تواصُلي مع منصور، خاصة أيام وجوده بالمشفى، عن طريق أحباءٍ مُشتركين من أميز الأطباء، كُلٌ في تخصُّصه، لكنهم اجتمعوا على حُبِّ منصور واحترامه ولم ينقطعوا قط عن معاودته وزيارته وتتبع حالته الصحيَّة بانتظام. لم يقصِّر الدكاترة أصحاب المهنة والخُلُق الرفيع، صلاح عُمر، والذي كان ينسق له زياراته ويرتب مواعيده مع الأطباء ويقضي له كل احتياجاته الملحة، وصالح خلف الله والفاتح بركة وأحمد عبَّاس والتجاني أبو قصيصة، وإبراهيم الكوباني، في توفير الرِّفقة له والتواصُل الاجتماعي معه طوال فترة إقامته في لندن، بل وكان لزوجاتِهِم فضلٌ كبير بإعداد المفروكة والعصيدة “الأكلة” المُفضَّلة لمنصور. وقائمة المواظبين على زيارة منصور كانت تضم أصدقائه: الأستاذ حسن تاج السر والسفير فاروق عبد الرحمن والسفير عصام أبو جديري. طوال هذه المُدَّة.. كُنتُ أُحِسُّ بالتقصير من جانبي لعدم تمكُّني من الإيفاء بوعدي لمنصور باللقاء معه في لندن، من جهة، ولسوء الطالع، الذي وقف في طريق منصور من القُدُوم إلى القاهرة لتدشين كتابه الأخير “شذراتٍ من، وهوامش على سيرة ذاتيَّة”، الذي صدر في أواخر عام 2018، من أربعة مجلدات، والذي كان مقرَّراً له أبريل 2019.
    رَحَلَ منصور حزيناً يحمل معه ألمُه المُقيم مُنذُ الرَّحيل المُباغت للدكتور جون قرنق، ثمَّ ما وُضِعَ على الجُّرح من ملحٍ بعد أن اختار الجنوبيون الانفصال والاستقلال ببلادهم. فخاب الظن في تحقيق مشروع وحدة البلاد الطَّوعيَّة التي ظلَّ ينافح عنه لعُقُودٍ من الزَّمان. وفوق ذلك كله، بدلاً عن التمسُّك بمشروع “السُّودان الجديد” في دولة الجنوب الوليدة، انحرفت قيادات الحركة الشعبيَّة الحاكمة عن المسار وتفرَّقت أيدي سبأ، وانشقَّ الجيش الشعبي إلى فصائل مُتقاتلة. ذلك، بينما مدَّد الانفصال في حياة حُكم الإنقاذ في الخُرطوم لتزيد تعسُّفاً واستبداداً وفساداً بعد استغلال اتفاقيَّة السَّلام الشامل لتفرض واقعاً دُستورياً للتمكُّن من مفاصل السُّلطة ومُؤسَّسات الدَّولة. ولرُبما تعويضاً لتقصيري في لقاء منصور، طلبتُ وألحَّيتُ في طلبي من رفيقة دربي زينب بشير البكري أن تزور منصور وتطمئن على صحَّته، حيث كانت في السُّودان في إجازة قصيرة للأسرة والأهل، في أغسطس 2018. وبالفعل، زارته زينب في مساء الجمعة 3 أغسطس، وروت لي كيف بدا لها منصور مهتماً بما يدور في السَّاحة السياسيَّة، وكأنما طغى عليه هَمٌ ثقيل على مستقبل البلاد. في هذا السِّياق، لاحظت زينب أنه ركَّز أثناء حديثه القصير معها على أمرين، سأتعرَّضُ لهما لاحقاً.. أولهما، عن بيته ونيَّته في تحويله إلى متحف؛ وثانيهما، عن الحَسَد.
    ظلَّ منصور مقيماً بالخُرطوم في أعقاب إعلان استقلال دولة الجنوب، بالطبع باستثناء رحلاتٍ قصيرة متقطِّعة، حتى انطلاق الثورة في ديسمبر 2018، ومن ثمَّ التوقيع على “إعلان قوى الحرية والتغيير” في الأوَّل من يناير 2019. ومع ذلك، لم يقطع منصور اتصاله وتواصُله مع قيادات الدولة والحركة الشعبيَّة في الجنوب، خاصة مع الرئيس سلفا كير. حقاً، فقد نعاهُ رئيس الجُمهُوريَّة بنفسه في برقيَّة تعزية مُطوَّلة عدَّدت مآثر منصور المُتعدِّدة وإسهامه الملموس في الوُصول إلى اتفاقيَّة السَّلام الشامل، والتي نُشِرت بعد ساعات قلائل من إعلان خبر وفاته. بل في سابقة غير مشهودة، أصدَرَ الرئيس قراراً استثنائياً بتنكيس علم البلاد لمدَّة ثلاثة أيام اعترافاً بمواقف منصور التاريخيَّة الشُجاعة بجانب قضايا المُهمَّشين وشعب جنوب السُّودان. كنتُ قد نشرتُ مقالاً في مطلع نوفمبر 2018، استنهضتُ فيه قيادات الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي في الجنوب لاستخدام ما لديها من علاقاتٍ وقُدُراتٍ وتجارِبَ مُتراكمة لكي تُسهم بفعاليَّة في إعادة توحيد الحركة في الشمال. قلتُ أنه ليس الواجب السِّياسي فحسْب، بل أيضاً الواجب الأخلاقي يُملي على هذه القيادات حثَّ وإقناع رفاق الأمس المُتنازعين على قيادة الحركة الشعبيَّة شمال، بوحدة وتماسُك التنظيم والوقوف إلى جانبهم بُغية التوصُّل إلي كلمة سواء، تُعزِّز من موقفهم التفاوُضي مع الحُكومة، وبالتحديد، “حق تقرير المصير” والاحتفاظ بالجيش الشعبي. أرسلتُ له المقال، عشماً في تعليقه وملاحظاته، على واتساب الصديقة سامية طمبل التي طبعته له على الورق، فمنصور لا يقرأ على الشاشة ولا يتعامل مع التكنولوجيا ومنصَّات التواصُل الاجتماعي «إلى قيادات الحركة الشعبية، ألم تحِن ساعة الوحدة؟» (سودانايل، 2 نوفمبر 2018). لم يبخل عليَّ بالرَّد، فقبل نهاية الشهر تلقيتُ منه تسجيلٌ صوتي يقولُ فيه: «واثق، شكراً جزيلاً ولا عدِمناك. أحبُّ أقول ليك، في البدء كنت دايماً بفتكر إنو إسهامك في هذه المرحلة سيكون إسهاماً مفيداً. سَعِدتُ بالمقال الذي كتبته وسابعت ليك في مرحلة قريبة بعض المُقترحات أو خُطوط عريضة عشان نشوف كيف نمشي بيها لقدَّام، وسأبلغ سلفا برضو بما اقترحته ولا شكَّ لديَّ أنه حيقبل هذه المبادرة منك. شكراً». بالفعل، ذهب منصور إلى جوبا في منتصف نوفمبر 2018 والتقى بالرئيس سلفا، من جهة، والفريقين عبدالعزيز الحلو ومالك عقار، من جهةٍ أخرى، بالرَّغم من أن اللقاءات لم تُثمر في جمع الطَّرفين المُتخاصمين، فكُلٌ منهما تمسَّك بموقفه. توُفي خاله، الإداري الفذ، أمير الصَّاوي، في 22 نوفمبر فبعثتُ إلى منصور برسالة تعزية صوتيَّة، قلتُ له فيها: «سلامات وتحايا كُبار من تورونتو. الشوق.. الشوق.. كما يُغني المُطرب محمود تاور. أبدأ لك بالعزاء في عميد الأسرة والدَّوام لله. أوشكتُ أن أُكمِل الجزء الأول من “شذرات”، والذي أشرتُ فيه عدَّة مرَّات إلى الخال ودوره في أنَّك تُصبح “منصور” الذي عرفناه وفيما أنت عليه الآن من شُمُوخ وسُمُو. الله يديك العافية ويطوِّل عمرك».
    سافر منصور إلى لندن لمراجعة طبيبه الخاص في 21 يناير 2019، ولم يكن يدري أنه سيقضى عاماً كاملاً بعيداً عن البلاد، ليعود في نهاية الأسبوع الأوَّل من يناير 2020، وبعد رحلة استشفاء طويلة ومُرهقة فقد منصور خلالها بعض الوزن وتبدَّى جسده هزيلاً كما رأيته في بعض الصُّور التي كانت تُرسلها سامية. وبالرغم من ذلك، أصرَّ على السَّفر إلى جوبا في الرَّابع عشر من نفس الشهر، وكأنها كانت زيارته الأخيرة لوداع جوبا، المدينة التي عشقها في رحلةٍ ليومٍ واحد. يبدو أنَّ الحُزن الذي تسلَّل إليه خلسة خلال السنوات القليلة الماضية قد ظلَّ مُلازماً له حتى بعد عودته، فلم يكن مطمئناً على أحوال البلاد. ولمنصور أطروحة أساسيَّة، في تشخيص الأوضاع السِّياسيَّة السُّودانيَّة، عبَّر عنها في كلماتٍ معدودة: «رغم تغيُّر الظروف، تبقَّىَ الحال كما هو عليه!». في أواخر يناير، بعثتُ للصديق عبدالله حمدوك، رئيس الوزراء، من تورونتو رسالة شفويَّة عن طريق صديقنا المُشترك د. غانم عبدالسلام، طلبتُ فيها منه أن يقوم بزيارة منصور بعد وصوله من لندن في النصف الأوَّل من نفس الشهر، والاستئناس برأيه. فردَّ عبدالله سريعاً في اليوم التالي: «قمنا بزيارة د. منصور قبل أسبوعين وكان لقاءً جميلاً ومفيداً، واتفقنا على أن نُواصل اللقاءات»، ولا أظنُّ أنَّ الأقدار شاءت أن يتمَّ ذلك اللقاء الموعود.لخروج من الذات لملاقاة الآخر! رِحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: الحرَكة الشَّعبية، والبَحْثِ عن السَّلام ووحَدَّة البلاد (2) .. بقلم: د. الواثق كمير

    الحلقة (2)
    رحيل منصور: فقد عظيم في زمن مرير!
    كان منصور جدَّ سعيدٍ بثورة الشباب في ديسمبر 2018، ولكن خاب ظنه فيما أفضت إليه من وثيقة دُستوريَّة ومُؤسساتٍ لإدارة عمليَّة الانتقال، وما يعتري المشهد السياسي عموماً من ربكة وارتباك. فما زالت مسحة من الحُزن تُخيِّم عليه، تنعكسُ على صوته وتكسي نبرة حديثه، في رسائله الصوتيَّة. في أحد هذه التسجيلات، 13 فبراير 2020، قال لي: «يا واثق إزيَّك! كُنتُ أتمنى أن تكون معنا في الظروف اللي نحنا فيها دي! مش عشان تتعذب، لكن عشان نستفيد من أفكارك النيِّرة! إن شاء الله أشوفك في لندن. شكراً». وفي 11 فبراير، نشرتُ مقالاً نوَّهتُ فيه أنه لا تثريب على طلب رئيس الوُزراء لاستخدام بعثةٍ سياسيَّة خاصَّة، ويتسق تماماً مع دور الأمم المتحدة والآليات التي تستخدمها لحفظ السَّلام والأمن الدوليين! ولا يصِحُّ النَّيْلَ من رئيس الوُزراء ودمغه بالعَمَالة والخيانة الوطنيَّة جرَّاء طلبٍ مشروع ومطروق في تجارب أخرى، ولو كان مثيراً للجَّدَل. ودأباً على تواصُلي مع منصور، بعثتُ له - كالعادة - بالمقال القصير راجياً تعقيباته، فأطلعَتهُ عليه سامية طمبل وقرأتهُ له، فأرسَلَ لي تسجيلاً صوتياً في 17 فبراير 2020، قال فيه: «يا صديقي، كيف الحال! هذه أفكار رائعة كشأننا دائما مع أفكارك. إن شاء الله لما استطيع أن أجلس وأكتب، عندي كلمات كثيرة أود أن أنقلها إليك. شكرا». كان منصور يرغبُ في السَّفر إلى لندن مرَّة أخرى بعد تعرُّضه لانتكاسة صحيَّة في ذلك الوقت، ممَّا دفعه للتفكير في مراجعة طبيبه الخاص، على أن نلتقي في القاهرة في طريق عودته إلى الخُرطوم. فأرسَلَ لي تسجيلاً آخر بهذا المعني في مطلع مارس، وكان صوتُهُ خفيضاً ومُرهَقاً، ذكر فيه: «إزيَّك يا صديقي العزيز، إن شاء الله كويس. كنا نتمنى تكون معانا هنا لكن الظروف لا تأتي بما تشتهي السُّفُن. تحياتي للأسرة، وأتمنى، مش أتمنى، في الواقع أنا راجع للدكتور بتاعي لمُدَّة شهرين، وإذا أنت لسَّه حتكون في القاهرة نتلاقي يعني. شكراً». وبالطبع، لم نلتقِ، إذ لم تسعفه صحَّته للسَّفر إلى لندن أو القاهرة كما كان يبتغي، وظلَّ يتلقى العلاج بالخُرطوم حتى قدَّر الله أن يختاره إلى جواره في الثاني والعشرين من أبريل 2020.
    عبَّر منصور عن حُرقته وضَجَرِه مما جرى ويجري من أحداث، واختياره للكتاب جليساً والنبات صديقاً، وتصدَّر سأمه وحُزنه الأسطُر الأولى، الفصل الأوَّل من الجُزء الأوَّل، لآخر إصداراته “شذرات” في سبتمبر 2018. تحت عنوان: “الكاتب والكتاب”، كتب د. منصور: «في أُخرَيَات أيامي أوقفتُ جُلَّ وقتي على الحياة مع النبات وللكتاب بعد أن عَلَّمتني العُلقى المُمتدَّة بالأناسي أنهم – إلا من عصم ربي – أكثر مخلوقات الله خباثيَّة. النبات هو الكائن الحي الوحيد الذي لا يُفارق منشأه، كما هو أكثر مخلوقات الله وفاءً لصاحبه. أمَّا الكتاب، كما وصفه الجاحظ في “الحيوان”، (فهو الجَّليس الذي لا يُطريك، والصَّديق الذي لا يقليك، والرَّفيق الذي لا يَملُّلك، والجَّار الذي لا يستبطئك). النبات والكتاب لا يعزلان الملاء عمَّن يُحب، فبين الناس من يشاركك حُب الزَّرع، وفلاحة الأرض، ورعاية كل نتوج يُنبته الله نباناً حسناً. أمَّا الكتاب فلا يُخفي المرء عن الناس، لأنَّ دُنيا الكتب هي دُنيا الناس. لهذا أضحت مكتبتي هي الصَّومعة التي لا تصيبني فيها خفة من النوم حتى أضحيتُ مِسهاراً لا يخشى غوائل السَّهر، كما تحوَّلَتْ إلى ساحة مُغلقة للتفكير فيما قرأتُ لفتراتٍ تطولُ أو تقصُر».
    إنَّ رحيل منصور عن دُنيانا لَفَقْدٌ كبير في زمنٍ مرير. وكما حَرَمَتني الأقدار من لقائه، أبت جائحة الكورونا إلا أن تحول دوني لإلقاء نظرة أخيرة عليه، كما وَقَفَتْ في طريق أهله وصحبه في داخل وخارج السُّودان لإعداد تشييعٍ مهيبٍ ومراسم للدَّفن رسميَّة وشعبيَّة. ومع ذلك، طلبتُ من الصديق المشترك محمَّد منعم منصور أن يرسم لي صورة معبِّرة عن مشهد حُضُور التشييع. فوصف محمَّد ساعة التشييع: «حُزنٌ كثيف أشبه بضبابٍ نزل علي المدينة. شيَّعته الأسرة، شيب وشباب وسيدات، أولاد الحي، وناس جامع الماجديَّة، وثلة من أولاد أمدرمان. بينما ناس آخرون كسروا الحظر وسعوا من أركان العاصمة، وأبناء أصدقائه، وبعض تلاميذه في الخارجيَّة، سكرتيرين ومساعدي بحوث. كان هناك ملازمه لسنين، محمد بوش، وممرضه الخاص، ومعارف اجتمعوا في باحة شرفي. كان الجميع يعزي بعضهم البعض حتى لا تكاد تعرف الأهل والأقارب من المعارف والمريدين. بعد الصَّلاة تقدَّم الجميع بالعنقريب نحو مقبرة الأسرة، وعابدين درمة وشباب شرفي حول القبر، إلى أن أنزله أبناء شقيقه في ثوان لودَّ اللَّحد. دُفن بينما أبناء السمَّانيَّة يمدحون وشيخ أحمد الطيب قريب الله حاضر والأهل يدعون له بالمغفرة والرحمة. فاتحة تقرأ والإخلاص تُتلى إحدى عشر مرَّة. ورقد هانئاً بجوار السيدة سارة الصاوي والدته».
    عاش حياته بالطُّول والعَرض، وبَلَغَ الشُموخ والسُّمُو، وخَدَمَ بلاده بصدقٍ، وأنجز بتفوُّق أي مهمَّة، وطنيَّة أم إقليميَّة أو دوليَّة، كُلِّف بها، ووضع بصمته على كُلِّ موقع تسنَّمه. كان منصور متعدد الكفاءات ومُتنوِّع المواهب، فعَمِلَ دبلوماسياً واشتغل في مجال القانون، سواءً في الوظيفة العامَّة أو الخاصة في المُحاماة، كما اقتحم ميدان الصحافة. نزفت أقلام، أصدقاء منصور وطلَّابه ومُحبوه ومريدوه، حُزناً على فقده ونعوه بكلماتٍ دامعة، ونعتوه بما اكتسبه في حياته من مهاراتٍ وقُدُراتٍ وما أضافه من قيمة للمجتمع السِّياسي والفكري. فوصوفوه بالمُفكِّر الفذ والكاتب المُبهر والدبلوماسي ورجُلُ الدولة القدير والموظف الأممي والمُؤرِّخ السياسي الصَّادق، ونجم القلم ونبراس الوعي، وفوق ذلك كله المُناضل من أجل العدالة الاجتماعيَّة وتحقيق السَّلام الشامل. ويكفي منصور أنه مهتماً ومهموماً بالتوثيق الدقيق، يتجلى في رفده المكتبة السُّودانيَّة بذخيرةٍ من الكتابات الثرة، آخرها ما أشرتُ إليه أعلاه، كتابٌ من أربعة أجزاء في 1700 صفحة، والذي تمَّ نشره قبل وفاته بعامٍ ونصف فقط، فالكتاب بمثابة توثيق لسيرته الذاتيَّة.
    لن أُجاري أو أُباري من كتبوا مقالاتٍ مُعبِّرة في رثاء الرَّاحل، أوفت وكفَّت في استعراض مسيرته الزَّاخرة بالإسهامات النوعيَّة في المجالات المهنيَّة والسياسيَّة كافةً. جمعتني بمنصور القضيَّة والفكرة.. قضيَّة السَّلام، وفكرة السُّودان المُوحَّد على أسُسٍ جديدة، في علاقة متينة امتدَّت لأربعة وثلاثين عاماً سرنا خلالها سوياً تحت مظلة الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان، أتاحت لنا التعرُّف عن قُربٍ على زعيم الحركة الرَّاحل د. جون قرنق دي مابيور، ودعمه في قضيَّته العادلة. وحتى في أعقاب رحيله، شاركتُ مع منصور في مجلس التحرير القومي للحركة الشعبيَّة، كما اشتركتُ معه في العديد من النشاطات ذات الصلة في أديس أبابا ونيروبي والقاهرة وأسمرا، وفي الخُرطوم منذ أن عُدنا إليها مع وفد مقدِّمة الحركة في مطلع أبريل 2005. بالطبع، كان ذلك أول لقاءٍ لي مع منصور في الخُرطوم بعد قُرابة العشرين عاماً منذ أن تعارَفنا في أديس أبابا، كما سيأتي روايته لاحقاً. في يونيو 2011، قبل إعلان الانفصال رسمياً وتأسيس جنوب السُّودان لجُمهُوريَّته المُستقلة، أعددتُ، بتكليفٍ من بنك التنمية الأفريقي، دراسة استكشافيَّة للاتجاهات الرئيسة وخصائص الاقتصاد السياسي لجنوب السُّودان، وتقديم تحليل سياسي لعملية الانتقال عقب فك الارتباط مع شمال السُّودان، وتحديد التحديات الهائلة للسَّلام المستدام وبناء الدولة الجديدة. مكثتُ في جوبا لمدة شهرٍ لعمل بحثٍ ميداني وسلَّمتُ التقرير النهائي للدراسة لإدارة البنك في 18 أغسطس 2011، ومنذ ذلك الحين، انقطع تواصُلي مع الجنوب، إلا لماماً. أمَّا منصور، فلم تنقطع علاقاته مع قيادات دولة الجنوب، وظلَّ على تواصُلٍ معها، بل وقام بعدَّة زيارات وديَّة إلى جوبا التي حطت فيها رحلتُهُ الأخيرة قبل ثلاثة عشر أسبوعاً من مفارقته الحياة.
    أتناول في هذه السلسلة من المقالات هذه العلاقة الممتدَّة مع منصور، لأكثر من ثلاثة عُقُود، وأتوقفُ عند كُلِّ المحطات التي مَرَرْنا بها في سياق مواقفنا المُشتركة من قضايا البلاد، وعلاقتنا مع الحركة الشعبيَّة وزعيمها الرَّاحل، وأستعرض فيه ما صادفنا خلال هذه المدَّة من مصاعب وطرائف، وما وطدته هذه الأيام بيننا من صداقة. فمقالي هذا ليس برثاءٍ لعزيزٍ وصديقٍ فارق دُنيانا فحسْب، إنما أيضاً هُو بمثابة توثيق لحياتي أنا، نصف عمري بالضبط، في صُحبة رجُلٍ فذ، فريدَ عَصْرِهِ ونسيجٌ وحدَهُ!






                  

02-07-2021, 04:41 AM

Moutassim Elharith
<aMoutassim Elharith
تاريخ التسجيل: 03-15-2013
مجموع المشاركات: 1273

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بدا يوثق د. الواثق كمير عن رحلته مع الراحل (Re: زهير عثمان حمد)

    الزميل العزيز زهير
    قيمة التوثيق تكاد تكون شبه غائبة في مجتمعنا السوداني، إذ تبقى الأحداث والذكريات محفوظة ما بقي أصحابها على قيد الحياة ثم تندثر بمغادرتهم أرض الفناء، ولذا تحية التقدير للدكتور الواثق كمير على هذا الجهد التوثيقي.

    تقديري
                  

02-07-2021, 07:32 AM

Khalid Abbas

تاريخ التسجيل: 12-16-2017
مجموع المشاركات: 1993

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بدا يوثق د. الواثق كمير عن رحلته مع الراحل (Re: زهير عثمان حمد)

    رحم الله الدكتور منصور خالد وشكرا للدكتور الواثق على هذا التوثيق المهم في إنتظار بقية الحلقات
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de