لا ترمقيني فلا درع لي لأتقي السهام؛ إنني أعزل. لا ترمقيني فأنزلق وأحترق. ألا تعرفين من أنا؟. ألم تسمعي بي؟ أنا أكبر رحالة في الكون، تعرفني العيون التي زرتها إن رأتني وكم أعرف منها إذ رأيت .. زائر لا أطرق الأبواب سالك أقصد الأهداب .. زائغ العينين لا أسدل الستار عن المسرح .. أحب لون الغيث ويحلو لي إذا امتزج بأرضنا. كيف أخذت هذا اللون؟ بأي تصاهر كان؟ أكان بين الإنس والجن؟ إنه يحكي قصتنا في الوجود .. قطرة من نيلين خُلِقت ثم صعدت ثم نزلت ثم نفُست فكانت أنت أيتها السمراء. ولما أدمنت عيناه فيها سألته باستنكار : - لماذا تحدق بي؟. - أنا أحدق بك؟. - أجل أنت. - لا، أنت من تنظرين إلي. - كيف وأنت تنظر إلي منذ قدومنا إلى هنا. - واحدة بواحدة، تعادل. وبدل الحديث قائلاً : - ما الذي أتى بكِ في هذا الزحام؟. - الذي أتى بكَ. - هل تعجبكِ الوظيفة؟. - يعجبني العلم الذي درست. وسألته باستغراب : - وماذا تريد من دخل قليل وأنت شاب؟. - أحتاج إلى شهادة خبرة. - فقط؟. - فقط. - ولماذا؟. - تنفعني إذا سافرت. - لماذا لا تدخل السوق؟. - بلا رأس مال؟. - كم من دخل بلا رأس مال ونجح. - هذه أساطير، من المستحيل نجاح دون ظهر. أناشيد ونداءات الاعتصام مازالت ترن في المسامع وتتردد في القلوب، وذكرى فضه تغص في حلقوم الروح التي كادت أن تبلغ الحلقوم. والذي لم يشهد مناسك الثورة كالذي تأخر عن أداء ركن من أركان إيمانه بها، غير أنه إن خطا بقرب ميدان الاعتصام يأخذه موج لا قبل له به كأنما يعبر من أبعاد المادة إلى أبعاد الروح .. من كبد الحياة إلى مجاهل الزوال يتقلب في حسرة وحنين. وكأن الشمس الساطعة على حرم الميدان والطرق الهادية إليه ليست هي التي تشرق في أرجاء المدينة .. تتعامد أشعتها بحياء نادمة على أنها غابت في ليل الجريمة وهي تردد : لا تلوموني فليس بيدي فقد ذهبت لدوري إيفاء بقدري لعالم آخر. وتحت ظلال هذه العواطف الحميمة فُتح باب التقديم للمعلمين الجدد بوزارة التربية والتعليم حيث تلاقيا بلا معرفة سالفة وترافقا سويًّا في إجراءات التقديم من تفقد الأوراق ومراجعتها وتنظيمها. فتأملها وأناملها تقلب شهاداتها فأيقن أنه قد وجد نصفه الآخر وإن لم يحصل على الوظيفة. واكتشفت هي أن أوراقها لم تصور بالكامل فانبرى لها ذو العينين وأتم المراد. وعند انتهاء التقديم قال لها وهما خارجان : - هذه البناية كان يطلق منها القناصة الرصاص على الثوار. - لحقها عار أبدي. - الويل للقاتل الجاهل. - الويل للناظم العالم. وبين نسائم الأحلام والرقة سألها بطلب صريح كعادته : - دعيني أتقدم لك طالبًا خطوبتك؟. - ومتى الزواج إن شاء الله؟. - تفرج. فقالت له بحساب ودهشة : - بعد أن تنال شهادة خبرة وتسافر وتعمل وتجمع مالًا ثم تأتي للزواج مني؟!. - ألا تنتظرين؟. - لا أستطيع هذا عمر كعمر دراستي. - ألا تصبرين؟. - لا تكن إشارة حمراء في طريقي. فقال لها بحزم غاضب : - أنت طالق. فضحكت وضحكت ولم تفارقها البسمة حتى افترقا كما التقيا.
عبدالرحمن السعادة
09-01-2020, 10:05 AM
نعمات عماد
نعمات عماد
تاريخ التسجيل: 03-08-2014
مجموع المشاركات: 11404
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة