المخرج عبدالرحمن نجدى يعيدنا لفيلم الريشات الاربعة والثورة المهدية

Quote: *في متاهة الريشات الأربع* ( من كتابي الأماني المعلقة ) *عبد الرحمن نجدي* لسنوات كنت أتحاشى الكتابة عن فيلم ( الريشات الأربع ) الذي تم إنتاجه سبع مرات في الفترة من ( 1915 – 2002 ) ، ثلاث منها في حقبة السينما الصامتة ، بالإضافة إلي فيلم تلفزيوني تم إنتاجه عام 1978 وصورت مشاهده بإنجلترا وإسبانيا ، وشاهده علي (اليوتيوب) حوالي 1.621.335 مشاهد. فالحديث عن تلك النسخ يعني التوغل في مسارات كثيرة سياسية وثقافية وتاريخية وأخلاقية وجمالية وفنية معقدة، ولكنها ككل الأشياء الأخرى في بلادي تمر في صمت رغم إنه لا يمر عقد من الزمان دون أن يظهر إنتاج للمغامرة الكلاسيكية الشهيرة حول عظمة العصر الفيكتوري ومآثر الإمبراطورية البريطانية في السودان يحرك مشاعر شبابها ويذكرهم بعظمة سجلها الإمبريالي العتيد ، وتطمس به أهداف الثورات الوطنية للدول التي كانت تحتلها . ففي تلك الحقبة باستثناء الهند لم تُلهم أي دولة أخري أسطورة ورومانسية العصر الفيكتوري مثل السودان ، فهي أكبر دولة أفريقية وتحتفظ بثلاثة أرباع نهر النيل وبمناخ صحراوي مدهش. فمنذ الأيام الأولي للسينما وفرت بريطانيا لصانعي الأفلام الأساس لمواضيع تاريخية تعظًم الروح الاستعمارية وتبرر غزوها لبلادنا وغيرها من بلاد العالم الثالث ، في المقابل نجد إن فيلم الريشات الأربع برهن علي قدرته علي الاستمرارية والمنافسة. تم تحويل رواية الكاتب البريطاني أي أي دبليو ماسون (A.E.W. MASON) التي نشرت عام 1902 إلي الشاشة في أعوام ( 1915 ، 1921 ، 1929 ، 1939 ، 1955 ، 1978 و 2002 ) لتصبح الرواية الأكثر تصويرا في القرن العشرين . وأول ظهور لسلاسل الأفلام في الشاشة الفضية . تتحرك الرواية علي خلفية صفحة من تاريخ التاج البريطاني حين كان الصراع لا يزال طازجاً في السودان . ففي أوآخر سبعينات القرن التاسع عشر تم تعيين الجنرال تشارلز غوردون حاكماً عاماً للسودان . كان التحدي الأكبر الذي واجهه هو إلغاء تجارة الرقيق لكنه عزز حملته الصليبية مع الخطاب المسيحي مما دعا محمد أحمد المهدي إلي تحديه، ونجح المهدى في توحيد المسلمين وتجار الرقيق والعرب الرحل ومن ثم قام بتصفيته والاستيلاء علي الخرطوم . وتختبر الرواية وسط هذه الأحداث مشاعر ضابط شاب من عائلة ذات تقاليد عسكرية راسخة تضع الواجب فوق كل الاعتبارات، لديه تحفظات حول تورط بلاده الوشيك في غزو السودان. اتخذت حياته منحىً درامياً حيث اُتهم بالجبن عندما رفض مصاحبة الحملة البريطانية التي ترمي لكبح التمرد السوداني مما حدا بثلاثة من زملائه وخطيبته إيثن، إبنة الجنرال بوروز، إلى إرسال أربع ريشات بيضاء له تحمل إشارة رمزية لجبنه ، بعدها بدأت حياته الساحرة تنهار ، فيقرر في نهاية المطاف السفر متنكراً للسودان لإغاثة أصدقاءه. وجاء هذا الموقف بمثابة تعويض عن فشل الجنرال ولسلي في إنقاذ الجنرال غردون. وعلي الرغم من أن الرواية عرضت بعض الانتقادات للتورط البريطاني في السودان إلا أن كل نسخ الأفلام تجاهلتها تكريما للقوة العسكرية البريطانية. الريشات الأربع ( 1915 – 2002 ) تقاسمت كل نسخ الأفلام التي تم تحقيقها في الفترة 1915 – 2002 الهيكل الأساسي والعناصر الرئيسية للرواية الأصلية : شاب بريطاني يستقيل من فوجه بعد سقوط الخرطوم ، ثلاثة من زملاءه وخطيبته يرسلون له أربع ريشات بيضاء رمزا للجبن بالإضافة إلي عظمة الإمبراطورية البريطانية، الصداقة الحميمة ، التضحية ، الفروسية، الشرف، الدور الثانوي للمرأة، تصوير جيوش المهدي كجحافل متخلفة لديهم دافع ضئيل وراء نشر الفوضى وأخير المعايير الاجتماعية والأخلاقية والفضائل للعصر الفيكتوري . لم يخف ( مايسون ) إيمانه الراسخ بالقيم الإمبريالية عندما كتب : ( لم يكن في إنجلترا مكان للجبان ) . حقبة السينما الصامتة : في أوائل عام 1910 وبعد عقدين تقريبا من اختراع السينما الصامتة بدأت صناعة السينما تتشكل وتطور من عناصرها البصرية والسردية ، وبحلول عام 1915 بدأت المحاولات الأولي لصناعة السينما وتسويق الفيلم تجاريا فظهرت أفلام مثل مولد أمة ، كارمن ، اليس في بلاد العجائب والريشات الأربع الذي تم إنتاجه في ثلاث إصدارات قبل اكتشاف الصوت : • نسخة 1915 من إنتاج مترو بيكشرز، إخراج سيريل داولي، الطول الزمني 5 بكرات • نسخة 1921 من إنتاج المملكة المتحدة، إخراج ريني بلايستي، الطول 5000 قدم . • نسخة 1929 من إنتاج بارامونت بيكشرز ( ديفيد او سيلزنيك ) – الولايات المتحدة، إخراج ميريان كوبر، لوثر مينديس وإيمست شودنشاك ، الطول الزمني 80 دقيقة. بساطة الرواية التي بدت وكأنها مكتوبة مباشرة إلي السينما ، والصور الغنية والمواقع المتفردة ساعدت في تحقيق أفلام تلك الحقبة الصامتة فجاءت ناجحة سينمائياً ، من هذا المدخل بالإضافة إلي ( تيمة ) الشرف الضائع ( في بريطانيا لا مكان للجبناء ) والجاذبية التي أرضت كبرياء الشعب الإنجليزي يمكننا النفاذ إلي فهم القبول الكبير الذي حظي به الفيلم . لقد تم اعتبار نسخة 1929 آخر أفلام حقبة السينما الصامتة العظيمة . حقبة السينما الناطقة : وفي عام 1955 قام الأخوة ( كوردا ) بإعادة إنتاج الريشات الأربعة ليختتموا به حياتهم المهنية ، وأطلقوا عليه عنوان عاصفة فوق نهر النيل ( Storm Over the Nile) بالسينما سكوب ( 107 دقيقة ) ، ولكنه جاء فاترا ومملا استعان فيه الإخوة ( كوردا ) بلقطات عديدة من نسخة 1939 . بعد ستة عقود قام التلفزيون البريطاني ( NBC ) بإنتاج طبعة خامسة من فيلم الريشات الأربع عام 1978 حققها المخرج الأسترالي دون شارب ، وتعتبر من أكثر الأفلام عرضاً في التلفزيونات البريطانية إذ لا تمر ثلاثة أشهر دون أن يتم عرض الفيلم علي أحد القنوات التلفزيونية . وفي عام 2002 قام المخرج الهندي ( شيكار كابور ) بإخراج النسخة الأخيرة من السلسلة. يرسم الفيلم رحلة التحولات التي حدثت لهاري فافرشام سياسياً وفكرياً. الخط العام للفيلم تطابق مع أهداف الحملة العسكرية للسودان بذريعة الدعوة الإنسانية لإنقاذ الجنرال غردون بواجهة إنسانية وأهداف عسكرية ( محمد سعيد القدال – تاريخ السودان الحديث ) الجديد فى الفيلم هو الصداقة القوية التي ربطت بين هاري فيرفشام وأبو فاطمة ( دجيمون هونسو) المرتزقة السوداني . صورت معظم مشاهد الفيلم بالمغرب. لم يرتكز البناء الفيلمي علي الوقائع التاريخية للرواية بل تحدث عن قيم بريطانية محضة تركزت حول الشرف والعاطفة والحرية والمعركة بين قوة عظمي ومتحمسين مسلمين وكأنه يبحث عن لمسة معاصرة لحبكة فيلمه. ربما تكمن المفارقة في إخراج ( كابور ) للفيلم تأتي من الناقد المعروف روجر إيبرت الذي كتب "ذهبت لمهرجان تورنتو السينمائي وأنا أتطلع لمشاهدة فيلم الريشات الأربع لأنني مفتون بفكرة إن تروي قصة الاستعمار البريطاني من قبل مخرج هندي مولود في الهند وعاني شعبه من نفس الويلات " الريشات الأربع 1939 : اُعتبر الفيلم انتصارا للسينما البريطانية من ناحية لغته السينمائية المتميزة والقوية. كان واحدا أكثر الأفلام شعبية في القرن العشرين ، وفر فيه (زولتان كوردا) البعد الملحمي مقارنة بالنسخ الأخرى وقدم فيه وقائع تاريخية أكثر من الرواية. تم تحقيق الفيلم بواسطة ( الأخوة كوردا ) وهم مهاجرين يهود من المجر، نالوا شهرة واسعة بعد تحقيقهم لفيلم الريشات الأربع . كان (الكسندر) يعمل في مجال إنتاج الأفلام وكان قد بدأ مشواره منذ عام 1916 في وطنه المجر ثم ذهب إلي النمسا وألمانيا وهوليوود وأخيرا بريطانيا. اتفقت الكتابات علي أنه كان شخصية رائعة وساهم بشكل لا يصدق في تجديد الروح للسينما البريطانية وأصبح أحد أهم المنتجين في القرن العشرين. وكان (زولتان) يقوم بعملية الإخراج مستعيناً بعدد من المستشارين العسكريين لضمان الدقة التاريخية . وكان (فنست) يتولى الإدارة الفنية وإدارة المعارك. حكي ديفيد زولتان كوردا في الفيلم القصير (يوم في دنهام) بصراحة عن حياة والده وعلاقته بإخوته والتوترات والتقارب بين الأشقاء الثلاثة الذين لم يسعوا قط لتعليم أولادهم التحدث باللغة الأم رغم أنهم كثيراً ما يتشاجرون بها ، وناقش في الفيلم التوجهات السياسية للإخوة ، كان الكسندر مؤيداً للإمبراطورية بشدة وكان يدعو للتسلح وعدم التسامح ، في حين كان زولتان ليبرالياً اشتراكيا وكان متحفظاً ولديه آراء ضد مبدأ الاستعمار. ورد في السيرة الذاتية للكسندر كوردا ( الرجل الذي صنع المعجزات - the man who could work miracles ) بأنه كان يعشق قصص المغامرات العربية ومولعا بتصوير السكان المحليين ، جاء الفيلم مذهلاً بصرياً وخاصة مشاهد المراكب الشراعية علي نهر النيل، ويشار إليه كنقطة تحول في مجال استعمالات اللون في السينما (تكنيوكلور – Technicolor) وأول فيلم في تاريخ السينما يستعمل عدسة الزوم عام 1927 . تم ترشيح جورج بيرنال بورديل (مصور الفيلم) لأوسكار أفضل تصوير سينمائي ملون، كما تم ترشيحه للسعفة الذهبية في مهرجان كان وكأس موسلليني في مهرجان البندقية السينمائي . ويمثل الفيلم أيضاً علامةً هامةً في إدارة الحروب في السينما : التدرج التكتيكي الرائع للمعارك حسب أبعاد التكتيكات البريطانية المعتادة في إبعاد المهاجمين، تشكيل الساحات مع نشر البنادق في الوقوف والركوع، ثم إطلاق النار مما يساعد علي تحديد الهدف بدقة متناهية والنتيجة مذابح هائلة (كما نشاهدها في الرسومات) ( مشهد الافتتاح في الفيللم هو واحد من المشاهد الأكثر رومانسية في تاريخ السينما مستوحى من لوحة الفنان البريطاني جورج وليام جوي ( 1824 – 1915 ) الوقوف الأخير للجنرال غردون باشا وهو ينتظر في شجاعة مصيره المحتوم ) الناقد الأمريكي ( مايكل سراجو ) أشاد بالفيلم واصفا أياه بجانب لورانس العرب (1962) الأكثر جمالا في كل مشاهد الصحراء في تاريخ السينما. وأعتبره الناقد الأمريكي روجر إيبرت أحد أعظم أفلام المغامرات في جميع الأوقات ، يعترف المخرج البريطاني شيخار كابور ( مخرج نسخة 2002 ) ، بأن فكرة الكتاب تتمحور حول انجليز شجعان ضد عدو غامض أطلقوا عليه أسم ( الوحوش الضبابية ) قال لهوليوود ريبورتر : ( لم أرغب في استعمال الكلمة رغم أنها وردت بالفعل تاريخيا في كل الإصدارات . وقد تكون مشكلة الفيلم الوحيدة أنه جاء في موسم 1939 الذي يصنفه المؤرخين بأنه أعظم عام في كل تاريخ السينما والأكثر تميزاً من أي وقت مضي بأفلام مثل (ذهب مع الريح، أحدب نوتردام، ساحر أوز، النصر الأسود، نينوتشكا، السيد سميث يذهب إلي واشنطن، مرتفعات ويزرنغ ) وغيرها. تبدأ أحداث الفيلم بمقتل (غردون) وسقوط الخرطوم في العام 1885، وهو ليس جزءاً من رواية مايسون الأصلية، وتدور أحداثه في ثلاثة أعوام ( 1985 – 1898) يفتتح مشهد البداية بلقطة بعيدة لجنود المهدي وهم أقرب إلي الكائنات الشبحية، ثم ينتقل الفيلم لعقد من الزمان للتحضير لحملة الجنرال كتشنر، وهو الفيلم الوحيد بين كل تلك الإصدارات الذي تم تصوير مشاهده بالسودان بمنطقة السبلوقة وعدد آخر من الأماكن المجهولة في السودان الأنغلو – مصري ، ويورد كمال محمد إبراهيم إن بعض السودانيين شاركوا بالتمثيل ومنهم سرور رملي ومحمود عبدالرحمن الفكي وضابط إسمه طمبل وممثلة سودانية إسمها فاطمة آدم . ورغم مرور أكثر من 100 عام علي إطلاق أول فيلم لسلسلة ( الريشات الأربع )لا يزال الكثير من صناع الأفلام الانجليز يتباهون بأسطورة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ، ويحنون لماضيهم العتيد . يقول المخرج البريطاني الشهير مارتن سكورسيزي ( وهو واحد من أكثر المخرجين المعاصرين شهرة ) ( أحببت كل شيء عن الوجود البريطاني في السودان . أحببت نسخة 1939 من فيلم الريشات الأربعة ، وفكرة خروج البريطانيين للانتقام لمقتل الجنرال غردون . كان شارلتون هيستون ( غردون ) رائعا ومؤثرا ، ولورنس أوليفيير أدي دور ( المهدي ) بالكثير من المتعة ( مع مسافة بين أسنانه الأمامية ) ، ربما لا يكون فيلم الخرطوم صناعة سينمائية جيدة ، لكن هناك شيء داخلي عميق يتعلق به ، كانت تلك حربا مقدسة ، وحينما قتل المهدي الجنرال غردون ومات بعد 6 أشهر تبدو كما صفي أحدهم الآخر دينيا وتاريخيا . وتلك قصة أتمني أن تروي مرارا وتكرارا ، أنها أسطورة خالدة . نزل الفيلم في صالات العرض البريطانية في 20 أبريل 1930 ، وفي الولايات المتحدة وأوربا في 3 أغسطس 1939 ، ولم يتم عرضه بالسودان .