الحياة الطيبة...

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-13-2024, 06:30 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2020-2023م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-06-2020, 02:05 PM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الحياة الطيبة...

    02:05 PM April, 06 2020

    سودانيز اون لاين
    سيف اليزل برعي البدوي-
    مكتبتى
    رابط مختصر



    ما أجمل هذه الكلمة.. الحياة الطيبة....
    الحياة الطيبة مقصد كل إنسان، ومطلب كل عاقل، تتوق لها كل النفوس، ويسعى لتحصيلها كل أحد.

    لكن ما هي الحياة الطيبة؟
    بعض الناس يتصور أن الحياة الطيبة مقترنة بالأضواء البراقة، او المناصب الخداعة. والبعض يتصورها في تكديس الأموال، والانغماس في الشهوات، واحتساء سموم الموبقات. وآخرون يتصورونها في تشييد القصور الفخمة والأبنية الشاهقة.

    وكل هذا في الحقيقة إنما هي مظاهر خداعة لا تأتي بحياة طيبة ولا بسكون نفس وصفاء روح وسعادة قلب. والحياة في نسختها المعاصرة أكبر شاهد على ما نقوله؛ فإن الدنيا لم تشهد من التطور التكنولوجي والرفاهية، وتعدد المتع ووسائل الرفاهية، وزيادة المال وارتفاع الدخول وأسباب الراحة مثل ما شهدت في هذه الأيام. ولكن مع ذلك فهي تعيش مفهوم الضنك بكل معانيه..
    فهي بحق حضارة القلق، والحيرة الشديدة والضيق القاتل والكآبة والأمراض النفسية. يعاني فيها الإنسان من آلام الحيرة النفسية، والتمزق الروحي رغم ما وصل إليه من ابتكار وسائل للمتعة المادية وإشباعات الجسد.
    ازدادت نسبة الجريمة مع تطور التكنولوجيا.. وازدادت المصحات النفسية مع تعدد المتع ووسائل الرفاهية.. وازدادت حالات الانتحار مع زيادة الدخل.. وازداد القلق والتوتر النفسي على المستوى الفردي والجماعي مع الانفتاح على الملذات.

    الحياة المعاصرة أبدعت في أساليب الرفاهية والمتعة للإنسان لكنها لم تستطع أن تجلب له سعادة القلب واطمئنان النفس.
    بلغ العالم ذروة الرقي المادي ومعه بلغ الحضيض الأخلاقي، أسقط كل الحواجز أمام متعه الحسية ولكنه لم يصل معها للسعادة الداخلية، أقصى ما وهبه التقدم الحضاري لهم مجرد متعة ظاهرية ولذة آنية لم تبلغ مكنونات النفس، ولم تتذوق بها النفس الحياة الطيبة.

    مصادر الحياة الطيبة وأسبابها:
    المؤمن يطيب قلبه بالإيمان ويطيب لسانه بذكر الرحمن وتطيب حياته بالعمل الصالح والإحسان
    قال تعالى: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} (النحل:)
    وهذا وعد مؤكد من الله تعالى لمن آمن وعمل صالحا أن يحيا حياة طيبة، إنها حياة في رحاب الإيمان والعيش في طاعة الرحيم الرحمن. فقد جعل الله للحياة الطيبة أسبابا من سلكها بلغ.. فمنها:

    أولا: الإيمان:
    فالإيمان بالله، والرضا بقضائه، والتسليم لأمره، هو الذي يجعل للوجود معنى وللحياة طعما وللإنسان قيمة، وبه يعرف الإنسان غاية وجوده وسر خلقه.
    فمن عرف حقيقة الكون والحياة والإنسان وحقيقة المنهج الذي أنزله الله، وحقيقة ما بعد الموت، وحقيقة الذي يسعده والذي لا يسعده؛ عندئذ يكون قد مشى في طريق الحياة الطيبة.

    فالإيمان هو أساس طيب النفس وطيب الحياة، وذلك ينبع من نفحات الإيمان بالله والرضا عن أقداره، والثقة به والتوكل عليه، يقول تعالى: {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} يملؤه رضا وطمأنينة ورجاء وأملا، فيجد حلاوة ذلك في قلبه وتظهر آثاره في سلوكه.
    وفي الحديث: [عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له].

    فالمحروم حقا من حرم من نعمة الإيمان بالله، فمن فقد الله فقد كل شيء جميل في الحياة، وكانت حياته كلها ضيق وقلق وملل وكدر، لأن الإنسان ليس جسدا فقط بل حسد وروح. فإذا فقد الإنسان الإيمان فقد إنسانيته ولم يعرف لوجوده معنى ولا لحياته طعما، وضاق صدره وزاد قلقه، مهما اتسع عيشه، ولو ملك من القصور ما ملك، ولو عانق من الثراء قمم الفلك.
    يقول الشاعر:
    إذا الإيمان ضاع فلا أمان .. .. ولا دنيا لمن لم يحيي دينا
    ومن رضي الحياة بغير دين .. .. فقد جعل الفناء لها قرينا
    ويقوم الآخر:
    يا خــادم الجســم كم تشقى لخدمته .. .. أتطلب الربح مما فيه خسران
    أقبل على النفس فاستكمل فضائلها .. .. فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

    ثانيا: العمل الصالح:
    العمل الصالح في سياق القرآن العظيم أعم وأشمل وأوسع من أداء العبادات، بل هو أسلوب حياة يشمل تفاصيل الحياة كلها.
    والعمل الصالح لم يشرع فقط اختبارا وابتلاء، أو لأجل الحصول على أجر، بل شرع لإسعاد الناس، وطمأنينة نفوسهم، وصلاح أحوالهم، وطيب حياتهم.

    ومن صور الحياة الطيبة والسعادة الغامرة تقديم الإحسان للناس، ويذكر أحد الأثرياء في مذكراته أنه ظن أن السعادة في اقتناء الأشياء الثمينة الغالية ولكنه وجد أنها لذة مؤقتة، ثم ظن أن السعادة في اقتناء المشاريع الكبيرة من شركات أو مؤسسات ولكنه أيضا حصل على ذلك، ووجدها فرحة عابرة، فأشار عليه أحد أصحابه أن يبحث عن السعادة الحقيقية في إسعاد الآخرين، وأشار عليه أن يشتري كراسي متحركة للأطفال أصحاب الاحتياجات الخاصة ويباشر هذا العمل بنفسه ويرى فرحة الأطفال.. وبالفعل حضر إليهم ورأى وجوههم تتهلل فرحا، ففرح بذلك جدا.. ثم حين هم الانصراف إذا بطفل يمسك به ويحدق النظر في وجهه، فقال له: لم تفعل ذلك؟ فقال: أريد أن أعرف وجهك جيدا حتى أتمكن يوم القيامة إذا كنا في الجنة أن أقول لربي: إن هذا الرجل قدم لنا هذه الخدمة.. فتأثر الرجل جدا، وقال: تغيرت حياتي تماما بعد هذا الموقف.
    فالسعيد من أسعد الناس، والكريم من شمل الناس بكرمه، والطيب من لم ير الناس منه إلا طيب القصد والقول والعمل.

    فلنحيينه حياة طيبة:
    لقد فسر السلف والمفسرون الحياة الطيبة بتفسيرات متنوعة فقال بعضهم: القناعة: فمن قنعه الله بما قسم له لم يكثر للدنيا تعبه، ولم يعظم فيها نصبه، ولم يتكدر فيها عيشه.
    حتى من كان معسرا يطيب عيشه بالقناعة وبالرضا بالقسمة وتوقع الأجر، وعدم الاهتمام، فضلا عن النظر إلى ما عند الآخرين.
    وقال آخرون: الرضا عن أقدار الله.. فيطمئن قلبه وتسكن نفسه.
    وقال آخرون: حلاوة الطاعة.
    وقال آخرون: الرزق الحلال الطيب، وقال آخرون: نسيم القرب من الله.
    قال ابن القيم: الصواب أنها حياة القلب ونعيمه وبهجته وسروره بالإيمان ومعرفة الله ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه، فإنه لا حياة أطيب من حياة صاحبها، ولا نعيم فوق نعيمه إلا نعيم الجنة.

    كان بعض العارفين يقول: إنه لتمر بي أوقات أقول فيها: لو أن أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب.
    قال مالك بن دينار: مساكين أهل الدنيا!! خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها؟ قيل وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله، والأنس به، والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره وطاعته.
    قال ابن كثير: والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت.

    فالحياة الطيبة تكون في الاتصال بالله والثقة به والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه، وفيها الصحة والهدوء والرضا والبركة وسكن البيوت ومودات القلوب، وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في النفس وفي الحياة، وليس المال إلا عنصرا واحدا يكفي منه القليل حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند الله.

    على المسلم الذي يريد أن يحيا حياة طيبة أن يتعلق قلبه بالله وحده، وأن يتوكل على الله في كل شأنه، وأن يقنع بما قسم الله له، وأن يكون راضيا عن أقدار الله كلها. وأن يكون ذا نية طيبة يحب الخير ،للناس وأن يكون ذا قلب طيب متسامح، وأن يكون قوله طيبا، وعمله طيبا وماله طيبا لا يأكل إلا طيبا، وأن يختار عند زواجه المرأة الطيبة العفيفة لتكوين الأسرة الطيبة، وأن يكون طيب الأخلاق وألا يصحب إلا الطيبين.

    تكون الحياة أجمل وعيشها أطيب إذا كان ذكر الله تاجها، وكتابه لبها، وحبه ملاكها، وطاعته سماتها. فما طابت الدنيا إلا بذكره، ولا الآخرة إلا بعفوه، ولا الجنة إلا برؤيته.

    وهناك فرق بين الطيبة والضعف والسذاجة، فالطيبة صفاء في القلب، وأما الضعف فقصور في التفكير والتدبير.. ومن أقوال عمر المأثورة: "لست بالخب ولا الخب يخدعني". فكن طيبا وقويا كي لا يخدعك الخبثاء.

    الحياة الطيبة لا تعني حياة خالية من البلاء:
    الحياة الطيبة لا تعني حياة خالية من المشاكل والهموم والأحزان والابتلاءات، ولكن المؤمن الذي يعيش الحياة الطيبة يحسن استقبال هذه الابتلاءات والهموم والأحزان بنفس راضية مطمئنة، وهو يفهم أن الدنيا دار ابتلاء ونصب، فالأنبياء أشد الناس بلاء مع أنهم كانوا أسعد الناس عيشا، ولأن المؤمن جنته في صدره ولو كان مكبلا بالبلاء، فأعتى صور البلاء ليست حياة البائس الفقير المبتلى، إلا إذا كانت استجابته وفهمه للبلاء على نحو لا يجعله خيرا له، أما من استجاب للبلاء الاستجابة التي تجعله خيرا له فليس البؤس إلا في الصورة الظاهرة أما حقيقة أمره فهو أنه يحيى حياة طيبة بقدر جودة استجابته وجريانها على ما يحبه الله.

    جزاء الطيبين:
    من عاش طيبا توفاه الله طيبا وأدخله دار الطيبين.
    عند الاحتضار: {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون}
    وتقول له الملائكة عند موته كما جاء في الحديث: [اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب. أخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان].
    وفي القبر يأتيه عمله الصالح في صورة رَجُل حَسَن الْوَجْهِ حَسَن الثِّيَابِ طَيِّب الرِّيحِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ
    وعند دخول الجنة تقول لهم الملائكة: {طبتم فادخلوها خالدين}.
    كن طيبا تطيب لك الحياة، ويسخر الله لك الطيبين من عباده، وتسكن في الآخرة دار الطيب والطيبين.
    اللهم ارزقنا طيب الحياة، وطيب الممات، وطيب الجزاء.. يا أكرم الأكرمين.
    ------------------------------
    لولا أنَّ الله تعالى يدفع كيدَ الكافرين ومكرهم وظُلْمهم وغَشَمَهُم بجهاد طائفة من المؤمنين ونضالهم ورباطِهم؛ لصارت الأرض كلها غابة موحشة تعوي في حنباتها الذئاب، ولعل هذه الحقيقة بعضُ ما توحي به هذه الآية الكريمة: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين} (البقرة:251) وهي الآية التي ختم الله تعالى بها قصة طالوت، الملك الذي اختاره الله لبني إسرائيل، فخاض بهم الصراع مع جالوت الطاغية.

    ويبدو جليًّا من سياق الآية الكريمة أنها تكشف عن سُنَّة من السنن الإلهية الماضية، يمكن أن نسميها (سُنَّة الدفع) كما كشفت عنها أية أخرى مشابهة لها، وهي قوله تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} (الحج:40) هذه السُّنَّة هي التي يحفظ الله بها عباده من الانسحاق تحت مطارق الصراع الأزليّ الأبديّ بين الحق والباطل؛ لذلك ختمت الآية الأولى بقوله تعالى: {ولكن الله ذو فضل على العالمين} وبقدر ما يُحْسِنُ أهل الحق إدارة الصراع، يكون مستوى اندفاع الباطل واندحار أهله؛ ولذلك ختمت الآية الثانية بقوله تعالى: {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز}.

    لكن اللافت للنظر أن (سُنَّة الدفع) جاءت في سورة البقرة مسبوقة بذكر داود، والإشارة إلى ما شرَّفه الله به: {وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء} (البقرة:251) فهل سيكون لداود دور في إرساء قواعد إدارة الصراع؛ ليتحقق أعلى معدل للدفع؟ أجل؛ سيكون له دور كبير، وسيكون لولده أيضاً دور لا يَقِلُّ عنه في عظمته وإلهامه، فما هي قواعد إدارة الصراع حسبما يتضح من قصة النبيين العظيمين داود وسليمان عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام؟

    لقد جاء الجزء الأكبر والأكثر إثارة من القصة في سورة ص؛ جاء مسبوقاً بآيات تقرر سُنَّة في الخلق، تُعَدُّ هي الأساس السابق لسُنَّةِ الدفع، وهي (سُنَّة التدافع) التدافع بين الحق والباطل، ذلك التدافع الأزلي الأبدي الذي لا يفتر، وليس من طبيعته أن يفتر، أو يهدأ، لنتأمل سياق الآيات التالية: {ص والقرآن ذي الذكر * بل الذين كفروا في عزة وشقاق * كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص * وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب * أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب * وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد * ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق * أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب * أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب * أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب * جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب * كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد * وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب * إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب * وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق * وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب * اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب} (ص:1-17).

    إن الباطل وأهله في عزة ومغالبة وشقاق ومنازعة، والملأ منهم والكبراء يستحثون الأتباع الأذلاء أن يمضوا في عدائهم وحربهم للحق وأهله، وأن يصبروا على الارتباط بآلهتهم والاعتصام بها؛ بزعم أنّ دعوة الحق وراءها شيء يُرادُ، وغرض يُدَبَّرُ له، وهذا الذي يمضون فيه هو دأب الأمم قبلهم، كقوم نوح وعاد وثمود وفرعون ذي الأوتاد، وكسائر الأحزاب الذين طغوا في البلاد؛ لأنَّها سُنَّة ماضية لا تتخلف، سُنَّة التدافع بين الحق والباطل، والصراع الدائم بين أهل الحق وأهل الباطل؛ ولأنّ إدارة الصراع فنٌّ له قواعده وأصوله، ختمت الآيات بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى مراجعة سيرة داوود ذا الأيد (أي: القوة).

    و(القوة) تشمل القوة في الدين، والقوة في الدولة والحكم وأدوات الإكراه، فقد كان داود عليه السلام أوَّاباً، كثير الرجوع إلى الله، وكثير الترديد للذكر، وهي خُلَّة لا تكون إلا مع قوة الدين، وعظمة اليقين، وقد بلغ من شدة الاتصال بالله تعالى أنه كان إذا سبح الله سبحت معه الجبال والطير، وإلى جانب ذلك كان مُلْكه مشدوداً، قويًّا بالقوة والحكمة وفصل الخطاب، فاجتمع له أمران ضروريان في خوض الصراع ضد الباطل: القوة والقدوة، ولكي تتم القدوة استدرك عليه الوحي في قصة التحكيم بألا يتبع الهوى، وأن يحكم بين الناس بالحق؛ لأنه خليفة في الأرض بمنهج الله تعالى، وسياق الآيات يُري كيف اجتمع هذان الأمران: {اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب * إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق * والطير محشورة كل له أواب * وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب * وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب * إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط * إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب * قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب * فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب * يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} (ص:17-26).

    إن الحكم الرشيد العادل خلافة في الأرض بمنهج الله، وإنه في صراع دائم مع الباطل؛ لذلك وجب ان يجمع بين القوة والقدوة، فلا القوة تدفعه لتجاوز الحدّ، ولا القدوة تثنيه عن الإعداد واستكمال أدوات خوض الصراع، ومن هنا كان وصف الله تعالى لمحمد رسول الله والذين معه: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} (الفتح:29) فمَثَلُهُم في التوراة يُبْرِز القدوة، ومَثَلُهُم في الإنجيل يُبْرِزُ القوة؛ فاجتمع لهم القوة والقدوة، فبالقوة يواجهون أهل العناد، وبالقدوة يهدون قلوب العباد.

    إنَّ دولة الحق والعدل قدوة لجميع الدول في حماية الحريات وحقوق الإنسان، وفي إقامة العدل بين الناس، وفي تعظيم شعائر الله ومناسك الدين، وهي في الوقت ذاته تحوز القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والعلمية، وتواجه القوة بالقوة، وتدفع البغي والعدوان بما لا يندفع إلا به من أسباب الإكراه المادي، فلا قوتُها تغريها بالظلم والعدوان، ولا تَمَسُّكُها بالقدوة والاستقامة يرديها في مستنقع الذل والهوان، وبهذين: القدوة والقوة، تنجح في إدارة الصراع مع قوى الباطل.

    ليس بإمكان الأمّة الإسلامية أن تخوض الصراع الذي فُرِض عليها إلا باجتماع القدوة والقوة، هذا هو المقوم الأول من مقومات إدارة الصراع، والقاعدة الأولى من قواعده، ووراء هذه القاعدة جملة من القواعد التي تدور في فلكها وتنضبط ببوصلتها، وحيث إنَّنا نستلهم هذه القواعد من سياق قصة داوود وسليمان عليهما السلام؛ فلا مناص من استدعاء المشهد الذي وقع فيه الصراع آنذاك.

    فها هناك حضارتان عظيمتان لدولتين عظيمتين، الأولى: دولة سبأ: {إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم} (النمل:23)، والثانية: دولة داود وسليمان عليهما السلام: {وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين} (النمل:16) وعبارة (أوتينا) (أوتيت من كل شيء) التي تكررت في الآيتين تؤكد أنهما حضارتان قويتان، تتنافسان في حيازة أسباب القوة والازدهار، وقد كان بين هاتين الأمتين صراع، ظهر من سياق القصص القرآنيّ أنه كان صراعاً وجودياً من الأصل، انتهى باستسلام حضارة سبأ لحضارة سليمان عليه السلام.

    فأما حضارة سبأ فقد كانت حضارة مادية جاهلية: {وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون} (النمل:24) وقد قامت لها دولة على أسس، أولها: تعانق السلطة والثروة: {ولها عرش عظيم} فهذا (العرش) لا تقتصر دلالته على السلطة فحسب، وإنما -لكونه عظيماً إلى هذا الحد- فهو يرمز إلى اجتماع السلطة والثروة وتكدسهما في يد الحاكم ومن حوله من الملأ. والأساس الثاني: الديمقراطية الشكلية المزيفة، فها هي بلقيس تقرر الشكل المبهر للديمقراطية: {ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون} (النمل:32) وها هم (الملأ!) يقررون المضمون المتعثر للديمقراطية: {نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين} (النمل:33) فهذا ليس جواب مستشارين حقيقيين، وإنّما هو جواب (عضلات) ينفذون ما تأمر به وتقرره، وكم من بلد تزعم أنّها تعمل بالديمقراطية، وتدون ذلك في دستورها، وليس لها من روح الديمقراطية نصيب، وإن كانت الديمقراطية حتى في أعلى نماذجها عليها إشكالات ضخمة في النظرية والتطبيق، ليس هذا موضع سردها.

    ولسنا مع من يضربون المثل ببلقيس في الديمقراطية الحقيقية، فلا سياق الآية يدل على هذا، ولا السياق التاريخيَ العام يدل عليه؛ فمن الثابت تاريخيًّا أن تجربة الديمقراطية إنما طُبقت بصورتها المباشرة في أثينا قبل أن تُهزم أمام إسبرطة في المعركة المشهورة، وأمّا الفكر اليوناني الذي جاء تالياً، فلم ينزل منه شيء للحيز العملي إلا بصورة جزئية في بعض فقرات التاريخ الروماني، ولم ينتشر نظريًّا بصورة موسعة إلا في كتابات شيشرون، التي آلت إلى جملة من المبادئ العامة، تخللت على استحياء شروح القانون الروماني، حتى جاءت النهضة الأوربية المعاصرة فاستخرجته، ونفضت عنه التراب، واعتمدته نظريًّا وعمليًّا بصور مختلفة، لم تسلم جميعها من الوقوع في قبضة طغاة المال، فلم نجد من يقول: إن العالم القديم قد تأثر عمليًّا بفكر أرسطو وغيره، و"الواقع أننا لو حكمنا على تلك الفلسفة على أساس الدور الذي لعبته في القرنين التاليين لوفاة أرسطو لما أمكن إلا أن نعدها فشلاً ذريعاً".

    وأما دولة داود وسليمان فقد تأسست من أول يوم على دعائم راسية وأسس راسخة: الأول: الاتصال بالله تعالى، قال تعالى: {اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب * إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق * والطير محشورة كل له أواب * وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} (ص:17-20) فعلى الذكر والتسبيح والتأويب والتثويب شدَّ الله تعالى ملك داود وسليمان عليهما السلام.

    الأساس الثاني: العلم والحكمة: {ولقد آتينا داوود وسليمان علما} (النمل:15) {يا أيها الناس علمنا منطق الطير} (النمل:16) {وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} (ص:20) {ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} (الأنبياء:79).

    الأساس الثالث: العمل الدائب المتقن: {يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور} (سبأ:13).

    الأساس الرابع: التقنية الدقيقة: {أن اعمل سابغات وقدر في السرد} (سبأ:11) أي: اصنع دروعاً واسعات تغطي البدن وتفيض عنه، ودقق في نسج حلقاتها وفي المسامير التي تمسك الحلقات بعضها ببعض، حتى تكون متناسقة متناغمة.

    الأساس الخامس: العدل: {يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} (ص:26) {وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين} (الأنبياء:78-79).

    إنّ الدولة التي تنسب نفسها للحق، وتخوض الصراع الكبير ضد عالم قام في نظامه المهيمن على الباطل والنفاق، يجب أن تتوافر لديها هذه الأسس العملاقة، فليست بالإيمان وحده قادرة أو ظافرة حتى تأخذ بأسباب العلم والعمل والتقنية، وليست بالقوة وحدها بالغة ما تريد من الظفر والتمكين، حتى تكون عادلة، وحتى تنشر العدل في كل الميادين، وإذا هي بذلت وسعها في استجماع هذه الأسس وغيرها مما لابد منه لجاءها المدد من الله تعالى، ولو بأسباب غير مألوفة، ولنصرها الله عزَّ وجلَّ بجند من عنده، مثلما أَمَدَّ سليمان عليه السلام بجنود من غير الآدميين: {وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون} (النمل:17)، ومثلما أيَّد الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم وصحبه بالملائكة: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} (الأنفال:9).

    ولا ريب أنّ استيفاء هذه الأسس في الدولة والأمة أحد قواعد إدارة الصراع وأحد مقومات النجاح والفلاح في نتائجه، لذلك في نهاية قصة الصراع بين بلقيس وسليمان انتهى الصدام بسيادة الإسلام: {قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين} (النمل:44).

    ولا شك أن ثمة مقومات عديدة، وقواعد عتيدة، وأسس هامة، تحتاج بسطاً من القول لاستخلاص الدروس المستفادة من قصة هذين النبيين العظيمين.

    * مادة المقال مستفادة من موقع (ترك برس).






                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de