حقاً، ان الصغار هم الذين يصنعون العمالقة .. فكذلك كل جبار وطاغية وحاكم بأمره ومتشيخ ظان بنفسه علوا بكراماته هم صنيعة كل امعة ساذج رهين سيده كَلٌّ على مولاه ينفخ النار في الحطب تحت القدر ليغلي ماؤها ويصعد بخاره عالياً فيحرق وجوه الواقفين فيحسبون البخار هو حارقهم ولا ينظرون الى من ينفخ النار. لقد حمل فارس الظل الحزين (دون كيشوت) حربته ودرعه الصدئة وقاد حصانه العجوز ظناً منه أنه يعيد زمان الفرسان النبلاء المجندين دوماً لإنقاذ البشرية في كل موطن .. فحارب كائنات خياله الجامح وهي في الحقيقة لا شيء، فتهشمت عظامه ولكنه استمر حتى لقي حتفه وهو يحسب انه فارس حقيقي من العصور الغابرة .. فمن اين كان له كل هذا العزم والإصرار؟ بلا شك كان سبب هذا شعوره العظيم بالنشوة بانه يفعل فعل السادة وانه هو السيد النبيل .. ولكن من يقرأ ما وراء السطور في الرواية يرى أن منبع هذه النشوة الحقيقي لديه لم يكن كل تلك المؤلفات العديدة لقصص الفرسان القدامى التي اغرق نفسه فيها لسنوات حتى ابيضت لحيته، ولم يكن منبعها أيضا تلك الهتافات والتحيات الملقاة عليه في كل درب هو سالكه، وانما المنبع الحقيقي لنشوة الفروسية والسيادة لديه كان هو تابعه (سانشو بانثا) الذي بدا ساذجاً يصدق سيده في كل ما يقول وكل ما يقوده اليه .. فالقراءة الواعية لشخصية هذا الرجل (سانشو) انه ربما كان رجلا خارق الذكاء ليس بأنه قد صدق سيده وانما لأنه جعل سيده يصدق نفسه فكان بذلك هو المدد الحقيقي الذي مكن (دون كيشوت) من الاستمرار والنضال فيما كان يتصوره .. لقد كان التابع هو السيد في الحقيقة ومن بدا للجميع بأنه القائد كان هو المقود يمسك بخطامه ذلك التابع المسكين .. ومما يبدو أن هذا هو منطق إدارة الاحداث وراء كثير من وقائع عصرنا المصيرية، وهو ان ما يبدو لنا تابعاً متدني الأهمية يكون في الحقيقة المستترة هو السيد والربان خلف الدفة. ما يقوله الساسة في اروقتهم السرية تقوله صناعة السينما في العلن .. ففي أحد الأفلام الواقعية عن ضلوع قادة اكبر البنوك العالمية في عمليات فساد دولية، تكلم الرجل بأن اكثر حروب العصابات والنزاعات الاقليمية المسلحة تعتمد في الأساس على السلاح الخفيف لاسيما الذي تصنعه الصين بكثافة وبأسعار زهيدة نوعاً ما، وان هذا البنك العالمي يقوم بدور السمسار في أزمات النزاع المسلح ليس من اجل الربح غير المجزي لعائدات بيع السلاح الخفيف وانما من اجل السيطرة .. السيطرة ليس على النزاعات ولكن السيطرة على الديون التي تخلفها النزاعات. فهذه الديون هي الطوق الذي يقيد عنق جميع الدول والمؤسسات وحتى الافراد لكي يكونوا عبيداً لديونهم، وهنا يصطاد البنك في الماء العكر .. اذن، فهي السمسرة ما تكون وراء كل أزمة، ووراء اشتعال الأسعار واختلال الموازنة ما بين العملة المحلية وقيمتها الحقيقية من مخزون الذهب الاستراتيجي الكافي فعلا لتغطية العملة، وذلك بأن يتم رفع سعر العملة الأجنبية الصعبة ارتفاعاً وهمياً خارج هذه التغطية الحقيقية، ثم استغلال هذا الامر بما يحقق تضييق كل سبل العيش على الناس لأجل مصالح أصحاب رؤوس الأموال ولأجل الثراء بفاض القيمة الوهمية المتراكمة بفعل السمسرة .. والان هي الثورة، ولو ان الدولة الثورية تخلت الى حد ما عن الاعتماد على إدارة الأوراق النقدية الملونة ولجأت الى إدارة الغلال المحلية في سوقها الداخلي دون الخارجي لربما كفت لكل مواطن قوت يومه وليلته بفائض ملحوظ .. ولو أن الأسواق امتلأت بما يمنحه البحر مدداً مستمراً من الأسماك دون مقابل وبلا زرع او قلع فقط جهد الاستخراج والتوزيع لربما صار الشعب غنياً دون مال .. ولو أن كل انسان غرس بزرة في ارض الوطن لربما طغى الثمر في يوم قريب .. ولو ان الدولة الثورية اعتمدت على السواعد البشرية المجردة في وطن اكثره الشباب دون انتظار لألات او لبترول لربما كان كسب الوقت بالجهد والعرق مباركاً واشد ظهيراً للمجتمع في الخروج من الأزمات .. ولو ان أصحاب الرعاية جمعوا كل الفاقد الإنساني من أبناء الشوارع والمشردين والهائمين بلا مأوى صفاً واحداً في ميادين الإنتاج والتنمية القومية وتحسين البيئة في مقابل ضمان غذائهم وكسائهم وسكنهم لربما لم تحتج البلاد يوما الى غير أبنائها بل لربما صدرنا الخيرات لغيرنا بعدما يفيض ما في بيوتنا عن حاجتنا .. ولو ان اكثر الجامعات تحولت الى معاهد فنية مهنية حرفية عليا لربما فاز المجتمع فوزاً اكبر ولربما اغتنم الشباب أعمارهم البكر قبل ضياعها تعطلاً بلا عمل على الأرصفة وأماكن قتل الأوقات يحملون في جيوبهم شهادات اكاديمية رفيعة ولكنها محض أوراق بلا قيمة اذا لم تملئ شاغرا في مقاعد العمل. ان كل شيء له قسطاسه المستقيم وميزانه الحق .. فلقد كان صدقاً ما قاله صديقي الوراق الناسك (ود الجبل) ان (سانشو كان سبب استمرارية الدونكشوتية .. لولاه لسقط الفرس).
02-16-2020, 11:23 PM
Sinnary
Sinnary
تاريخ التسجيل: 03-12-2004
مجموع المشاركات: 2770
مرحب الأخ وايل وشكراً على هذا الخيط الباعث على التأمل حكاية التابع والسيد دي أظن أن أحسن من تناولها فيمن قرات لهم كان هيجل ونيتشة، فالأخير وفي مقاله عن أخلاق السادة وأخلاق العبيد ذم على غير المتوقع أخلاق العبيد، ذلك عندما نظر لها من زاوية مختلفة فرأى فيها أخلاق تدعو للإستكانة، لا سيماعندما تتغطى هذه الإستكانة بغطاء ديني يذوّقها ويمجّدها، بإعتبار أن مجد مظاليم الدنيا هو مجد منتظر يحصلونه يوم الحشر العظيم، ذلك بقبولهم بقدر الله والزهد في الدنيا. وتعبرهذه الآيدلوجيا على جسور من الأمثلة التي تنصح الإنسان بجعل الآخرة وليس الدنيا أكبر همه: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل. لا تلبسوا الحرير، فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة. إن الزهد في الدنيا راحة القلب والبدن، والرغبة فيها تورث الهم والحزن. وأعتقد أن كارل ماركس إستفاد من هذه الفكرة كثيراً في تدشينه لمقولة الصراع الطبقي كمحرك للتاريخ، والدور التخديري للأديان. أما هيجل فقد نحت جدلية السيد والعبد، ودورها المتكرر والبديع في حياتنا المتمثل في إعتمالها كدراما ذهنية وإجتماعية مثيرة يحدث فيها ما أشرت انت إليه في مقالك عن الفذلكة التي يتحول فيها السيد لتابع يتبع تابعه وربما أشرح هذه الدراما الهيجلية في مداخلة أخرى لا سيما وأننا نشهدها في تتكرر بإستمرار في فضاءات النخب أكانت سياسية، دينية، فكرية، رياضية، فنية أو غيرها فتجد أن غاية الغايات عند كل نخبوي هي إعجاب الجمهور به وشهادتهم بنبوغه وتميزه، أي أنه يستمد قيمته من الخارج وليس من الداخل أي أن غيره هم المصدر لشعوره بالإطمئنان إلى أنه نجم ونخبة وسلطة ويزيد طوله مترين كلمايتلقى هذه الإعترافات به من خارجه حتى تصبح دون أن يدري عبء عليه فكم من فنان أو لاعب أصابه الهم والغم عندما ضعفت الموهبة وأصبح الناس لا يلقون له بالاً.. فيتغير الوضع ويصبح هو الباحث عن إعتراف به بعد أن كان الملهم الذي يحلم الجمهور بنظرة منه (معذرة لإتباعي عادة الحديث بضمير مذكر ضمن ظلم ثقافتنا للإناث)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة