صدر عن دار ربوة للطباعة والنشر بالخرطوم ويوزع عبر عدة مكتبات منها دار المصورات وغيرها. مقدمة الناشر ظلُّ الكُتَّابُ ، بوجه عام ، و مدوّنو التاريخ "سمِّهم المؤرخين" بوجهٍ خاص ، متنازعين بين أوتارٍ ثلاثة : 1) إيثار المهنيّة و الصدق و التزام الحقيقة مهما بلغت مرارتها ، غض البصر عن العواقب.. أو 2) إرضاء القارئ و خطب وُدِّه ، "باعتباره المستهلك الوحيد لبضاعتهم" غض البصر عن الحقيقة . 3) محاولة التوفيق بين الوَتَرين السابقين ، بإيراد الحقائق التي تُرضي القارئ و حجب ما لا يروق له. و ليس من شكٍّ في أنَّ جميع المؤرخين ، في بلادنا و في غيرها ، وجدُوا أنفسهم بإزاء هذه الطرائق الثلاث، فلم يكن أمامهم بُدٌّ من التزام إحداها. و ليس من شكٍّ أيضاً أن سالكي الطريقة الأولى، في الأمم المتخلِّفة خصوصاً، هُم الأندر و الأكثرُ بلاءً ، و الأقلُّ ناصراً من معاصريهم ، و الأكثرُ عدُوَّاً ، ليس فقط لأن الناس يُحِبُّون أن يبدُو تاريخ أسلافهم ، بكامل تفاصيله ، ناصعاً مُشرِّفاً ، و لكن – و هذا الأخطر – لأنَّ السَّاسة و الحُكَّام و ذوي السلطان ، إلاَّ ما ندر، و باعتبارهم ورثة صُنَّاع التاريخ و مروِّجي أمجاد أجدادهم ، لا يُسمِحُون بأن تشوب تاريخ الأجداد شائبة تقدح في أهليتهم ، المتوارثة ، للرئاسة و الحُكم، و قد ذاق المؤرخون المناصرون للحقيقة ، و ظلُّوا يذوقون دائماً ، "طعم" غضب الحُكَّام الذي يتراوح بين النفي و بين القتل ، من ناحية، و طعم غضب العامَّة ، المدفوع بـ"روح القطيع" ، و الذي يؤدِّي في ألطف صوره إلى العزل الاجتماعي. أمَّا أخطر الفئات الثلاث من المؤرخين، و هي أكثرهم عدداً ، فهي الفئة الثالثة (أولئك الذين يحاولون التوفيق بين الحقيقة و بين إرضاء القُرَّاء و الحُكّام، بتجاهُل و حجب كلِّ ما يصِمُ تاريخ الأجداد)، فهؤلاءِ و إن كانُوا يسلكون ما يرونهُ الطريق الوسَط، فإنَّهُم ، بالتزامهم "نصف الحقيقة" يحوزون ثقة من يؤثرون الحقيقة و إن كانت ناقصة ، و يشبعون في الوقت ذاته عواطف "الأُمّة" دُون أن يجرؤ أحدٌ على وصفهم بالكذب، بينما يظلُّ الفريق الثاني – الذي يزيِّفُ التاريخ و يقلب حقائقه - عُرضةً لانكشاف أمره و خمول ذكره مع الزمن. و لمّا كان تقدُّمُ الإنسان في الحضارة، و ارتقاؤه كسباً و سلوكاً ، يوجبُ عليه الاعتبار بوقائع تاريخه ، المُشرِّف منهُ و غير المشرِّف ، فقد نحت الأمم التي تقدَّمت حضاريَّاً إلى تنقيح تاريخها من تزييف المؤرخين، و النظر إلى أسلافها باعتبارهم بشراً تعتريهم كل نقائص البشر ، و الاعتبار بـ"هزائمها التاريخية" بذات قدر اعتبارها بانتصارات تاريخها، فكان ذلك النهج في استلهام التاريخ و نقده من أعظم دوافع تقدُّمها . بينما ظلَّت الأُمم التي لا ترى في تاريخها إلا موجبات الفخر، مُكبَّلةً باجترار ماضٍ زائف ، لا تقدر على تجاوزه لأنَّهُ – في أوهامها – بلغ الذروة التي يستحيل تجاوزها عُلُوَّاً ، و هذا حالُ العرب بوجهٍ عام ، و حال أهل السودان (كما يكشفُ هذا الكتاب) بوجهٍ أكثر خصوصاً. لقد ألقى الدكتور محمد قسم الله ، من خلال كتابه هذا ، حجراً في بِركة "تاريخنا" الراكدة ، و افتتح فصلاً مهمَّاً في (نقد الذَّات التاريخيّة) ظلَّت حاجتُنا إليه ماسَّةً و ضروريَّةً إلى أقصى حدٍّ ، لتفكيك سُلطة "الحقِّ التاريخي في السيادة" لدى بعض الساسة السودانيين ، و تفكيك سلطة "رُوح القطيع" لدى العامَّة ، و إفساح "منصَّة" عالية لشعب السودان ، ليرى تاريخه كما كان ، و ليس كما أحَبّ أن يكون.
05-06-2022, 08:55 PM
محمد قسم الله محمد محمد قسم الله محمد
تاريخ التسجيل: 06-13-2011
مجموع المشاركات: 2793
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة