كلما مرت بخلدي طيوف نفر من رفاقي على عهد الدراسة الجامعية في صوفيا: الطيب الزاكي، الفارع الطول في علم الطبيعة، وفتحي السباح، بقدمه الراسخة في علم الانسان، ونورين أحمد، بحر المعارف الزاخر في علم البيطرة، (الأسماء الثلاثة مستعارة)، تذكرت ثلاثتهم مجتمعين لعلها المرة الأخيرة في تلك البلاد، وأنا رابعهم، في جلسة أنس.
أغلب الظن أن ذلك قد وقع في صيف العام 1992 أما الملتقى فقد كان خاناً قديماً يقع في قرية بيستريتسا وهي من ضواحي صوفيا.
في ذلك اليوم بكرنا في الذهاب إلى الخان في طقس منعش عليل الانسام قبل أن ترتفع حرارة الشمس في ساعات الظهيرة. اتخذنا سبيلنا من البلوك التاسع، في المدينة الجامعية، إلى موقف مركبات الضواحي في حي الدرفنيتسا حيث أنطلقت بنا احدى المركبات.
هبطنا من المركبة على مقربة من الخان. ولجنا بوابته ووجدناه على حاله المألوف لم يتغيّر فيه شيء يستحق الذكر : فناء واسع تتناثر على نجيله المشذَّب موائد للرواد، تتوسطه شجرة بلوط ضخمة وارفة الظل. أمّا الخان نفسه فكانت عبارة عن مبنى محدودب السقف مكون من طابق واحد مشيّد من الآجر الأحمر. يقوم رب الخان على خدمة الرواد بنفسه تعاونه زوجه.
كانت مناسبة اللقاء هي عودة الطيب الزاكي المزمعة إلى السودان بعد اكماله للدراسة، فاحتفينا به كما لو أنه عريس في كمال حلة عرسه على بعد حجر من جبل فيتوشا المهيب، عليه العراقي المطرزة أطراف كميه بخيوط يمتزج فيها اللونان الأحمر والذهبي، والسروال الأبيض المنسدل إلى الكاحلين، مرتدياً مركوباً لامع الحمرة، مضمَخاُ بالعطر، مجرتقاً كأحسن مايكون الجرتق طلباً لحسن الفأل والخصوبة، مبخَّراً من عماته وخالاته ضد العين، تعلو شعر رأسه الضريرة المحصِّنة من نوايا الأرواح القاتمة، معصوب الجبين بمنديل أحمر اللون يزدان بهلال ذهبي شديد البريق في ضوء الشمس، طوراً يهزّ ساعده طرباً وطوراً آخر يبشر فوق الرؤوس معصوب الرسغ الايمن بحريرة ذهبية الخيوط تفتّق وسطُها عن خرزة زرقاء.. ثلاثتنا، فتحي السباح، نورين أحمد وأنا، كنا بمثابة الوزراء لجلالة العريس النافذ الكلمة والمطاع الإشارة، مكرَّسين تماماً لخدمته بهمّة شمّاسة مخلصين للكنيسة، نلبّي كما لو كنا الجن المسخّر للملك سليمان كلّ مطالبه قبل أن يرتدّ إليه بصره حتى عمرت المائدة بصنوف من الطيّبات : الجعة ماركة ذاقوركا، والسلطة البلغارية المحبوبة المعروفة باسم شوبسكا سالاتا، والفلفل المقلي، والبطاطا المقلية المرشوشة بفتات الجبن البلغاري الابيض، الكفتة، والميشنا سكارا.
حَتَلنا في فناء الخان تحت ظلّ البلوط البارد حين طاب لنا المقيل فيها طالت الجلسة واستمرّ العرس حتى مالت الشمس نحو المغيب.
كان الطيب الزاكي منشرح الصدر كالذاهب للحج. لاتحدّ سعادته حدود. يبتسم طوال الوقت وهو يحدّثنا عن مشاريع مابعد العودة إلى أرض الميلاد.
كان ذلك عرساً نهارياً ناطحت بهجته عنان السماء. عريسه سدّ الأفق بطوله الفارع مثل ضو البيت في رواية بندرشاه. أمّا العروس فكانت الغائبة الحاضرة، صوفيا المدينة التي تتنامى ولاتشيخ كما يدلّلها بذلك أهلها، وقد وقعنا نحن الذين ساقتنا الأقدار إليها في حبائل غرامها الذي ليس منه مهرب ولافكاك.
عزيزنا الاستاذ جلال داود (ابوجهينة). سعدت كثيرا بترحابكم وحفاوة استقبالكم. البركة في الشوفة السايبرية بعد غياب. أنا بخير. آمل أن تكونوا على مايرام. تحياتي. اسمان
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
Osman M Salih
ابو جهينة
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست