صلاة النبي مأموماً خلف عبد الرحمن بن عوف...

حفل خيري بالنادي السوداني – Hayward, CA لدعم السودانيين بالمعسكرات والتكايا
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 09-13-2025, 07:42 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2020-2023م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-19-2020, 00:27 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18426

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
صلاة النبي مأموماً خلف عبد الرحمن بن عوف...

    11:27 PM February, 18 2020

    سودانيز اون لاين
    سيف اليزل برعي البدوي-
    مكتبتى
    رابط مختصر




    صلاة النبي مأموماً خلف عبد الرحمن بن عوف...
    في رجب من السنة التاسعة للهجرة النبوية كانت غزوة تبوك، آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سُمِّيَت بغزوة تبوك، وغزوة العُسْرة، وذلك لصعوبة وشدة الظروف التي وقعت فيها أحداثها، من شدة الحر وبُعْد المكان، وقلة المال والدواب، وقد عنون البخاري لهذه الغزوة بقوله: (باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة). وقد شهدت هذه الغزوة العديد من المواقف والأحداث التي وقعت في أثناء ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إليها ورجوعه منها، وكان فيها الكثير من المواقف والدروس والعِبر، قال ابن حجر في "فتح الباري" في كلامه عن غزوة تبوك: "وهي آخِرُ غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أهمِّها وكانت مليئة بالأحداث، فيها أخبار الموسرين الذين أنفقوا، والفقراء الذين عجزوا، وفيها أنباء المنافقين الذين فُضِحوا، وحكاية الثلاثة الذين خلفوا، فضلاً عن أخبار المسير والحصار والمشقة التي كانت فيها، والأحداث التي صاحبتها".

    ومن المواقف التي وقعت في هذه الغزوة: صلاة النبي صلى الله عليه وسلم مأموما خلف عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (عدلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه في غزوة تبوك قبل الفجر فعدَلتُ معه، فأناخَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فتبرَّزَ (ذهب إلى مكان بعيد لقضاء حاجته) ثمَّ جاءَ فسَكَبتُ علَى يده مِن الإداوة (إناء صغير من جلد فيه ماء) فغسل كفَّيه ثمَّ غسل وجهَه ثمَّ حسر (كشف) عن ذراعيهِ فضاقَ كُمَّا جبَّتِهِ (نوع من الثياب) فأدخل يديهِ فأخرجَهُما من تحت الجُبَّة فغسلَهُما إلى المرفق، ومسح برأسه ثمَّ توضَّأ (مسح) علَى خفَّيه (حِذاءٌ من جِلدٍ يَستُر القَدم)، ثمَّ ركِبَ فأقبَلنا نسيرُ حتَّى نجد النَّاسَ (وجدنا الناس، وعبر بالمضارع استحضارا للصورة الغريبة في نظره) في الصَّلاةِ قد قدَّموا عبد الرَّحمن بن عوفٍ فصلَّى بهِم حين كان وقتُ الصَّلاة، ووجدنا عبد الرَّحمن وقد ركع بِهِم ركعةً مِن صلاةِ الفجر، فقامَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فصفَّ مع المسلمين فصلَّى وراء عبد الرَّحمن بن عوفٍ الرَّكعةَ الثَّانيةَ، ثمَّ سلَّمَ عبدُ الرَّحمنِ فقامَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في صلاتِهِ ففزِع المسلمون فأكثروا التَّسبيحَ لأنَّهم سبَقوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بالصَّلاة، فلمَّا سلَّمَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال لَهُم: قد أصبتُمْ - أو قد أحسنتُمْ ـ) رواه أبو داود وصححه الألباني.
    وفي رواية مسلم: (ومَسَحَ بناصِيَتِه (مُقَدَّم الرَّأْس منَ الجَبْهَة) وعلى العمامة وعلى خُفَّيْه). أي: إنَّه صلى الله عليه وسلم لَم يَمسَحْ على شَعرِ رأسِه أو يَغْسِلْ رِجْلَه، ولكنَّه اكتفَى بالمَسْحِ بالماءِ على عِمامَتِه ولَم يَرفعْها عن رأسه، وكذلك مسَح على خُفَّيْه.

    هذا الموقف الذي حدث في أثناء ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فيه الكثير من الفوائد، ومنها:

    قال ابن عبد البر: "فيه اقتداء الفاضل بالمفضول، وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم خلف بعض أمته".
    وقال النووي: "اعلم أن هذا الحديث فيه فوائد كثيرة، منها: جواز اقتداء الفاضل بالمفضول، وجواز صلاة النبي صلى الله عليه وسلم خلف بعض أمته، ومنها: أن الأفضل تقديم الصلاة في أول الوقت فإنهم فعلوها أول الوقت ولم ينتظروا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ومنها: أن الإمام إذا تأخر عن أول الوقت استُحِبَّ للجماعة أن يقدموا أحدهم فيصلي بهم إذا وثقوا بحسن خلق الإمام وأنه لا يتأذى من ذلك، ولا يترتب عليه فتنة.. ومنها: أن من سبقه الإمام ببعض الصلاة أتى بما أدرك، فإذا سلم الإمام أتى بما بقي عليه ولا يسقط ذلك عنه بخلاف قراءة الفاتحة فإنها تسقط عن المسبوق إذا أدرك الإمام راكعا. ومنها: اتباع المسبوق للإمام في فعله في ركوعه وسجوده وجلوسه وإن لم يكن ذلك موضع فعله للمأموم. ومنها: أن المسبوق إنما يفارق الإمام بعد سلام الإمام والله أعلم. وأما بقاء عبد الرحمن في صلاته وتأخر أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ليتقدم النبي صلى الله عليه وسلم (في مرضه قبيل وفاته)؟ فالفرق بينهما أن في قضية عبد الرحمن كان قد ركع ركعة فترك النبي صلى الله عليه وسلم التقدم لئلا يختل ترتيب صلاة القوم، بخلاف قضية أبي بكر رضي الله عنهما والله أعلم".
    وفي شرح الزرقاني عل موطأ الإمام مالك: "(فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال:أحسنتم) إذْ جمعتم الصلاة لوقتها، ويحتمل أنه أراد أن يُسَكِّن ما بهم من الفزع، قاله الأصيلي، وقد زاد مسلم (يغبطهم) أن صلّوا لوقتها بالتشديد، أي يحملهم على الغبطة لأجل ذلك، ويجعل هذا الفعل عندهم مما يُغبط عليه، وإن روي بالتخفيف فيكون قد غبطهم لتقدمهم وسبقهم إلى الصلاة، قاله ابن الأثير. قال ابن عبد البر: وفي قوله: (أحسنتم) أنه ينبغي شكر من بادر إلى أداء فرضه وعمل ما يجب عليه، وفضل عبد الرحمن إذ قدمه الصحابة بدلا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، وفيه اقتداء الفاضل بالمفضول، وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم خلف بعض أمته".

    وفي هذا الموقف فضيلة ظاهرة ومَنْقَبة جليلة لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وذلك في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم خلفه مأموما، فقد ذكر السيوطي في كتابه "الخصائص الكبرى"، وابن سعد في "الطبقات" وغيرهما: "فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم حين صلَّى خلفَ عبد الرحمن بنِ عوف: (ما قُبِضَ نبيٌّ قطُّ حتَّى يصلِّي خلفَ رجلٍ صالحٍ من أمتِه)". وقال ابن الجوزي في كتابه "كشف المشكل من حديث الصحيحين" عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: "أسلم قديماً، وهاجر الهجرتين، ولم يفته مع رسول الله مشهد، وثبت مع رسول الله يوم أُحُد، وصلى رسولُ الله خلفه، كان قد ذهب في غزوة تبوك للطهارة، فجاء وعبد الرحمن قد صلى بهم ركعة، فصلى معه وأتم الذي فاته، وقال: (ما قُبِضَ نبيٌّ حتى يُصلي خلف رجل صالح من أمته). وروى عن رسول الله خمسة وستين حديثا، أخرج له منها في الصحيحين سبعة أحاديث".
    ومن المعلوم أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه من العشرة المبشرين بالجنة، فعن سعيد بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عشرة في الجنة: أبو بكر في ‏الجنة، وعمر في الجنة، وعليّ، وعثمان، والزبير، وطلحة، وعبد الرحمن، وأبو عبيدة، وسعد بن ‏أبي وقاص، قال: فعدَّ هؤلاء التسعة، وسكتَ عن العاشر، فقال القوم: ننشدُكَ اللَّهَ يا أبا ‏الأعور منِ العاشر؟ قال: نشدتُموني بالله، أبو الأعور في الجنة) رواه أبو داود وصححه الألباني. وأبو الأعور: هو سعيد بن زيد رضي الله عنه راوي الحديث.
    إسلام ويب...
    ---------------------------------------------
    من حق المسلم على أخيه أن يرد غيبته إذا انتقص منه أحَد، ويدافع عن عِرْضِه إذا خيض فيه ولو بكلمة يُنتقص بها منه، وقد أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم برَدِّ غيبة المسلم والدفاع عنه، وبين لنا أن مَنْ فعل ذلك فإن الله تعالى يرد عنه النار يوم القيامة، ويجعل له حجاباً منها، فالجزاء من جنس العمل، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسْلِمُه، ومَنْ كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربةً فرّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمـاً ستره الله يوم القيامة) رواه البخاري. قال ابن حجر: "(ولا يُسْلِمه) أي: لا يتركه مع من يُؤذيه، ولا فيما يُؤذيه، بل يَنْصُره، ويدفع عنه، وهذا أخصُّ مِنْ تَرْك الظُّلم، وقد يكون ذلك واجباً، وقد يكون مندوباً، بحسب اختلاف الأحوال". وقال ابن عثيمين: "ولهذا قال العلماء رحمهم الله: يجب على الإنسان أن يدافع عن أخيه في عِرْضِه وبدنه وماله".

    والسيرة النبوية فيها الكثير من المواقف والأحاديث التي تحثنا على الدفاع عن عرض المسلم، وتبين فضيلة الدفاع عن عرضه، ورعاية حرمته، ومن ذلك :

    ـ عن عتبان بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أين مالك بن الدخشم؟ فقال رجل: ذلك منافق لا يحب الله ولا رسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تفعل ذلك، ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله، وإن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) رواه البخاري.
    ـ في غزوة تبوك سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن كعب بن مالك رضي الله عنه قائلا: (ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجلٌ من بني سلمة: يا رسول الله حبسه بُرْدَاهُ ونظره في عِطْفَيه (إشارة إلى إعجابه بنفسه)، فقال مُعاذ بن جبل: بئس ما قُلْتَ، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا، فسكت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) رواه البخاري. قال ابن عثيمين: "قال النووي في كتابه "رياض الصاحين" في باب تحريم سماع الغيبة فيما نقله عن كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة توبته، وكان كعب من الذين تخلفوا عن غزوة تبوك بلا عذر: "هذا الكلام الذي قاله هذا الرجل لا شك أنه من الغيبة وأنه ذكر كعب بما يكره، إلا أن الله وفق له من دافع عنه، وقال: إنه لا يعلم عنه إلا خيرا، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فيستفاد من ذلك أن الواجب على الإنسان إذا سمع من يغتاب أحداً أن يكف غيبته وأن يسعى في إسكاته".
    ـ مع محبة النبي صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلا أنه أنكر عليها حينما ذكرت صفية رضي الله عنها بشيء، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: (حسبك من صفية كذا وكذا ـ تعني قصيرة ـ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلت كلمة لو مُزِجت (خُلِطت) بماء البحر لمزجته) رواه أبو داود وصححه الألباني. قال ابن عثيمين:"يعني لو خُلِطت بماء البحر على كبره وسعته لمزجته، أي أثرت فيه وهي كلمة يسيرة جداً، لكنها عظيمة"، وفي شرح البخاري للسفيري: "فهذا حديث من أبلغ الزواجر عن الغيبة، إذا كان هذا شأن كلمة هي في المقول فيها، فإن عائشة رضي الله عنها قالت عنها: إنها قصيرة وكانت قصيرة، فكيف حال من يتكلم في غيره بكلمة مفتراه فيه .. قال العلماء: وسامع الغيبة شريك المغتاب، فكما تحرم الغيبة يحرم استماعها، ويجب إنكارها إن لم يخف ضرراً، وإن خاف ضرراً فارق ذلك المجلس، فإن لم يقدر على المفارقة بذكْرٍ أو غيره لا يضره بعد ذلك السماع من غير استماع، فيجب على كل من سمع غيبة أخيه أن يرى باباً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن من فعل ذلك فقد فار فوزاً عظيما، فقدر ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ردَّ عن عرض أخيه، ردَّ الله عن وجهه النار يوم القيامة) رواه الترمذي وقال حديث حسن".

    ـ وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ردَّ عن عِرْض أخيه، كان له حجابا من النار) رواه الترمذي، قال الصنعاني: "(من ردَّ عن عرض أخيه) غيبة تُقال فيه. (كان) اللسان. (له حجاباً) يمنعه (من النار)، وسواء ردَّ عن عِرْضه وهو غائب أو وهو حاضر، والأول أفضل، وهذا في الردِّ عن عرضه، وبه يُعلم أن المنع عن ماله ودمه أفضل وأعظم عند الله أجرا". وفي رواية أخرى للترمذي: (مَنْ ردَّ عن عِرْض أخيه، ردَّ الله عن وجهه النار يوم القيامة). قال المباركفوري: "قوله: (من ردَّ عن عرض أخيه) أي: منع غيبة عن أخيه، (ردَّ الله عن وجهه النار) أي: صرف الله عن وجه الراد نار جهنم، قال المناوي: أي: عن ذاته العذاب، وخص الوجه لأن تعذيبه أنكى في الإيلام وأشد في الهوان".
    ـ وعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ ذَبَّ (دافع) عَنْ لحْم أَخيه بالمغيبة، كان حَقًّا على الله أَنْ يُعْتِقَه مِنَ النَّار) رواه البيهقي. قال القاري: "(من ذبَّ) أي: دفع (عن لحم أخيه): كناية عن غيبته على طِبْق الآية، والمعنى من دفع أو من منع مغتاباً عن غيبة أخيه (بالمغيبة) أي: في زمان كون أخيه غائبا .. قال الطيبي: كأنه قيل من ذبَّ عن غيبة أخيه في غيبته .. وفي هذه الكناية من المبالغة أنه جعل الغيبة كأكل لحم الإنسان .. (كان حقا على الله) أي: ثابتا عنده أو واجباً عليه، بمقتضى وعده (أن يعتقه من النار)". وقال المناوي في "فيض القدير": "والسبب في ذلك أن عِرض المؤمن كدَمِه، فمَن هتك عرضه فكأنه سفك دمه، ومَن عمل على صون عرضه، فكأنه صان دمه، فيُجازى على ذلك بصونه عن النار يوم القيامة".

    ونبينا صلى الله عليه وسلم حذرنا من خذلان المسلم، وعدم الدفاع عنه، والذبِّ عن عِرْضِه، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما مِن امرئٍ يخذل مسلماً في موطنٍ يُنتَقَصُ فيه من عِرضِه، ويُنتهَكُ فيه من حُرمته، إلا خذله اللهُ في موطنٍ يحب فيه نُصرتَه، وما مِن امرئٍ ينصر مسلماً في موطنٍ يُنتقَصُ فيه من عِرضِه، ويُنتهَكُ فيه من حُرمته، إلا نصره اللهُ في موطنٍ يحبُّ فيه نُصرته) رواه أبو داود. قال المناوي: "(وينتهك فيه من حُرْمَتِه) بأن يُتكلم فيه بما لا يحل، والحرمة هنا ما لا يحل انتهاكه .. (إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته) أي في موضع يكون فيه أحوج لنصرته وهو يوم القيامة، فخذلان المؤمن حرام شديد التحريم .. (وما من أحد ينصر مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته) وهو يوم القيامة، جزاءً وِفاقا".

    لقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن من حق المسلم على أخيه مسارعته إلى ردِّ غيبته، والدفاع عن عِرْضه إذا خيض فيه، وأن يكون ذلك برفق وحكمة، وأن ينوي منكر الغيبة نصح أخيه الذي يغتاب، والرد والدفاع عن عرض أخيه الذي اغتيب، ومن ثمرات وفضل ذلك أن الله عز وجل يتولاه وينصره في الدنيا والآخرة، ويجعل له حجاباً من النار، والجزاء من جنس العمل، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ردَّ عن عرض أخيه، ردَّ الله عن وجهه النار يوم القيامة) رواه الترمذي .
    -------------------------------------------------
    "إن كان قال فقد صدق"، كلمة قالها أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أخبر كفار قريش عن رحلة الإسراء والمعراج فكذبوه، وهي تعبر بصورة واضحة عن منهج الصحابة رضوان الله عليهم مع كلام وأوامر النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صلوات الله وسلامه عليه عندهم الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى، قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(النَّجم 4:3). ولم يتوقف الصحابة رضوان الله عليهم عند حدود تصديق النبي صلى الله عليه وسلم وفقط، بل كانوا يتبعون التصديق بسرعة الاستجابة والعمل بما أمرهم به.
    وقد أمرنا الله عز وجل بالاستجابة لأمر نبيه صلى الله عليه وسلم، والانتهاء عما نهى عنه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}(الأنفال:24)، قال السعدي: "يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان منهم وهو الاستجابة لله وللرسول، أي: الانقياد لما أمرا به والمبادرة إلى ذلك والدعوة إليه، والاجتناب لما نهيا عنه، والانكفاف عنه والنهي عنه". وقال تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(الحشر:7). قال ابن كثير: "أي: مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمر بخير وإنما ينهى عن شر".

    والسيرة النبوية زاخرة بالكثير من الصور والأمثلة الدالة على سرعة استجابة الصحابة رضوان الله عليهم للنبي صلى الله عليه وسلم في أمره بالامتثال والطاعة، وفي نهيه بالاجتناب والبعد، ومن ذلك:

    ـ لا تسأل أحداً شيئا :

    عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال صلى الله عليه وسلم: ألا تبايعون رسول الله؟ وكنا حديث عهدٍ ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: ألا تبايعون رسول الله؟ قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله! فعلام نبايعك؟ قال صلى الله عليه وسلم: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس، وتطيعوا، وأسرَّ كلمة خفية، ولا تسألوا الناس شيئا. قال عوف: فلقد رأيتُ بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحدا يناوله إياه) رواه مسلم. قال القرطبي: "وأخْذه صلى الله عليه وسلم على أصحابه في البيعة أن لا يسألوا أحداً شيئا، حمْلٌ لهم على مكارم الأخلاق، والترفع عن تحمل مِنَن الخَلق، وتعليم الصبر على مضض الحاجات، والاستغناء عن الناس، وعزة النفوس، ولما أخذهم بذلك التزموه في جميع الأشياء، وفي كل الأحوال حتى فيما لا تلحق فيه مِنَّة، طردًا للباب وحسْماً للذرائع".

    ـ فما زالت طعمتي بعد :

    فعن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه قال: (كنت غلاماً في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا غلام، سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك، فما زالت طعمتي بعد) رواه البخاري. قال ابن حجر: "أي لزمت ذلك وصار عادة لي .. وفيه منقبة لعمر بن أبي سلمة لامتثاله الأمر، ومواظبته على مقتضاه".

    ـ لا أَضرِب مملوكاً بعده أبدا :

    عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: (كنتُ أَضرِب غلامًا لي بالسوط، فسمعتُ صوتًا مِن خلفي: اعلم أبا مسعود، فلم أفهم الصوت مِن الغضب، قال: فلما دنا مني إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود، قال: فألقيتُ السَّوط من يدي، فقال: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام، قال: فقلت: لا أَضرِب مملوكًا بعده أبدا) رواه مسلم. أي: بعد هذا القول الذي سمعه وذلك امتثالا وطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم.

    ـ فما سَببتُ بعدَهُ حُرّاً ولا عَبْدا :

    عن أبى جُرَيّ جابر بن سليم الهجيمى رضي الله عنه قال: (رأيتُ رجلًا يَصدرُ النَّاسُ عن رأيه (يقبلون قوله ورأيه)، لا يقول شيئًا إلَّا صدروا عنه (أخذوا منه كل ما حكم به)، قلتُ: مَن هذا؟ قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلتُ: عليك السَّلام يا رسول اللَّه، مرَّتين، قال: لا تَقُلْ: عليكَ السّلام، فإنَّ عليك السلام تحيَّة الميِّت، قل: السَّلام عليك، قال: قلتُ: أنتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أنا رسولُ اللَّه الَّذي (وهو الله عز وجل) إذا أصابك ضرٌّ فدَعوتَه كشفَه عنك، وإن أصابك عامُ سَنةٍ (جدب وقحط) فدعوتَه، أنبتها لك، وإذا كنتَ بأرضٍ قَفراءَ أو فلاةٍ فضلَّت راحلتُك فدعوتَه، ردَّها عليك، قلتُ: اعهَد إليَّ (أوصني)، قال: لا تَسبَّنَّ أحداً، قال: فما سَببتُ بعدَه حُرًّا ولا عبدًا، ولا بعيرًا ولا شاة) رواه أبو داود وصححه الألباني. قال المباركفوري: "قال الخطابي: هذا يُوهِم أن السُنة في تحية الميت أن يقال له عليك السلام كما يفعله كثير من العامة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل المقبرة فقال السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، فقدَّم الدعاء على اسم المدعو له، كهو في تحية الأحياء، وإنما كان ذلك القول منه إشارة إلى ما جرت به العادة منهم في تحية الأموات، إذ كانوا يقدمون اسم الميت على الدعاء وهو مذكور في أشعارهم.. والسُنَّة لا تختلف في تحية الأحياء والأموات". وفي دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين: (فما سببْتُ بعده حرّاً ولا عبداً، ولا بعيراً ولا شاة): أشار به إلى كمال الامتثال (لأمر النبي صلى الله عليه وسلم)، وعدم المشاحنة في شيء من ذلك".

    ـ الاستجابة حتى في الجلوس ، وفي عدم الالتفات :

    عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (لما استوى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، قال: اجلِسوا، فسَمِع ذلك ابن مسعود فجلس على باب المسجد، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تعالَ يا عبد الله بنَ مسعود) رواه أبو داود وصححه الألباني، قال ابن حجر: "(فجلس على باب المسجد) مبادرة إلى الامتثال (الطاعة)". وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: (لأُعطينَّ الراية رجلاً يحب الله ورسوله، يَفتح الله على يديه، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما أحببتُ الإمارة إلا يومئذٍ، قال: فتساوَرتُ لها، رجاء أن أُدعَى لها، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ بن أبي طالب فأعطاه إياها وقال: امشِ ولا تَلتفِت حتى يَفتح الله عليك، فسار عليٌّ شيئًا ثم وقَف ولم يَلتفِت، فصرخ: يا رسول الله، على ماذا أقاتل الناس؟ فقال:قاتِلهم حتى يَشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك، فقد منَعوا منكَ دِماءهم وأموالهم إلا بحقِّها وحِسابُهم على الله) رواه مسلم. قال القاضي عياض: "(وقف ولم يلتفت) فيه: التزام أوامره صلى الله عليه وسلم، والأخذ بظاهرها ما أمكن ولم يصرفها عنه صارف".

    ـ لا آخذه أبدا ، وقد طرحه رسول الله :

    عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتماً من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه، وقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده، فقيل للرّجل بعد ما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك انتفع به، قال: لا والله لا آخذه أبدا، وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم. قال النووي: "فيه المبالغة في امتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجتناب نهيه، وعدم الترخص فيه بالتأويلات الضعيفة".

    المسلم يعرف حقيقة الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وذلك بالتسليم لأمره، وطاعته في كل ما أمر به، والانتهاء عما نهى عنه، دون ريْبٍ أو تردد أو حرج، ولو كان أمره أو نهيه مخالفاً للنفس والعقل، والطبْع والعادة، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب:36)، قال السعدي في تفسيره: "أي: لا ينبغي ولا يليق، ممن اتصف بالإيمان، إلا الإسراع في مرضاة الله ورسوله، والهرب من سخط الله ورسوله، وامتثال أمرهما، واجتناب نهيهما، فلا يليق بمؤمن ولا مؤمنة {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} من الأمور، وحتَّما به وألزما به {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} أي: الخيار، هل يفعلونه أم لا؟ بل يعلم المؤمن والمؤمنة، أن الرسول أولى به من نفسه، فلا يجعل بعض أهواء نفسه حجاباً بينه وبين أمر الله ورسوله". وقال ابن القيم في كتابه مدارج السالكين: "رأس الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم كمال التسليم له والانقياد لأمره".

    --------------------------------------------
    اشتد الأذى والتعذيب بالمؤمنين في مكة، فأذِن النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالهجرة إلى المدينة المنورة حتي يأمنوا على أنفسهم ودينهم، فسارع الصحابة رضوان الله عليهم بالهجرة، وخرجوا من مكة إلى المدينة جماعات ووحدانا... فقامت قريش بمنع بعض المسلمين المستضعفين من الهجرة، وحبسوهم وعذبوهم، وكان من ضمن هؤلاء المؤمنين المُستضعفين الذين حبستهم ومنعتهم قريش من الهجرة: الوليد بن الوليد، وعياش بن ربيعة، وهشام بن العاص، ولم يستطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل لهم ولغيرهم من المُسْتضْعَفين شيئاً، فقنت في صلاته يدعو لهم، ويدعو على من عذبهم ومنعهم من الهجرة.

    عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسَه مِنَ الرَّكْعة الآخِرَة يقول: اللَّهُمَّ أنْجِ عَيَّاشَ بن أبي ربيعةَ، اللَّهُمَّ أنْجِ سَلَمَة بن هشامٍ، اللَّهُمَّ أنْجِ الولِيد بن الوليد، اللَّهُمَّ أنْجِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المؤمنين) رواه البخاري.
    وروى أحمد في مسنده بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعوا: (اللهم خلِّص الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، وضعفة المسلمين من أيدي المشركين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا).
    قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ أنْجِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المؤمنين): دعاءٌ عامٌّ بَعد دعاءٍ خاص، والمراد بالمُستضعَفينَ مِن المُؤمِنين: هُم ضُعفاء المؤمنين بمكَّة وغيرها الَّذين حبَسَهم الكُفَّار عن الهجرة وآذَوْهم وعَذَّبوهم.

    الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة:

    الوليد بن الوليد: قال ابن حجر في كتابه "الإصابة في تمييز الصحابة" :"أخو خالد بن الوليد.. حضر بدرا مع المشركين، فأُسِر فافتداه أخواه: هشام وخالد.. فلما افْتُدِىَ أسلم.. ولما أسلم حبسه أخواله، فكان النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم يدعو له في القنوت، كما ثبت في الصّحيح".
    سلمة بن هشام: قال ابن الأثير في"أُسد الغابة في معرفة الصحابة": "سلمة بن هشام بن المغيرة القرشي المخزومي أسلم قديما.. وهو أخو أبي جهل بن هشام، وابن عم خالد بن الوليد. وكان من خيار الصحابة وفضلائهم، وهاجر إلى الحبشة، ومُنِع سلمة من الهجرة إلى المدينة، وعُذِّب في الله عز وجل، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو له في صلاته في القنوت له ولغيره من المستضعفين".
    عيّاش بن أبي ربيعة: قال ابن عبد البر في "الاستيعاب في معرفة الأصحاب": عياش بن أبي ربيعة، هو أخو أبي جهل بن هشام لأمه، أمهما أم الجلاس.. كان إسلامه قديما قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم. وهاجر عياش رضي الله عنه إلى أرض الحبشة.. ثم هاجر إلى المدينة فجمع بين الهجرتين.. قال الزبير: كان عياش بن أبي ربيعة قد هاجر إلى المدينة حين هاجر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقدم عليه أخواه لأمه: أبو جهل والحارث ابنا هشام، فذكرا له أن أمَّه حلفت ألا يدخل رأسها دهن ولا تستظل حتى تراه، فرجع معهما فأوثقاه رباطا وحبساه بمكة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو له.. قال أبو عمر: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو للمستضعفين بمكة، ويسمي منهم الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة. والخبر بذلك من أصح أخبار الآحاد".

    وقال ابن هشام في "السيرة النبوية": "حدثني من أثق به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو بالمدينة: مَنْ لي بعيّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص؟ فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة (بعد أن فرَّ وهرب إلى المدينة): أنا لك يا رسول الله بهما، فخرج إلى مكة فدخلها مستخفيا، فلقي امرأة تحمل طعاما فقال لها: أين تريدين يا أمة الله؟ قالت: أريد هذين المحبوسين ـ تعنيهما ـ، فتبعها حتى عرف موضعهما، وكانا محبوسين في بيت لا سقف له، فلما أمسى تسوّر عليهما، ثم أخذ مروة (قطعة من الحجر)، فوضعها تحت قيديهما، ثم ضربهما بسيفه فقطعهما، فكان يقال لسيفه "ذو المروة" لذلك، ثم حملهما على بعيره، وساق بهما، فعثر فدميت إصبعه فقال:
    هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت
    ثم قدِم بهما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة".

    الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة من المسلمين المستضعفين بمكة، الذين عذبتهم قريش وحبستهم ومنعتهم من الهجرة، ثم نجوا ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وهاجروا إليه، ومن فوائد موقف النبي صلى الله عليه وسلم وقنوته ودعائه لهم في صلاته بقوله: (اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين)، وقوله: (منْ لي بعيّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص):

    1 ـ يُشْرَع الدعاء للمسلمين المُسْتَضْعَفين في أي مكان، فمِنْ هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته القنوت والدعاء في النوازل والشدائد. قال ابن تيمية: "وشُرِعَ القنوت والدعاء للمؤمنين والدعاء على الكافرين.. فيُشْرَع أن يقنت عند النوازل يدعو للمؤمنين ويدعو على الكفار في الفجر وفي غيرها من الصلوات.. وينبغي للقانت أن يدعو عند كل نازلة بالدعاء المناسب لتلك النازلة".
    وقال ابن القيم في "زاد المعاد": "إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم، وللدعاء على آخرين، ثم تركه لما قدم من دعا لهم، وتخلصوا من الأسْر، وأسلم من دعا عليهم وجاؤوا تائبين، فكان قنوته لعارض، فلما زال ترك القنوت".
    وقال الطيبي: "فيه دليل علي جواز القنوت في غير الوتر، وعلي أن الدعاء لقوم بأسمائهم وأسماء آبائهم لا يقطع الصلاة، وأن الدعاء علي الكفار والظلمة لا يفسدها".
    وقال العيني في شرح البخاري: "وفيه الدعاء على الظالم بالهلاك، والدعاء للمؤمنين بالنجاة".
    وقال ابن عثيمين: "القنوت في النوازل مشروع في جميع الصلوات كما صحَّ ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم".

    2 ـ رحمة وشفقة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه: وصف الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بلين الجانب لأصحابه، ورحمته، بهم وشفقته عليهم، فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}(آل عمران:159)، وقال سبحانه: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(التوبة:128). قال ابن كثير في تفسيره: "وقوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي: يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها، {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أي: على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم".
    وفي معاملته صلى الله عليه وسلم لأصحابه من حُسْن الخُلق ما لا يَخْفى، ومن ذلك أنه كان يشفق عليهم، ويشعر بهمومهم وآلامهم، ومِنْ ثم ظل النبي صلى الله عليه وسلم حاملا همّ من لم يستطع الهجرة من مكة إلى المدينة، بل وقنت ودعا لهم في صلاته قائلا: (اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين)، وقال لأصحابه: (منْ لي بعيّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص).
    -------------------------------------------
    مِنْ أعظم نعم الله عز وجل علينا وعلى البشرية كلها بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال الله تعالى عنه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}( الأنبياء:107)، وقال سبحانه: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(التوبة: 128). قال ابن كثير في تفسيره: "وقوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي: يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها، {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أي: على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم". وقال السعدي: "{حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} فيحب لكم الخير، ويسعى جهده في إيصاله إليكم، ويحرص على هدايتكم إلى الإيمان، ويكره لكم الشر، ويسعى جهده في تنفيركم عنه. {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} أي: شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم".
    والمتأمل في السيرة النبوية يجد صورا كثيرة يظهر من خلالها مدى رحمة نبينا صلى الله عليه وسلم بأمته، وشفقته بها، وحرصه الشديد على أن تكونَ في ظل الرحمن وجنّته يوم القيامة. ومن أعظم هذه الصور شفاعته صلوات الله وسلامه عليه يوم القيامة لأمته، والتي قال الله عز وجل له فيها: يا مُحَمَّد، ارْفَعْ رَأْسَك، وقُلْ: يُسْمَعْ لك، وسَلْ تُعْطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ.

    الشفاعة العظمى:

    الشفاعة العظمى هي المقام المحمود الذي يذهب فيه الأولون والآخرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشفع لهم عند ربهم، قال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}(الإسراء:79): "قال ابن عباس: هذا المقام المحمود مقام الشفاعة، وكذا قال ابن أبي نجيح عن مجاهد، وقالهالحسن البصري. وقال قتادة: هو أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، وكان أهل العلم يرون أنه المقام المحمود الذي قال الله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}. قلتُ: لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما تشريفات يوم القيامة لا يشركه فيها أحد، وتشريفات لا يساويه فيها أحد، فهو أول من تنشق عنه الأرض، ويبعث راكبا إلى المحشر، وله اللواء الذي آدم فمن دونه تحت لوائه، وله الحوض الذي ليس في الموقف أكثر واردا منه، وله الشفاعة العظمى عند الله ليأتي لفصل القضاء بين الخلائق، وذلك بعدما يسأل الناس آدم ثم نوحا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى، فكل يقول: "لست لها"، حتى يأتوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: "أنا لها، أنا لها".
    وقال الطبري: "..لعل ربك أن يبعثك يوم القيامة مقاماً، تقوم فيه محموداً تُغْبَط فيه، ثم اختلف أهل التأويل في معنى ذلك المقام المحمود، فقال أكثر العلم: ذلك هو المقام الذي هو يقومه يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم".

    عن مَعْبَدِ بن هلالٍ العَنْزِيّ قال: اجتمعَ رهطٌ من أهل البصرة وأنا فيهم، فأتينا أنسَ بن مالكٍ واستشفعنا عليه بثابتِ البُنَانِيّ، فدخلنا عليهِ فأجلسَ ثابتاً معه على السرير، فقلتُ: لا تسألوه عن شيء غيرِ هذا الحديث، فقال ثابتٌ: يا أبا حمزةَ (أنس) إخوانكَ من أهلِ البصرة جاءوا يسألونك عن حديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشفاعة، فقال: (حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان يوم القيامة ماجَ (اضطرب) النَّاسُ بَعْضُهُمْ إلى بعْض، فيأتون آدم فيقولون له: اشْفَعْ لِذُرِّيَّتِك، فيقول: لسْتُ لها، ولكنْ عليكم بإبراهيم عليه السَّلام، فإنه خليل الله، فيأْتون إبراهيم فيقول: لَسْتُ لها، ولكِنْ عليكم بموسى عليه السَّلام، فإنَّه كَلِيمُ الله، فيُؤْتَى موسى، فيقول: لسْتُ لها، ولكنْ عليكم بعيسى عليه السَّلام، فإنه روح الله وكلِمَتُه، فيُؤتَى عيسى، فيقول: لسْتُ لها، ولكِنْ عليْكُم بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَأُوتَى، فأقول: أنا لها، فأنْطَلِقُ فأسْتَأْذن على ربِّي، فيُؤْذَن لي، فأقوم بين يديْه فأحْمَدُه بمحامِدَ لا أقْدِر عليه الآن، يُلْهِمُنِيهِ اللَّهُ، ثُمَّ أخِرُّ له ساجداً، فيُقال لي: يا مُحَمَّد، ارْفعْ رأسك، وقُلْ: يُسْمَعْ لك، وسَلْ تُعْطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، فأقول: رَبِّ، أُمَّتي أُمَّتي، فيُقال: انْطَلِقْ، فمَن كان في قَلْبه مِثْقال حَبَّةٍ مِنْ بُرَّةٍ، أوْ شَعِيرَةٍ من إيمانٍ، فأخْرِجْه مِنْها، فأنْطَلِقُ فأفْعَل، ثُمَّ أرْجِعُ إلى رَبِّي فأحْمَدهُ بتلْكَ المَحامِد، ثُمَّ أخِرُّ له ساجداً، فيُقالُ لي: يا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَك، وقُلْ يُسْمَع لك، وسَلْ تُعْطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، فأقُول: أُمَّتي أُمَّتي، فيُقال لي: انْطَلِقْ فمَن كان في قَلْبه مثْقال حَبَّةٍ مِن خَرْدَلٍ مِن إيمانٍ فأخْرِجْهُ مِنْها، فأنْطَلِقُ فأفعل، ثُمَّ أعُودُ إلى ربِّي فأحْمَدُه بتِلْك المَحامِد، ثُمَّ أخِرُّ له ساجداً، فيُقال لي: يا مُحَمَّد، ارْفعْ رأسك، وقُلْ يُسْمَعْ لك، وسَلْ تُعْطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، فأقول: يا رَبِّ، أُمَّتي أُمَّتِي، فيُقال لي: انْطَلقْ فمَن كان في قَلْبه أدْنَى أدْنَى أدْنَى مِنْ مِثْقال حَبَّةٍ مِن خَرْدَلٍ مِن إيمانٍ فأخْرِجْهُ مِنَ النَّار، فأنْطلق فأفعل. هذا حديث أنسٍ الذي أنْبَأنا به. فخرجْنا من عنده، فلمَّا كُنَّا بظَهْرِ الجَبَّان (الصحراء ويُسَمَّى بها المقابر)، قلنا: لو مِلْنا إلى الحسن فسَلَّمْنا عليه وهو مُسْتَخْفٍ (متغيبا) في دار أبي خليفةَ، قال: فدخلْنا عليه، فَسَلَّمْنا عليه، فَقُلْنا: يا أبا سعيدٍ، جِئْنا مِن عند أخيك أبي حمْزة، فَلَمْ نَسْمَعْ مِثْل حدِيثٍ حَدَّثناه في الشَّفاعة، قال: هيهِ (يقال في استزادة الكلام)، فَحَدَّثْناه الحديث، فقال: هيه، قُلْنا: ما زادنا، قال: قدْ حَدَّثَنا به مُنْذ عشرين سنةً وهو يومئذٍ جَمِيعٌ، ولقَدْ ترك شيئاً ما أدْرِي أنَسِيَ الشَّيْخُ، أوْ كَرِهَ أنْ يُحَدِّثَكُمْ، فَتَتَّكِلوا، قُلْنا له: حَدِّثْنا، فَضَحِكَ وقالَ: {خُلِقَ الإنْسانُ مِن عَجَلٍ}(الأنبياء:37)، ما ذَكَرْتُ لَكُمْ هذا إلَّا وأنا أُرِيدُ أنْ أُحَدِّثَكُمُوه، ثُمَّ أرْجِع إلى رَبِّي في الرَّابعة، فأحْمَدُه بتلْك المحامدِ، ثُمَّ أخِرُّ له ساجداً، فيُقالُ لي: يا مُحَمَّد، ارْفَعْ رَأْسَك، وقلْ يُسْمَعْ لك، وسَلْ تُعْطَ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، فأقول: يا رَبِّ، ائْذَنْ لي فِيمَن قال: لا إله إلَّا اللَّه، قال: ليس ذاك لَك، أوْ قال: ليس ذاك إليْك، ولَكِنْ وعِزَّتي وكِبْرِيائِي وعَظَمَتي وجِبْرِيائِي (عظمتي وسلطاني)، لأُخْرِجَنَّ مَن قال: لا إله إلَا اللَّه. قال: فأشْهَد على الحَسَن أنَّه حَدَّثَنا به، أنَّه سمِع أنس بن مالِكٍ أُراه قال: قَبْلَ عشْرين سنة وهو يومِئِذٍ جَمِيع (مجتمع القوة والحفظ)) رواه البخاري ومسلم.
    وفي رواية: (فأقول: أي ربِّ ائذنْ لي فيمنْ قال: لا إله إلا اللهُ صادقا، قال: فيقول تباركَ وتعالى: ليس لك، وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجنَّ منها من قال لا إله إلا الله).

    حين يجمع الله الأولين والآخرين في صعيدٍ واحد، وتدنو منهم الشمس، في يوم مقداره خمسين ألف سنة، ويبلغ الغم والكرب منهم ما لا طاقة لهم به، يُكَلِّم بعضهم بعضاً في طلب من يَكْرُم على الله عز وجل ويشفع لهم عند ربهم، فلم يذهبوا لنبي إلا قال: نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، حتى ينتهوا إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيشفع لهم، ويُقال له: (يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسَلْ تُعْطَ، واشفع تشفع.
    وشفاعة نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه من خصائصه، ومن آيات فضله وكرامته، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أُعْطِيتُ خَمْساً لمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بالرُّعْب مَسِيرَة شهْرٍ، وجُعِلَتْ لي الأرْضُ مَسْجِدًا وطهُورا، فأيما رجل مِن أُمَّتي أدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وأُحِلَّتْ لي المغانِمُ ولَمْ تَحِلّ لأحدٍ قبْلي، وأُعْطِيتُ الشَّفاعة، وكان النبيُّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً وبُعِثْتُ إلى النَّاس عامّة) رواه البخاري.

    لقد جعل الله عز وجل لِكُلِّ نبيٍّ دعوةً مُسْتجابة، فكُل منهم تَعَجَّل دعوتَه في الدنيا، واختبأ نبينا صلى الله عليه وسلم دعوتَه شفاعةً لأمّته يوم القيامة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعةً لأمتي في الآخرة) رواه البخاري. وفي رواية لمسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لِكُلِّ نَبِيٍّ دعوة مُسْتَجابة، فتعجَّل كل نبي دعوتَه، وإني اختبأتُ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، ‏فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً).‏
    --------------------------------
    الذي يتعمد الكذب والافتراء على النبي صلى الله عليه وسلم قد يعجل الله عزّ وجلّ له العذاب في الدنيا على مرأى ومسمع من الناس، وقد يعذبه الله ولا يَطَّلِع على عذابه أحد، وقد يؤخر الله عذابه إلى ما بعد الحياة الدنيا، ولكن المقطوع به أن كل من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم متعمداً، وافترى عليه واستهزأ به، إذا لم تدركه عقوبة في الدنيا ـ فيما يظهر للناس ـ فعذاب الله عز وجل واقع عليه إن لم يتب ويرجع إلى الله، وهذا ماضٍ إلى قيام الساعة مصداقاً لقول الله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ}(الحجر:95)، قال السعدي في تفسيره: "وهذا وعْدٌ من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أنْ لا يضره المستهزئون، وأنْ يكفيه الله إياهم بما شاء من أنواع العقوبة، وقد فعل الله تعالى، فإنَّه ما تظاهر أحدٌ بالاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أهلكه الله وقتله شر قتلة".

    ومن مواقف السيرة النبوية الدالة على عاقبة من كذب وافترى على النبي صلى الله عليه وسلم، ما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: (كان رجل نصرانياً فأسلم، وقرأ البقرة وآل عمران، فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فعاد نصرانياً، فكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبتُ له، فأماته الله، فدفنوه، فأصبح وقد لفظته الأرض (ألقتْهُ من بطنها إلى ظهرها)، فقالوا: هذا فِعْلُ محمدٍ وأصحابه لما هرب منهم، نبشوا عن صاحبنا، فألقوه، فحفروا له، فأعمقوا، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه، نبشوا عن صاحبنا لما هرب منهم، فألقوه، فحفروا له وأَعْمَقُوا له في الأرض ما استطاعوا، فأصبح قد لفظته الأرض، فعلموا أنه ليس من الناس، فألقوه). وفي رواية مسلم من طريق ثابت عن أنس: (كان منا رجل من بني النجار.. فَما لَبِثَ أَنْ قَصَمَ اللَّهُ عُنُقَه فيهم، فَحَفرُوا له فَوَارَوْه)، وفي رواية: (فأَصْبَح وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْض، فعلِموا أَنَّه ليْس مِنَ النَّاس، وأَنَّه مِنَ اللَّه عزَ وجلَّ، فَأَلْقَوْه).
    وفي البداية والنهاية لابن كثير، ودلائل النبوة للبيهقي: "فمات ذلك الرجلُ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ الأرضَ لا تقبله، قال أنس: فحدَّثني أبو طلحةَ أنه أتى الأرضَ التي مات فيها ذلك الرجل فوجده منبوذًا، فقال أبو طلحة: ما شأن ذلك الرجل؟ قالوا: قد دفنَّاه مرارًا فلم تقبلْه الأرض".

    قال ابن تيمية في "الصارمِ المسلولِ" معلقاً على هذا الحديث: "وهذا أمر خارج عن العادة، يدل كل أحد على أن هذه عقوبة لما قاله، وأنه كان كاذباً، إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل هذا، وأن هذا الجُرم أعظم من مجرد الارتداد، إذ كان عامة المرتدين لا يصيبهم مثل هذا، وأن الله منتقم لرسوله ممن طعن عليه وسبَّه، ومُظْهِرٌ لدينه".
    وقال ابن هبيرة: "في هذا الحديث ذِكْر آية من آيات الله عز وجل، وهي أن هذا الرجل لما كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وادَّعى خلاف ما كان يمليه عليه، أظهر الله تعالى فيه تلك الآية وهي لفظ الأرض له". وقال بدر الدين المعروف بالدماميني: "وإنما فُعِل به ذلك لتقوم الحجة على من رآه، ويدل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم". وقال الكوراني الشافعي: "(لفظته الأرض) أي: ألقته على وجه الأرض، وهذه من أبهر المعجزات إذْ لم يُحْك في الدهر مثلها".
    وقال العيني: "ظهرت معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم في لفظ الأرض إياه مرات، لأنه لما ارتد عاقبه الله تعالى بذلك لتقوم الحجة على من يراه".
    وقال القسطلاني: "طرحته ورمته من داخل القبر إلى خارجه لتقوم الحجة على من رآه، ويدل على صدقه صلى الله عليه وسلم".

    ما حدث لهذا الرجل الذي ارتد وكذب وافترى على النبي صلى الله عليه وسلم شاهد عظيم على سوء عاقبة من كذب وافترى على النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه معجزة من معجزات ودلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، وفيه كذلك الكثير من الفوائد والعبر، ومنها:

    ـ نصرة الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، وإظهار غيرته عليه للعالمين، حيث انتقم من هذا الرجل الذي قال في حق النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يدري محمد إلا ما كتبتُ له"، بل وعجل عقوبته، ففي رواية مسلم: (فَما لَبِثَ أَنْ قَصَمَ اللَّهُ عُنُقه) أي أن الله عز وجل لم يمهله كثيرا بعد ما قاله وافتراه على النبي صلى الله عليه وسلم. وما حدث لهذا الرجل من لفظ الأرض له كلما دُفِن، فيه عجيب قدرة الله تعالى، إذ جعل في الأرض القدرة على أن تنبذ الرجل وتلفظه، ولا يقف كون القوم قد أعمقوا الحفر كثيرا حائلا عن امتثال الأرض لأمر الله عز وجل، قال الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(النحل:40)، قال ابن كثير: " ذكر ـ جل وعلا ـ في هذه الآية الكريمة: أنه لا يتعاصى على قدرته شيء، وإذ يقول للشيء: {كُنْ} ، فيكون بلا تأخير.. كقوله في الرد على من قال: من يحيي العظام وهي رميم؟: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(يس:82)، وبين أنه لا يحتاج أن يكرر قوله: "كن"، بل إذا قال للشيء "كن" مرة واحدة، كان في أسرع من لمح البصر، في قوله: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالبَصَرِ}(القمر:50)".
    ـ إذا كان الكذب حرام على عموم الناس، فإن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد وأعظم، فإنه من أقبح المنكرات، وأكبر الكبائر بإجماع المسلمين، فمن خصائصه صلوات الله وسلامه عليه أن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن كذِبَاً عليَّ ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) رواه البخاري . قال القاضي عياض: "وإذا كان الكذبُ ممنوعاً فى الشرع جملةً فهو على النبي عليه الصلاة والسلام أشد، لأن حقَّه أعظم، وحق الشريعة آكد، وإباحة الكذب عليه ذريعة إلى إبطال شرعه، وتحريف دينه".
    ـ الوعيد الشديد الوراد في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم على المتعمد للكذب، قال الله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}(الأحزاب:5)، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب عليَّ متعمدا) رواه البخاري. وقال القرطبي في كتاب: "المُفْهِم لما أَشكل من تلخيص صحيح مسلم" في شرح حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تكذبوا عليَّ، فإنه من يكذب عليَّ يلج النار)، قال: "صَدْرُ هذا الحديث نهيٌ، وعجزه وعيدٌ شديد، وهو عامٌّ في كلِّ كاذبٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومطلقٌ في أنواع الكذب.. غير أنَّ الجمهور: خصَّصوا عموم هذا الحديث، وقيَّدوا مطلقَه بالأحاديث التي ذُكِرَ فيها: متعمِّداً، فإنَّهُ يُفْهَم منها أنَّ ذلك الوعيد الشديد، إنما يتوجَّه لمن تعمَّد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الطريقة هي المرضيَّة، فإنَّها تجمع بين مختلفات الأحاديث.. هذا مع أن القاعدة الشرعيّة القطعيّة تقتضي أن المخطيء والناسي غير آثمَيْن، ولا مؤاخذيْن، لا سيّما بعد التحرّز والحذر".

    من المعلوم أن من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على المسلم نصرته وتحقيق محبته واتباعه، ولا شك أن من صور ذلك: تحري الصواب والصدق في نقل أقواله وأخباره صلى الله عليه وسلم، فعلى المسلم أن يحذر من أن ينسب ولو من قبيل الخطأ للنبي صلى الله عليه وسلم حديثاً وكلاماً لم يقله، أما الذي يكذب عليه صلى الله عليه وسلم متعمداً فهو على خطرٍ عظيم، لقوله صلوات الله وسلامه عليه: (إن كذبا عليَّ ليس ككذب على أحد، من كذب عليَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) رواه البخاري. وينبغي أن يُعْلم أن كفاية الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ممن استهزأ به، أو آذاه، أو افترى عليه، ليست مقصورة على إهلاك هذا المعتدي بقارعة أو نازلة بل صور هذه الكفاية والحماية متنوعة متعددة، قال الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}(المدثر:31). وأحداث التاريخ فيها الكثير من المواقف والأحداث التي تبين عاقبة من استهزأ بالنبي صلى الله عليه وسلم وافترى عليه، وتؤكد أن الله تعالى تكفل بالانتقام لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا ماضٍ إلى قيام الساعة دائماً وأبداً، مصداقاً لقوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ}(الحجر:95).






                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de