دراسة حالات هل هو يساري من "يقول" أنه كذلك، أو يتبنى مفاهيم ايديولوجية معينة؟ هذا التساؤل يصح بالطبع على العالم كله حيث نشهد نمو "الإشتراكية الليبرالية" في بلدان أوروبا، وتجارب هجينة كحالة اليونان مع حركة "سيريزا" وظاهرة قائدها تسيبراس.. ولكنه وبشكل خاص يبدو ملحاً في مكان كالمنطقة العربية يشهد صراعات عنيفة غير مقننة، وحروب واحتلالات وكذلك انتفاضات متلاحقة كان آخرها وليس أخيرها هو 2011.
ولأنه لا يمكن مراجعة كل تاريخ ومسار تنظيمات اليسار في بلداننا وخريطة تشكيلاتها، فسنركز على علاقتها بحدث 2011 وما تلاه، باعتباره لحظة كاشفة. وهي فرصة لفحص ما اذا كان اليسار – اليسارات – قد عَقَل ما حدث في 2011، وللتدقيق في كيفية فهمه له وتعاطيه معه، كمثال هام على طبيعة صلته بالواقع وكذلك على فعاليته.
لقد انحاز قسم من اليسار، القديم والجديد - تنظيمات وافراداً- الى أطروحات "الاشتراكية الديمقراطية"، وهي إصلاحية في أحسن الأحوال، وبات يغلب عليها التوجه النيوليبرالي.. وانحاز قسم آخر الى الانظمة القائمة خوفاً من سطوة حركات اسلامية سياسية قوية وشعبية، وهو ما رأيناه في مصر وتونس على وجه الخصوص.
فما معنى ان يكون المرء يسارياً اليوم في منطقتنا؟ من وماذا يمثل اليسار، وأيضاً ما المستقبل الذي يتطلع اليه أو يأمل به، وهل سؤال المستقبل يهجسه أصلاً؟ وبالطبع، فالركون البليد الى مقولة أن "أزمة اليسار" عالمية، لا يقدم شيئاً. وأما اللجوء الى النظريات الماركسية الجاهزة وتردادها فليس مقنعاً ولا هو يساري! وهذا مدرَك بقوة منذ أواخر ستينات القرن الفائت، مع بروز ما سمي ب"اليسار الجديد"، شديد التنوع، وقد تكون هزيمة 1967 هي القابلة التي ولّدته. هناك عشرات التنظيمات على إمتداد المنطقة سعت الى استلهام المنطق الماركسي كأداة تحليل فحسب وليس كدوغما، وبعضها كان مهجوساً بالتأصيل وباستنباط نظريات من الواقع المعيش.
فما هو المعيار أو المعايير التي يمكن الاستناد اليها لتحديد اليسار؟ تبرز ضرورة ملحة لاستعادة الأسس، والانطلاق في ذلك من "الحاجة" الموضوعية لوجود رؤية تعتقد بقوة أنه يمكن تغيير الواقع البائس على كل الصعد، وتنادي به، تحمل هذا الحلم وتقترح طريقه وادواته، وتلتزم بشروط هذا الطريق ومتطلباتها. وقد قيل أن "اليسار توقف عن التفكير منذ زمن"، وأن الازمة التي يعاني منها هي قبل كل شيء هزيمته على مستوى الافكار والرؤية وكذلك القيم.
فما هو برنامج التحرر، على المستويين الفردي والاجتماعي اليوم؟ وما هو برنامج التحرر الوطني غير المنجَز، بالنظر الى مسائل كفلسطين مثلاً، ولكن وأيضا كموقع بلداننا شديد التبعية ضمن منظومة الاستغلال العالمية.
تتناول نصوص هذا الدفتر تجارب اليسار في مصر وتونس والجزائر والمغرب. وهي تسعى الى:
1- عرض مواقف التنظيمات اليسارية المختلفة من انتفاضات بلدانها متفاوتة المدى، متناولاً التصورات المُنتَجة (تحليلات، برامج، نصوص الخ..) وكذاك الحركة في الميدان،
2- علاقات هذه التشكيلات اليسارية مع سائر التيارات، وبالاخص منها التيارات الاسلامية، حيث طغى في عدة حالات صراع "هوياتي" حكم المواقف المتخذة وجرت الاستقطابات بناء عليه،
3- علاقات هذه التشكيلات مع السلطة القائمة في كل بلد،
4- رؤيتها للفترة اللاحقة على 2011، حيث برزت تحديات متفاوتة تتراوح بين الثورة المضادة (مصر)، وأسس المشاركة في السلطة (تونس)،
5- حقول الاهتمام التي تستاثر بجهدها، ومدى انغراسها في نضالات مطلبية قائمة، ومدى رياديتها في هذا المجال،
6- "أوساطها" الاجتماعية: ما وضعها في الجامعات مثلاً، وما مدى حضورها في الاحياء الشعبية وفي "العشوائيات" القائمة حول المدن الكبرى، وفي مناطق "الاطراف"، وما علاقتها بالاطر النقابية والمهنية، وبالجمعيات غير الحكومية أو الأهلية،
7- علاقة اليسار بمسألة "حقوق الانسان"، وتفحص مدى تحول هذه المسألة الى ستار للتعويض عن نقص التصورات البرنامجية، الاجتماعية والسياسية على السواء، وذلك على ضوء التجربة العملية لما بعد 2011. بمعنى أن الانخراط في النضال من أجل الحقوق والحريات العامة بمواجهة القمع والاستباحة هو أمر ضروري، ولكنه لا يعفي اليسار من التصدي لمهمته الاصلية وهي التغيير الشامل.
لوحات الدفتر: غرافيتي من شوارع مصر وتونس والمغرب
___________________ ترجمة النص الفرنسي إلى العربية: محمد رامي عبد المولى ___________________ ؟ هل مات اليسار بينما ما زال لبه يُحرِّك الناس؟ نحن أمام معضلة: فهناك نظام ينفجر داخلياً بمعنى ما، أو هو على الأقل متصدِّع، سواء على صعيد نظام حكم كما في حالة الثورة المصرية، أو كأزمة الرأسمالية عموماً والتي كانت آخر تجلياتها الأزمة المالية في 2008. وهناك جماهير بالملايين تطالب بما هو تعريفاً، على الأقل في جزء منه - أي العدالة الإجتماعية - يساري. 2018-12-17 رباب المهدي استاذة العلوم السياسية في الجامعة الاميركية بالقاهرة من دفتر: اليسار في المنطقة العربية وسؤال مكامن العطب
تم دعم هذه المطبوعة من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المطبوعة أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.
لا يمكن النظر لحالة اليسار في مصر بمعزل عن حالة اليسار في العالم، وهي حالة أزمة ممتدة - إن جاز التعبير- بدأت إرهاصاتها الأولى في حركة الطلبة 1968، ولم تنته بعد أكثر من عقدين من مراجعات ما بعد انهيار الإتحاد السوفيتي. وضحت تجليات هذة الأزمة في مصر، كما في المنطقة العربية ككل، بصعود وهيمنة الإسلام السياسي كالطرف الأكثر شعبية في المعارضة، وكبديل للأنظمة القائمة منذ عدة عقود، قبل أن تأتي ثورات 2011 لتزيح ورقة التوت الأخيرة وتظهر عمق هذه الأزمة. ففي حين خرجت جماهير عريضة تحمل مطالب وشعارات تعبر عن قلب مشروع اليسار: "عيش، حرية، عدالة إجتماعية"، لم يستطع اليسار المصري ليس فقط أن ينافس على السلطة، ولكن حتى أن يسجل نقاط لصالح هيمنته الفكرية أو توسيع قاعدة تنظيماته.
مرة أخرى، لم تكن هذه حالة اليسار المصري فقط وإنما حالة اليسار العربي والعالمي أيضاً. ففي كل الأقطار العربية التي شهدت موجة الثورات، تحول الصراع ليكون بين قطبي الإسلام السياسي والنظام القائم. وعالمياً، كان البديل هو صعود التيارات المثيلة الشعبوية اليمينية.
لا يمكن النظر لهذه الظواهر على أنها حالات منفصلة، ولا يمكن الاكتفاء بالإجابات السهلة والمريحة من طراز أن الإسلام السياسي ليس مشروع مهدِّد للرأسمالية العالمية ولا للب الأنظمة القائمة، ولهذا سُمح له ببناء قاعدة شعبية، في حين تمّ قمع اليسار، ولا يمكن الاستكانة الى فكرة أن رسالة الإسلام السياسي في الحالة العربية والمصرية، كما التيارات اليمينية في أوروبا، تلعب علي أوتار المشاعر البدائية للجماهير، ولهذا فهي تتمتع بقاعدة شعبية أكبر، أو أنها تمتلك إمكانيات مادية تسهل لها شراء الولاء السياسي لقطاع واسع من المجتمع.. كل هذه الأسباب صحيحة ولكنها ليست كافية لفهم عمق أزمة ممتدة لعقود.
هناك أيضاً الإجابات الأكثر عمومية والتي تعزو أزمة اليسار في مصر كما في العالم الى انهيار الإتحاد السوفياتي وارتباط تعبير "اليسار" بأنظمة شمولية، والدعاية الأميركية في هذا الاتجاه، وعدم قدرة اليسار على الربط ما بين الصراع الطبقي وصراعات أخرى مبنية على الهوية. وبمد الخط على استقامته في هذا الاتجاه، يصبح الإستنتاج المنطقي هو "موت اليسار"، واعتبار غير ذلك مجرد محاولات لإحياء ما يجب دفنه والمضي قدماً.
والحقيقة أيضاً أنه بدون النظر إلى المسميات، فإن ما يمثل قلب اليسار وسبب وجوده بشكل حركي هو، من جهة، البحث عن العدالة بشكلها الجذري، ومن جهة أخرى أزمة الراسمالية العالمية، التي هي الأصل في فهمه النظري. وهما الاثنان قد كانا الدافعين الرئيسيين لموجات التحركات الشعبية، سواءاً كانت حركة "إحتلال وول ستريت" أو الثورات العربية. إذاً نحن أمام معضلة: فهناك نظام ينفجر داخلياً بمعنى ما، أو هو على الأقل متصدِّع، سواء على صعيد نظام الحكم، كما في حالة الثورة المصرية، أو كأزمة الرأسمالية عموماً والتي كانت أخر تجلياتها الأزمة المالية في 2008. وهناك جماهير بالملايين تطالب بما هو تعريفاً، على الأقل في جزء منه، يساري، أي العدالة الإجتماعية. وعلى الجانب الآخر، فإن من يَصْعد ويسيطر هو اليمين في أشد صور انحطاطه. لا أدعي أني أملك إجابات على هذه المعضلة، ولكن ربما يجدر بنا النظر في مجموعة من الاتجاهات في آن واحد، وبشكل أكثر تعقيداً، بعيدأ عن الإجابات السهلة والمريحة.
العلاقة بالسلطة: عقدة التحرر الوطني في مصر كما في كثير من بلدان الجنوب، تشكلت علاقة اليسار بالسلطة - أو تشوهت بمعنى أصح - عبر مسألة التحرر الوطني. فقد كان الجيش في مصر - وما زال - الركيزة الحقيقية لدولة ما بعد الاحتلال التي تمثلت في نظام 1952. وهذا التماهي يمثِّل نقطة إرتكاز ليس فقط بالنسبة لليسار القديم متمثلاً بحزب التجمع وروافده، ولكنه ما زال يلقي بظله على مجمل الحركة اليسارية بعد أكثر من ستين عاماً. فما زال الطابع القومي العسكري، خطاباً واختياراً، يمثل جزءاً لا يتجزأ من قطاع عريض يُعرِّف نفسه كيسار تقدمي. نجد خطاب "الحفاظ على الدولة" حاضراً بقوة، ليس فقط خلال الأشهر الأولى بعد الثورة، ولكن في دعم النظام العسكري في لحظة صعود الثورة المضادة في 2013. هذه الحالة كانت قد ظهرت قبل ذلك، في الستينات من القرن الماضي، في دعم اليسار للنظام الناصري من داخل المعتقلات. وهي امتدت بشكل ما حتى 2013 بحيث ظل اليسار في جزء كبير منه يدعم النظام العسكري من منطلق الحفاظ على الدولة التي هي أيقونة التحرر الوطني في أذهانهم.
المعركة كما تبلورت منذ الأشهر الأولى من 2011 بين القطبين الأكثر قوة في المنظومة السياسية المصرية، أجنحة الدولة ومجموعات الإسلام السياسي، ألقت بظلالها على اليسار المصري بجميع تشيكلاته، حتى أصبح ذلك هو نقطة التعريف والإختلاف الأساسية.
دارت معركة حول الحجاب وتقلّد الأقباط للمناصب السيادية أخذت اليسار في لحظة مدٍّ ثوري - كان من الممكن فيها توسيع قاعدته الجماهيرية على الأقل - إلى مساحة نقاش بعيدة عن الإشتباك مع هموم القطاع الأعرض من الجماهير حول أمن النساء في المواصلات مثلاً، أو حول التمييز المزدوج الواقع على فقراء الأقباط.
لا يَنفي هذا وجود قطاع آخر من اليسار الجديد ممثلاً بحركة الإشتراكيين الثوريين وحزب العيش والحرية وحركات شبابية، رفض هذا التماهي، وكان خطابه واضحاً في التمييز ما بين الانحياز للاستقلال الوطني ودعم النظام العسكري. ولكن ما صعَّب توضيح اختياره هذا كان أن المعركة على السلطة تبلورت وتجسدت، منذ الأشهر الأولى من 2011، كمعركة بين القطبين الأكثر قوة في المنظومة السياسية المصرية: أجنحة الدولة ومجموعات الإسلام السياسي.
العلاقة بالإسلام السياسي ألقت هذه المعركة بظلالها على اليسار المصري بجميع تشيكلاته حتى أصبحت نقطة التعريف والاختلاف الأساسية. لم تكن هنا نقطة البداية، فمنذ تسعينات القرن العشرين على الأقل، كان الموقف من الإسلام السياسي وتحديد ماهيته في الصراع السياسي - هل هي قوى فاشية أم مجرد قوى إصلاحية ذات ميول رجعية – يمثل اختلافاً فيصلياً بين تشكيلات اليسار المتنوعة. ولكن الفرق بعد 2011 كان في تبعات هيمنة هذا النقاش على اختيارات وتكتيكات المجموعات اليسارية المختلفة. ففي تلك التسعينات وحتى منتصف العقد الاول من الألفية الجديدة، كانت تبعات هذا الاختيار هي إما دعم الدولة في حربها على مجموعات الإسلام السياسي وتوفير نوع من الشرعنة للممارسات الديكتاتورية (تزوير الانتخابات وانتهاكات حقوق الإنسان)، أو نقد وفضح هذه الممارسات "حتى وإن كانت" ضد هذه المجموعات. ولكن، ومع ظهور حركات التغيير أثناء انتخابات الرئاسة 2005، أصبح الإختلاف حول ماهية الإسلام السياسي وموضعه في خارطة الصراع السياسي عاملاً محدداً للتحالفات السياسية وترجماتها الحركية على الأرض. وجاءت الموجة الثورية في 2011 لتعزز هذه الفروقات وتأخذها الى منحى جديد. فأصبح تعريف من هو "اليساري الحق" مرتبطاً بشكل أساسي بالموقف من الإسلام السياسي، وراح النقاش حول الحقوق الشخصية لا يهتم بموضعتها في إطار الصراع الطبقي وربطها بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بل ببلورتها بشكل منفصل، من منطلق ليبرالي، كحلبة سجال مع مجموعات الإسلام السياسي. فسؤال حريات النساء أو وضع الأقليات الدينية مثلاً تمّ اختصارهما ليصبحا معركة نظرية/ خطابية حول الحجاب وتقلّد الأقباط للمناصب السيادية. وعلى أهمية هذه الأسئلة والسجالات، إلا أنها أخذت اليسار في لحظة مد ثوري - كان من الممكن على الأقل توسيع قاعدته الجماهيرية فيها - إلى مساحة نقاش بعيدة عن الإشتباك مع هموم وأسئلة القطاع الأعرض من الجماهير حول أمن النساء في المواصلات مثلاً، أو التمييز المزدوج الواقع على فقراء الأقباط.
ظل هناك ما يشبه الإنفصام بين الإجماع على مَواطن القصور ثم التحرك في اتجاه ملئها. فما زالت برامج أحزاب وتكوينات اليسار المصري المختلفة إما مبنية على تبيان قصور السياسات الليبرالية الجديدة أو هي داعية لما يشبه اقتصادات الدولة المركزية التي كانت سائدة في الستينات من القرن العشرين.
لم يكن الاشتباك مع أفكار الإسلام السياسي ومحاولة فضح رجعيتها هو المشكلة، وإنما كان المشكل في اختصار هذا النقاش في حيز بعيد عن هموم وإشكاليات عموم الجماهير المستفيدة من الثورة، وفي وضع هذا الفصيل السياسي في موقف دفاعي عن طريق أسئلة لا يملك لها إجابات: فماذا بعد حجاب النساء ومنع بناء الكنائس؟ كيف نواجه مشاكل التعليم والصحة وتوزيع الثروة؟ ربما كان هذا الإنجرار باتجاه تسجيل المواقف على حساب بلورة خطاب سياسي أوسع، نابعاً من عدم امتلاك اليسار نفسه لإجابات تفصيلية أو عملية على هذه الأسئلة، تتجاوز العموميات وتكون أكثر فهماً لطبيعة اللحظة.
مقالات ذات صلة ماذا تبقى من اليسار في الجزائر؟ واقع اليسار في المغرب اليوم اليسار التونسي ما "بعد الثورة": امتحان الحركات الاجتماعية وفي هذا كله وكمثال، فليس اليسار المصري فريداً، وإنما هو يشترك مع نظرائه في العالم في الورطة نفسها، وذلك ربما منذ أواخر سبعينات القرن الماضي، وليس الآن فحسب. فعلى الرغم من وجود نقد وافٍ من داخل الماركسية لتجربة الكتلة الشرقية، ومحاولات القفز فوق "الإقتصادوية" - أي الحتمية الإقتصادية والتاريخية - وتنظيرات فهم مرحلة النيوليبرالية في النظام الرأسمالي العالمي، فإن هذه الأطر النظرية ما زالت تفتقد للإجابة عن سؤال "ماذا بعد"، أو بالمقاربة اللينينية، "ما العمل"؟ وربما لذلك كان الأسهل هو الانجرار نحو تعريف "اليسار الحق" عن طريق موقفه من الإسلام السياسي وليس عن طريق ما يطرحه من بدائل ومشاريع سياسية، وليس فقط من شعارات.
البناء على التقاطعات قبل الموجة الثورية في 2011، لم يكن اليسار المصري بعيداً عن محاولات بناء أشكال حركية جديدة، كما لم تكن محاولاته بعد 2011 أقل جدية، سواء كانت باتجاه بناء جبهات بين تنظيمات مثل "تحالف اليسار"، وحتى إنشاء حزب يسار واسع جديد ("التحالف الشعبي الإشتراكي") على خلفية الثورة. ولم تكن التشكيلات اليسارية المختلفة أو الأفراد المنتمين لهذا الفكر بغير تنظيم، ينكرون في أي وقت أهمية ربط المطالب والتحركات ذات الأسباب الاقتصادية بالمطالبات السياسية، ولا أهمية إيجاد برنامج سياسي عملي يجيب على الأسئلة الراهنة، ولا محورية ترجمة شعارات الثورة لسياسات عامة وإيجاد أشكال تنظيمية جديدة. ولكن ظل هناك ما يشبه الإنفصام بين الإجماع على مَواطن القصور ثم التحرك في اتجاه ملئها.
كان الانجرار الى تسجيل المواقف على حساب بلورة خطاب سياسي أوسع، ينبع من عدم إمتلاك اليسار نفسه لإجابات تفصيلية أو عملية تتجاوز العموميات وتكون أكثر فهماً لطبيعة اللحظة. كان الأسهل هو اللجوء الى تعريف "اليسار الحق" عن طريق موقفه من الإسلام السياسي وليس عن طريق ما يطرحه من بدائل ومشاريع سياسية، وليس فقط من شعارات.
ففي صبيحة الثورة مثلاً كان هناك شبه إجماع على أهمية بناء حزب يساري أوسع من التنظيمات الصغيرة والأحزاب السرية، وأبعد ما يكون عن "حزب التجمع" بعلاقته بالسلطة وغيابه عن كل المعارك الجماهيرية المطلبية خلال العقد السابق على الثورة. الغريب أن هذا الإجماع، والشروع في بناء حزب بديل ما لبث أن تحول، وبسرعة، الى إعادة إنتاج لديناميات تجارب البناء السابقة نفسها. فمن الغرق في تفاصيل شكل إدماج الكيانات اليسارية الموجودة في إطار الحزب الجديد، الى النظر لمعركة الانتخابات الرئاسية على أساس أنها مجرد سجال أيديولوجي مع الإسلاميين وليست معركة لكسب الجماهير منهم أو لبناء الحزب أو حتى للمنافسة في المعركة نفسها.. وهو ما أدى بالحال الى أن ينتهي بمرشحَي اليسار في ذيل قائمة الأصوات.
أما على الصعيد النظري والبرنامجي، فعلى الرغم من وجود محاولات جادة لبلورة سياسات أبعد من الشعارات، إلا أن غياب اليسار عن الحكم أو حتى المنافسة عليه أدى إلى غياب هذه الإمكانية. فما زالت برامج أحزاب وتكوينات اليسار المصري المختلفة أما مبنية على تبيان قصور السياسات الليبرالية الجديدة أو داعية لما يشبه اقتصادات الدولة المركزية التي كانت سائدة في الستينات من القرن العشرين.
ما العمل؟ بالنظر في هذه المعضلات المختلفة، يبدو أن على اليسار الجديد، في مصر كما في العالم، الانخراط بمهمتين تبدوان متناقضتين: الأولى هي إعادة إحياء جزء من تراثه دون مواربة أو خجل، والثانية هي الإعتراف بأن إجاباته قاصرة، وأن ما يملكه الآن بهذا الصدد هي مجرد أدوات عليه استخدامها لإيجاد الإجابات. فعلى مستوى التنظيم مثلاً، ما زال أنجح مثال في مصر في خلال نصف القرن الماضي هو جماعة الإخوان المسلمين التي اعتمدت شكلاً تنظيمياً لينينياً في جوهره. وعلى الرغم من ذلك، فإن مجرد ذكر نموذج التنظيم اللينيني في دوائر اليسار - حتى الأكثر جذرية فيه - أصبح إما يثير السخرية أو الإستياء. المطلوب ليس إعادة بناء الشكل التنظيمي اللينيني المرتبط بعشرينات القرن الماضي ولكن إستدعاء جوهره المفيد بشكل يناسب المرحلة وأدواتها، سواء كان باستبدال جريدة الحزب بمجموعة الفيسبوك، أو بكيفية ضمان ألاّ تطغى المركزية على الديموقراطية في شكل إتخاذ القرار.
على اليسار مراجعة الحيز الذي أخذه منه النقاش حول الإسلام السياسي، وإمالة كفة الميزان ناحية التركيز على تعريف ماهية اليسار حالياً، ليس بمقابل الإسلاميين (وإن كان هذا جزء مهم من حرب الأفكار)، ولكن كمشروع سياسي قائم بذاته في لحظة هي أشبه ما تكون بتقلبات النصف الأول من القرن العشرين، بحروبه وصعود اليمين الفاشي وموجات النزوح عبر القارات.
على الجانب الآخر، فإن محاولات فهم الإقتصاد عن طريق التنظيرات المبسطة لرأسمالية ما بعد التصنيع، بخصوص نظام إقتصادي مشوه مثل النظام المصري لم يمر بتطورات الرأسمالية الصناعية وما بعدها، ولا هو في الوقت نفسه جزء من نظام الرأسمالية الرقمية.. هي محاولات لن تُنتج إجابات كافية لمشروع سياسي. ممكن أن يكون مفهوم التنمية غير المتكافئة والمترابطة ومفهوم فائض القيمة والإستغلال الطبقي.. كلها مداخل مهمة، ولكنها أصبحت مجرد أدوات لفهم طبيعة إقتصاد وبناء طبقي تغيرت فيه حتى طبيعة العمل ذاته، وبالتالي لا يمكن الركون إلى هذه المفاهيم على أنها تُقدم الإجابات والبدائل الآنية.
أخيراً، ربما كان على اليسار الرجوع خطوات والنظر في الحيز الذي أخذه النقاش والجهد حول الإسلام السياسي، وإمالة كفة الميزان ناحية التركيز على تعريف ماهية اليسار حالياً، ليس بمقابل الإسلاميين (وإن كان هذا جزء مهم من حرب الأفكار)، ولكن كمشروع سياسي قائم بذاته في لحظة هي أشبه ما تكون بتقلبات النصف الأول من القرن العشرين، بحروبه وصعود اليمين الفاشي وموجات النزوح عبر القارات. ماذا تبقى من اليسار في الجزائر؟ تعيش الساحة السياسية وقتاً معلقاً، فلا حق للقوى السياسية بالوجود كمنظمات وحتى كخطاب. ولكن وبمواجهة ليبرالية مافيوزية فرضتها الديكتاتورية، يتمسك الأهالي بتقاليد المساواة والعدالة المتجذرة بعيداً عن القطعيات والايديولوجيات. وفي انتظار إعادة تشكّل الحقل السياسي، لا يبقى اذاً مما هو "يسار" الا ما حفظه الشعب في أعماقه من رفض للظلم والتعسف، ومقاومة إملاءات الامبريالية في فلسطين، ورفض الاصطفاف وراء الغرب. 2018-11-27 عمر بن درة خبير اقتصادي من الجزائر، عضو في Watch Algeria
شارك من دفتر: اليسار في المنطقة العربية وسؤال مكامن العطب | fr en
تم دعم هذه المطبوعة من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المطبوعة أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.
يفسر الانهيار المعنوي والسياسي للمعسكر "الاشتراكي"- وهو في حقيقة الأمر كتلة من الأنظمة المتصلبة وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي السابق - إلى حد كبير تراجع تيار أيديولوجي تأسس على مُثل العدالة والمطالبة بالمساواة. في الغرب، ليست الأحزاب الشيوعية هي الوحيدة المعنية بحركة انكفاء التيارات السياسية التي ترفض - مع تفاوت في مدى صدقها - جبروت السوق، بل يشمل الأمر أيضا الأحزاب الاشتراكية - الديمقراطية والتي دائما ما تنتهي ممارستها للسلطة بالانحياز للسوق والنظام الليبرالي. يمكن ان نخلص إلى المعاينة نفسها بالنسبة لبلدان "العالم الثالث" القديم. في كل الحالات يتعلق الأمر بانهيار داخلي أكثر مما هو انتصار أيديولوجي للليبرالية المحافظة.
وهذا ما نلاحظه اليوم في الجزائر.
من الاشتراكية "الخصوصية" إلى الليبرالية البيروقراطية أفضت أزمة صيف 1962، التي اندلعت مباشرة بعد استقلال الجزائر في الخامس من تموز/يوليو والتي واجه فيها جيش الحدود بقيادة بومدين "الحكومة الموقتة لجمهورية الجزائر" (1) وجماعات المقاومة في الداخل، إلى منع دائم للسياسة عن مجتمع مثخن بجراح وصدمات خلفها ليل استعماري فظيع. تمّ منع الأحزاب السياسية، وبقيت "جبهة التحرير الوطني" - التي أُفرغت من مضمونها وتحولت إلى جهاز بيروقراطي صرف - وحدها المكلفة بتمرير خيارات النظام. مع فرض الحزب الواحد، منح النظام العسكري - البوليسي نفسه احتكار التعبير السياسي. هكذا وبمجرد استرداد السيادة، يجري التخلي تدريجياً عن التوجهات التقدمية والاجتماعية لحرب التحرير (2) من قبل نظام بوليسي أكثر فأكثر فساداً.
حسب الخطاب الرسمي، فإن الأبعاد الاجتماعية لسياسة التنمية في سبعينات القرن الماضي تنحدر من صيغة "خصوصية" للاشتراكية تتبنى جزءاً من المسلمات الاجتماعية - الاقتصادية لمختلف تيارات الاشتراكية "العلمية"، مع رفض لا-دينية المادية الجدلية. وقد تسارعت وتيرة تحويل وجهة الاقتصاد نحو ليبرالية عشوائية من النوع "الانفتاحي"، الذي حفزه موت الرئيس بومدين سنة 1978، بسبب الانقلاب العسكري الذي وضع في 11 يناير/ كانون الثاني 1992 حداً بشكل دموي لمسار انتخابي حر غير مسبوق في تاريخ الجزائر المستقلة.
أفضت أزمة صيف 1962، التي اندلعت مباشرة بعد استقلال الجزائر في الخامس من تموز/يوليو والتي واجه فيها جيش الحدود بقيادة بومدين "الحكومة الموقتة لجمهورية الجزائر" وجماعات المقاومة في الداخل، إلى منع دائم للسياسة عن مجتمع مثخن بجراح وصدمات خلفها ليل استعماري فظيع.
أظهرت الدورة الأولى من هذه الانتخابات التي كانت تكرس واقعاً سياسياً تعددياً تقدم "جبهة الإنقاذ الإسلامي"، وهو حزب بملامح وهوية غير ثابتة، حصل على ترخيص قبل سنتين من تاريخ اجراء الانتخابات. توليفة هشة من حساسيات مختلفة وأحياناً متضادة تنتسب لمختلف اتجاهات "الإسلام السياسي". كانت جبهة الإنقاذ الإسلامي تدار من قبل مجلس شورى من أبرز وجوهه علي بلحاج الداعية ذي الشعبية الكبيرة، وعباس مدني أحد الأعيان الذي كان قد شارك في حركة التحرير الوطني. الحزبان الآخران اللذان حققا نتائج هامة في الانتخابات (لكنها ضعيفة مقارنة بالموجة الإسلامية) هما "جبهة التحرير الوطني" التاريخية - الحزب الواحد السابق الذين كان يرأسه حينذاك عبد الحميد مهري المؤيد للإصلاح، و"جبهة القوى الاشتراكية" برئاسة حسين آيت أحمد أحد وجوه الثورة البارزين والمعارض الصلب للنظام التسلطي الذي أرساه الجيش غداة الاستقلال في تموز/ يوليو 1962. ينسب كلا الحزبين نفسه للاشتراكية، الاشتراكية "الخصوصية" التاريخية، المعدلة قليلاً أو كثيراً بالنسبة لجبهة التحرير الوطني، والاشتراكية الديمقراطية "ذات الوجهة الإنسانية" (العزيزة على قلب آيت أحمد) بالنسبة لجبهة القوى الاشتراكية.
1989-1991: الفسحة الديمقراطية تأسست "الاشتراكية الجزائرية" بشكل كبير على تأميم قطاعات اقتصادية واسعة. وكانت إدارة التجارة الخارجية بآليات بيروقراطية والاستيلاء عليها بحكم الأمر الواقع من قبل قيادات الشرطة السياسية والجيش - حتى قبل وفاة هواري بومدين سنة 1978 - تمثّل عقبة أمام أي تنمية، نظراً لأن هذا الأمر عمق ارتباط البلاد بصادرات المحروقات وواردات السلعة المعدة للاستهلاك، مثل المنتجات الغذائية. هذا التنظيم البيروقراطي مسؤول بشكل كبير عن أزمة الديون وتدهور الظروف الاقتصادية العامة للبلاد.
حاول كوادر من مؤسسة رئاسة الجمهورية التعامل مع هذا التطور عبر صياغة برنامج إصلاحات تقوم على انفتاح مزدوج نحو اقتصاد السوق من جهة - مع المحافظة على قطاع عمومي متطور في سنوات 1970 - ونحو دولة القانون والحريات العامة من جهة أخرى. هذا الانفتاح الذي حرّك عدداً كبيراً من المهنيين والخبراء من كل القطاعات، هو قبل كل شيء عمل مجموعة من الكوادر - أطلِقت عليها تسمية عامة هي "المصلحون" - كانوا مجتمعين حول الوزير الأول (رئيس الوزراء) مولود حمروش. كان هؤلاء الكوادر (المتأثرين بوزير الاقتصاد غازي حيدوسي (3)، والمدعومين من قبل بعض قيادات جبهة التحرير الوطني وعلى رأسهم عبد الحميد مهري) مقتنعون بضرورة الخروج من النظام التسلطي وكذلك التخلي عن طريقة إدارة الاقتصاد غير الفعّال والقائم على ريع البترول والغاز. بعد تعيينه وزيراً أولاً من قبل الرئيس شاذلي بن جديد في أيلول/ سبتمبر 1989، طبق مولود حمروش وحكومته، لفترة قصيرة لم تتجاوز 18 شهرا (إلى حدود حزيران/ يونيو 1991)، برنامج إصلاحات سياسية يقوم على إرساء دولة القانون، خصوصاً من زاوية الحريات العامة والاقتصادية، عبر انهاء الاحتكار ومأسسة القواعد المشتركة للسوق.
تأسست "الاشتراكية الجزائرية" بشكل كبير على تأميم قطاعات اقتصادية واسعة. وكانت إدارة التجارة الخارجية بآليات بيروقراطية، والاستيلاء عليها بحكم الأمر الواقع من قبل قيادات الشرطة السياسية والجيش، تمثّل عقبة أمام أي تنمية. وهذا التنظيم البيروقراطي مسؤول بشكل كبير عن أزمة الديون وتدهور الظروف الاقتصادية العامة للبلاد.
كانت الديون الخارجية، التي تمتص خدمتها الجزء الأكبر من الإيرادات الخارجية للبلاد، العقبة الأساسية في تلك الفترة. تمثلت الأولوية الاستراتيجية في الحفاظ على السيادة الوطنية عبر تجنب الخضوع للبرامج الموغلة في الليبرالية التي يضعها صندوق النقد الدولي والدائنين الذين يسيطرون على الجزء الأكبر من دين خارجي يقلص بشكل كبير هامش المناورة. كانت معضلة الإصلاحيين تتمثل في إرادة المحافظة أكثر ما يمكن على الطابع الاجتماعي (طب مجاني وتعليم جماهيري) لدولة سليلة حرب التحرير، والدفاع عن القطاع العمومي، وفي الوقت نفسه تسريع تحولها الديمقراطي والانفتاح على القطاع الخاص في محاولة لإنعاش الاقتصاد بشكل فعال.
وصف حسين آيت أحمد تلك الحركة وتلك الفترة "بالانفتاح الديمقراطي عنوةً" (4). خلال فترة الحريات غير المسبوقة هذه - التعبير والتجمع والتظاهر بالأخص - ولدت الصحف "المستقلة" وتأسست أحزاب جديدة أو أصبحت تنشط في العلن. نذكر هنا بالأخص "جبهة الإنقاذ الإسلامي" و"جبهة القوى الاشتراكية"، وهناك أيضاً (لكنه أقل أهمية بكثير) "حزب الطليعة الاشتراكية" (5)، وريث الحزب الشيوعي الجزائري، القريب من الاتحاد السوفياتي، والذي كان يتأرجح خلال فترة نشاطه غير المرخص الطويلة ما بين "المساندة الناقدة" والاصطفاف الكامل وراء توجهات النظام. أظهرت الوقائع طيلة الاحداث الدرامية التي شهدتها سنوات 1990 أن هذا الحزب كان مخترقاً بشكل واسع من قبل الشرطة السياسية. كما ظهرت للعلن بعض التشكيلات الماركسية الصغيرة الأخرى والتي كانت تنسب نفسها للأممية الرابعة أو التروتسكية بصفة عامة.
لكن سرعان ما أثار عمل الحكومة "الإصلاحية" معارضة متنفذين من داخل النظام تقلصت سلطتهم وأصبح احتكارهم إدارة الريع موضع مساءلة. كان هؤلاء الأفراد الذين يحتلون مواقع رفيعة في الجيش والشرطة السياسية حماة نظام متكوِّن من جماعات مصالح تنشط خاصة في مجال استيراد السلع الغذائية والصفقات الخارجية، وأول المنتفعين منه. أغلق انقلاب يناير 1992، وسط طور من العنف غير المسبوق، انفتاحاً سياسياً بدأ غداة أحداث تشرين الأول/ اكتوبر 1988 عندما تداخلت أزمة النظام الداخلية مع غضب شعبي حاد جداً.
حداثة مزيفة وديكتاتورية في بداية التسعينات من القرن العشرين، خرج "حزب الطليعة الاشتراكية" المتكون أساساً من مناضلين ينتمون للطبقة الوسطى أغلبهم فرنكوفونيون من أبناء المدن، منهكاً من العمل السري. وأفقد الموقف "المساند الناقد" للنظام الحزب الكثير من مصداقيته لدى الكوادر والشعب. وهذا في سياق يتسم بتقاليد مترسخة من التوجس من الشيوعيين. وفي الواقع أثّرت القطيعة منذ 1939 مع الحزب الشيوعي الفرنسي، الذي اعتبر نيوكولونيالياً، بشكل كبير في تشكيل الخطاب السياسي للاستقلاليين الجزائريين (6).
على المستوى الخارجي، أثار غزو الجيش الأحمر لأفغانستان في 1979 غضب الرأي العام الجزائري الذي كان خلال السنة نفسها يراقب باندهاش واعجاب إطاحة الثورة الإسلامية الإيرانية بنظام الشاه. ثم جاء سقوط كلٍ من جدار برلين سنة 1989 ولاحقا الاتحاد السوفياتي، لينزع كل قابلية للفهم عن خطاب قديم. علاوة على أن الأغلبية الساحقة من الجزائريين تجرعت "الاشتراكية" البوليسية التي أرساها بومدين ولم تكن مستعدة لإضفاء مصداقية على أطروحات منتهية الصلاحية. وفي أواخر الثمانينات أظهر السياق الدولي - المتحول سريعاً وبقسوة - صعوبات حياة يومية شاقة تتسم بمختلف أشكال النقص في مختلف الحاجيات، والتعسف الدائم، والتباهي الوقح بالثراء من قبل الجزء الأكثر فساداً في نخب السلطة. كان السخط الشعبي يسقي بشكل متواصل أرض "الإسلام السياسي" الذي لم يتوقف نموه وتصلب عوده طيلة ذلك العقد.
كان التحدي الذي حمله "الإصلاحيون" يتمثل في إرادة المحافظة أكثر ما يمكن على الطابع الاجتماعي (طب مجاني وتعليم جماهيري) لدولة سليلة حرب التحرير، والدفاع عن القطاع العمومي، وفي الوقت نفسه تسريع تحولها الديمقراطي والانفتاح على القطاع الخاص في محاولة لإنعاش الاقتصاد بشكل فعال.
بسبب انفصاله عن الواقع وخلافاته الداخلية المدمِّرة، عرف حزب الطليعة الاشتراكية، على الرغم من تاريخه الطويل، فشلاً في انتخابات 1991، كالذي عرفته أحزاب "المخبر" (مثل "التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية" الحداثي العلماني) التي صنعتها جهات استخباراتية داخلية، ولكنها تحظى بدعم خارجي نشيط جدا، خاصة من قبل حلقات قريبة من الحزب الاشتراكي الفرنسي.
لم تفقد هذه المعاينة شيئا من راهنيتها: المجتمع الجزائري غير مستعد للانخراط في الحداثات الزائفة التي تروج لها برجوازية صغيرة منْبَتة بشكل مفتعل.
العسكر والاستئصاليون والأوليغارشيون تزامن حل "حزب الطليعة الاشتراكية"، الحزب الرئيسي الذي ينتسب للماركسية (7)، سنة 1993، مع بداية الحرب التي أطلقها الجيش لوقف التمرد. سرعان ما التحق هذا الاتجاه "الشيوعي" المعادي جذريا للدين (8) بالأقلية الأكثر تطرفاً في دعمها للجنرالات: "الاستئصاليون" سيئي السمعة الداعمين لفكرة حرب شاملة ضد الإسلاميين وتصفيتهم جذرياً بكل الوسائل (تعذيب معمَّم، اختفاءات قسرية ومجازر جماعية..). وجدت الحرب "ضد الأهالي" (9) في هذه الأوساط فاعليها الأكثر التزاماً ومروجي دعايتها - خصوصاً في أوروبا - الأكثر حماساً.
استنفرت الحرب المشبوهة - لكن بالغة الدموية - ضد مواطنين "لم يحْسِنوا الانتخاب" عدداً من المناضلين الذين بدوا علاوة على ذلك غير قلقين كثيراً من التخلي التدريجي عن المكتسبات الاجتماعية والتعمق المتسارع لأشكال التفاوت بين المواطنين. في الواقع، لم تُثر التوجهات الليبرالية التي كان طابعها المافيوزي ظاهراً للعيان - خاصة منذ توقيع اتفاق الاستعداد الائتماني مع صندوق النقد الدولي سنة 1994 - أي ردود فعل تقريباً من قبل الأحزاب والشخصيات "التقدمية" (10)، على الرغم من أن هذا الاتفاق شكل ضربة قاصمة للقطاع العام الذي سيتم تفكيك وبيع جزء كبير منه وسط تعتيم كامل.
شهدت تلك الفترة تحولاً مباغتاً لعدد من الشخصيات العامة الذين كانوا ماركسيين في السابق، ليصبحوا رجال أعمال انتهازيين لا حدود لشهيتهم... ترافق تطبيق اتفاقية الاستعداد الائتماني مع إخضاع عنيف للمشرفين الذين رفضوا تصفية القطاع العمومي وأوامر الشرطة السياسية. مثلاً وخلال سنتي 1994 و1995، سجن أكثر من 4000 كادر بتبريرات مختلفة. وتوفي البعض منهم في السجن جراء التعذيب.
مثَّلت الحرب ضد المدنيين وانتهاكات حقوق الإنسان المعممة غطاء فعالاً للتغيير في وجهة الاقتصاد. إنتهت هذه الفترة العنيفة جداً، والتي بلغت ذروتها بالمجازر الجماعية التي نفذتها "فرق موت" مرتبطة بالشرطة السرية العسكرية، بتعيين عبد العزيز بوتفليقة رئيسا للجمهورية في 1999.
خرج "حزب الطليعة الاشتراكية"(الحزب الشيوعي الجزائري)، المتكون أساساً من مناضلين ينتمون للطبقة الوسطى أغلبهم فرنكوفونيون من أبناء المدن، في بداية التسعينات من القرن العشرين منهكاً من العمل السري. وأفقد الموقف "المساند الناقد" للنظام الحزب الكثير من مصداقيته لدى الكوادر والشعب.
السنوات الأولى من القرن الحالي جلبت حظاً مضاعفاً للنظام. حوَّلت هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 وجهة السياسات الغربية تماماً في إتجاه "صراع الحضارات". تحصّل الجنرالات الانقلابيون على جائزة كبرى لم يكونوا يأملون بها. فقد كفَّ تدريجياً اهتمام منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان بالجزائر وأصبح النظام مقبولاً. وبما ان الأخبار السعيدة لا تأتي فرادى، فقد دخلت أسعار البترول مرحلة من الارتفاع ستدوم أكثر مع عشر سنوات، مما مكّن البلد الذي يعد 40 مليون ساكناً من تحصيل أكثر من 800 مليار دولار عائدات تصدير المحروقات خلال الفترة الممتدة من 2003 إلى 2013. بلغ الفساد في أعلى قمة الأجهزة العسكرية - الأمنية مستويات غير مسبوقة، وغَيّر هيكلة السلطة في الجزائر. تشكلت طبقة من الوسطاء المرتبطين بمجموعات نافذة في رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش بفضل قدرتها اللامتناهية على نهب واحتكار الثروات الوطنية. أصبح لرجال الأعمال هؤلاء دوراً كبيراً في مراكز القرار (11). بناء على كل هذا، فإن الجزائر تحكم اليوم موضوعياً - قرارات السياسة الاقتصادية هي أبرز دليل على ذلك - من قبل أوليغارشيا في انسجام مع الجيش والشرطة السياسية (12).
المقاومات الشعبية لليبرالية المافيوزية إزاء هذه التطورات الاجتماعية - السياسية التي تحدث جهاراً ولكن دون ردود فعل سياسية ذات قيمة، هل يمكن أن نؤكد ان التيارات الحاملة لأفكار العدالة والتقدم لم تعد موجودة في الجزائر؟ صحيح ان كل تعبير مخالف للتوجهات التي تطبق منذ 1994 هو مستحيل تقريباً، وأن المجتمع بأكمله يعيش في ظل نظام قمعي تخلى عن المواطنين.. وقد اظهر انتشار وباء الكوليرا في منطقة وسط الجزائر أواخر آب/ أغسطس 2018 مدى تهاون نظام عاجز لا سياسة له غير تكميم الأفواه. النقاش إذاً ممنوع، والتعبير حُصِرَ في الهوامش الزبائنية لنظام خلق فراغاً سياسياً يوازي انهياره الأخلاقي وإفلاسه الاقتصادي والاجتماعي.
تعيش الساحة السياسية اذاً وقتاً معلقاً حيث لا حق للقوى السياسية التي تَعبر عن المجتمع في الوجود كهياكل ومنظمات وحتى كخطاب. إختفى المناصرون الصاخبون لفكرة استئصال الإسلاميين من المشهد الإعلامي، فقد كان غباء اطروحاتهم يزداد وضوحاً كلما تدهور وضع النظام. انقطعت تدريجياً صلة البرجوازية الصغيرة الفرنكوفونية - التي ينحدر منها الجزء الأكبر من الناشطين اليساريين - ببقية المجتمع. لم تعد المظاهرات المتفرقة التي تحاول إطلاقها منظمات تأتي من هذا الوسط تستنفر الجماهير. مع ذلك، فإنه من الجلي ان أفكار التقدم والعدالة لم تختفِ من الحقل الاجتماعي حتى وان كان الذين طالما جسدوها فقدوا كل قدرة على الاقناع والتأثير.
وكما هو عليه الأمر بالنسبة لحركة الهجرة غير القانونية لكن الجماعية نحو أوروبا، فإن تعبيرات الشباب المناهضة للنظام في مباريات كرة القدم تظهر جلياً إحباط "المعذبون في الأرض" الجدد تحت حكم الديكتاتورية الجزائرية. في الوقت الذي يخاطر فيه شبان وشابات جزائريون بحياتهم عند عبورهم للمتوسط، تتشكل برجوازية كومبرادورية عديمة الثقافة ومنتهِكة للقانون بشكل كبير، في انسجام تام مع مراكز السلطة، كما يمكننا ملاحظة ذلك من خلال قضية ترويج كوكايين (13) صادمة وقعت مؤخراً وتورطت فيها قيادات من الشرطة والجيش.
التعميق الرهيب للفوارق بين الطبقات وتكميم التعبير السياسي يساهمان في تغذية غضب شرائح اجتماعية واسعة جداً تُركت لمصيرها. لا تملك البرجوازية العسكرية، وواجهاتها المدنية العقيمة والرديئة، غير العنف وتخدير الغضب الشعبي عبر دعم السلع. لكن هذه السياسة تقترب من نهايتها، فتناقص الريع لم يعد يسمح بالتساهل في إعادة توزيع الثروة بطريقة زبائنية كما كان عليه الأمر في العقد الفائت.
اقرأ/ي أيضا الجزائر: بين الاقتصاد غير الرسمي وسوق القرار الاقتصادي السوداء في مواجهة ليبرالية مافيوزية فرضتها الديكتاتورية، يتمسك الأهالي بتقاليد المساواة والعدالة المتجذرة بعيداً عن القطعيات والايديولوجيات. في انتظار إعادة تشكل الحقل السياسي الذي لا مفر منه، لا يبقي اذاً "من اليسار" الا ما حفظه الشعب في أعماقه من رفض للظلم والتعسف ومقاومة لإملاءات الامبريالية في فلسطين ورفض الاصطفاف وراء الغرب.
ترجمه من الفرنسية: محمد رامي عبد المولى
____________________________ 1- الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. 2- مثل ما وردت في النصوص الأساسية للثورة الجزائرية: "نداء 1 نوفمبر 1954 " ومؤتمر الصومام" (20 آب/أغسطس 1956) 3- كتاب "الجزائر، التحرير المنقوص" لغازي حيدوسي، صادر بالفرنسية عن دار La Découverte، باريس، 1995، 302 صفحة. 4- للاطلاع أكثر على النشاط السياسي لحسين آيت أحمد بعد انقلاب يناير 1992 يمكن قراءة مساهمة سمير غزلاوي. 5- توقف نشاط حزب الثورة الاشتراكية - الذي أسسه محمد بوضياف - بالكامل تقريبا في أواخر الثمانينات من القرن العشرين 6- انظر جان-بيار فرنان "الحزب الشيوعي الفرنسي والمسألة الجزائرية"، مقال نشر بالفرنسية في مجلة Voies nouvelles ، 1959. 7- راجع مقال عبد العزيز سعودي. 8- موقف يمثل جزء كبير من مناضلي حزب الطليعة الاشتراكية. 9- راجع مقال سليمة ملاّح وفرنسوا جاز "الحرب القذرة في الجزائر : مسؤولون ومذنبون"، نشر في جريدة لوموند الفرنسية بتاريخ 16 أيار 2005. 10- مع وجود استثناءات تستحق الذكر كم هو الحال مثلاً بالنسبة للصادق هجرس الأمين العام السابق لحزب الطليعة الاشتراكية 11- راجع مقال عمر بن درة "جزائر الأوليغارشيين : تحالف الحربات وخزائن المال"، نشر بالفرنسية في موقع Algeria-Watch في كانون الأول 2014 12- يمكن التدليل على مدى قوة سلطة القرار التي تتمتع بها هذه البرجوازية العسكرية - الكمبرادورية الجديدة مثلا بالظروف التي أحاطت بإقالة احد رؤساء الوزراء خلال صيف 2017. 13- https://www.middleeasteye.net/fr/reportages/en-alg-rie-l-t-des-intrigues-commenc-1157796851[/red][green]
اليسار التونسي ما "بعد الثورة": امتحان الحركات الاجتماعية سؤال حالة اليسار التونسي اليوم عبر أربع تحركات اجتماعية وقعت في السنوات الاخيرة: تجربة التسيير الذاتي في واحات جمنة، اعتصام "بتروفاك" في جزيرة قرقنة، اعتصام "الكامور"، الاحتجاجات على قانون المالية (الميزانية) 2018.. وتقديم استنتاجات ولو أولية. 2018-12-02 محمد رامي عبد المولى كاتب وباحث من تونس، من فريق "السفير العربي"
من دفتر: اليسار في المنطقة العربية وسؤال مكامن العطب
تم دعم هذه المطبوعة من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المطبوعة أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.
عانت أجيال من اليساريين التونسيين الملاحقات الأمنية والسجن والتعذيب والمنع من ممارسة النشاط السياسي بصفة علنية. لكن كل هذا القمع لم يمنعها من المشاركة بقوة في مختلف النضالات الاجتماعية والسياسية منذ ستينات القرن الماضي، ومن الالتحام بالجماهير المنتفضة خلال اللحظات الهامة، مثل "الخميس الأسود" 1978، و"انتفاضة الخبز" 1984، وانتفاضة الحوض المنجمي 2008، وبالطبع الثورة التونسية 2011... وكلها افتتحت العام الذي يخصها، فوقعت في كانون الثاني/ يناير!
كان يفترض بسقوط الديكتاتورية أن ينقل اليسار من الكهف وظلاله إلى النور. لكن سنوات القمع والعمل السري والصراعات الأيديولوجية اليسارية – اليسارية، جعلته يدخل مرحلة "ما بعد الثورة" وهو منهك ومنقسم، ومن دون رؤية واضحة للمستقبل. بروز التيارات الإسلامية، وتتالي الانتفاضات العربية ومعاناتها من انحرافات شتى، والخوف من عودة الديكتاتورية.. جعلت اليسار التونسي "الراديكالي" يعيش حالة من "التشتت الذهني" ويحارب على كل الجبهات.
شكلت انتخابات المجلس التأسيسي سنة 2011 صدمة مذلّة لليسار "الراديكالي" حيث لم يحصد إلا مقعدين أو ثلاثة من جملة 217، أي أقل من 1 في المئة، في حين فاز الإسلاميون بقرابة نصف المقاعد. نتائج هذه الانتخابات وتعاظم حضور الإسلاميين في تونس وغيرها سيدفع بجزء كبير من اليسار التونسي إلى التسليم بضرورة توحيد الجهود والانخراط في هيكل سياسي كبير، وهو ما سيترجم بتشكيل الجبهة الشعبية في تشرين الأول/ أكتوبر 2012 وعمادها التياران الأكثر تمثيلية لليسار واللذان تصارعا طويلا: "حزب العمال الشيوعي التونسي" و"حركة الوطنيين الديمقراطيين" بالإضافة الى أحزاب يسارية أخرى وعروبية (بعثية وناصرية). سيكون هذا التنظيم الجديد حاضراً بقوة في أغلب الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية خلال فترة حكم الترويكا (ائتلاف ثلاثي بقيادة "حركة النهضة الإسلامية"). لكن تتالي العمليات الإرهابية والاغتيالات السياسية سيجعل اليسار أقل اهتماماً بالنضالات الاجتماعية.
هنا استعراض وتحليل للطريقة التي تعامل بها اليسار التونسي مع بعض المعارك ذات الطابع الاجتماعي. هي أربع محطات تستحق الدراسة لفرادتها أو لطول مدتها أو لأهمية القضية أو لضخامة عدد المحتجين أو لكل هذه الأسباب مجتمعة. نظرا لصعوبة تناول مواقف كل الأحزاب والتنظيمات والمجموعات اليسارية (وبعضها "ميكروسكوبي")، نركز على مواقف "الجبهة الشعبية" في تونس، فهي أكبر تجمع لليسارين (أحزاباً ومستقلين) وتضم ممثلين عن أغلب التيارات اليسارية التاريخية. سائر أحزاب اليسار الأخرى هي إما "معتدلة" جداً بحيث لا علاقة لها بالحركات الاجتماعية أو "راديكالية" جداً في بياناتها دون حضور فعلي على الأرض. كما أن اختيار الفترة موضوع الدراسة ليس اعتباطياً: السنوات التي تلت انتخابات 2014 الرئاسية والتشريعية. أي الفترة التي شهدت نهاية حالة "السيولة" الثورية واسترجاع مؤسسات الدولة لقوتها واستقرارها، وفي ظل ائتلاف حاكم يميني - يميني جناحاه هما الخصمان التاريخيان لليسار: رجالات النظام القديم ممن أعيد "تدويرهم"، والإسلاميين.
تجربة التسيير الذاتي في واحات جمنة "هنشير المعمر" أو هنشير ستيل" هي واحات تمور تقع في بلدة جمنة في أقصى الجنوب التونسي (محافظة قبلي). كانت أراضي قبلية صادرتها السلطة الاستعمارية الفرنسية من أصحابها لتمنحها لمستوطنين فرنسيين. بعد استقلال تونس، لم تعد الواحات الى مالكيها الأصليين بل بدلت الدولة الناشئة صفتها لتصبح "أراضي دولة" (ميري)، وقامت في مرحلة أولى بوضعها على ذمة شركة عمومية ("ستيل")، ثم قررت تأجيرها لمستثمرين خواص بمقابل بخس لا يتناسب البتة مع حجم الأرباح التي تحققه هذه الاراضي. في كانون الثاني / يناير 2011، ومع أرتباك أجهزة الدولة، وجد أهالي جمنة الفرصة أخيراً لاسترداد حقوقهم فأخرجوا المستثمِر وأعوانه من الواحات وفرضوا سيطرتهم عليها.
مقالات ذات صلة تجربة واحات جُمّنة في تونس: أما بعد.. مع "تحرير" الأرض، جاء السؤال البديهي الأول: ماذا نفعل بها الآن. اقترح البعض أن يتم تقسيمها بين الأهالي في حين طالب آخرون بالحفاظ على وحدة الأرض واستغلالها بشكل جماعي. حاز الرأي الثاني على موافقة الأغلبية. بعدها جاء السؤال الثاني: كيف نسير الواحة والعمل فيها، وهنا جاء دور مدرس متقاعد ومناضل يساري من أبناء المنطقة، طاهر الطاهري، الذي سيترأس جمعية تُعنى بتسيير الواحة بشكل جماعي، وتحسين ظروف العمال / الشركاء (زيادة في الأجور وتخفيض في ساعات العمل)، وبيع محصول التمور، وتوزيع العائدات بين مستلزمات الإنتاج (أجور، اسمدة، أدوات، أدوية، الخ) وتحسين الخدمات والمرافق العمومية في البلد.. لكن بعد انتخابات 2014 وبداية استقرار المؤسسات، سعت السلطة لإعادة امتلاك واحات جمنة. الوزير المكلف بالأراضي الميري جعل من الأمر قضية شخصية، وحوّلها إلى حرب سانده فيها الحزب الحاكم وخبراء اقتصاديون ليبراليون واعلاميون موالون. وصل الأمر بالسلطة في تشرين الأول/ اكتوبر 2016 الى منع الواحات من بيع محاصيل التمور وتجميد حساباتها البنكية وحتى حسابات التاجر الذي فاز بالمزاد العلني. محاولة السلطة إخماد أنفاس تجربة واحات جمنة كان له رد فعل عكسي، فقد أصبحت قضية رأي عام بامتياز.
كان يفترض بسقوط الديكتاتورية ان ينقل اليسار من الكهف وظلاله إلى النور. لكن سنوات القمع والعمل السري والصراعات الأيديولوجية اليسارية – اليسارية، جعلته يدخل مرحلة "ما بعد الثورة" وهو منهك ومنقسم وبدون رؤية واضحة للمستقبل.
خلال السنوات الأولى من تطورها، لم تلقَ التجربة اهتماماً كبيراً من عموم اليساريين، بل لم يسمع الكثير منهم عنها قط، على الرغم من أن رئيس الجمعية المسيِّرة للواحات يساري وحاول التعريف بالتجربة. السلطات التي حاربت واحات جمنة (مدعومة بأسطول من وسائل الإعلام) هي التي سلطت الضوء على التجربة، وجعلت الكثير من القوى اليسارية، ومن بينها الجبهة الشعبية، تنتبه لأهمية وفرادة ما يحدث في جمنة.
في تشرين الأول /اكتوبر 2016 وصل وفد من الجبهة الشعبية بقيادة زعيمها الأبرز، حمّة الهمامي، إلى جمنة لحضور عملية بيع المحصول التي حاولت الحكومة منعها، كما وقع أحد نواب الجبهة على وثيقة بيع المحصول على الرغم من أن العملية "غير شرعية" بمقاييس الدولة وقوانينها، وذلك في محاولة من الجبهة لتقديم دعم متأخر لأهالي الواحة. دعم كان أيضاً إعلامياً وسياسياً، فلقد دافع العديد من قياداتها عن واحات جمنة في القنوات التلفزية والإذاعات وفي البرلمان، وحاولوا الضغط على الحكومة للتراجع عن مساعيها في ضرب التجربة، كما شارك مناضلوها في التظاهرات السياسية الداعمة لها في العاصمة. إستحسان الجبهة لشكل ومقاصد تجربة التسيير الذاتي لم يتجاوز كثيراً موقف الدعم والتضامن، فهي لم تسعَ إلى إعادة انتاج مثل هذه التجربة في مناطق تونسية أخرى.
اعتصام "بتروفاك" في جزيرة قرقنة في آذار/ مارس 2011، تحرك العديد من شباب الجزيرة لمطالبة الدولة بتشغيلهم ودفع شركة "بتروفاك" تونس البترولية (بريطانية - تونسية) للمساهمة في تنمية الجزيرة. رضخت إدارة الشركة بعد ضغوط كبيرة ورصدت ميزانية للمساهمة في بناء وصيانة منشئات عمومية، وتمويل أنشطة رياضية وثقافية وكذلك تسديد أجور 270 شاب تنتدبهم الدولة في مؤسساتها الموجودة في الجزيرة. بقيت الأمور مستقرة إلى ان قررت إدارة الشركة وقف صرف مرتبات هؤلاء الشباب بداية من كانون الثاني / يناير 2015 بدعوى انهم لا يعملون فعلاً. رد المعنيون بالأمر عبر الاعتصام وتعطيل الدخول والخروج من وإلى مقر الشركة. أثمر الضغط اتفاقاً جديداً في نيسان /ابريل 2015، لكن مرت أشهر طويلة ولم ينفذ الاتفاق، فقرر الشباب خوض اعتصام جديد في 19 كانون الثاني / يناير 2016 أمام مقر الشركة وتعطيل العمل فيها، وهو ما تواصل إلى 3 نيسان /إبريل 2016 عندما تناهت إلى مسامع المعتصمين أخبار مؤكدة بأن الحكومة قررت ارسال تعزيزات أمنية كبيرة لقمع الاعتصام. قرر المعتصمون نقل مكان الاعتصام إلى منطقة "مليتة"، وقطعوا الطريق أمام قوات الأمن بالمتاريس، فحدثت مواجهات عنيفة في ليلة 4 نيسان /إبريل ما حول مسألة معتصمين شبان إلى معركة جزيرة بأسرها وكذلك قضية راي عام. أمام تطور الأحداث وخوفاً من ردة فعل أبناء قرقنة الذين لهم حضور كبير في النقابات والحياة السياسية، قررت الحكومة سحب كل قوات الأمن من الجزيرة.. وتكليف الجيش بتأمينها.
عاد الاعتصام إلى مقر الشركة التي أصبحت تهدد بإغلاق أبوابها والخروج من تونس للضغط على الحكومة وتأليب الرأي العام على المعتصمين. بعد أشهر طويلة وتحديداً في أيلول /سبتمبر 2016، عُقِد اتفاق بين المعتصمين من جهة والحكومة والشركة من جهة أخرى، تموّله هذه الاخيرة، برعاية الاتحاد العام التونسي للشغل، شمل تسوية وضعية المعتصمين، وإحداث صندوق لتنمية المنطقة، ودعم البحّارة الصغار.
مقالات ذات صلة الخوف كمحرك للتاريخ والسياسة في تونس اليسار- أساساً الجبهة الشعبية - كان حاضراً بقوة هذه المرة، فالناطق الرسمي باسم الاعتصام (احمد السويسي) ينتمي للجبهة الشعبية، وكان مناضلاً في صلب نقابة الطلاب اليسارية، "الاتحاد العام لطلبة تونس"، وهو كذلك قيادي في "إتحاد أصحاب الشهادات المعطلين عن العمل" الذي تأسس سنة 2006 من قبل خريجي الجامعة وأغلبهم يساريون، وينتمي عدد من المعتصمين إلى اليسار أو هو متعاطف معه. ساندت الجبهة الشعبية الاعتصام منذ البداية سواء عبر مواقفها السياسية الصريحة او بطريقة غير مباشرة بفضل نفوذها في الاتحاد العام التونسي للشغل. وفضلاً عن تواجدها على الأرض بين المعتصمين او بين باقي أهل الجزيرة، فإن الجبهة تحركت في وسائل الإعلام دفاعاً عن المعتصمين وتنديداً بالعنف البوليسي والتعنت الحكومي. وتتالت بياناتها وتحركاتها، خصوصاً مع تطور العنف والمواجهات، فدعت إلى تنظيم وقفات ومسيرات مسانِدة أمام مقر محافظة صفاقس وفي تونس العاصمة، كما ساندت الاضراب العام في الجزيرة يوم 12 نيسان/ ابريل.
اعتصام "الكامور" تقع منطقة الكامور في قلب الصحراء التونسية، وتحديداً في محافظة تطاوين الصحراوية المهمشة، وتعتبر منفذاً نحو حقول النفط الصحراوية التي تستغلها أساساً شركات أجنبية. بداية من 15 اذار/ مارس 2017، بدأت عدة مناطق من المحافظة بالتحرك رافعة مطالب متشابهة : التنمية والتشغيل. وعلاوة على المظاهرات والوقفات الاحتجاجية، بدأ المتحركون بتعطيل حركة الشاحنات والسيارات من وإلى مقرات شركات البترول، وصولاً للإضراب العام يوم 11 نيسان /إبريل. تجذرت الاحتجاجات أكثر فأكثر الى أن برزت فكرة الاعتصام في منطقة الكامور (تبعد 150 كم عن وسط المدينة) لغلق المنفذ الوحيد المؤدي إلى حقول النفط الصحراوية ("البرمة" و"برج الخضراء"). نصب المعتصمون خيامهم يوم 23 نيسان/ إبريل في منطقة صحراوية معزولة وسط درجات حرارة عالية، معولين على إمكاناتهم الذاتية والتضامن العشائري لتوفير الحاجات الحياتية الأساسية. يمكن تلخيص مطالب المعتصمين في ثلاث مسائل: 1) تخصيص 20 بالمئة من عائدات الأنشطة البترولية لتنمية المحافظة، 2) نقل المقرات الرسمية للشركات البترولية التي تستغل حقولاً في المحافظة من العاصمة تونس إلى مدينة تطاوين، 3) التشغيل الفوري لآلاف من أبناء المحافظة في المؤسسات العمومية وشركات البترول.
حاولت السلطة انهاء الاعتصام، تارة بالوعود وتارة أخرى بالوعيد. ففي 27 نيسان /إبريل وصل رئيس الحكومة إلى تطاوين حاملاً معه حزمة من 64 اقتراحاً أغلبها التفاف على المطالب الثلاثة، فرد عليه المحتجون بإضرابٍ عام ثانٍ وتمسكوا بشعار الاعتصام: "الرخ لا"، أي لا تراجع بالعامية التونسية. ثم جاء دور رئيس الجمهورية ليطلب من الجيش التحرك لحماية المنشئات البترولية وفتح الطريق أمام شاحنات وسيارات الشركات العاملة فيها.
سيطر المعتصمون على مقر محطة الضخ يوم 20 أيار/ مايو وأوقفوا عملية نقل البترول عبر الأنابيب. لم تتأخر الحكومة في الرد فأرسلت تعزيزات أمنية كبيرة للمنطقة لفض الإعتصام بالقوة و "تحرير" المضخة، مما اسفر عن مواجهات عنيفة سقط فيها قتيل (دهسته سيارة أمنية). إثر انسحاب الأمن عاد المعتصمون وسيطروا على المضخة مجدداً ليبقى الأمر على ما هو عليه إلى أن تدخل الاتحاد العام التونسي للشغل ولعب دور الوسيط بين الطرفين فتم التوقيع على اتفاق يوم 16 حزيران/ يونيو 2017
لكن أين اليسار من كل هذا؟
التيار الذي يُفترض انه المعني الأول بالنضالات الاجتماعية كان غائباً عن الاعتصام، وهو حال مجمل الأحزاب والجماعات اليسارية وليس الجبهة الشعبية فقط. لم يكن هناك وجود يساري على الأرض، وحتى بعض التحركات والبيانات اليسارية كانت ردة فعل على التدخل الأمني العنيف لفك الاعتصام أكثر مما هي تبني للحركة ومطالبها. أسباب هذا التخاذل عديدة، فمن جهة كان المعتصمون يرفضون تدخل الأحزاب السياسية خوفاً من "متاجرتها" بنضالاتهم واستغلال تحركاتهم، ومن جهة أخرى تعتبر تطاوين والمناطق المحاذية لها معاقل للإسلاميين، والتواجد اليساري وحتى النقابي فيها ضعيف جداً إن لم يكن معدوماً تماماً.
الحركات الاجتماعية في تونس تبدو متقدمة على اليسار. مناطق طرفية مهمشة خاضت نضالات كبيرة ومبدعة دون أن يكون لها سند أو مرجعية "أيديولوجية". وفي كثير من الأحيان يأتي اليسار متأخراً ويحاول مجاراة نسق الحركة دون أن يسعى إلى تجذيرها فيبدو وكأنه يركب على الأحداث أو يحاول تجييرها لصالحه.
بيان "الجبهة الشعبية" الصادر بتاريخ 23 ايار/ مايو ، أي بعد التدخل الأمني لفض الاعتصام، يعبر بوضوح عن موقفها الفاتر: "تؤكّد (أي الجبهة ) دعمها لكل الاحتجاجات والتحرّكات الاجتماعية السّلمية القائمة على مطالب مشروعة، سواء في تطاوين أو في مناطق البلاد الأخرى، وتدعو كل القوى الديمقراطيّة والتقدميّة والشعبيّة إلى التصدّي لكل محاولات ضرب الحريات والعودة إلى الاستبداد. وهي إذ تسجّل بإيجابيّة إدانة معتصمي الكامور لأعمال الحرق والنّهب التي طالت عدداً من المؤسّسات الرّسمية وتحميلهم مسؤولية تلك الأعمال لعناصر وأطراف غريبة عنهم، فإنّها تدعو أبناء شعبنا وبناته إلى الحفاظ على الطابع السلمي والمدني لاحتجاجاتهم وتحركاتهم، وإلى التزام اليقظة تجاه كل الأطراف الرجعية والشعبوية التي تعمل على تحويل وجهتها لخدمة أجندات معادية لمصالح الوطن والشعب". لا يبدو ان الجبهة الشعبية استوعبت فرادة ونوعية الحراك في الكامور أو لعل المخاوف والحسابات السياسية جعلتها تكرر جزء من خطاب السلطة وابواقها الإعلامية..
الاحتجاجات على قانون المالية (الميزانية) يناير 2018 قدمت حكومة يوسف الشاهد أواخر سنة 2017 للبرلمان مشروع قانون المالية الذي يضبط ميزانية الدولة لسنة 2018. تفرض الكثير من فصول هذا القانون زيادات متنوعة وكبيرة في الضرائب والاتاوات، مما سينعكس آلياً كزيادات في أسعار السلع والخدمات. وهي في الوقت نفسه منحت امتيازات للمستثمرين والأثرياء. الحكومة اعترفت ان قانون المالية هذا قاسٍ ولكنها دافعت عنه باستماتة واعتبرته اجراءاً مؤلماً لكنه ضرورياً لتقليص عجز الموازنة وتسديد ديون تونس. صادق البرلمان يوم 9 كانون الأول/ديسمبر 2017 على القانون بالأغلبية في جلسة قاطعتها المعارضة.
ثم جاء كانون الثاني / يناير (وهو شهرٌ لا تشبهه أشهر أخرى في تونس!) فانطلقت الاحتجاجات منذ الأيام الأولى من 2018، وبدأت في بعض المناطق الداخلية من البلاد ثم انتقلت للعاصمة ومدن كبيرة أخرى. بموازاة ذلك تأسست يوم 3 كانون الثاني / يناير حركة شبابية تحمل اسم "فاش نسْتناوّ" ("ماذا ننتظر؟") ضمت عدة نشطاء شباب، متحزبين ومستقلين، مع حضور قوي لليسار وخاصة "الجبهة الشعبية". دعت الحركة للاحتجاج والتحرك في كامل البلاد لإسقاط قانون المالية.
مقالات ذات صلة الاحتجاجات الاجتماعية في تونس: "حركة بلا بركة"؟ الجبهة الشعبية دعت هي الأخرى المواطنين للنزول إلى الشارع والتحرك ضد قانون المالية وضد إرتفاع تكلفة المعيشة الذي أصبح لا يطاق بالنسبة لأغلب التونسيين. شاركت قيادات الجبهة، ومنهم برلمانيون في المظاهرات، وحاولت الضغط سياسياً واعلامياً بهدف دفع الحكومة للتراجع. تركزت الاحتجاجات في المدن الكبرى، وخاصة في العاصمة التي عرفت العديد من احيائها الشعبية مواجهات ليلية عنيفة مع قوات الشرطة. اعتُقل مئات المحتجين (منهم يساريون من الجبهة الشعبية وغيرها) كما قتل متظاهر في مدينة "طبربة" بالقرب من العاصمة.
بدءاً من الأسبوع الثالث من شهر كانون الثاني / يناير بدأت المواجهات تخفت وتناقص عدد المحتجين في الشارع حتى تلاشى الحراك تماماً دون ان يسقط قانون المالية أو يتم تعديله. راهنت الحكومة على الوقت واستنزاف المحتجين وهو ما حصل فعلاً، حيث لم يستطع اليسار ان يجذر الحراك وان يرفع مطالب اكثر راديكالية.
استنتاجات.. لا يمكن أن يكون كافياً تقييم دور اليسار التونسي في الحراك الاجتماعي "ما بعد الثورة" من خلال أربع محطات، واستناداً لمواقف الجبهة الشعبية فقط، لكن على ذلك، فهناك استنتاجات أولية يمكن استخلاصها: • الاستنتاج الأول: الحركات الاجتماعية في تونس متقدمة على اليسار، مناطق طرفية مهمشة خاضت نضالات كبيرة ومبدعة دون أن يكون لها سند أو مرجعية "أيديولوجية". في الكثير من الأحيان يأتي اليسار متأخرا ويحاول مجاراة نسق الحركة دون أن يسعى إلى تجذيرها فيبدو وكأنه يركب على الأحداث او يحاول تجييرها لصالحه.
• الاستنتاج الثاني: اليسار هو في أفضل الحالات قوة مؤثرة، وفي معظم الأحيان قوة ساندة، وأحياناً هو مجرد متضامن أو متعاطف.. ويندر أن يكون قوة مبادرة وقيادة. وعندما يلتحق بحراك اجتماعي ما فهو لا يقترح افقاً كبيراً بل يكتفي بالاحتجاج وبالدفاع عن مطالب إصلاحية أساسا. حتى التجارب المميزة الناجحة يكتفي بالاحتفاء بها ولا يفكر او لا يستطيع إعادة انتاجها في مناطق أخرى حتى تصبح امرا واقعا وتكون بداية حقيقية لتغيير نمط الإنتاج الاقتصادي ومنوال التنمية.
• الاستنتاج الثالث: ينتشر اليسار التونسي في المدن بالأساس، ويعجز في أغلب الأحيان عن التركز والتموقع في الأحياء الشعبية والأرياف والمناطق الداخلية. وجود شخص يساري مثلاً على رأس تجربة التسيير الذاتي في جمنة لا يعكس وجوداً لليسار هناك بل هو فقط مجهود فردي لمناضل استطاع ان يفهم طبيعة مجتمعه المصغر، وأن يبني معه تجربة تَجْمع بين الإبداع والاستلهام من المخزون الثقافي المحلي.
• الاستنتاج الرابع: عندما نقارن بين تفاعل الجبهة الشعبية مع هذه التجارب الاربعة نلاحظ ان اليسار لا يستطيع التحرك والتأثير إلا في المناطق التي يوجد فيها كوادر يسارية ناشطة حزبياً، وفي النقابات، أي أنه يحبذ الأرضيات الآمنة.
• الاستنتاج الخامس: مقارنة بالفترة الممتدة من 2011 إلى 2014، فإن حماسة اليسار قد خبت كثيراً وإنخراطه في الحركات الاجتماعية أصبح ضعيفاً جداً. هناك عدة أسباب يمكن ان تفسر هذا التراجع: إعطاء الأولوية للتصدي للإسلاميين، الانخراط في مسار "الانتقال الديمقراطي" والتخلي عن المسار الثوري، سعي "الجبهة الشعبية" لتسويق نفسها كحزب معتدل وواقعي له برامج ويريد الوصول إلى الحكم عبر الصناديق.
لم يستطع اليسار إلى اليوم أن يستغل حالة الغليان الاجتماعي المستمر في تونس وأن يكون قاطرة أو على الأقل "منسق" لحركة اجتماعية لها امتداد وطني. على كلٍ، لم يفت الأوان فالقادم أخطر.. لكن قبل كل شيء يجب على اليسار أن يحسم "أزمة الهوية" التي يعيشها منذ سنوات وان يحدد موقعه: هل يريد أن يكون يسارا إصلاحوياً يعمل في ظل النظام السياسي - الاقتصادي القائم أو يريد أن يكون قوة دفع وتغيير لهذا النظام...
_____________________ 1- لمراجعة التسلسل الزمني المفصل للإعتصام يمكن الاطلاع على التحقيق المتميز الذي قام به موقع "انكيفادا". 2- http://front-populaire.org/؟p=5075[/green][Bhttp://front-populaire.org/؟p=5075[/green][B]
اليسار الطلابي في خضم الحراك الثوري بتونس انخراط الطلاب اليساريين، افراداً وتنظيمات، في النضال السياسي بكل أشكاله، بما في ذلك خلال فترات القمع الشديد، معطى حاضر بحدة في تاريخ تونس. إلا أن الحقل لا يطابق البيدر، فلماذا؟ هذه قراءة في مسيرة الحركة الطلابية، على المستويين الذاتي والعام، تحاول التقاط عناصر هذا الفشل وأسبابه، وتلمّس المخارج منه. 2018-12-24 مطاع أمين الواعر طالب دكتوراه في السوسيولوجيا، من تونس
من دفتر: اليسار في المنطقة العربية وسؤال مكامن العطب من ملف: التعليم... قضيّة
على مدخل إحدى جامعات تونس
تم دعم هذه المطبوعة من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المطبوعة أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.
عرفت تونس وجود "اليسار الطلابي" منذ ظهور الجامعة غير الدينيّة فيها، بداية أربعينات القرن العشرين. وقد شهد مساره مّذاك تفرعات وتعرجات وانفجارات عديدة. كيف يمكن رصد بعض أوجه تعامل هذا اليسار الطلابي مع الحراك الثوري الذي عرفته البلاد انطلاقا من شتاء 2010 والواقع السياسي المستجد بعده؟ والمقصود هنا مجموعة يصعب تحديد ملامحها بدقّة، فهي بالأساس التنظيمات الشبابيّة المرتبطة أو غير المرتبطة بأحزاب سياسيّة، وكذلك أعداد كبيرة من المناضلين غير المنتمين لأي تنظيم حزبي أو شبابي، والذين قد يكون جزء منهم نشط سابقاً في هذه التنظيمات. وينتمي هذا الجمع في العموم لـ"العائلة اليساريّة" بمختلف تفرعاتها و"العائلة العروبية" بشقيّها الأساسيين، الناصري والبعثي. وهناك "الاتحاد العام لطلبة تونس" (النقابة الطلّابيّة التاريخية)، وهي تكثيف منظّم لليسار الطلابي. تفتقد هذه التحديدات للدقة وفيها بالتأكيد بعض الاعتباط لزوم الوضوح والاختصار.
فبماذا تتمثل أشكال تأثير اليسار الطلابي في الواقع السياسي التونسي خلال فترة الحراك الثوري؟ وما الآليات السياسية والاجتماعية التي أتاحت له ذلك، وما هي إكراهاته الذاتية والموضوعية التي حدّت من قدرته على النهوض بهذه المهمة؟ أي أفق لليسار الطلابي التونسي في إطار الواقع السياسي والاجتماعي الذي عرفته تونس بعد 2011؟
خلية استنهاض إبّان الحراك الثوري هذا الدور هو نتاج تاريخ طويل للحركة الطلابيّة التونسيّة، ساهم في بناء هياكل "الاتحاد العام لطلبة تونس" وصياغة هويّته التنظيمية والسياسيّة وتحديد علاقاته بمختلف مكوناته وبتلك المحيطة به. وقد تشكّلت شروط إمكانيته تدريجيّاً خلال المحطات الكبرى التي عرفتها الجامعة. الملفت أن التمعّن في المحطات التي عاشها "الاتحاد العام لطلبة تونس" منذ تأسيسه يمنح زاوية نظر فريدة لمتابعة تاريخ الصراعات السياسيّة الكبرى التي عرفتها البلاد، سواء إبان تأسيسه في خضم النضال من أجل الاستقلال، أو في مرحلة نشوء اليسار الراديكالي (1) من رحم استبداد الحزب الحاكم حين ترجمت الصراعات داخل المنظمة وحولها الواقع الذي كانت تعيشه البلاد. وقد تواصل الحال على هذا الشكل طيلة سنوات بورقيبة، حيث كانت الجامعة - التي طبع اليسار النشاط السياسي داخلها بطابعه طيلة سبعينات القرن الماضي - منطلقا لاحتجاجات اجتماعية عمت البلاد خلال النصف الثاني من ذلك العقد، ولم ينجح القمع الوحشي لها في اجتثاثها. ثم تحولت الجامعة انطلاقاً من ثمانينات القرن العشرين إلى حلبة صراع ضارٍ بين اليسار والإسلاميين الذين صارت الهيمنة على النشاط السياسي داخلها من نصيبهم، ما لا ينفي تواصل الوجود اليساري المؤثّر بها.
وعرفت تونس بعد انقلاب 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987 بقيادة الجنرال بن علي انفراجاً سياسياً نسبياً دام 3 سنوات، عاد خلالها النشاط السياسي للانتعاش وعاد فيها النضال الطلابي للاضطرام داخل أسوار الجامعة. وقد مثّلت هذه الفترة فسحة نشاط علني وجماهيري لليسار والإسلاميين، بعد اعتراف النظام رسميّا بمنظمتيهما سنة 1988: "الاتحاد العام لطلبة تونس"، النقابة التاريخية التي مُنعت من النشاط العلني لقرابة الـ 17 سنة، وأصبح اليسار يهيمن عليها بشكل تام، و"الاتحاد العام التونسي للطلبة" الذي أسّسه طلبة "الاتجاه الإسلامي" سنة 1985 كتنظيم نقابي.
إبّان هذه الفترة، تنامى لدى السلطة والإسلاميين شعور بأن "حركة النهضة" (كان إسمها "الاتجاه الإسلامي" سابقاً) قوة سياسيّة قادرة على لعب دور أساسي وربما الحصول على الحكم إن أتيحت لها الفرصة، وهو شعور زادته نتائج انتخابات 1989 التشريعيّة رسوخاً. عقب ذلك، دخل الطرفان منذ بداية 1991 في مواجهة مفتوحة، أطلقها النظام لاجتثاث الإسلاميين والقضاء على تهديدهم لسلطته التي لا يرى فيها لنفسه شريكاً. في حين دخلها الإسلاميون دفاعاً عن أنفسهم ضد هذا الهجوم ولكن أيضا قناعة منهم بأن قوتهم صارت تسمح لهم بإسقاط حكم بن علي. شملت هذه المواجهة كل الفضاءات الاجتماعية، وكانت الجامعة ميدانها الأشرس. انتهت المواجهة بقمع الإسلاميين بشكل عنيف والقضاء عليهم تنظيميّاً، ففككت هياكلهم وزج بآلاف منهم في السجون وهرب البقية من تونس ليستقرّوا بالمهجر، بالإضافة إلى قرار حل "الاتحاد العام التونسي للطلبة" في 8 تموز / يوليو1991. ولم يكن "الاتحاد العام لطلبة تونس" في مأمن من هذا الاتجاه القمعي، إذ أن إمكانيّة حلّه كانت مطروحة بجدّية، وعاش لعقدين من الزمان تحت الحصار الأمني والإداري المشدد، مما حوّله إلى منظمة شبه ممنوعة على الرغم من طابعها القانوني ظاهرياً. كما تعرضت عناصره المنتمية إلى تنظيمات يساريّة وقوميّة متنوعة إلى أشكال قمع متعدّدة، من الإيقاف والاعتداء بالعنف المعنوي والجسدي، إلى التعذيب والسجن، مروراً بالتضييق الإداري والطرد من الجامعة والحرمان من الشغل، وغيرها.
وهكذا فالاتحاد العام لطلبة تونس خلال هاتين العشريتين عرف تعطّلاً تنظيميّاً كبيراً، كان من بين تمظهراته مثلاً عدم إنجازه لأي مؤتمر وطني طيلة عشر سنوات وهي الفترة الفاصلة بين المؤتمر 24 المنعقد في صيف 2003 والمؤتمر 25 المنعقد في 2013. ولعل انجاز المؤتمرات نفسه كان من أسباب هذا التعطّل حيث أن الصراع كان على أشده بين التنظيمات اليساريّة نفسها للهيمنة على المنظمة وضمان موقع قانوني يوفر لها حدّاً أدنى من الحماية تجاه القمع بالإضافة إلى ما يتيحه من امتيازات سياسيّة وتنظيمية (على محدوديّتها). وقد عرفت المنظمة صراعات ثابتة على قيادتها وهياكلها المُسيِّرة منذ عودتها للقانونيّة في 1988. ولم تزد سنوات التصحّر السياسي والقمع المفتوح بعد ذلك الأمر إلا تأزماً حيث زادت حدّة الصراعات للسيطرة على هياكله لدرجة أن القيادة انقسمت إلى جزئين بعد المؤتمر21 الذي انعقد في 1995، يدعي كلّ منهما الشرعيّة (القانونيّة و/أو النضاليّة)، وهو انقسام تكرر في كل المؤتمرات اللاحقة، لتبلغ المسألة درجة غير مسبوقة سنة 2004 عند ظهور الازدواجية الهيكليّة لأول مرّة منذ عودته للقانونيّة، حيث قامت مجموعات سياسيّة طلابيّة تطعن في شرعية مقررات المؤتمر 24، بعقد "مؤتمر التصحيح"، ليتمخض عن ظهور مكاتب محليّة تابعة للمؤتمريَن داخل عدد من الأجزاء الجامعيّة، وهو ما أثّر بشكل كبير على الاتحاد.
طبع اليسار النشاط السياسي داخل الجامعة طيلة سبعينات القرن الماضي التي عرفت إحتجاجات إجتماعية عمت البلاد، ولم ينجح القمع الوحشي لها في اجتثاثها. ثم تحولت الجامعة انطلاقاً من ثمانينات القرن العشرين إلى حلبة صراعٍ ضارٍ بين اليساريين والإسلاميين الذين صارت الهيمنة على النشاط السياسي داخلها من نصيبهم.
على الرغم من هذا، لم يتم القضاء نهائياً على الجامعة كواحدة من أهم فضاءات إنتاج النقد الاجتماعي في البلاد. يشهد على ذلك تواصل التحركات الاحتجاجيّة داخل المؤسسات الجامعيّة ولو بشكل محتشم جدّا خلال عشريَتي القمع الشديد، وعودتها بقوة نسبيّة بعد ذلك. مثّلت الجامعة خلال هذه الفترة الفضاء الوحيد في تونس الذي يمكن أن يتوجّه فيه شخص، بشكل علني، إلى جموع من المواطنين، بخطاب ينقد خيارات نظام الحكم عموماً أو الحزب الحاكم أو أحد أجهزة السلطة التنفيذية، وخصوصاً وزارة التعليم العالي: هناك الإضراب العام 10 آذار/ مارس 2005 كأحد المحطات الهامة في التاريخ الحديث للجامعة التونسيّة، إذ أضرب يومها أكثر من 200 ألف طالب/ة تنديداً بالقمع الوحشي الذي تعرّضت له الاحتجاجات الطلّابيّة التي سبقته ودامت أكثر من عشرة أيّام في عدد من المدن، ضد دعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون الى قمة المعلومات التي نظمتها تونس لاحقاً في تشرين الثاني / نوفمبر من السنة نفسها. وقد كان اليسار الطلابي في قيادة هذه التحركات السياسيّة، تحت يافطة "الاتحاد العام لطلبة تونس". ولكن السمة الغالبة على التحركات الاحتجاجيّة خلال هذه الفترة هي المحدوديّة العددية والجغرافيّة.
كان لتمكّن اليسار الطلّابي من ضمان حدّ أدنى من الوجود طيلة هذه الفترة، أهميّة بدءاً من اندلاع أولى الوضعيات الثوريّة في كانون الاول/ ديسمبر 2010. إذ مثّل "الاتحاد العام لطلبة تونس" فضاء تدرّب فيه الآلاف من الشباب على أشكال مختلفة من التحركات الاحتجاجيّة، مكّنتهم من تملّك معارف سياسيّة ومهارات ميدانية في التحريض ومواجهة قوات البوليس وحماية التحركات الاحتجاجيّة لأقصى وقت ممكن، وخصوصاً ربط التحركات الميدانيّة ببعضها ومراكمتها. أما أهمّ ما ساهمت به هذه التجارب النضاليّة فهو نسجها لشبكات معقّدة من النواتات (2) العفويّة غير المهيكلة والتي تجمع مناضلين اشتركوا فيما بينهم في تجارب ميدانيّة. وهي نواتات ترتبط فيما بينها بعلاقات ذاتية أحياناً، وبأشكال من التضامن الجهوي أو المهني أو السياسي في أحيان أخرى.
تحوّلت هذه النواتات، التي كانت بالكاد مرئية قبل 17 كانون الاول / ديسمبر 2010، حتّى من قِبَل العناصر التي تُشكّلها، إلى شبكة نشيطة لتبادل المعلومات وتنظيم التحركات والدعاية والتحريض انطلاقا من ذلك اليوم. شيء يشبه مفهوم "خلايا الاستنهاض" لفرتا تايلر (3) في حديثها عن سُبَات حلقات المناضلات النسويّات الأمريكيّات خلال فترات الركود والقمع في أمريكا خلال ثمانينات القرن الماضي. لا يعني هذا أن اليسار الطلابي قد تقمّص دور قيادة التحركات الاحتجاجيّة، فمن الجليّ أن الحراك الثوري الذي شهدته تونس بين 17 كانون الاول/ ديسمبر 2010 و14 كانون الثاني/ يناير 2011 قد تمّ دون قيادة ممركزة. بل إنّ الفكرة تحاول تفنيد مقولة "العفويّة" بخصوص الحراك الثوري الذي عرفته تونس. إذ أنّ غياب القيادة المركزيّة لا يعني غياب أشكال متعددة للوعي السياسي داخل المجموعات المحتجّة بتنوعها. وقد كانت "خلايا الاستنهاض" المنتمية لليسار الطلابي إحدى هذه المجموعات المتعدّدة التي ساهمت من موقعها في تأجيج الاحتجاج. وكانت عناصرها تتكون من مناضلين/ات من اتحاد الطلبة أتمُّوا أو لم يتموا بعد حياتهم الجامعيّة، وآخرين تركوا الجامعة والاتحاد منذ سنوات دون أن يقطعوا ارتباطهم بهما فعليّاً جرّاء البطالة ونشاطهم داخل مختلف الديناميات التي تأسست للدفاع عن العاطلين عن العمل من حاملي الشهادات الجامعية، وهي ديناميات بقيت لغاية 2011 تحوم حول الاتحاد العام لطلبة تونس. وقد بقي هؤلاء المناضلون مرتبطين عبر مجموعات صغيرة متقاربة من الناحية الشخصية. أمّا دور الربط بين هذه المجموعات فقد لعبه أفراد كانوا يتميزون بتعدد تموقعهم (نضالي، جهوي، قطاعي...).
عرف "الاتحاد العام لطلبة تونس" صراعات ثابتة على قيادته وهياكلها المُسيِّرة منذ عودته للقانونيّة في 1988. وزادت سنوات التصحّر السياسي والقمع المفتوح بعد ذلك الأمر تأزماً لدرجة أن القيادة انقسمت الى جزئين بعد المؤتمر 21 الذي انعقد في 1995، يدّعي كلّ منهما الشرعيّة. وهو انقسام تكرر في كل المؤتمرات اللاحقة، حتى 2014، مع ظهور الازدواجية الهيكليّة لأول مرّة.
كما أن من أبرز الأدوار التي اضطلعت بها تلك الشبكة اليساريّة هي نجاحها في أن تكون إحدى حلقات الوصل بين شباب الأحياء الشعبيّة للمدن، وبين فضاءات التسييس الكلاسيكيّة كالساحات المقابلة لمقرّات "الاتحاد العام التونسي للشغل" وتلك المستحدثة كشبكات التواصل الاجتماعيّة. وقد نجحت في لعب هذا الدور أيضا بفضل مبادرتها بمعيّة مناضلي اليسار النقابي في الاتحاد في تنظيم أُولى التحركات الاحتجاجيّة في جلّ مدن البلاد، رغم محدوديتها التعبويّة طيلة الأسابيع الثلاثة الأولى، موفّرة أرضية ملائمة لانتشار التحركات في الأحياء الشعبيّة.
حضور على الرغم من استمرار أزمات اليسار الداخليّة عرفت تونس بعد فرار بن علي وتفكك جزء هام من قيادة الجهاز التنفيذي للنظام والحزب الحاكم فراغاً سياسياً كبيراً ملأته المئات من التنظيمات السياسيّة والمدنيّة الجديدة. لم تكن تلك العمليّة هيّنة في استتباعاتها على الإطار السياسي العام في البلاد، حيث ترنّح عدد كبير من مؤسسات الهيمنة الاجتماعيّة. وقد كانت تلك الفترة مفتوحة على عديد الاحتمالات وكان لكل الفاعلين أوراق يمكن لعبها لتغيير المشهد العام والواقع السياسي والاجتماعي.. وهو ما جعل عدداً من الفاعلين يغيّر حساباته ومجموعات سياسيّة تأخذ قرارات كانت لتكون غير منتظرة خارج هذا السياق، ودفعت للميدان السياسي فاعلين هامشيّين سابقاً وفّرت لهم وضعيّة "الضبابيّة الهيكليّة" مدخلاً ليتحولوا إلى لاعبين ذوي تأثير على المشهد العام.
كانت السلطة السياسية حينها تعرف تواصلاً لجزء من الجهاز التنفيذي السابق، كامتداد لـ "شرعيّة" مزعومة، قام بتوكيل نفسه للقيام بمهمة "الحفاظ على ديمومة ووحدة الدولة"، يكرّسه استمرار محمّد الغنوشي وزير بن علي الأول في منصبه رئيساً للحكومة وتولي فؤاد المبزع رئيس مجلس نواب بن علي منذ 1997 منصب رئاسة الجمهورية مؤقتاً منذ الليلة التي اعقبت فرار بن علي. حصل هذا على الرغم من محدوديّة سلطة هذا الجهاز ميدانيّاً خلال الأسابيع الأولى. وقد كانت وحدته نفسها موضع تساؤل، وشرعيّته محلّ تشكيك من قوى متعدّدة. لكن ما مكّن هذه الشرعيّة - على وهنها - من الاستمرار هو التشتت والارتباك الذي اتّسمت بهما القوى التي ساهمت في إسقاط بن علي ومحدوديّة ما راكمته من تجربة ميدانية ومن نضج سياسي ومن روابط تنظيمية تحصّنها من رد الفعل العنيف لمختلف القوى المتضررة من تجذّر الحراك الثوري.
فعلى الرغم من أن أطرافاً متعددة قد شاركت في إسقاط بن علي، إلا أن سرعة العمليّة جعلت ما تمّت مراكمته ميدانيّاً وسياسيّاً غير كافٍ بعد للتأسيس لمرحلة "ما بعد بن علي". فالمشترك الذي تم تأسيسه بين هذه القوى، أي مركز "الشرعيّة الثوريّة"، لم يكن بالوضوح والقوّة التي تجعله يتحوّل لديناميّة تجمّع حولها مختلف هذه المجموعات. ولئن برزت محاولات هامة في الانتظام الجماهيري بعدد كبير من أحياء ومدن البلاد منذ ليلة 14 كانون الثاني / 2011، إلا أن التجمّعات التي أنشأت لم تتجاوز دور مجموعات التأمين الأهلي للأحياء، وقلّما نجحت في التحول إلى فضاءات تسييس جماهيرية ذات إشعاع محلي، تطرح القضايا السياسيّة، المحلّية منها والوطنيّة (عدا بعض الاستثناءات التي تحصى على أصابع اليد كتجربة "لجنة حماية الثورة" في جمنة، مما جعلها تبقى هامشيّة على العموم.
مقالات ذات صلة ماذا تبقى من اليسار في الجزائر؟ اليسار التونسي ما "بعد الثورة": امتحان الحركات الاجتماعية بعد ذلك قامت أكثر المجموعات نضجاً سياسيّاً وتنظيماً، وهي المجموعات الشبابيّة والأهليّة التي تشكلت في المدن التي عرفت أكبر المواجهات مع قوات البوليس لأسابيع، حيث سقط العدد الأكبر من الشهداء (منزل بوزيان، سيدي بوزيد، القصرين، تالة...)، بالتصعيد لاسترداد المبادرة السياسيّة وحشد الحراك الشعبي الذي خفت نسبيّاً لما يقارب الأسبوع. تمثّل هذا التصعيد في تنظيم اعتصام القصبة الأول انطلاقا من يوم 23 كانون الثاني /يناير، والذي دعا إلى تفكيك الجزء الباقي من قيادة الجهاز التنفيذي الباقي تحت سيطرة رجال النظام السابق. جمع الاعتصام أكثر من ألفي معتصم ودام لأربعة أيام وانتهى بقمع كبير للمعتصمين وتفريقهم بالقوة من قبل قوّات البوليس. وعلى الرغم من الإخفاق النسبي للاعتصام، إلا أنّ قمعه بذلك الشكل وتشبّث المشاركين فيه بمطالبهم، ساهم في استنهاض مجموعات أخرى لم تشارك فيه وساهم في إعادة مركزة الحراك الاحتجاجي في مواجهة عدو مشترك، بالإضافة إلى أنه دفع عدداً من القوى المدنيّة والسياسيّة التي كانت تعيش ارتباكاً حينها بين خيارين: الدخول مباشرة في انتخابات تشريعية ورئاسيّة من تنظيم الجهاز التنفيذي القائم، أو إسقاط قيادة هذا الجهاز وتأسيس إطار سياسي جديد، إلى حسم موقفها نحو المراهنة على الخيار الثاني.
بالطبع لم تكن العديد من التنظيمات السياسيّة معزولاً عن اعتصام القصبة الأول، بل أن بعضها - خصوصاً المجموعات اليساريّة الصغرى المحلّية والأكثر كفاحيّة - انغمس بشكل كليّ في تنظيمه رفقة أغلبيّة العناصر التي لم تكن منتمية لأي تنظيم. إلا أن الانتماء الى تلك المجموعات كان فرديّاً ويمرّ عبر الشبكات النضاليّة المحليّة السابقة والتي تعززت بشكل كبير بعناصر جديدة منذ انطلاق الحراك الثوري. أي أن المحدّد في الانتماء لهذه المجموعات، على الأقل خلال الفترة الرابطة بين لحظة 17 كانون الاول/ ديسمبر 2010 وأواسط شهر شباط/ فبراير 2011، كان التوازنات المحليّة والعلاقات الشخصيّة بين المشاركين وثقتهم ببعضهم، المبنيّة على التضامن الميداني، وبدرجة أقل على تقاسم مجموعة من الشعارات والتصورات السياسيّة الأكثر عموميّة والتي قد ينقصها الانسجام في عديد الأحيان.
وقد دعمت القيادات المحلّية لاتحاد الشغل الاعتصام، خصوصاً تلك الواقعة في الجهات التي بلغ فيها الحراك الثوري درجات عالية من الحشد والقوة، ووفرت الحافلات لنقل المعتصمين وغيرها من الاحتياجات اللوجستية، بالإضافة إلى مساهمتها في دفع القيادة البيروقراطية للاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر قوّة حشد في البلاد على مرّ السنين) للعب دور في كسر الحصار الرسمي والإعلامي على الاعتصام، عبر توفير غطاء سياسي له. وهو ما قامت به البيروقراطية النقابيّة حماية لنفسها من الدخول في مواجهة مع أكثر قواعدها حركيّة وتأثيراً، مع المحافظة نسبيّا على دورهاً في العمليّة لكبح جماح النزعات الأكثر راديكاليّة في الحراك الثوري كلّما وُجدت حاجة لذلك.
شارك في إضراب 10 آذار/ مارس 2005 أكثر من 200 ألف طالب/ة، تنديداً بالقمع الوحشي الذي تعرّضت له الاحتجاجات الطلّابيّة التي سبقته، ودامت أكثر من عشرة أيّام في عدد من المدن، وكانت ضد دعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون الى قمة المعلوماتية التي نظمتها تونس لاحقاً في تشرين الثاني / نوفمبر من السنة نفسها.
وجدت تنظيمات اليسار الطلابي نفسها خلال هذه الفترة تعيش وضعا ساهمت، ولو بشكل محدود، في إنتاجه. ومن الهام قبل الخوض في خيارات اليسار الطلابي التأكيد على تنوّعه حد التناقض. فكما أن المجموعات التي تشكّل هذا اليسار كانت قبل لحظة 2011 متناحرة حول المواقع القياديّة في المنظمة الطلابيّة، فإنها كانت متصارعة حول عدد كبير من الرهانات السياسية والاجتماعيّة الكبرى، كقضايا آفاق الثورة الاشتراكية، والموقف من النظام الاقتصادي القائم وسبل تغييره، وقضايا الحرّيات الفردية ومسألة استقلاليّة المنظمات المدنيّة... بل أن هذه الخلافات تضاعفت حينذاك مرّات. والتعميمات هنا تهدف فحسب لاستخلاص الديناميات السياسيّة الكبرى التي كانت تشق هذا اليسار الطلابي.
في هذا السياق، كانت هناك ديناميتان أساسيتان. الأولى، وهي الغالبة، مثّلتها تنظيمات كانت في طليعة القوى الدافعة نحو القطيعة مع نظام الحكم السابق ("حزب العمّال الشيوعي التونسي"، "الوطنيّون الديمقراطيّون"...)، وقد جمعتها المحطة الثانية من الحراك الثوري التي عُرفت باسم اعتصامي القصبة 1 و2 بساحة الحكومة بالعاصمة. شاركت العناصر المنتمية لهذه التنظيمات، إلى جانب العناصر اليساريّة غير المنتظمة في مجموعات، في إعداد الاعتصامين ولعبت أدواراً مهمة فيهما، واضطلعت بمهام متنوعة استغلت فيها تجربتها النضالية السابقة ومهاراتها الميدانيّة المكتسبة من الإعداد اللوجستي والتحريض والخطابة، إلى تقنيات مواجهة قوات البوليس في الفضاء العام.. وعلاوة على انخراط جزء هام من عناصر الاتحاد العام لطلبة تونس في اعتصام القصبة فقد دعمه سياسياً كتنظيم نقابي طلابي، وعلى الرغم من كل التشتت الذي كان يعانيه.
أمّا الجزء المتبقي، الأقلّي، من اليسار الطلابي (في "الحزب الاشتراكي اليساري"، "حركة التجديد"، "الحزب الديمقراطي التقدمي"...) فكان يراوح بين خياري السير في الانتخابات مباشرة وإيقاف الحراك الثوري. وقد جعله هذا الارتباك السياسي أكثر هشاشة ميدانيّاً، مما قلّص من تأثيره في مجرى الأحداث. وقد بقيت هذه القوى منذ 2011 وإلى غاية اليوم في مواقع هامشيّة داخل الساحة السياسيّة.
تواصل منذ بداية شباط/ فبراير 2011 الحشد داخل مختلف الديناميات المناهضة لحكومة محمد الغنوشي، بأنساق وأهداف مختلفة. عملت التنسيقيّات الشعبيّة التي انتعشت بعد اعتصام القصبة الأول على الدفع قُدُماً للاعتصام من جديد بغية إسقاط الحكومة بوصفها تجسيداً لتواصل ما اصطلح على تسميته بـ"النظام السابق". وقد كانت هذه التنسيقيّات، المتنوّعة في طرق تنظيمها وأساليب عملها، تزداد انتظاماً ومطالبها تزداد تجذّرا بشكل يومي كلما اشتد انخراطها الميداني استعداداً لتنظيم اعتصام سيفوق في جماهيريّته وتأثيره الاعتصام الأول.
خلال هذه الفترة، كانت التنظيمات السياسية والمدنية والنقابيّة تعمل على إعادة هيكلة نفسها، انطلاقاً من وضعية الموت السريري التي كان بعضها بلغها أحياناً في أواخر سنوات حكم بن علي. وهو الوضع الذي كانت عليه الأحزاب اليساريّة والقوميّة، وهو أيضاً الوضع الذي كانت تعيشه حركة النهضة ربما بشكل أكثر حدّة، ويدلُّ عليه غيابها السياسي والميداني عن مجرى الأحداث إلى غاية هذه الفترة التي مثّلت فرصة ملائمة لهذه التنظيمات لتجميع شتاتها وإعادة بناء هياكلها (ولو بطريقة متسرّعة وغير ديمقراطيّة في غالب الأحيان)، للتصدي للرهانات التي كانت تواجه البلاد وللاستفادة قدر الإمكان من الفراغ السياسي الكبير الذي تركه "التجمع الدستوري الديمقراطي" بتفككه الذاتي (4). وقد مثّلت هذه الفترة فرصة لهذه الأحزاب والتنظيمات المدنيّة (5) للعودة إلى صدارة الأحداث سياسيّاً. وقد مثّل تأسيس "المجلس الوطني لحماية الثورة" إعلاناً رسميّاً (6) عن عودة التنظيمات القانونيّة المؤسساتيّة لموقع الصدارة، والتحول من دور الداعم لاعتصام القصبة الأول إلى عناصر مقررة ومهيمنة في اعتصام القصبة الثاني.
على الرغم من كل الاختلافات التي شقّت هذه التنظيمات، فإن المهمّة الأساسيّة التي أنجزتها، عبر وحدتها وقيادتها السياسيّة لاعتصام القصبة الثاني، تمثّلت في الرفع من سقف المطلب السياسي، إذ تحول من استقالة الحكومة إلى تعليق العمل بالدستور وانتخاب مجلس وطني تأسيسي جديد. ولكنه قام بتعيين المطالب الجماهيريّة في هذا الحد، وإلغاء أي إمكانيّة لتجاوز الحراك للسقف المؤسساتي الشرعوي. ويمكن الجزم في هذا المستوى بأن ما حصل كان أكثر تقدماً مما رفعه المعتصمون في الاعتصام الأول، لكنه كان أقل راديكاليّة من الوجهة التي كانت تسير نحوها عمليّة تجذّر الاحتجاج في خضم النضال والصراع الميداني الذي خاضته لجان الاعتصام الثاني في القصبة انطلاقا من يوم 20 شباط/ فبراير وإلى غاية حلّ الاعتصام يوم 3 آذار/ مارس 2011.
سعى "المجلس الوطني لحماية الثورة" لفرض نفسه شريكاً في السلطة وممثلاً سياسياً للقوى الثورية المتحرّكة خلال تلك الفترة في مختلف أنحاء البلاد. وفي هذا المسار إقرار أولاً بالشراكة مع القيادة السياسية الانتقالية، كمصدر لشرعيّة أصليّة لم تكن تمتلكها. كما أنه مثّل ثانياً إعادة إنتاج للعلاقة الهرميّة بين النخب السياسيّة و"الجماهير"، تلعب فيه الأولى دور القيادة والتخطيط والتفاوض في حين يكون للأخيرة "شرف" لعب دور وقود المعركة. وهو تقسيم كان أصلاً موضع مسائلة في ذلك الحين من طرف المجموعات الشعبيّة التي تشكلت في كل المدن والتي دفعت لانجاز "القصبة الأولى والثانية". إذ كانت هذه المجموعات خلال تلك الفترة بصدد صياغة ميكانيزمات جديدة كانت تنمو في موازاة المنظومة الحزبيّة القائمة (دون الدخول في مواجهة معها)، وقد ظهرت بينها أصوات تسائِل الشكل التنظيمي الحزبي الهرمي وتدافع عن القيادة الميدانيّة الديمقراطيّة. وقد مثّل فرض مجلس حماية الثورة لانتخاب مجلس وطني تأسيسي جديد كمخرج أساسي لاعتصام القصبة الثاني إخراجاً لكل هذه الشبكات المواطنيّة من دائرة الفعل المباشر إلى موقع المساند لأحد الأحزاب أو الرافض للانتخابات برمّتها، وهو دور ثانوي في كل الأحوال، يختلف عن انماط الحكم غير المركزيّة والديمقراطيّة الشعبيّة التي كانت تختمر في صلب المجموعات الأكثر راديكاليّة من بين المعتصمين.
أهمّ ما ساهمت به هذه التجارب النضاليّة الطلابية نسجها لشبكات معقّدة من النواتات العفويّة التي تجمع مناضلين اشتركوا معاً بتجارب ميدانيّة، كانت بالكاد مرئية قبل حدث 2010، وهي نواتات ترتبط فيما بينها بعلاقات شخصية، أو بأشكال من التضامن الجهوي أو المهني أو السياسي. وقد تحولت إلى شبكة نشيطة لتبادل المعلومات وتنظيم التحركات والدعاية والتحريض.
ولم تنجح القيادات الميدانيّة لاعتصام القصبة الثاني في مقاومة هذه الهيمنة على الرغم من التنظيم الجيّد للمحتجّين الذين انتظموا في شكل تمثيليّات للجهات المشاركة في الاعتصام ولِما اصطُلِح على تسميته بـ "شباب الثورة" وعائلات الشهداء وجرحى الثورة التونسيّة. وقد عرف الاعتصام ابتلاعاً سياسياً من قبل التوجه المؤسساتي الذي مثّله "المجلس الوطني لحماية الثورة".
تموقعت جلّ قوى اليسار الطلابي خلال هذه المعركة في موقع الداعم التام لاعتصام القصبة الثاني وساهمت عناصرها بفاعلية في تحقيقه، إلا أنهم كانوا في الوقت نفسه الذراع الميدانيّة للدفاع عن خيار مأسسة السقف السياسي للاعتصام، خلف قيادات الأحزاب السياسيّة التي كان لها دور الريادة في هذا المجال. وقد لعب شباب التنظيمات اليساريّة خلال اعتصام القصبة دوراً ميدانياً هاماً في الدفاع عن الاعتصام وضمان استمراره، لكنّهم كانوا سياسيّاً أقرب الى الانضباط في أجندات أحزابهم منهم إلى العمل الميداني الأفقي كما حصل في اعتصام القصبة الأول.
عودة الصراع بين الاتحادَين وواقعة اعتصام "باردو" عرفت هذه الفترة ابتعاداً نسبيّاً من الطلاب اليساريّين عن الالتزام الجامعي نظراً لكثافة النشاط السياسي خارج أسوار الكلّيات. وزادت سهولة تأسيس الجمعيات والأحزاب والنشاط الميداني في إبعاد المناضلين/ات عن العمل النقابي والسياسي داخل الاتحاد العام لطلبة تونس. لم تُولِ التنظيمات السياسيّة التي كانت تتصارع حول قيادة المنظمة الطلابية سابقاً، إعادة هيكلتها وانجاز مؤتمرها الوطني أهمّية تذكر. فبقي الاتحاد لسنتين تقريباً بعد نهاية الحراك الثوري دون قيادة فعليّة، بعدما ترك كل عناصر مكتبه التنفيذي وهياكله الوسطى الجامعية منذ سنوات طويلة.
كما أن التنظيمات اليساريّة والقوميّة التي استفادت من الحراك الثوري وتضخّمت صفوفها بالمناضلين كانت خارج القيادة، في حين أن التنظيمات التي كانت تهيمن على أغلبية المواقع القياديّة في المنظمة سابقاً هي التي خسرت جزءاً كبيراً من إشعاعها الطلابي، وهو وضع زاد من تعقيد إمكانية إنجاز المؤتمر الوطني للاتحاد وفي إطالة وضعيّة العطالة التنظيميّة داخله.
لكن معطيَين استجدّا خلال هذه الفترة ساهما في إعادة الاعتبار تدريجيّا لدور الاتحاد لدى الشباب الطلابي اليساري. الأول هو عودة الاتحاد العام التونسي للطلبة، المنظمة التاريخية للطلبة الإسلاميين، للنشاط في الجامعة مع انطلاق السنة الجامعيّة 2011-2012، بعد حصوله على تأشيرة العمل القانوني في حزيران/يونيو 2011. وقد كان الخوف الذي يعتري اليساريين جميعاً أن يفقدوا الجامعة التي يعتبرونها فضاءهم الحيوي بعد أن فقدوا في انتخابات تشرين الاول / اكتوبر 2011 آمالهم في لعب دور سياسيّ وطني هام. ففوز حركة النهضة الساحق بانتخابات المجلس الوطني التأسيسي مهّد لها السيطرة على جزء هام من مفاصل السلطة التنفيذيّة والقضائيّة بالإضافة إلى سيطرتها المُحكمة على السلطة التشريعيّة. مثّلت عودة "حركة النهضة" الى الجامعة ثأراً معنوياً ورمزيّاً لهذا الشباب اليساري الذي عانى هامشيّة سياسيّة مزدوجة منذ نهاية اعتصام القصبة الثاني، وصار يحتل موقعاً غير مؤثر على الساحة السياسيّة وطنيّاً، بالإضافة إلى أنه وجد نفسه في المواقع الخلفيّة في تنظيماته الأمّ بعدما عادت آليّات العمل الحزبيّة الهرميّة للاشتغال.. وهكذا - على الأقل كما خيّل لها - وجدت التنظيمات الشبابيّة اليساريّة نفسها كمن يدافع عن "آخر المواقع" التي لم تسيطر عليها النهضة بعد. ولعل الاحتفال بالفوز التاريخي للقوائم المدعومة من الاتحاد العام لطلبة تونس في انتخابات مجالس الكلّيات في آذار/ مارس 2013 يشهد على هذا. إذ مثّل الحدث فرصة لكل القوى المناوئة للنهضة للاحتفال، بما فيها تلك التي لطالما امتلكت أشدّ العداء لاتحاد الطلبة.
كما ساهم تقلّص فضاء النشاط السياسي المفتوح خارج أسوار الجامعة في عودة الاتحاد العام لطلبة تونس إلى صدارة إهتمامات القوى اليساريّة. وقد شهدت السنة الدراسيّة 2012-2013 نقاشات ومفاوضات وصراعات لا تنتهي بين مكونات اليسار الطلابي بمختلف تلويناتها الأيديولوجية والسياسيّة لإعداد المؤتمر الوطني للمنظمة حتى تُجدّد هياكلها وتعود لتضطلع بأدوارها، التي تختلف تلك القوى في تحديدها لكنها تشترك في أنّ انجاز المؤتمر حيوي للاضطلاع بها. لم تنجح المكونات الطلابيّة اليساريّة والقومية مرة أخرى في انجاز مؤتمر موحّد، بل انقسمت إلى مؤتمريْن من جديد، انعقدا في أيار/ مايو 2013.
وقد ساهمت الصراعات الكبرى التي شقت اليسار الطلابي خلال هذه السنة في تهميش موقع النضال النقابي داخل سلّم أولويّات التنظيمات السياسيّة الشبابيّة. في المقابل لعب الاتحاد العام التونسي للطلبة دورا نقابياً أكثر وضوحاً، على الرغم من قربه المعلوم من حركة النهضة الحاكمة.
على الرغم من كل الاختلافات التي شقّت التنظيمات اليسارية، فإن المهمّة الأساسيّة التي أنجزتها، عبر قيادتها السياسيّة لاعتصام القصبة الثاني، تمثّلت في الرفع من سقف المطلب السياسي، إذ تحول من استقالة الحكومة إلى تعليق العمل بالدستور وانتخاب مجلس وطني تأسيسي جديد... وهو السقف الذي حدَّ من جهة ثانية من المطالب الجماهيريّة، وألغى أي إمكانيّة لتجاوز الحراك للأفق المؤسساتي الشرعوي.
أرغمت حركة النهضة على عقد تحالفات مع بقايا النظام القديم، أو ما اصطلح على تسميته بـ"الإدارة العميقة"، التي حافظت في مجمل آليات عملها وتنظيمها الداخلي على إرث النظام التسلطي طيلة 55 سنة وكانت قادرة، على الرغم من تغيّر القياديين والتقسيمات الإداريّة، على إعادة إنتاج نفسها بشكل مذهل. وكان لهذه التحالفات انعكاسين أساسيّين على المستوى السياسي. الأول أنه أعاد الشرعية لأيديولوجيّة "هيبة الدولة" كمرجعيّة مشتركة لا يختلف عليها الخصمان السياسيّان الأساسيّان، بل يرسّخانها، مع سعي كل منهما لتوجيهها صوب حسابه الخاص. الثاني أنها خلّصت شتات "الإدارة العميقة" من تخبطها السياسي بأن أعطتها قياديين ميدانيين يفاوضون باسمها. وفي الفترة نفسها، في شهر نيسان/ إبريل 2012، تم تأسيس حزب "نداء تونس" كتعبير سياسي يوحّد قوى النظام القديم، حتى وإن لم يكن انعكاساً صافياً لطموحات تلك القوى.. ومثّلت شخصيّة الباجي قائد السبسي، وزير بورقيبة السابق، ورئيس الحكومة الانتقالية التي أعدّت انتخابات المجلس الوطني التأسيسي (التي تم الاتفاق عليها عقب فضّ اعتصام القصبة الثاني)، نقطة ارتكاز هذا الحزب الهلامي الذي جمع حوله تحالفا من مجموعات مثّلت بقايا "حزب التجمع الدستوري الديمقراطي"، ومجموعات يساريّة سابقة، ورجال أعمال وحقوقيّين وكوادر عليا في الإدارة.
تزامن هذا مع ما عاشته البلاد من وضع سياسي استثنائي أعقب اغتيال زعيمين سياسييّن (شكري بلعيد ومحمد البراهمي) من الجبهة الشعبية، وهي القوة اليساريّة الأساسيّة في البلاد. إذ تميّز بحالة احتقان سياسي قصوى يمكن تلخيصها في استقطاب ثنائيّ غير مسبوق، زادت من حدّته التطورات التي شهدها الوضع في مصر. مثّلت حركة النهضة وحلفائها في الحكم وخارجه قطبه الأول، فيما مثّلت "جبهة الانقاذ" القطب الثاني. وعلى الرغم من التنوع الذي قد يبدو على هذه الجبهة عند تلاوة القائمة الطويلة للأحزاب والمنظمات المؤسِسة لها، فإنّه لا يمكن أن يحجب الهيمنة التي كانت لـ"نداء تونس" وممثلي النظام القديم عليها بعد أن نجحوا تدريجيّا في إعادة تشكيل أنفسهم كقوة سياسيّة أساسيّة في البلاد.
وحدد القطبان المتصارعان محاور الصراع حول مسألة الهُويّة التي يجيدان التعامل معها، لتنخرط أغلب قوى اليسار في المعركة على أساس هذا المحور. في المقابل لم يفلح اليسار في التحول بدوره إلى قطب مستقل عن القطبين سابقي الذكر، على الرغم من الأزمة الاجتماعيّة التي كانت تحتد في البلاد واستمرار راهنيّة المطالب الاجتماعيّة التي حركت الشرائح الأوسع من المنتفضين في شتاء 2010، بالإضافة إلى أنّ "شرعيّة الدم" كانت من ناحيته ويجسّدها شهيداه بلعيد والبراهمي.
دارت المعركة الميدانية انطلاقا من يوم 25 تموز/ يوليو2013، يوم اغتيال محمد البراهمي. وكان محيط المجلس التأسيسي في ضاحية "باردو" بالعاصمة هو حلبتها. ولعبت مختلف القوى اليساريّة، وخاصة فصائلها الشبابيّة (الطلّابيّة بالأساس)، دورا حيويّاً في أوّل يوميْن للاعتصام. إذ شهدت ساحة باردو يومي 26 و27 تموز/ يوليو محاولات متكررة لتركيز الاعتصام من قبل شباب التنظيمات اليساريّة ومجموعات من الشباب المستقل، قوبلت باعتداءات عنيفة من قبل قوات البوليس، لكنّها نجحت في النهاية في فرض الاعتصام انطلاقا من اليوم الثالث بعدما التحق به نواب المعارضة الذين جمّدوا عضويتهم أو هددوا بالاستقالة من المجلس (كان أغلبهم من النواب اليساريين). وشارك جزء هام من ماكينة الاتحاد العام لطلبة تونس خلال هذه الأيام الأولى، بالإضافة إلى أغلب التنظيمات اليساريّة الطلابيّة. ولم يكن اعتصام "باردو"، الذي سيكون له دوراً كبيراً في إعادة ترتيب الأوراق السياسيّة في تونس، ممكناً لولا تلك المشاركة. وقد حاول الشباب اليساريّ الحاضر (بما فيه عناصر الفصائل الشبابيّة للأحزاب اليساريّة) الدفع نحو أفق سياسي أكثر جذريّة عبر السعي لتأسيس نواتات ثوريّة للاعتصام في الجهات تسعى لجمع المواطنين حولها والسيطرة على السلطة المحليّة.
لكنّ هذه المشاركة كسابقاتها، لم تمتلك شروط النجاح والوصول الى الانجاز. حيث أن تذيّل اليسار عموماً لـ"نداء تونس" جعله في موقع الهامشية السياسية والإعلامية، وجرّد المبادرات الشبابيّة من أي مصداقيّة ثورية فبدت كمجرّد مناورات ميدانيّة لتحسين شروط التفاوض الذي كان "نداء تونس" يمتلك خيوطه. وكان دخول المال السياسي المقرّب من النداء على الخط، لحشد أنصاره في الاعتصام، إعلان النهاية لوجود اليسار الطلابي فيه، حيث أن أغلب عناصره انسحبت تدريجيّاً من "باردو" وهي تجرّ خلفها أذيال الخيبة من جديد.
وعلى الرغم من أن اعتصام "باردو" نجح في تحقيق أهدافه الرسميّة التي أعلنت عنها جبهة الانقاذ، بفرض إنهاء المرحلة التأسيسيّة على حركة النهضة، والتصويت على دستور يضمن الحد الأدنى من الحقوق والحريّات العامة والشخصيّة، وتحديد موعد للانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة القادمة وتعيين حكومة تكنوقراط، فإن اليسار خرج الخاسر الأكبر منه بعد أن سلّم عصارة نضالاته وتضحياته لسنين إلى "نداء تونس"، مع أن هذا الأخير كان في موقع سياسي ثانوي مقارنة باليسار سنة 2012. وتحوّل اليسار داخل المشهد السياسي إلى مكمّل لليمين الليبرالي في مواجهة اليمين المحافظ، لا كقطب سياسي مستقل بذاته.
كانت انعكاسات اعتصام "باردو" عميقة داخل اليسار الطلابي أيضاً، إذ أنّ الخيبة زادت في تأجيج الصراعات وإحباط العزائم. تعمّقت الصراعات التنظيميّة حول الهياكل الشرعية للاتحاد العام لطلبة تونس، وقد عرفت عدة كلّيات صراعات دموية أحياناً بين مناضلين من مختلف الفصائل اليساريّة لحسم وضعيّة الازدواجيّة (أو حتى التعددية) التنظيميّة داخل هياكل المنظمة. وقد أبقى هذا الوضع الاتحاد واليسار الطلابي عموماً في وضع عبثي تستنزف فيه الطاقات في الأعمال التخريبيّة بدل المراكمة النضاليّة والصراع الديمقراطي. زاد هذا الواقع في عزلة اليسار الطلابي وانحسار تأثيره حيث أنه لم يكن حاضراً لخوض المعارك الكبرى، بينما كانت الجماهير الطلابيّة تحتاجه لخوضها. فلا هو ملأَ هذا الفراغ ولا اندثر حتّى يترك المجال للحركة الطلابيّة كيْ تنتج تعبيرات أخرى أقرب إلى واقعها اليومي واحتياجاتها.
فوّت اليسار الطلابي أهم المعارك الوطنيّة والقطاعيّة والمحلّية بسبب تلك الصراعات العدميّة لكن أيضا بسبب رسوخ مجموعة من الآليّات والمبادئ التنظيمية المشتركة التي تعيق إمكانيّات تجذير النضال الديمقراطي داخل الاتحاد العام لطلبة تونس.
تواصل الهامشية السياسيّة بعد 2014 لعلّ أهمّ المسائل التي تعترض من يبغي فهم كيفيّة اشتغال الاتحاد العام لطلبة تونس هي قضيّة العلاقة بين النقابة الطلّابيّة والأطراف السياسيّة (اليساريّة والقوميّة ضمنيّاً). وتناول هذه القضيّة يُحيلنا إلى الحاجة لتعريف دور الاتحاد في الجامعة وخارجها، وهي المهمة التي شغلت أجيال من المناضلين وكانت موضوع مئات من الإصدارات النظرية - السياسيّة التي صاغت فيها مختلف التنظيمات السياسيّة التي تواجدت في النقابة الطلّابية تصورها لدورها.
وتلخيصاً:
فلعلّ أهم استنتاج قد نخرج به عند جرد قراءات مختلف الأطراف السياسيّة وسلوكها الفعلي طيلة عقود لدور الاتحاد، هو قناعتها بأن الاتحاد هو أولاً حاضنة للتنظيمات السياسيّة، لا للطلبة كأفراد. أي أنّه منظمة تنتمي لها تنظيمات سرّية وعلنيّة تنشط داخلها وتستقطب الطلبة للعمل النقابي وبعدها يسعى كل منها لاستقطابهم إلى صفوفه الخاصة.
ومن متلازمات ذلك أن الإرث الطلابي صاغ معنى فريدا للمناضلين في داخله وللطلبة الذين يمكن لهم أن ينخرطوا فيه. فالمنخرط ليس أيّ طالب يرغب بذلك، بل هو الطالب الذي تنتدبه إحدى التنظيمات السياسيّة الموجودة بالمؤسسة الجامعيّة. وبما أن التنظيمات السياسيّة كثيراً ما سعت إلى نفخ أحجامها في إطار صراعاتها، عبر إدخال أفراد ليس لهم بالضرورة علاقة تنظيمية أو حتى انتماء سياسي لها، فإن ذلك جعلها مجبرة، حتى تضمن ديمومة سيطرتها، على خلق مستوى ثانٍ من التمييز بين المنخرطين، عبر خلق ما يسمّى بـ"المناضلين"، وهم عادة المنتمون للتنظيم السياسي. ويتطلب الأمر من شخص حصل على انخراط دون أن تكون له رغبة في الانتماء لإحدى هذه التنظيمات، جهداً كبيراً لفرض نفسه كـ "مناضل" بالاتحاد، وقد بلغ الأمر بالبعض حد خلق تنسيقيّات لـ "المستقلّين" (غير المنتمين) للدفاع عن تواجدهم في الاتحاد دون أن يُجبروا على الانتماء لأحدها، لكن وبسبب محدوديّة تأثيرهم، فإن تاريخهم كثيراً ما كان يتلخص بالتبعيّة لأحد الأطراف الجامعيّة. وقد تتعقد الوضعيات أكثر ميدانيّاً (وهو الغالب) عند حضور خلافات أو صعوبات تنظيميّة تعطّل توزيع الانخراطات داخل الاتحاد، مما يجعل عملية الانتماء للاتحاد تتحول إلى عمليّة تزكية من طرف التنظيمات السياسيّة. وهو ما يزيد في تعقيد اكتساب غير المنتظمين لصفة المنتمين للاتحاد.
أما المتلازمة الثانية لهذا الإرث، فهيَ أنّ الديمقراطيّة داخل الاتحاد، في أكثر تجلّياتها مثاليّة، تعني ضمان مشاركة الأطراف السياسيّة في عمليّة اتخاذ القرار. أي أن إقصاء منخرطين غير مصنفين كمناضلين ليست في هذا السياق علامة على غياب الديمقراطيّة لدى مناضلي الاتحاد. بل أن الأمر قد يصل في مراحل تشتد فيها الصراعات، والقمع أيضاً، إلى حد الاكتفاء باتفاق قيادات التنظيمات على الخطوات العمليّة، لمباركة "ديمقراطية الاتفاقات"، في غياب لأيّ آليات قرار جماعي مفتوحة لعموم المناضلين، فما بالك ببقية المنخرطين. ومن المفارقات أن هذا القدر الضئيل من الاتفاق (بين القيادات) لم يكن أبداً مُحتَرَماً ميدانيّاً، خلال جلّ المحطات التاريخية التي عاشها الاتحاد إذ أنّ عدم ربط الاتفاقات السياسيّة بشرعية قاعديّة يجعل نقضها سهلاً والتلاعب بها من طرف التنظيمات الأكثر تنفذاً من الناحية السياسيّة واللوجستية أمراً يسيراً.
سيكون من التعسّف على تاريخ الاتحاد وتاريخ هذه التنظيمات السياسيّة إنكار الدور الذي لعبه القمع وغياب الحرّيات السياسية في صياغة هذه الآليات التنظيميّة. لكنّ إنكار استمرار هذه الأشكال حتّى في فترات الانفراج السياسي (بداية الثمانينات، أواخر الثمانينات، بعد 14 كانون الثاني/ يناير 2011..) يؤكد أن عوامل أخرى، غير مجرّد التعوّد، تساهم في إدامته.
اليساريّون (مع الحذر من التعميم) مدعوّون أولاً للتوقّف عن "إبعاد الناس" عنهم. كما أنهم مدعوّون ثانيّاً للوعي بتموقعهم الاجتماعي فرديّاً وجماعيّاً. قد يبدو ذلك مستغرباً لأوّل وهلة، إلا أنه في الواقع أحد المعايير التي قد تفسِّر المسافة الفاصلة بين هذا اليسار ومن يفترض بأنهم حاضنته الاجتماعيّة من الفئات الشعبيّة.
تشترك هذه التنظيمات أيضاً في قراءة وظيفيّة للاتحاد. فهو الإطار الذي يجب أن يوحّد "الحركة الطلابيّة كذراع من أذرع الحركة الشعبية في نضالها من أجل بديل ثوري عن نظام الحكم القائم". وعلى الرغم من أن القراءات تختلف في كيفيّة التوحيد وماهية هذا البديل، فإنها تشترك في أن الاتحاد العام لطلبة تونس هو حاضنتها. فالاتحاد بحسب هذه القراءات فضاء جماهيري يمكن أن تتواجد فيه "الجماهير الطلابية" التي قد تخشى، في ظلّ قمع النظام التسلطي الذي عاشته تونس سابقا، أن تنخرط مباشرة في عمل سياسي مُكلِف. يتم جلب الطلبة إل هذا الفضاء بناءً على رغبتهم في الدفاع عن مصالحهم المادية المباشرة، ليحدث بعد ذلك تسييسهم من قبل الأطراف السياسيّة داخل الاتحاد عبر عمليّة تأطير حثيثة. ساهمَت هذه القراءة في ترسيخ قناعة حول دونيّة المهام النقابيّة، على اعتبارها مجرّد "حجة" لجلب الطلبة إلى "المهمة الحقيقيّة"، وهي التغيير السياسي. وساهمَت أيضاً خلال حكم الأنظمة التسلّطيّة قبل 2011 في إثقال كاهل الاتحاد بصراعات تتجاوزه، لم تتمكن الأطراف السياسيّة من فضّها خارجه. وهو ما جعله يعيش تناقضاً دائماً بين خطابه الذي يروّج فيه لدوره النقابي أساساً وواقع فعله الذي كان سياسيّاً وحزبيّاً في غالب الأحيان.
ولم تتم بعد 2011 مراجعة هذه المقولات، أو على الأقل نقدها لمكافحتها بالتغيّرات الكبرى التي تعيشها البلاد عموماً والجامعة خصوصاً. فانغلاق الاتحاد على عموم الطلبة لم يعد تبريره ممكناً كالسابق بخطر الاختراق الأمني (الذي يحتاج أصلاً للمسائلة)، كما لم يعد الاتحاد محتكِراً للنشاط القانوني، إذ أن الجمعيّات والأحزاب تنشط بحرّية نسبيّة اليوم. وقد تسبب غياب المسائلة بوضع الاتحاد في مفارقة زمانيّة، هي نفسها التي تعيشها تنظيمات اليسار خارج الجامعة أيضاً. وقد شهد جلّ هذه التنظيمات خلال السنوات الأخير خسارة أعداد كبيرة من مناضليها وتقلّص إشعاعها بشكل أصبح يهدّد وجودها.
فإن عدنا للجامعة، نرى مثلاً أن قوّة التجربة النضاليّة وكلفة الانتماء مثّلت سابقاً حاجزاً أمام العناصر المفتقدة لتربة نضالية سابقة للاقتراب من الاتحاد العام لطلبة تونس وبقية التنظيمات السياسيّة اليساريّة والقوميّة. ويكمن سبب ذلك في إنتاج مجموعات المناضلين لأطر جماعيّة يتم من خلالها مواجهة الحياة اليوميّة عبر استعمال مصطلحات خاصة، ومزاح ذي رسائل مشفّرة وذوق لباسي وفنّي وقراءات واهتمامات بعينها. ويتحوّل هذا الإطار الشفاف غير الرسمي عموماً إلى مصدر تنفير للطالب الجديد أو على الأقل الى مصدر شعور بالغربة لديه وهو برفقة هذه المجموعة. وعلى الرغم من أن كلفة الانتماء قد قلّت بشكل واضح منذ 2011 إلا أن هذه العوائق أمام المنخرطين الجدد لم تتغير كثيراً بل أنها اليوم أصبحت أكثر إبهاماً وتجريداً، خصوصا بعد تغيّر الوضع الذي كان مصدر ظهورها. وعلى عكس الخطاب الرائج بين صفوف اليساريين (حول ضرورة تبسيط الخطاب اليساري لأن "الطالب العادي" غير قادر على فهمه)، فما يحصل فعليّاً هو سعي اليساريّين عموماً إلى تبنّي خطاب معقّد (حتّى بالنسبة لجلّ عناصرهم) كعنوان لسعي يائس للانتماء إلى ما يُسمّى "النخبة"، وكمصدر تميّز اجتماعي لهؤلاء المناضلين عن غيرهم من "عموم الطلبة". أي أن العمليّة تتعلق باستراتيجيّات منتشرة جداً للتموقع الاجتماعي.
فاليساريّون (مع الحذر من التعميم) مدعوّون أولاً للتوقّف عن "إبعاد الناس" عنهم. كما أنهم مدعوّون ثانيّاً للوعي بتموقعهم الاجتماعي فرديّاً وجماعيّاً. قد يبدو ذلك مستغرباً لأوّل وهلة، إلا أنه في الواقع أحد المعايير التي قد تفسِّر المسافة الفاصلة بين هذا اليسار ومن يفترض بأنهم حاضنته الاجتماعيّة من فئات شعبيّة. ويجمع اليسار التونسي عناصر تنحدر عموماً من عائلات تنتمي للفئات الدنيا للطبقات الوسطى المتعلّمة المدينيّة. ومن شأن مساءلة انعكاسات هذا التموقع الاجتماعي أن توضّح بعض أسباب الصراعات التي تشق صفوفه، بعيداً عن التحليلات الباثولوجيّة الشخصيّة المهيمنة تحت مسمّى "الصراعات الشخصيّة". كما أنها تكشف بعض أوجه السقف السياسي وحدود جزء من اليسار، بعيداً عن التخوين والاتهامات بالعمالة واليمينيّة الخ..
مقالات ذات صلة اليسار بالمغرب: سؤال الفعالية هل مات اليسار بينما ما زال لبه يُحرِّك الناس؟ كما أنه من الضروري الإقرار بأن اليسار يجهل الكثير عن محيطه. جزء من هذا الجهل مفهوم ومنطقي في بلد عاش 55 سنة من الحكم التسلطي الذي يعيق إمكانيّات مراكمة المجتمع للمعارف حول نفسه، ويعيق إمكانية إنتاج معرفة نقديّة متصلة بواقعها. هذا الجهل النسبي ليس طبعاً حكراً على اليسار، بل هو قاسم مشترك لكل القوى السياسيّة والمدنية، وهو واقع موضوعي. فنحن نجهل الكثير عن كيفيّة سير حياتنا الجماعية، في السابق كما اليوم، فما بالك بالمستقبل. لعل الأمر أقلّ خطورة عند قوى تسعى لاستمرار الأمور على ما هي عليه، وهو ما يعني عموماً جعل الميكانيزمات الاجتماعية تواصل اشتغالها كما في السابق. لكنّ ذلك يصبح معطِّلاً حقاً حين يتعلّق الأمر بقوّة تدّعي البحث عن تغيير علاقات السلطة وعلاقات الانتاج والعلاقات الاجتماعيّة برمّتها. فكيف لها أن تفعل ذلك دون فهم معمّق لواقع هذه العلاقات؟ إن إنتاج هذه المعرفة لا يتم طبعاً عبر خبراء مزعومين منغلقين على أنفسهم في مكاتب، بل عبر مجهود جماعي تُنتَج فيه المعرفة الثورية من رحم الممارسة الثورية الميدانيّة (أي "البراكسيس" كما نظّر له غرامشي). ويتطلّب مساءلة العلاقات الاجتماعيّة المهيمنة داخل التنظيمات اليساريّة وعلاقتها بمحيطها، وهو ليس بأمر هيّن، وليس ممكناً من دون توفر الإرادة الجماعية للتصدّي له.
وقد عرفت كل التنظيمات الشبابيّة اليساريّة خلال السنوات الأخيرة موجات استقالات كبيرة ضربت إشعاعها وأدخلتها في أزمات. ولن نفشي سرّاً إن قلنا بأن ضعف ديمقراطيّتها الداخليّة وتقوقعها على أنفسها وعدم فلاحها في إيجاد مخارج لعقمها السياسي طيلة السنوات الأخيرة تمثّل أهم أسباب ذلك. كما أن تتبع مسارات المستقيلين مهماً لفهم دواعيه. إذ وعلى خلاف فرضيّة العزوف السياسي التي يدّعي البعض أنها بصدد الانتشار بين الشباب، فإنّ الواقع يحيلنا إلى استمرار الاستعداد للالتزام المدني والسياسي لدى أعداد هائلة من المستقيلين، تشهد عليه مشاركتهم في التحركات الكبرى التي نجحت في تحفيزهم، كتلك التي جدّت ضد ما يسمّى "قانون المصالحة" أو دعماً للتجربة التعاونية الفلاحيّة الفريدة التي أسسها أهالي مدينة جمنة في الجنوب التونسي، وغيرها من المحطّات النضاليّة الكبرى.
يمكن اعتبار الحركات الاجتماعية، التي انتشرت بعد الانفتاح السياسي الذي عرفته البلاد، أحد أهم الفضاءات التي ملأها مناضلون ترعرعوا داخل الحركة الطلّابيّة بعد 2011. ولئِنْ كان انتشار هذه الحركات قد تم بمعزل عن إرادة أي من الفاعلين السياسيّين، بل بإرادة ذاتية من عناصر تلك الحركات كردّ على التدهور المستمر للوضع المعيشي في البلاد، حيث تتشكل كل مرة مجموعات محلّية لمواجهة إشكاليّات طارئة تهم قضايا التشغيل، التلوّث، التزوّد بالمياه الصالحة للشرب وغيرها.. فإن العناصر التي راكمت تجربة نضاليّة داخل الاتحاد العام لطلبة تونس كثيراً ما توجد في هذه التحركات في جلّ مناطق البلاد. وقد عملت هي وغيرها منذ سنوات على تجاوز الطابع المناسباتي عبر تشبيكها وتوفير أطر للتضامن بينها تحميها وتمكّن من مراكمة تجاربها.
بالإضافة إلى هذه الحركات شبه العفويّة (على الأقل في بدايتها)، فإن نوعاً ثانياً من الحركات قد نشأ أيضاً وكان للمناضلين/ات الذين مرّوا عبر الاتحاد دوراً أكثر محوريّة فيه، وهي الحركات الاجتماعية ذات المطالب السياسيّة، وتلك التي تتناول قضايا الحرّيات الفرديّة والعامة. وقد بيّن هذا الشباب اليساري مرّات عدّة قدرته الميدانية وتمرّسه ومرونته السياسيّة خلال تحرّكات المعطّلين عن العمل من قدماء الإتحاد، أو خلال تعامله مع مختلف التناقضات السياسيّة التي أحاطت بالحشد ضد قانون المصالحة والحملات التي تناهض العنف البوليسي وتلك التي تساند إلغاء التجريم عن استهلاك مادة القنب الهندي مثلاً.
إلّا أنّ هذا الوضع لا يجب أن يحجب الصعوبة التي يجدها الشباب اليساري لغاية اليوم في تأسيس تصوّرات لمشاريع سياسيّة عامة. فلئن كان التخلّي النسبي عن العمل الميداني المعضلة التي تواجه التنظيمات اليساريّة، بشكل يعمّق عزلتها عن محيطها ويبقيها حبيسة تحاليل نظرية مفارِقة زمانيّاً، تتحدث بأدوات تحليل ماضويّة عن واقع متغيّر لا تملك نواميسه، فإنّ الانغماس الحركي للعناصر اليساريّة غير المنتظمة وتشتتها لم يتح لها أخذ مسافة نقديّة من تجاربها لصياغة تصوّرات عامة عن الواقع الذي تواجهه يوميّاً. وعلى الرغم من ثراء التجارب السياسيّة التي راكمها طيلة السنوات السبع الماضية وقبلها، فإنّ عمليّات التوليف العام ما زالت ضعيفة، وتبقى الحركات الاجتماعية الدفاعية والمعارك الجزئية هي السمة البارزة لدى الشباب اليساري. والخطير في هذا الوضع هو الغرق في الحركة اليوميّة والتعوّد على عدم إمكانيّة تغيير شيء جوهري والاكتفاء بالنضالات الجزئية، وفي ذلك مدخل واسع لتحلُّل النزعات الراديكاليّة وتسهيلٌ للابتلاع من قبل آليات السوق عبر المانحين الدوليّين ومنظومة الحكم القائمة.
بالإضافة إلى ما سبق، فإنّ الخطاب الناقد للتنظيمات الحزبيّة لم يبلغ لغاية اليوم نضجاً يجعله يخرج من الانطباعيّة وآنيّة التجارب الذاتيّة للمستقيلين. وباستثناء أضغاثُ تصورات تبرز على الساحة من حين لآخر، فإنّ غياب القراءات المعمّقة بيِّنٌ للعيان. ولعل أهم ما يغيب عن هذا النقد هو محاولات التفكير الجماعي المفتوح الذي يوفّر فرصاً للمراكمة الفكريّة والصراع النقدي حول المحتويات والبرامج، ويُخرج الصراعات اليساريّة من تقليد الشخصنة الذي شوّهها وحجب الأسباب الحقيقيّة للصراعات القائمة.
على خلاف فرضيّة العزوف السياسي التي يدّعي البعض أنها بصدد الانتشار بين الشباب، فإنّ الواقع يحيلنا إلى استمرار الاستعداد للالتزام المدني والسياسي لدى أعداد هائلة من المستقيلين من التنظيمات اليسارية، تشهد عليه مشاركتهم في التحركات الكبرى الجارية التي نجحت في تحفيزهم.
ويُسهّل غياب هذا النقد الجماعي والمُمَنهج انتشار ثقافة الاستهلاك الفكري، عبر محاولات استنساخ تجارب حصلت في مناطق أخرى من العالم دون الإلمام بإكراهات الأطر الخاصة بكل تجربة، ممّا يعيق التعامل النقدي مع التجارب الأخرى والقدرة على إنتاج أشكال تنظيمية ومحتويات مستقاة من واقع الصراع الطبقي والاجتماعي في تونس. من هنا نقرأ مثلا سطحية الخطابات حول الصراع القائم بين أشكال التنظيم الأفقيّة والهرميّة عبر ترديد مقولات عامة مستعارة، وغياب إنتاج فكريّ ذي شأن حول الموضوع من الطرفين. والحال أن التجربة النضاليّة في تونس على قدرٍ عال من الثراء في الصراع الجدلي بينهما، ولها أن تزودنا بحجج أبلغ وأصلح لواقعنا.
في الختام لعل ما نستخلصه من كل ما سبق، أن اليسار التونسي لم ينجح لحدّ اليوم في التحول إلى طرف سياسي مستقل وواضح المعالم. لطالما اعتبر اليسار في أدبيّاته، نقلا عن ماركس، بأن أهم خطوة للقضاء على الاضطهاد الرأسمالي هي تحوّل البروليتاريا من طبقة "في ذاتها"، أي بالقوة وبالوعي العفوي، إلى طبقة "لذاتها"، أي بالفعل والممارسة والوعي الثوريّيْن. إلّا أنّ الواقع السياسي التونسي يؤكد أنّ يسارنا يفتقد لغاية اليوم إلى الوعي بذاته ولذاته، فهو لم يزل منذ عقود حبيس المشاريع السياسيّة الكبرى، يساند أحدها على حساب الأخر بداعي التكتيك.
فاليسار لم يخرج إلى اليوم من السرديّة التأسيسيّة للدولة الطبقيّة الحديثة في تونس، وهي السرديّة الإصلاحية(7). والمهم في هذا المجال هو الجانب العلائقي من هذه السردية، الذي صاغ علاقة الفئات التي أطلقت على نفسها اسم "النخب" وأعطت لنفسها مهمّة إخراج "الشعب" من واقعه المتخلّف. وتكمن ميزة هذه النظرة في قناعة هذه النخب بعجز هؤلاء "العوام" عن الاضطلاع بالمهام التاريخيّة بأنفسهم، بل أكثر من ذلك، فهم غريزياً ضد الاضطلاع بهذه المهام، ويصبح دور النخب بناء على هذا متمثلاً في كيفيّة قيادة هؤلاء "الرعاع" إلى الجنّة بالسلاسل. لا تختلف العائلات الفكريّة الكبرى في تونس حول هذا التقييم عموماً، على الرغم من استعمالها ألفاظا أقل حدة في أغلب الأحيان، بل هي تتفارق في السبل التي يجب استعمالها للنهوض بهذه المهمّة التاريخيّة لـ"النخبة".
يُسهم تصور كهذا في إدامة العلاقة العموديّة بين التنظيمات السياسيّة وبين من تتوجه لهم بخطابها. وهو أسلوب، وإن لم يكن مضراً بالنسبة للقوى التي تدافع عن مشاريع تهدف إلى تكريس الهرميّة الاجتماعيّة، كالدستوريين ومشتقاتهم، والإسلاميين بأنواعهم، لأنه في تناسق مع مشاريعهم، فإنه خَطِرٌ على القوى التي تدّعي الدفاع عن العدالة الاجتماعيّة.
لم يتزحزح الإيمان اليساري بالدور "الطلائعي" للجامعة، كجزء من المهمّة التاريخيّة ل"النخبة" في إخراج "الشعب" من واقعه المتخلّف. ولم تجر مساءلة الدور الذي اضطلعت به الجامعة التونسيّة منذ تأسيسها في البناء الأيديولوجي للدولة التسلطيّة بتونس. والجامعة قد لا تكون الاستثناء داخل هذا النظام التسلّطي والتمييزي الذي عرفته تونس منذ استقلالها، بل أحد شروطه
ولعلّ أولى الخطوات لمساءلة هذا التصوّر المأزوم تنطلق من التشكيك في دور وفائدة "النخبة" اجتماعيّاً، وفي مساءلة علاقتها بطبقة المثقفين وفئاتهم. هل تتماهى النخبة مع المثقّفين أم أنها جزء منهم أو أنها مجموعة مختلفة تماماً عنهم؟ ما هي الشروط الاجتماعيّة اللازمة كي يصبح شخص ما في عداد النخبة؟ أمّا ثاني خطواتها فهي مساءلة موقع الجامعة كمكان مفترض لإنتاج هذه النخبة. لعلّ أحد أزمات اليسار عموماً والطلابي منه بالخصوص في هذه السياق، تكمن في تعامله مع الجامعة كمنطلق وغاية لعمله السياسي. ولعل الإيمان بالدور "الطلائعي" للجامعة يفسّر مثلاً كيف أن التنظيمات اليساريّة قد وجدت بالأساس في الجامعة. كما أن خطابها حول الجامعة، وبالتالي خطاب الاتحاد العام لطلبة تونس نفسه، لم يتجاوز بعد في عمق تحليله لواقع الجامعة الراهن، مقارنة وضعها الرديء اليوم بوضعها المميز في بداية الستينات من القرن الماضي، عندما كان الطالب شخصاً مهاباً اجتماعيّاً، متمتعاً بكثير من الامتيازات، في استذكار حنيني لماضي سعيد نرجو عودته. وفي هذا غياب لمساءلة عميقة للدور العميق الذي اضطلعت به الجامعة التونسيّة منذ تأسيسها في البناء الأيديولوجي للدولة التسلطيّة بتونس. فالجامعة التونسيّة قد لا تكون الاستثناء داخل هذا النظام التسلّطي والتمييزي الذي عرفته تونس منذ استقلالها، بل أحد شروطه!
.. أكثر ما يختمر في ذهني اليوم هي الأسئلة والشكوك، وما أقلّ الإجابات الشافية عندي.
______________
1 - لمزيد الاطلاع على تفاصيل هذه العلاقة خلال فترتي الخمسينات والستينات يمكن العودة إلى مقال "'مارس 1968' وتجذّر النضال الطلابي".
2 - تشابه استعمال هذا المصطلح المألوف مع المعنى الذي يعطيه دولوز وغتاري في كتابهما "الرأسماليّة والشيزوفرينيا "لمصطلح/نظريّة ال"ريزوم".
3- V. Taylor (1989), “Social movement continuity: the women’s movement in abeyance”, American Sociology Review, pp. 761-775.
4- تحتاج عمليّة "التحلل البرقي" التي عرفها هذا الحزب الذي جمع مليوني تونسي من المنخرطين في بضع أيام، الى دراسات مدققة لفهم ما حصل وكشف ملابساته، وهو ما سيكون له فوائد جمّة في فهم الميكانيزمات السياسيّة الأساسية في سنوات حكم بن علي الأخيرة وشروط وإمكانيّة إعادة تشكيل ما يطلق عليه "النظام القديم" في عديد الأحزاب والتنظيمات لاحقاً.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة