تجربة شعرية ممتدة بروح رومانتيكية مهيمنة كلياً على فضاء القصيدة في "اعترافات عاشقة قروية"، و"العشق تميمة جنوبية"، ثم تأخذ مسارات أخرى تحتفي باليومي في "تفاصيل ضد... تفاصيل مع"، وتنحو صوب سردية الموت في "أيام للموتى"، وسردية الإخفاق في "طرق فاشلة لاستعادة الأحبة".
وفي "نساء التفاح"، الديوان الجديد للشاعرة المصرية بهية طلب (الهيئة العامة للكتاب)، ثمة تنويعات متعددة على متن المأساة الوجودية التي تعاينها الذات الشاعرة في قسمي الديوان المركزيين "نسائي المضيئات" و"حالات لامرأة حزينة"، وكلا القسمين يتخذ من المرأة مركزًا موضوعيًا وجماليًا له لإنتاج الشعرية، ففي القسم الأول تلوح نساء أخريات "مضيئات"، وفي القسم الثاني ثمة ذات أنثوية مأزومة.
ويتجادل هذان المساران الشعريان، ويصنعان معًا حالة من الشجن الموزع على القصائد الخمس عشرة التي تشكل المتن الشعري للديوان.
الإحالة والموازاة الشعريّة
يأتي القسم الأول من الديوان "نسائي المضيئات" بقصائده السبع محمولًا على ما يسمى بشعرية الإحالة، حيث تمتلئ نصوصه بالتناصات المباشرة وغير المباشرة مع سياقات جمالية مختلفة قد تكون فيلمًا سينمائيًا مثلما نرى في قصيدة "أين عمري"، حيث الإحالة على الفيلم الذي يحمل الاسم ذاته، والشخصية التي لعبت دورها الفنانة المصرية ماجدة، حيث قفزت الشخصية الفنية من المراهقة إلى الكهولة في لحظة مأساوية، أو نرى إحالة على فيلم ورواية جسور مقاطعة أديسون التي لعبت بطولته ميريل ستريب وشخصيتها (فرانشيسكا) في القصيدة التي تحمل الاسم ذاته أمام كلينت استيود، أو يصبح التناص مع لوحة تشكيلية كما في قصيدة (قرط لؤلئي) التي تحيلك على لوحة الفنان الهولندي يوهانس فيرمير "الفتاة ذات القرط اللؤلئي"، وقد تم عمل قصة متخيلة، وفيلم عن هذه الفتاة أيضًا.
فضاء الصّورة
تبدو الصورة بفضاءاتها المتعددة جوهرًا للقسم الأول إذًا. وفي "فرانشيسكا"، تبلغ ذروة النص وتدفقه الشعري في المقطع التالي: "لم يكن سهلًا على قلبي/ في ثلاثة أيام/ أن أحب رجلًا/ يحمل آلة غبية/ يلتقط بها الأشباح والحزن/ أفزعتني الكاميرا بلقطات خانقة لي/ لقطة لعينة/ لكتفي وهي تنسحب برفق/ لتهرب من تطويقه لجسدي/ أنت في ثلاثة أيام/ أوقفتني على هذا الجسر/ وعبرت بي إلى الحلم/ لم أكن أرى أي جمال في جسر/ تعبره الأقدام/ ويشبه حياتي" (ص13).
ثم تتسّع مساحات التخييل الشعري في نهاية القصيدة، موظفة المفردة المركزية في القصيدة، والمتناص من خلالها مع الفيلم الشهير "جسور ماديسون": "لا تنتظرني هناك على الجسر/ فأنا هنا/ اخترت دفء أحضانهم الصغيرة/ ودموعي التي لن تنهمر أبدًا/ سأحبسها دائمًا بعيني/ لتذكرني بك" (ص16).
وفي "ليلى والذئب" تعتمد القصيدة على المحكية التراثية الشهيرة الواردة في ثقافات مختلفة بصيغ متعددة (ذات الرداء الأحمر/ ليلى والذئب)، وتختار الشاعرة صيغة التماهي بين ليلى والذئب، وينهض النص على آلية السؤال والجواب، موظفة الأسلوب الإنشائي في التعبير الجمالي عن الدلالة الشعرية: "يا ليلى/ كيف لا تبدين دهشتك من وحدة الذئب/ ولماذا ارتديت ثوبك الأحمر/ ليتبعك إلى الغابة؟...( ..) وهل دعوته إليّ؟/ أنا طفلة/ ترسلني أمي لأجلب الماء من النهر/ فأسقي النخلات/ وأداعب العصافير/ وأبكي لسمكة قفزت بعيدًا عن مجرى الماء) ( ص18).
ويبدو الجواب عين السؤال، وسؤالًا متجددًا ينفتح من خلاله النص على تشكيل صيغة مغايرة للعلاقة بين الدالين المركزيين المؤسسين للعنوان والقصيدة معًا (ليلى) و(الذئب).
وتظل قصيدة المتجردة درة القسم الأول وروحه الأكثر تعبيرًا عن فكرته اللامعة التي تقوم على ما يسمى بالتخييل الموضوعي لذات أنثى، أو لوحة، أو فيلم، أو حتى قصيدة، مثل قصيدة النابغة الذبياني نديم النعمان بن المنذر وشاعره، في وصف المتجردة زوجة النعمان، التي كتبها بناءً على طلب زوجها الملك ذاته، وتملك قصيدة "المتجردة" هنا صوتها، وتضع الذات الشاعرة قصيدة النابغة موضع المساءلة والمراجعة، وتنال من سطوة النعمان ونخوته، وتعرّي ذكورية الرجل العربي بنعومة وحدة في آن واحد.
تستعيد بهية طلب أنجلينا جولي التي دفعت بها في عنوان ديوانها "قبل هروب أنجلينا جولي"، ويبدو استحضار أنجلينا جولي هنا فنيًا ودلاليًا، مصبوغًا بنزعة إنسانية تمتاز بها الممثلة الأميركية الشهيرة التي قررت من قبل الإعلان عن خضوعها لعملية استئصال لثدييها بعدما أخبرها أطباؤها بأنه إذا لم تستأصل ثدييها فإن نسبة حدوث سرطان الثدي لها يبلغ 87 في المئة، وذلك بسبب الجين الوراثي المسبب للمرض.
وفي خطوة لتشجيع كل سيدة على عدم الخوف، إن كانت معرضة للإصابة بسرطان الثدي، ألا تتردد في إجراء العملية الطبية. ويطل الوحش/ السرطان الذي ينهش الأجساد، وتزداد ضراوته وحضوره في القسم الثاني من الديوان، عبر حكاية الأختين اللتين ضربهما وحش لا يرحم، تلك الحكاية الشعرية التي تلوح في قصيدة (تلك الغزالة تفجع الموت): "حين جاء الموت زائرًا مقيمًا ومتنكرًا في صورة السرطان/ وها أنا وأختي التي أكبرها بأربعة أعوام/ تقاتله كل منا بطريقتها/ فأنا أدعو الموت بالسجائر/ التي يسرني أن تكون قاتلتي بدلًا منه/ وهي بإيمانها الطيب الذي تحتمل به الكيماوي كل أسبوع/ لتهشه عن جسدها". ( ص81).
قسوة الموت/ فجوة الحياة
ثمة أجواء كآبية تهيمن على القسم الثاني، يصبح فيها الموت مركزًا، وتصبح الحياة سلسلة من الفجوات الناقصة، ومحاولة مستمرة للنجاة من أنياب الموت وقسوته، وينهض هذا القسم (حالات لامرأة حزينة) على ما يسمى "التخييل الذاتي"، حيث تصبح الذات الشاعرة موضع الفعل الشعري، وموطن التخييل، وعبر حالاتها المتعددة، التي تتحول فيها الغزلان إلى محض فرائس للصياد، حتى تكتمل دائرة الموت الذي يخيم على الجميع، والأشواك التي تنبت كل صباح، في عالم تفضي فيه وحدة الذات الشاعرة إلى اغتراب شامل وذاتي معًا، ويبرز ذلك كله في القصائد المتتابعة (ظل أحبه ويتبعني/ فأس وغابة وشعر/ ربما يتبدل الشتاء/ أشواك طويلة للاحتماء/ لأمي رائحة الفرح/ تلك الغزالة تفجع الموت/ لم يقرع الأجراس/ الاحتماء بالجدار).
هكذا تتشكل شعرية مكسوة بالشجن والأسى الشفيف، والفجائعي معًا، حيث تتبدل وضعية الذات الشاعرة ما بين البوح، والمكاشفة، والخوف، والهواجس، والرفض، والمساءلة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
زهير ابو الزهراء
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست