يقولون بأن الفرق بين الإنسان والحيوانات الأخرى هو العقل، مع ذلك فهذا الفرق يمكن أن توجه له عدة ملاحظات، بعضها فكاهي ككون أنني وجدت بعض الحيوانات أكثر ذكاء من الكثير من البشر، وبعضها أقل فكاهة، ككون العقل في حد ذاته لا يمكن وضع حدود واضحة لذكائه فأنا مثلاً أقل عقلاً من أنشتاين، لكن هناك انتقادات حقيقية وأهمها أننا لو اعتبرنا العقل هو الفارق بين الإنسان وسائر الحيوانات لكان قتل الإنسان المجنون أو المعتوه غير مجرم أو ما كان ليعاقب قاتل المجنون أو المعتوه بالإعدام أو المؤبد، رغم أن المقتول هنا ليس عاقلاً فلماذا لا يتم المساواة بين قتله وقتل الحيوان. لذلك فما هو الفرق بين الإنسان والحيوان؟ يمكننا أن نجد فروقات كوميدية، فنقول مثلاً بأن الإنسان كائن طابخ، فكل الحيوانات لا تطبخ أكلها أما الإنسان فيطبخه، لكننا لو كنا جادين أكثر لقلنا بأن الفرق بين الإنسان والحيوان هو أن الإنسان قاضٍ باستمرار. والكثير من البشر يعتقدون أن القضاء مقصور على ذلك الصرح الذي يطبق فيه القانون، لكن القضاء عندنا كبشر هو الأوسع والأشمل من ذلك القضاء المعروف. فحياة الإنسان ليست سوى حالة مستمرة من اصدار الأحكام المستمرة تجاه نفسه وتجاه ما حوله، أحكام على كل شيء، نحن نؤسس كل انفعالاتنا وعلاقاتنا وتصرفاتنا بل وتوقعاتنا على أحكام نصدرها، فعلى سبيل المثال، نحن نؤسس علاقاتنا على أساس أحكام إيجابية أو سلبية نصدرها على أقاربنا أو زملائنا أو حتى من نتعامل معهم من بائعين وجيران وغيرهم.. وعلى أساس أحكامنا إما أن نقترب منهم أو نبتعد أو لا نكترث، كذلك تصرفاتنا القانونية (بيع، شراء، إيجار..الخ) أو تصرفاتنا المادية (زراعة شجرة، بناء منزل، هدم جدار..) مؤسسة على أحكام تجاه المنزل أو المناخ أو الطبيعة،..الخ) نرتدي ملابسنا بناء على أحكام تجاه الألوان ونوع القماش وطريقة التفصيل والخياطة، نشتري سيارة بناء على أحكام خاصة بالعلامة التجارية أو اللون أو قوة السيارة وضعفها أو سعرها، نحن نحكم على كل شيء بأحكام متنوعة، نحكم على الكتاب إما بعد قراءته أو من عنوانه، نحكم على فيلم أو مسلسل، نحكم على المناخ: هل الشتاء أفضل من الصيف أم الصيف أفضل من الشتاء، نحكم حتى على المفاهيم والأيديولوجيات إما بالصحة أو البطلان، فنتبنى ما نحكم بصحته ونلفظ ما نحكم عليه بالبطلان، باختصار يحيا الإنسان على الحكم على الأشياء وبدون الحكم على الأشياء لا يستطيع أن يتحرك، لأنه حينئذٍ يقع في الحيرة، تماماً كما يحدث للمرأة التي تبحث عن فستان مناسب فتظل ساعات طوال ترتدي هذا وتترك ذاك فتبحث عن رأي طرف ثانٍ وثالث ورابعٍ. وهناك أيضاً نظرية أو مثال أكثر طرافة وهو أن صاحب حمار جائع وعطشٍ، وضع جردل ماء على يسار الحمار وبرسيماً على يمينه، فكان الحمار ما أن يقرب فمه إلى الماء حتى يتذكر أنه جائع فيترك الماء ويضع فمه على البرسيم فيتذكر أنه عطشان، ويظل متردداً هكذا حتى يموت من الجوع والعطش. لذلك فالإنسان كائن قاضٍ، عليه أن يحكم على الأشياء ليعيش، ليختار أسلوب حياته، فهناك من يختار الأعمال الشاقة عضلياً لأنه يحكم على نفسه بالقوة ويرى فيها الرجولة والعمل الحق، وهناك من يختار الأعمال الفكرية لأنه يحكم عليها بمناسبتها لذكائه، بعضهم يختار الزواج من واحدة وآخر من أربع وبعضهم يتبتل، بناء على أحكام عامة تجاه ما هو صواب وما هو خطأ، ما هو مناسب وما هو غير مناسب، وكلما ارتفع جهل الإنسان تجده يعمم أحكامه على البشر، فهو يعمم ما يراه صواباً ويرى أن سائر الناس يجب أن يحكموا بمثل حكمه بما هو صائب وما هو باطل، وكلما ارتفع سقف المعرفة بنسبية الأحكام كلما حصر المرء أحكامه على نفسه وقل لومه للآخرين، والتمس لأخيه سبعين عذراً، فكفى عنه شر التطفل والتسلط وحشر الأنف فيما لا يعنيه.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
أمل الكردفاني
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست