إن رفض إسرائيل الإعتراف بحقوق الفلسطينيين وإنسانيتهم قد خلق روايةً صفرية حيث تُعزى سلامة اليهود على تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم وموتهم.
إن هجوم إسرائيل والولايات المتحدة على المنشآت النووية الإيرانية وتداعيات هذه الهجمات التي لا تزال تتكشف عقب وقف إطلاق النار الذي توسط فيه ترامب لا ينبغي أن يصرف انتباهنا عن حملة القتل والدمار الإسرائيلية المستمرة في غزة. فمنذ الأول من يونيو/حزيران وحده قُتل ما يقرب من 300 فلسطيني (إضافةً إلى أكثر من 55 ألفًا قُتلوا بالفعل) وسُوّيت عشرات المباني بالأرض. وتصرّ حكومة نتنياهو على أن القتال سيستمر حتى تحقق إسرائيل “نصرًا كاملاً”، وهو هدف لا يزال بعيد المنال مع استمرار المذبحة بعد 20 شهرًا.
في مقالي الصادر في 29 مايو/أيار بعنوان “إذا لم تكن هذه إبادة جماعية، فما هي؟” أوضحتُ أنه في حين أن لإسرائيل كل الحق في الدفاع عن نفسها والرد على حماس على هجومها الوحشي الذي أودى بحياة 1200 مدني إسرائيلي بريء، فإن سعيها لمعاقبة حماس سرعان ما تحوّل إلى حرب إنتقام وأخذ بالثأر. وبغض النظر عن براءتهم، قُتل عشرات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال الفلسطينيين دون تمييز، الأمر الذي تسبّب أيضاً في تدمير أو إتلاف 84% من مرافق الرعاية الصحية في غزة، “وفرض… ظروف معيشية محسوبة لإحداث تدميرها المادي” كما يشير ميثاق الإبادة الجماعية، والتسبب في أضرار جسدية ونفسية جسيمة، وأكثر من ذلك، يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية بحكم التعريف. ومع ذلك، أدانني العديد من الأفراد لتجرأتي على وصف الحرب الإسرائيلية بالإبادة الجماعية ووصفوا مقالتي بأنها “افتراء دموي”.
تحدثتُ على مدار العام والنصف الماضيين مع العشرات من جنود الإحتياط الذين قاتلوا في غزة وعادوا. إنه لأمر مفجع يُدمي القلب أن نستمع إلى من وصفوهم بشهود عيان. اعترفوا بأن الأوامر تُصدر بشكل تعسفي في كثير من الأحيان بإطلاق النار أولاًوعدم طرح أي أسئلة لاحقًا. أدت هذه السياسة مباشرةً إلى مقتل ثلاثة رهائن إسرائيليين كانوا يلوّحون بأعلام بيضاء ويصرخون طلبًا للمساعدة باللغة العبرية عندما قتلهم الجنود الإسرائيليون. إن قصف العديد من المباني المليئة بالمدنيين لقتل عنصر واحد من حماس، مع قتل مئات الأبرياء، يُعدّ بمثابة إبادة جماعية.
أدلى العديد من وزراء الحكومة بتصريحات تدعو إلى نية تدمير الفلسطينيين في غزة، كليًا أو جزئيًا. دافع وزير التراث عميحاي إلياهو عن فكرة جنونية تمامًا تتمثل في إلقاء قنبلة نووية على غزة، مؤكدًا نية القضاء على الجميع هناك. كما صرّح بأن أي شخص يلوّح بعلم فلسطيني “لا ينبغي أن يستمر في العيش على وجه الأرض”. هذا يُمثل تحريضًا، فالرسالة للجنود واضحة: اقتلوا، لأنه لا يوجد فلسطيني يستحق الحياة. ومع ذلك، لا يزال إلياهو متمسكًا بالسلطة في موافقة ضمنية على تصريحاته.
من بين الأشياء الشنيعة والعديدة التي قالها وزير الأمن القومي إيتامار بن غفير، فإن أحد أكثرها فظاعة هو الدعوة إلى قتل النساء والأطفال في غزة لمنع هجوم آخر مثل هجوم 7 أكتوبر. إن الترويج لقتل النساء والأطفال دون أي سؤال هو بلا شك إعلان عن نية قتل الفلسطينيين دون تحفظ – وهي علامة واضحة على الإبادة الجماعية.
أدلى وزير الدفاع السابق يوآف غالانت، أثناء خدمته في ذلك المنصب، بتصريحات لا إنسانية لا حصر لها ، بما في ذلك وصف المدنيين الفلسطينيين العاديين بأنهم “وحوش بشرية”. يردد هذا الخطاب اللاإنساني صدى الإبادة الجماعية في رواندا عندما وصف قادة التوتسيين مرارًا وتكرارًا بأنهم “صراصير”، مما حرض الهوتو على رؤية مواطنيهم على أنهم أقل من البشر، الأمر الذي روّج بنشاط لما أصبح إبادة جماعية مروعة هناك.
دعا نيسيم فاتوري، عضو الكنيست من حزب الليكود الذي ينتمي إليه نتنياهو ونائب رئيس الكنيست، إلى إعدام كل رجل في غزة، واصفًا إياهم بـ “الحثالة” و”دون البشر”. وقال إن كل طفل في غزة “إرهابي منذ ولادته” – ونحن نعلم تمامًا أن السياسيين الإسرائيليين يفضلون إعدام الإرهابيين. لماذا الجدل حول العمر إذا كانت هذه الآراء تحدد مصيرهم مسبقًا؟
قررت الشرطة الإسرائيلية أن تصريحات الحاخام إلياهو مالي – الذي يدير مدرسة دينية تجمع بين الدراسات الدينية والخدمة العسكرية ويُدرب من قد ينتهي بهم الأمر في غزة – لا تُعتبر تحريضًا. وقال إن الشريعة اليهودية تقتضي قتل كل من في غزة، بمن فيهم الأطفال وكبار السن. “من جاء لقتلك، فاقتله أولًا. من جاء لقتلك بهذا المفهوم لا يشمل فقط الشاب الذي يبلغ من العمر 16 أو 18 أو 20 أو 30 عامًا والذي يوجه سلاحًا إليك الآن. بل يشمل أيضًا الجيل القادم (أطفال غزة)، ومن يُنتجون الجيل القادم (نساء غزة)، لأنه لا يوجد فرق”.
هل من وصف لهذه التصريحات الدنيئة سوى التحريض على الإبادة الجماعية؟ مرة أخرى، إذا لم تكن الموافقة الضمنية على دعوته لقتل كل إنسان حي في غزة دعوةً للإبادة الجماعية، فأي شيء يكون غير ذلك ؟. وإلا فكيف يُعقل أن يكون مقتل أكثر من 55 ألف فلسطيني، ثلثاهم من النساء والأطفال، قد حدث في غياب هذه التحريضات؟
أستطيع أن أواصل تقديم الأدلة إلى ما نهاية، ليس فقط من خلال تصريحات المسؤولين الحكوميين، بل من خلال تصريحات الجنود الذين ينفذون أوامر رؤسائهم. من يقرأ هذا ويُصرّ على وصفه بالكذب والافتراء، يبدو أنه يستمتع بالوهم الذي يدفن فيه غالبية الإسرائيليين وغيرهم من مُنكري جرائم الحكومة الإسرائيلية ضد الإنسانية رؤوسهم.
إن الموت والدمار الشاملين في غزة يُرسلان موجات صدمة حول العالم، وخاصةً لأصدقاء إسرائيل وحلفائها الذين لا يدركون كيف أصبح اليهود في إسرائيل، أبناء أولئك اليهود الذين كانوا ضحايا التاريخ، هم الجلادون.
إن ارتكاب مثل هذه الجرائم ضد الإنسانية والتي تُرتكب باسم يهود العالم يُلحق أكبر ضرر بالمجتمعات اليهودية في كل مكان. لقد صرّح نتنياهو صراحةً في مناسبات عديدة بأنه يتحدث باسم الشعب اليهودي. إن التصاعد غير المسبوق لمعاداة السامية والهجمات المتكررة الآن على اليهود خارج إسرائيل هما نتيجة مباشرة لأعمال نتنياهو وعصاباته الإجرامية ضد الفلسطينيين، وأي يهودي ينكر ذلك يكون ساذجًا عن عمد، أو يشعر بالخجل لاعترافه بما لا يُصدّق.
إن المأساة التي تسببت بها إسرائيل نتيجة احتلالها الوحشي المستمر والدمار الهائل والموت في غزة، هي رعاية جيل جديد من الشباب الفلسطيني اللذين سينشأ الكثير منهم حاملين على عاتقهم مهمة واحدة: الإنتقام للفظائع التي حلت بشعبهم. ولن يهدأ لهم بال حتى يتحرروا من العبودية واللاإنسانية التي تعرضوا لها.
لو أن إسرائيل أنهت احتلالها الوحشي ومنحت الفلسطينيين الأمل بمستقبل أفضل وأكثر أمانًا، لما لجأ الشباب الفلسطيني إلى العنف والإرهاب، بل لتمكنوا من النمو والإزدهار بسلام جنبًا إلى جنب مع جيرانهم اليهود. إن دعوة الحاخام مالي، “لقتل جيل المستقبل ومن يُنتج جيل المستقبل لأنه لا فرق بينهما”، دعوةٌ تفوق الغضب وفاحشةٌ للغاية. إن قتل الأطفال الأبرياء على افتراض أنهم سيكبرون ليصبحوا إرهابيين، وهو ما ترعاه إسرائيل عمدًا لتبرير احتلالها الوحشي ونزع صفة الإنسانية عن الفلسطينيين بحجج أمنية، هو قمة الإنحطاط الأخلاقي الذي سيدفع الإسرائيليون ثمنه غاليًا لسنوات قادمة.
المأساة الأكبر هي ما ألحقته إسرائيل بنفسها وباليهود حول العالم من ضرر. لقد تلطخت صورة إسرائيل بدماء الفلسطينيين مما جعلها دولةً منبوذة. علاوةً على ذلك، أصبحت إسرائيل عبئًا على يهود الشتات الذين يدعي نتنياهو التحدث باسمهم، وبدلاً من العيش بسلام وكرامة، أصبحوا الآن خائفين على حياتهم.
لا تزال الحرب مستمرة والموت والدمار مستمران، ولا يزال نتنياهو وعصابته الإجرامية ينعمون بوهم تحقيق “النصر الشامل”. ومع ذلك، حتى لو قُتل كل عنصر من عناصر حماس، فلن يكون ذلك سوى بداية فصل جديد في تاريخ الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني المأساوي الذي لن ينتهي إلا بنيل الفلسطينيين حريتهم.
بدلاً من الدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه، تقع على عاتق كل يهودي ذي ذرة من النزاهة مسؤولية جليلة تتمثل في إسماع صوته والدعوة إلى إنهاء هذه الحرب المروّعة ودعم حق الفلسطينيين في دولة خاصة بهم. سيُدين التاريخ نتنياهو وحكومته لجعلهما سلامة اليهود وبقائهم رهنًا بنزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين وموتهم.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة