مخاطر استخدام الذكاء الاصطناعي في الكتابات الدينية: مقاربة علمية وتقويم نقدي
في سياق التقدم التقني المتسارع في مجال الذكاء الاصطناعي، يبرز تساؤل محوري حول مدى صلاحية هذه التكنولوجيا للتعامل مع المجالات المعرفية الحساسة، وعلى رأسها النصوص الدينية. إن معالجة المادة الدينية تتطلب درجة عالية من الفهم والسياقية والانضباط المفاهيمي، وهو ما لا يمكن للذكاء الاصطناعي تحقيقه في صورته الحالية. فالنماذج اللغوية، بما فيها تلك المعتمدة على تقنيات التعلم العميق، لا تمتلك وعياً حقيقياً بالمعاني الروحية أو بالمستوى القدسي للنصوص. إن اشتغالها يقوم على تحليل احتمالي وإحصائي للكلمات والأنماط دون فهم لجوهر النص أو غايته. تُعد قابلية هذه النماذج لتوليد نصوص منتحلة أحد أبرز مواطن الخطورة، إذ قد تقوم بجمع أجزاء من آيات متفرقة أو تركيب عبارات بأسلوب قرآني، ثم تنسبها إلى الوحي الإلهي بعبارة "قال تعالى"، في سلوك يمثّل تحريفاً خطيراً للنصوص المقدسة، ويتنافى مع القواعد الصارمة لنقل الوحي المعمول بها في الأديان التوحيدية، وخاصة في الشريعة الإسلامية. مثل هذا الانتحال لا يقع في نطاق الخطأ التقني البسيط، بل يتجاوزه إلى التعدي المباشر على قدسية النص، بما ينطوي عليه من تداعيات دينية وأخلاقية. من المشكلات البنيوية الأخرى ما يُعرف بظاهرة "الهلاوس النصية"، حيث تنتج النماذج محتوى يبدو متماسكاً على المستوى التركيبي لكنه يفتقر إلى الصواب أو المرجعية. وفي الحقل الديني، فإن أي خلل في الدقة المعرفية يُعدّ مرفوضاً، نظراً لما يترتب عليه من التباس أو فتنة أو انحراف في الفهم العقدي. ولا تقتصر المشكلة على الأخطاء النصية فحسب، بل تمتد إلى عجز الذكاء الاصطناعي عن إدراك السياقات التاريخية والاجتماعية للنصوص، بما في ذلك أسباب النزول وتراكمات التفسير التي شكلت الوعي الديني عبر العصور. إن فقدان هذا البعد التأويلي يجعل أي تفسير يولده الذكاء الاصطناعي عرضة للتشويه والسطحية. ويزداد الخطر حين نعلم أن هذه النماذج لا تتحمل مسؤولية قانونية أو دينية، ولا يمكن محاسبتها على نتائج استخدامها. فهي أدوات رياضية محضة، تعمل دون إدراك أو ضمير أو نية، ما يعني أن استخدامها في الفتوى أو الإرشاد العقدي يفتح الباب أمام مسؤوليات معلّقة لا جهة تحملها. هذا الغياب للمساءلة يتعارض مع جوهر الخطاب الديني، الذي يقوم على المحاسبة والتكليف والنية الخالصة. كما أن إدماج الذكاء الاصطناعي في نقل أو شرح النصوص المقدسة يتعارض مع تقاليد الضبط المعرفي الصارمة التي أرساها علماء الأمة، خاصة ما يتعلق بالتواتر والسند والتلقي المباشر. أي خلل في هذه السلسلة المنهجية يهدد بإضعاف حجية النص وتفريغ المحتوى الديني من ضماناته العلمية. ولا يمكن غض الطرف عن الخطر الأكبر، وهو احتمال نسبة أقوال لم ترد في الكتاب المقدس إلى الله تعالى، مما يُعد تدنيساً صريحاً لحرمة الوحي، واستخفافاً بمقدس لا يقبل التأويل أو الاجتهاد الخاطئ. تكمن الأسباب التقنية لهذه الانزلاقات في طبيعة النماذج نفسها، فهي تعتمد على تكرار الأنماط واكتشاف ترابط الكلمات، مما قد يقودها إلى إنتاج جمل شبيهة بأسلوب القرآن أو الحديث دون أن تكون جزءاً منهما. وإن وُجدت أخطاء في بيانات التدريب، مثل إدراج تفسيرات غير دقيقة أو اقتباسات مغلوطة باعتبارها نصاً أصيلاً، فإن الذكاء الاصطناعي سيعيد إنتاج هذه الأخطاء دون تمييز. يفاقم ذلك غياب آليات تحقق داخلية قادرة على مقارنة المخرجات بالمصادر الأصلية المعتمدة، مما يجعل المنتج النهائي عرضة للخطأ في الشكل والمضمون. ورغم هذا التقييم الحاد، يمكن التفكير في استخدامات شديدة التقييد تخضع لإشراف علمي وديني مباشر. من ذلك استخدام الذكاء الاصطناعي في البحث عن مواضع الآيات باستخدام كلمات مفتاحية مع التحقق من صحة النتائج، أو في عرض تفاسير تقليدية موثقة محفوظة سلفاً دون أن ينتج النموذج تفسيراً من ذاته. ويمكن أيضاً توظيفه في خدمات لغوية تقنية كالتدقيق الإملائي أو النحوي للنصوص الدينية الأصلية دون تغيير في المعنى أو البنية النصية.
*إن الخلاصة التي يمكننا الوصول إليها من هذا التحليل هي أن الذكاء الاصطناعي، بصورته الحالية، غير مؤهل للتعامل المباشر مع النصوص الدينية، سواء بالتأليف أو التفسير أو الإفتاء. إن أي استخدام غير منضبط في هذا المجال يهدد سلامة الفهم الديني، ويعرض العقيدة والمجتمعات لمخاطر جسيمة على مستوى الوعي والتلقي. لذا تبرز الحاجة الملحة إلى تدخل المؤسسات الدينية والعلمية لصياغة أطر تنظيمية واضحة تضبط استخدام هذه الأدوات وتمنع توظيفها في مسائل تتطلب جهد ذهني أدمي من علماء وعلماً، وتوقيراً، ومسؤولية دينية وأخلاقية لا تملكها الآلة علينا الانتباه لهذا.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة