في رمال الصحراء الغربية الشاسعة، عند نقطة التقاء حدود السودان ومصر وليبيا، تتكشف اليوم أبعاد صراع جيوسياسي معقد، تجسده معركة (المثلث) التي آلت إلى سيطرة قوات الدعم السريع السودانية. إنها بؤرة جيوسياسية تكشف عن تداخلات عميقة في موازين القوى الإقليمية والدولية. إن سيطرة الدعم السريع على هذه المنطقة الحاسمة، في أعقاب إخلائها من الجيش السوداني، لا تمثل تحولاً عسكرياً فحسب، بل هي مؤشر على ديناميكيات معقدة تستدعي تحليلاً دقيقاً لمآلات المشهد برمته.
إن سيطرت قوات الدعم السريع على المثلث الحدودي، وهو ما يمثل تحولًا استراتيجيًا بارزًا في مسار الحرب السودانية. هذه السيطرة تمنح الدعم السريع ممرًا لوجستيًا حيويًا بالغ الأهمية، يمكن استخدامه لتأمين الإمدادات والعتاد، وتقليل الاعتماد على خطوط الإمداد الداخلية المستنزفة. فالمثلث يُعد نقطة التقاء محورية توفر عمقاً استراتيجياً للدعم السريع نحو الشمال، مما يضعهم على مسافة أقرب من مناطق حيوية في شمال السودان وخطوط الإمداد الاستراتيجية للجيش. كما أنها تمنح الدعم السريع ورقة ضغط تفاوضية وعسكرية قوية، حيث تُمكنهم من تهديد مناطق الشمال وتشتيت جهود الجيش السوداني، وبالتالي تعزيز موقفهم في أي مفاوضات مستقبلية.
إن إخلاء الجيش السوداني للمنطقة يُفسر بأنه جاء في إطار (ترتيبات دفاعية لصد العدوان). ومع ذلك، يُرجح أن هذا الانسحاب يعود لعدة عوامل متضافرة، من بينها الضغط العسكري المتزايد من قوات الدعم السريع، التي أظهرت قدرة هجومية متزايدة وكبدت الجيش خسائر كبيرة. يضاف إلى ذلك الدعم الخارجي المحتمل الذي تلقته قوات الدعم السريع، مما عزز قدرتها على تنفيذ عمليات هجومية ناجعة ومكّنها من كسب الأرض. كما أن استنزاف القدرات العسكرية للجيش السوداني بعد عامين من القتال قد يدفع به لإعادة تموضع قواته لتأمين مناطق أكثر أهمية استراتيجياً أو لتجميع قواه.
ولا يمكن إغفال الصراع الداخلي في معسكر بورتسودان، إذ يمكن قراءة هذا الانسحاب أيضاً في ضوء الانقسامات داخل معسكر الجيش. فالحركات المسلحة، كجناح جبريل إبراهيم ومناوي، التي شهدت تقليصاً لنفوذها مؤخراً، قد تستفيد من هذا التطور لزيادة حاجةالجيش لها. ومع تزايد تهديد الدعم السريع للولاية الشمالية وشمال كردفان، تصبح هذه الحركات شريكاً لا غنى عنه للجيش في الدفاع عن هذه المناطق، مما يمنحها مساحة للمناورة السياسية والضغط لتعزيز نفوذها ومكاسبها.
وفي هذا السياق، يُعد اتهام الجيش السوداني لقوات اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر بدعم هجوم الدعم السريع، عبر كتيبة سبل السلام، نقطة محورية تكشف عن أبعاد تدخلية أوسع. لم يكن تدخل حفتر في هذا التوقيت محض صدفة، بل هو خطوة محسوبة بعناية. فقد استغل حفتر حالة الضعف والاستنزاف التي يعاني منها الجيش السوداني، ورأى في هذا التوقيت فرصة ذهبية لتعزيز نفوذه الإقليمي. فمن خلال دعم الدعم السريع، يسعى حفتر إلى تثبيت موطئ قدم إقليمي عبر خلق منطقة نفوذ مشتركة تمتد بين جنوب ليبيا وغرب وشمال السودان، كما أنه يسعى لتعزيز علاقته الوثيقة ببعض الأطراف الإقليمية، وتحديداً الإمارات العربية المتحدة، التي يُعتقد أنها تدعم الدعم السريع، و يخدم أجندتها في تأمين مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية في المنطقة. ولا يغيب عن أجندة حفتر الاستفادة من الفوضى القائمة لتعزيز قدرته على التحكم في الحدود المشتركة وتسهيل حركة الأفراد والعتاد، بما يخدم مصالحه الخاصة في ليبيا والسودان.
هذا التطور يضع مصر في موقف جيوسياسي بالغ التعقيد، فالتقارب المصري الإيراني الأخير، على سبيل المثال، يعكس تحولاً استراتيجياً في السياسة الخارجية المصرية، حيث تسعى القاهرة إلى تنويع تحالفاتها الإقليمية وتعزيز مصالحها. هذا التحرك جاء في إطار بحث مصر عن توازن جديد في ظل ضغوط أمريكية متزايدة في عدة ملفات، أبرزها ملف قناة السويس، حيث تسعى واشنطن لضمان حرية الملاحة في البحر الأحمر وسط التوترات الإقليمية. ورغم دعم مصر الواضح للجيش السوداني، إلا أن واشنطن قد تحاول دفع القاهرة لاتخاذ موقف أكثر انسجامًا مع أجندتها الخاصة تجاه الأزمة السودانية. هذا التقارب المصري الإيراني يثير مخاوف كبيرة لدى إسرائيل والولايات المتحدة وبعض دول الخليج التي ترى فيه تهديداً لمصالحها وتوازنات المنطقة، ويمكن قراءة تصاعد التوترات عند حدود مصر الجنوبية، بما في ذلك معركة المثلث، كجزء من هذه الضغوط الرامية إلى استنزاف القاهرة وإشغالها عن قضايا محورية أخرى.
إن نقل المعارك إلى شمال السودان، واقترابها من الحدود المصرية، قد يكون محاولة لخلق (مستنقع استراتيجي) لمصر. هذا السيناريو المعقد يخدم أجندات متعددة، فإسرائيل تسعى لإعادة تشكيل التوازنات في البحر الأحمر والقرن الإفريقي، وقد تستفيد من إشغال مصر في صراع حدودي. بينما قد تضغط الولايات المتحدة على مصر في ملف قناة السويس، في محاولة لضمان سيطرة أكبر على الممر الملاحي الحيوي. وبعض دول الخليج، التي تدعم أطرافًا متضادة في السودان، قد تستفيد أيضاً من تشتيت انتباه القاهرة لتعزيز نفوذها الإقليمي. ولا ينفصل عن هذا السياق الضغط على مصر في ملف غزة، فاستمرار العدوان الإسرائيلي على القطاع ورفض مصر القاطع للتهجير القسري للفلسطينيين إلى سيناء، يضع القاهرة في مواجهة مباشرة مع تل أبيب. قد تكون التوترات في السودان جزءًا من الضغط على مصر لإعادة النظر في موقفها من غزة، في محاولة لاستنزاف مواردها العسكرية والدبلوماسية.
لا يمكن فصل الصراع في السودان عن صراع النفوذ الخليجي، فمصر تسعى لتحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية عبر دعمها للجيش السوداني، وهو ما يضعها في تنافس مباشر مع بعض دول الخليج، خاصة الإمارات، التي تدعم الدعم السريع وتسعى لتأمين مصالحها في الذهب والطرق التجارية الاستراتيجية والنفوذ. بينما تميل السعودية إلى دعم الاستقرار، لكنها مترددة في دعم طرف عسكري بشكل مباشر، وتحاول الموازنة بين مصالحها. أما قطر وتركيا، فلهما علاقات تاريخية مع بعض الحركات الإسلامية في السودان، لكن تأثيرهما تراجع مؤخرًا في ظل التوازنات الجديدة. هذا التنافس الإقليمي يفاقم الانقسامات الداخلية في السودان، ويُعيق جهود السلام، ويزيد من تعقيد الموقف الذي تسعى فيه مصر لتعزيز نفوذها في المنطقة.
وفي خضم هذه الأحداث المتسارعة، يبدو واضحًا لنا من خلال المتابعة الدقيقة تطورات المشهد، مؤكدةً على عمق التعقيدات الجيوسياسية. تتكشف لنا من خلال المتابعة الدقيقة أن السيطرة على المثلث تمثل بالفعل تحولًا استراتيجيًا بارزًا في مسار الحرب السودانية، الأمر الذي يُعزز طموح الدعم السريع لتأسيس (دولة أمر واقع) في غرب السودان، مدعومة بأيادٍ خارجية تسعى لتحقيق مكاسب تتجاوز حدود السودان. هذه الرؤى المتعمقة تبرهن أن الصراع في السودان، بما في ذلك معركة المثلث، هو في جوهره انعكاس للتنافس الجيوسياسي الأوسع، وأن الفاعلين غير الحكوميين يكتسبون قوة لا يستهان بها من خلال دعم الدول الإقليمية والدولية التي تسعى لتحقيق أجنداتها الخاصة في هذه الرقعة الجيوسياسية الحيوية.
إن معركة المثلث الحدودي، بكل ما تحمله من أبعاد عسكرية ولوجستية وجيوسياسية، تُعد مؤشراً حاسماً على تعقيد المشهد الإقليمي والدولي الذي تتوسطه مصر. القاهرة تجد نفسها في قلب عاصفة من الضغوط والتقاطعات، تتطلب منها استراتيجية متأنية ومرنة للحفاظ على أمنها القومي ومكانتها الإقليمية في عالم تتغير فيه موازين القوى بوتيرة غير مسبوقة. أما على الصعيد الداخلي السوداني، فتُشير هذه التطورات إلى أن أجندة الدعم السريع وتطلعاته لا تقتصر على السيطرة على مواقع محدودة فقط، بل تمتد لتأسيس مناطق نفوذ استراتيجية تمكنهم من السيطرة على الموارد والحدود، وهو ما يفرض واقعاً جديداً على الجيش السوداني، الذي يجد نفسه مضطراً لإعادة تقييم استراتيجيته في ظل هذا التقدم. إن أجندة حفتر في ليبيا، المتشابكة مع الأزمة السودانية، تهدف إلى بناء محاور نفوذ إقليمية تُعزز من قدرته على المساومة في ملفات بلاده، مما يجعل السودان ساحة لتصفية الحسابات الجيوسياسية الإقليمية. إن مصير المثلث، إذا، قد يكون مجرد بداية لفصول جديدة في هذا الصراع المتعدد الأبعاد، الذي لا يهدد السودان وحده، بل المنطقة بأكملها، ويزيد من تعقيد آفاق السلام والاستقرار. رغم جهود الوساطة الإقليمية والدولية المتعددة، يبدو أن مستقبل الحلول والسلام في السودان يواجه تحديات هائلة، حيث أن تعدد الفاعلين وتضارب المصالح يجعل من أي تسوية مستدامة أمراً بالغ الصعوبة في الأمد المنظور.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة