من مليط إلى وادي حلفا خريطة واحدة” تعقيب على مقال د. الوليد آدم مادبو: قوافل التحرير تكتب الجغرافيا من جديد
✍️ د. أحمد التيجاني سيد أحمد عضو تحالف تأسيس
في مقاله «من مليط إلى جبل العوينات»، قدم الدكتور الوليد آدم مادبو تشريحًا دقيقًا لكيفية استخدام الخرائط والقرارات الاقتصادية كأدوات تهميش وعقاب سياسي ضد إقليم دارفور، بدءًا من تحويل نقطة الجمارك من مليط إلى دنقلا في عام 1992، في عملية لا تفسير لها إلا توطين الامتياز الجهوي وتحويل شريان الاقتصاد إلى حكرٍ على المركز.
لكن ما حدث لمليط، لم يكن استثناءً ولا حادثة عارضة، بل كان جزءًا من سياسة ممنهجة، استهدفت كل منطقة أرادت أن تعيش بكرامة خارج جاذبية المركز. فقد تكررت الخيانة نفسها في الشمال، حين وُضعت وادي حلفا تحت المقصلة. لم يكن ذلك عبر الجمارك كما حدث في مليط، بل عبر موردٍ لا غنى عنه: الكهرباء.
في الأصل، كانت الخطة واضحة: مسح وادي حلفا من الخريطة. حاولوا ذلك في الستينيات بتهجير أهلها وغمر المدينة القديمة بمياه السد العالي. فشلوا، لأن ذاكرة النوبيين لم تُغمر. ثم انتقلوا إلى الخطة الثانية: تجفيف الحياة بالحرمان من الخدمات الأساسية، فتم إهمال البنية التحتية، وترك المنطقة خارج شبكة الاستثمار والخطط التنموية لعقود. لكنهم فشلوا مرةً أخرى، لأن النوبيين – برغم التهجير – امتازوا بقدرتهم على الاعتماد على النفس، فبنى المهاجرون مستشفياتهم ومدارسهم ومرافقهم الخيرية، وزرعوا الأرض بلا دعم من أحد.
ولأنهم فشلوا في المسح والتهميش، لم يبقَ في جعبتهم إلا سلاح القطع. وهكذا جاء قطع الكهرباء عن حلفا – كما حدث الأسبوع الماضي – كآخر تجلٍ لعقيدة العقوبة الجماعية، لا ضد مخالفة قانون، بل ضد منطقة رفضت الانحناء، تمامًا كما رفضت مليط أن تكون مجرد نقطة على هامش الخريطة.
ثم جاءت محاولة جديدة تحت غطاء “التنمية”، حين طرحت الحكومات المتعاقبة مشاريع سدود في كجبار ودال، لتكمل ما لم يتمّ في تهجير الستينيات. لم يكن الهدف تحسين حياة السكان، بل إغراق ما تبقى من الأرض والتاريخ. فقاوم النوبيون بوعيٍ نادر. رفعوا رايات الرفض، واجهوا الإعلام والتضليل، فأطلق النظام قناصته، وسالت دماء الشباب النوبي في كجبار، فقط لأنهم أرادوا البقاء.
هنا تتقاطع المأساة بين مليط وحلفا. فكما سُمّي أهل دارفور "زرقة" و"عبيد" و"فروخ"، سُمّي النوبيون "برابرة" و"رطانة" — وكأن اللغة والنسب أدوات تصنيف في دفتر الوطنية، وكأن الانتماء يُمنح فقط لمن يُرضي المركز.
الرسالة التي حملها مقال د. الوليد هي أن الجغرافيا يمكن أن تتحرر حين تتحرك القوافل، حين تخرج دارفور من عنق الزجاجة، وتكتب طرقها بعرق الناس لا بمراسيم الخرطوم. لكن الرسالة الأوسع، التي نحتاج جميعًا أن نؤمن بها، هي أن لا دارفور يمكن أن تتحرر ما لم تتحرر حلفا، ولا كردفان تنهض ما لم تنهض دنقلا، ولا شرق يستقيم ما لم يُنصف غرب.
إنها خريطة واحدة لعدوَين: "زرقة" و"رطانة"، ووطن واحد لا يُبنى من الخرطوم، بل يُستعاد من الأطراف، حيث لا تزال الكرامة تحفر في الصخر، وتزرع الحياة في الوحل، وتضيء المصابيح بالشموع إن انقطعت الكهرباء.
د احمد التيجاني سيد احمد عضو تحالف تأسيس ١٠ يونيو ٢٠٢٥ روما إيطاليا
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة