في عصر الأدب العربي الذهبي ورواده، على رأسهم الجاحظ، ذاك الأديب صاحب الأسلوب الأدبي المتميز الذي يجمع بين الجدل والهزل، الجاحظ صاحب المؤلفات الأدبية العظيمة على رأسها البيان والتبين، بالتحديد قسم (فضل العصا)، الذي حاول من خلاله الجاحظ توضيح منافع العصا للرد على انتقادات الحركة الشعوبية، "الفرس" على وجه التحديد الذين انتقدوا العرب لاستخدام العصا التي أصبحت ملازمة لهم حتى بعد أن انتقلوا من البدو إلى الحضر، واستهزاء الفرس بالعرب، واعتبار أن ملازمة العرب للعصا إن دل على شيء إنما يدل على تقوقعهم في عقليتهم البدوية المعتادة على التعامل مع الحيوانات وترويضها بالعصا لأن العرب في نظر الفرس هم مجرد رعاة.
وهذه الحركة الشعوبية التي حاول الجاحظ الرد على انتقاداتها في مؤلفه البيان والتبين قسم (فضل العصا)، مبيناً أن للعصا فوائد كثيرة على سبيل المثال لا الحصر: يتوكأ عليها الإنسان ويهش بها على الغنم، ولها فوائد أخرى كما قال نبي الله موسى (وما تلك بيمينك يا موسى؟ قال هي عصاي أتوكا عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى)، ويقال عند العرب يلقى الرجل عصاه إذا اطمأن للمكان، وقال ابن عباس في العصا: إذا انتهيت إلى رأس بئر فقصر الرشا وصلته بالعصا، وإذا أصابني حر الشمس غرزتها في الأرض وألقيت عليها ما يظلني، وإذا خفت شيئاً من هوام الأرض قتلته بها، وإذا مشيت ألقيتها على عاتقي وعلقت عليها القوس والكنانة والمخلاة، وأقاتل بها السباع عن الغنم، أيضًا الحجاج بن يوسف الثقفي عندما لقي أعرابياً قال له: ما بيدك؟ قال هي عصاي أركزها لوقت صلاتي وأعدها لأعدائي وأسوق بها دابتي وأقوى بها على سفري وأعتمد عليها في ذهابي وإيابي يتسع بها خطوي وأثب بها على النهر وتؤمن العثرة وأتقي بواسطتها شر العشر وألقي عليها كسائي فتقيني الحر وتجنبني القر وتدني إلى ما بعد عني وتحمل سفرتي وأدواتي وأقرع بها الأبواب وأضرب بها الكلاب وتنوب عن الرمح في الطعان وعن السيف في منازلة الأقران وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى.
وأجمل ما يمكن قراءته في موضوع العصا قصة الشرقي مع التغلبي التي "تسلط الضوء على بعض فوائد العصا، ولنعود للشعوبية" تلك الظاهرة التي هي في الأساس حركة ظهرت نهاية القرن الثاني من الفتوحات العربية (fin de deuxième siècle de conquête arabes) وآنداك في العصر الأموي كانت قد ظهرت بوادر الشعوبية إلا أنها انتشرت بصورة كبيرة في بدايات العصر العباسي، وهذه الحركة الشعوبية يعرفها الأوروبيون بأنها في بدايتها كانت عبارة عن: mouvement social a pour but de manifester les inégalités et la supériorité d’une race ou d’une langue، أي أنها حركة اجتماعية تناهض عدم المساواة والتمييز بعامل العرق أو اللغة، بمعنى أنه لا فضل للعرب على غيرهم من العجم، ولكن للأسف مع مرور الوقت تحول من يدعي أنه مظلوم إلى جلاد وظالم، وتحولت هذه الحركة الشعوبية المطالبة بالمساواة سابقاً إلى حركة عنصرية متطرفة لم تكتف بالمطالبة بالمساواة بل صارت تحجبها عن غيرهم المختلف عنهم عرقياً ولغوياً، ووصل الحال بهذه الحركة إلى حد احتقار كل من هو غير عجمي (عربي)؟، وباتت تلك الحركة الشعوبية تفضل العجمي على العرب، وتحاول الانتقاص من شأن العرب والتقليل منهم، وتحرض على بغضهم، حتى عرف البريطانيون الحركة الشعوبية بالحركة المناوئة للعروبة، وصارت المجموعات المكونة للحركة الشعوبية متعصبة لثقافتها ولغتها وشعبها، وتعتبر نفسها الأفضل، وتبغض وتحتقر كل من هو دونها.
إنّ شعوبية اليوم التى تعيشها فرنسا للأسف هى شعوبية يعتلي عرشها مجموعة من المتطرفين أيديولوجيا وسياسياً تستهدف فيها ديانة بعينها الإسلام ومجموعة محددة، المسلمين العرب بالتحديد، ويستخدمون كأدوات في محاربة الإسلام والمسلمين والتحرش بهم والتحريض عليهم كل من هو غاضب من هذه الفئة أو حتى لديه تضارب مصالح معها بمعنى "عدو عدوي صديقي"، ولكنّه تحالف تكتيكي مرحلي وسرعان ما يتحول المستخدم ضدّ الأدوات بعد انتهاء الغرض. حرب الشعوبية هذه بات واضحا أنها تستخدم فيها مبررات كثيرة كغطاء على الأهداف الحقيقية التي في أغلبها تكشف عن كره وعدم تقبل للآخر وأحياناً تضارب المصالح، ولكن تستخدم أغطية كالعلمانية في خطر والهوية الفرنسية في خطر والإسلام والمسلمين هم الخطر ثم الحديث عن الهجرة كخطر، وفي حقيقة الأمر اتضح أن المهاجرين المستهدفين هم المسلمين العرب فقط لا غير، وإن كانوا منتجين ومساهمين في أغلبهم، لكن كل هذا لا يشفع لأن مبررات الحرب الشعوبية ما هي في ظاهرها إلا كلمة حق أريد بها باطل، ولم يتوقف الأمر على هذا فقط بل تحول إلى حرب سيكولوجية وإرهابية، فالإرهاب لا ديانة له ولا لغة ولا مستوى اجتماعي بل هو سلوك ومنها الإرهاب الأيديولوجي والشعوبي، والإجرام ليس في الأحياء الفقيرة المكتظة بالفقراء والمهاجرين بل الإجرام سلوك ويمكن أن تكون مجرماً ببدلة وربطة عنق وقميص أنيق وتمارس الإجرام. ومن أساليب الإجرام والإرهاب "استغلال الضعف"، والضعف هو كلمة كبيرة جداً بحر واسع وعميق، فالجهل هو شكل من أشكال الضعف،و الجهلاء أو قليلى المعرفة بأمر ما أو شئ ما يجب أخذهم في الاعتبار في قائمة الشرائح الاجتماعية الضعيفة مثل المرأة و الطفل و كبار السن و غيرهم ، و الجهل بأمر ما يصبح ضعفاً عندما يستثمر الشعوبي فيه كجهل المهاجرين الإسلاميين من أصول عربية وأفريقية أو قلة معرفتهم بأمر من أمور دينهم و إستغلال هذا الجهل هو نوع من أنواع الإجرام والإرهاب. على سبيل المثال، المغاربة المسلمون بات واضحاً من خلال المراقبة والمتابعة والتدقيق والتجربة الاجتماعية أن أغلبهم "جهلاء أو قليلى المعرفة في أمور دينهم ودنياهم"، مما سهل عملية استهدافهم والتحرش بهم والتحريض عليهم، إن جهلهم أو قلة معرفتهم بالإسلام الذي يدينون به ويطبقون شعائره وتعاليمه دون إلمام كامل شامل بما وراء السطور جعلهم فريسة سهلة الاصطياد لأنهم يحاربون اليوم بهذا الإسلام الذي يحاولون تطبيقه ويجهلون فكرياً ومذهبياً أشياء كثيرة عنه، يحاربون اليوم بسبب إصرارهم على التمسك بثقافة عربية وإسلامية هم يجهلون الكثيرين عنها، ولكنهم يحتاجون إلى الانتماء إليها لأن في مخيلتهم الانتماء إليها يحررهم من الاستعمار ويخلق لهم كينونة ووجوداً وذاتاً،و يعوضهم نفسياً عن لفظهم من قبل المجموعات المتطرفة الشعوبية التى تحاول أن تستبعدهم من المجتمع الاوروبى ، ولأن بطبيعة البشر يحتاجون إلى انتماء ثقافي ديني لغوي خاصة في ظل الظروف الحالية، وتصاعد الشعوبية الذي كان سبباً أساسياً لم لا يترك للآخرين حلاً سوى "الاحتماء وراء التكتلات" التي تعبر عن مطالبهم أو مظالمهم أو تعبر عنهم. ولكن جهلهم بثقافة ما ودين ما ينتمون إليه جعلهم فريسة سهلة الاصطياد يحاربون بالإسلام والثقافة العربية، على العلم أن العروبة في مفهومها ليست عروبة العرق بل عروبة اللسان والثقافة، أي بمعنى من تكلم العربية وتعايش في ثقافة عربية يقال إنه عربي، وبعضهم يتحدث الفرنسية ولا يعرف غيرها، ونشأ وترعرع في ثقافة فرنسية، ومع ذلك يقول له بعضهم من الشعوبيين المتطرفين إنه ليس فرنسياً ولا يمكن أن يكون فرنسياً، واسمه عربياً محمد أو أفريقي اسمه مامدو، وكأنما الانتماء الفرنسي هو مجرد أسماء أو عرق أوروبي، وحتى يدلل الشعوبيون والمتطرفون على أن المسلمين العرب والأفارقة لا يمكن أن يكونوا مواطنين فرنسيين يتبعون سياسة فرق تسد، يقارنونهم بالبرتغال في مقارنة تفضيلية للمهاجر الأوروبي، تنتهي بالتأكيد على أن المهاجرين المسلمين من عرب وأفارقة لا خير فيهم، وهم أشبه ما يكونون بالحيوانات البربرية الهمجية دون مراعاة لشعور العامة. ولكن لنرجع إلى موضوع "الجهل" الذي وصفته "بالضعف"، وأنه جهل هؤلاء المهاجرين بالتحديد المسلمين العرب بدياناتهم وثقافتهم أو قلة معرفتهم بها أو بتفاصيلها أو أحكامهما أو شعائرها إلخ جعلهم فريسة سهلة الاصطياد، وجعل كل من هب ودب وأعطى نفسه صفة "مفكر" يسهل عليه تحجيمهم وتقزيمهم وتمرير أجندته فيهم، والشاهد على ذلك عندما يُقال لمذيعة إن الإسلام لا يمكن ان ينسجم او يتعايش مع العلمانية و انه يتعارض و مبادئ المواخاة و الحرية و انه دين شبه متطرف و غيرها من الاشياء و انه لا فرق بين الاسلام و التأسلم و كلام كثير و في ذات الوقت المذيعه التي هي من أصول عربية مغاربية و مسلمة لا يمكنها ان ترد لانها تجهل بالأسلام او تعرف عنّه القليل مما يتركها في حالة هشاشه و ضعف امام من يدعى انه "مفكر" و يعرف الاسلام و هو أكثر جهلا منها بالأسلام و تقوده اجندة اخرى غير الفكر و العقلانية و لكنه يستمد قوته من قلة معرفتها بالاسلام . كذلك عندما يتم استضافة بنت من أصول مغاربية مسلمة و يقال لها ان الحجاب الذي في راسها هو في اساسه نظام فصل عنصري و لاضعاف المراة و إعلاء الهيمنة الذكورية عليها و غيرها من الاشياء و هي لا تجد ما تقوله غير ان الحجاب هو خيارها و لم تجبر عليه و ليس من العدل ان يتم منعها من التعلم و ممارسة النشاطات الاجتماعية كالرياضة و غيرها بحجة انها محجبة الخ ايضا جهل هذه الفتاة بالاسلام جعلها في موقف الضعف و عدم قدرتها على إدحاض الإدعاءات الغير صحيحة حول مكانة الحجاب في الاسلام و الاهداف الدينية والاجتماعية والثقافية المرتبطة به، و لكن لنتوقف للحظة و نسأل آنفسنا ما سبب جهل هذه الشعوب المغاربية بالتحديد باسلامهم و ثقافتهم بما فيها العربية ؟ فالواقع يكشف ان من يعتقدون انهم "عنتره في الفكر" و يمارسون سياسة العارف الجاهل مع المغاربه لا يقدرون ان يقول هذا الكلام امام مصري او عراقي او غيرهم لانهم عارفين بامور دينهم و ثقافتهم ، و السؤال الذي يطرح نفسه هل هذا لان المغاربه جهلاء ؟ام اغبياء ؟ و الاجابة لا ، لكن الفرق بينهم و الاخرين من مصري او سوداني او عراقي او غيرهم هو نوع الاستعمار الذي وقع عليهم، كيف؟ في حقيقة الامر ان تعريف الاستعمار يختلف من قارة لقارة و من ثقافة لثقافة الخ و يختلف تعريف الاستعمار عند المستعمر من تعريف الاستعمار عند المستعمرون من وقع عليهم الاستعمار و هنا اريد أن اريد ان اركز على تعريف الاستعمار عند الدول التي وقع عليها الاستعمار و هو يختلف عن تعريف الدول المستعمرة لذاتها و المثل يقول سئل مجرب و لا تسأل طبيب لان احيانا من عاش التجربة هوّ اقدر بوصفها ممن يدعي الفلسفة و المعرفة و الدول التي وقع عليها الاستعمار تصف على سبيل المثال استعمار الامبراطورية العظمى التي لا تغيب الشمس عن مستعمراتها لكثرتها بريطانيا العظمي بان الاستعمار البريطاني يتميز بنهب و سلب موارد الشعوب و تطبيق سياسة فرق تسد و فصل و تفكيك في داخل الدولة الواحدة او ترك ما يزرع الفرقة بين الدول كترسيم الحدود و التنازع حول الاراضي كما هو الحال بين بعض الدول حيث يقولون ان ذلك يرجع الى السياسات الاستعمارية و بالتحديد البريطانية ثم نتوجه لتعريف الاستعمار البرتغالي و تعرفه الدول التي وقع عليها الاستعمار بأنه يوصف بالبطش و التعصب الديني ثم الاستعمار الفرنسي و توصفه الدول التى وقع عليها الاستعمار الفرنسي بانه " يتميز بطمس هوية و ثقافة الشعوب " اي انه استعمار ذو طابع ايديولوجي يسعى لطمس هوية الشعوب التى يقع عليها الاستعمار و طمس ثقافتها والدراسات تحكى عن هذه الممارسات بشكل ممنهج في الجزائر التي بات واضحا انه بلد مسلوب الهوية و الثقافة و حتى الدول العربية يقولون من مآسي الاستعمار الفرنسي انه قضي على الجزائر مرتين تارة عندما حاربها اثناء الاستعمار و عمل على طمس هويتها الامازيغية و العربية و ثقافتهم و لغاتهم و كيف كانت تحارب لغاتهم و تفرض اللغة الفرنسية ثم جنى على الجزائريين مرة اخرى عندما لفظهم فتركهم غير قادرين على الاندماج في الوسط العربي بالتحديد و غير مقبولين في الوسط الفرنسي فعلى سبيل المثال عملية الاندماج في الوسط العربى تحتاج على الاقل لمعرفة اللغة العربية التي طمست و حوربت في فترة الاستعمار كما ان قلة معرفتهم أو جهل بعضهم بالاسلام و الثقافة العربية التى طمسها الاستعمار عمدا اصبحت نقطة الضعف التى حولتهم لفريسة سهلة الاصطياد للشعوبيين المتطرفين من مدعى المعرفة الذين يستغلون نقطة الضعف هذه التي أوجدها الاستعمار وليس غباءً منهم أو جهلاً فهم ملمون بالقوانين والأعراف الفرنسية وجاهلون أو قليلي المعرفة بالإسلامية والعربية والحرب التي يقودها الشعوبيون اليوم تستهدف الإسلام والعروبة ومن يجهل دينه أو ثقافته أو قليل المعرفة والإلمام بهما يكون في قائمة الضحايا ويتم تقزيمه وتحجيمه وإلصاق كل التهم والجرائم والسلوكيات المشينة به والتهمة هي الإسلام والعروبة.
و الجدير بالذكر أن الديانة الأقرب للإسلام هي اليهودية، والإسلام نظام قانوني وتشريعي واجتماعي، ومن قال قد علمت فيه فقد جهل. هو بحر عميق و عليه يصبح ادعاء معرفة الإسلام كاملاً شاملاً أو فهمه جملة وتفصيلاً أمر ليس بالسهل، ومن أساسيات فهمه إتقان اللغة العربية، وليس فهمها والتحدث بها أو كتابتها فقط، بل إتقان اللغة العربية التي هي في ذاتها بحر عميق جداً.
أخيراً، الظاهرة المؤسفة عندما يقبل من كان يوماً ما ضحية نفس السلوك الشعوبي المتطرف أن يتحول إلى جلاد أو أداة في يد الجلاد، ومن المؤسف أن يستغل الشعوبيون المتطرفون ما عليه الوضع من خلاف بين اليهود والمسلمين في استخدامهم ضد بعضهم البعض، ويبدو ذلك واضحاً في استراتيجية تقديم أوجه يهودية لتبني خطاب الكراهية ضد المسلمين والإسلام والتحريض عليهم، فما يعيشه المسلمون الآن وما يتعرضون له بالتضييق والخناق بسبب الهوية والدين سبق وعاشوه اليهود، فكيف لمن عاش مرارة التجربة يسمح بأن يكون أداة لتطبيق نفس التجربة في ضحايا آخرين.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة