يتناول هذا المقال بالنقد التفكيكي كتاب مهارب المبدعين للدكتور النور حمد، الذي يُعد من أبرز الأعمال التي طرحت أسئلة الهوية الثقافية السودانية من خلال نماذج إبداعية هاربة. يسعى المقال إلى كشف البنيات المتضادة والتوترات الداخلية في خطاب الكتاب وتفكيك ثنائية "المبدع/الضحية" و"الهرب/الخلاص"، عبر قراءة تُسلّط الضوء على العلاقة الإشكالية بين الذات المبدعة وسياقها الاجتماعي والسياسي والثقافي. ويدّعي المقال أن خطاب النور حمد، رغم نزوعه نحو مساءلة المنظومات التقليدية، يظل أسيرًا لمنطق إرشادي يفضح هشاشة المسافة بين الناقد ومادته. مقدمة- الكتاب كموقع تأويلي -إن مهارب المبدعين لا يُقدَّم بوصفه دراسة أدبية خالصة، بل بوصفه نصًا ثقافيًا يسعى إلى تفسير أزمة الإبداع السوداني عبر "ظاهرة الهرب"، وقد اتخذت هذه الظاهرة عند النور أشكالًا متعددة: هرب إلى البادية، إلى المدينة الأجنبية إلى التصوف، إلى الداخل الشخصي، أو حتى إلى الموت. من هذا المنطلق، يمكن التعامل مع الكتاب كنصٍّ مزدوج البنية: ظاهرُه تحليلٌ ثقافيّ، وباطنه إعادة إنتاج لهوية المثقف السوداني ضمن بنية سلطوية جديدة. تفكيك الثنائية المركزية: الهرب كخلاص أم كفشل؟ يفترض الكتاب ثنائية "الهرب = فشل في مواجهة الواقع". غير أن التفكيك، بوصفه ممارسة تسائل الثنائيات، يُظهر أن هذا "الهرب" لم يكن دومًا حالة سلبية. بل إن النص ذاته يعيد إنتاجه بوصفه شكلًا من أشكال المقاومة الناعمة، أو "البحث عن براح"، كما يصفه الكاتب. "لقد كانت نزعة الهرب تعبيرًا عن رغبة واعية أو لا واعية في المباعدة بين الذات وبين الموت المعنوي." (ص 26)
بهذا المعنى، تتحول "المهارب" من علامة هزيمة إلى استراتيجية بقاء، مما يزعزع من منطق الإدانة الذي يلوّح به الكاتب في مواضع متعددة.
انزياح الدال: من البادية إلى الأنثى يرتبط الهرب، في معظم فصول الكتاب، بإشباع رغبة مكبوتة، غالبًا ما تتخذ صورة الأنثى المفقودة أو الممنوعة. فالعباسي، والمحجوب، والمجذوب، وحتى قريب الله، يتجهون نحو فضاء بديل (البادية، أو المدينة الأجنبية) بحثًا عن "الحضور الأنثوي" بوصفه ما ينقص المدينة المحافظة. غير أن هذا الحضور لا يُكتب له الاكتمال، بل يظل دائمًا ناقصًا، متفلتًا، مهددً- "امتلك قلب روزميري ثم الهرب منه." (ص 326)
بهذا تصبح "الأنثى" دالاً متشظيًا، يراوغ التمثل، ولا يحيل إلى مدلول مستقر. وفي إطار تفكيكي، فإن هذا يدل على أن "الهرب" ليس باتجاه مقصد محدد، بل فعلٌ من دون مرساة، يتكرر بوصفه فشلًا في بلوغ التحقق لا بوصفه خيارًا ناجعًا.
النقد كتجسيد للسلطة الثقافية رغم أن النور حمد يتبنى نبرة تفكيكية تجاه الطائفية، والمركزية، والتصوف الكاذب، إلا أن خطابه لا ينجو من نزعة تقويمية صارمة. فهو يُدين الرموز الإبداعية لانصرافها عن "المعركة الثقافية الكبرى"، ويضعهم ضمن تصنيف "الهاربين". هنا يعيد الكاتب إنتاج موقع "الراعي الثقافي" الذي يتحدث من علٍ عن "الطاقة المهدورة" و"الفرص الضائعة". بمنطق دريدا، فإن الخطاب النقدي هنا لا يُزيل البنية السلطوية، بل ينقلها من سلطة الطائفية إلى سلطة المثقف الذي يقرر من هو "الهارب" ومن هو "المقاوم". الكتاب كنص مشروخ: الذات الناقدة في مرآة المهارب من الملاحظ أن النور حمد لا يستطيع الحفاظ على موقف نقدي متماسك. فهو من جهة يحتفي بالمهارب باعتبارها تعبيرًا عن تمزق الوعي السوداني، ومن جهة أخرى يدينها بوصفها نوعًا من "الهروب من المعركة". وهذا ما يجعل خطابه ذاته مثقلاً بالتمزق، وكأن الكاتب يُسائل ذاته ضمنًا: هل يستطيع المبدع أن يغيّر الواقع؟ أم أن انكساره هو ذاته شكل من أشكال الوعي الحاد باللاجدوى؟ من منظور تفكيكي، هذا التردد ليس ضعفًا بل قوة نصية، تكشف عن العمق الإشكالي للموضوع نفسه، وتمنع النص من أن يغلق على يقيناته. تفكيك التفكيك إن مهارب المبدعين ليس مجرد خطاب عن "الآخرين" – أي المثقفين والمبدعين السودانيين – بل هو خطاب عن الذات السودانية وقد شاخت داخل ثقافة أحادية الصوت، طاردة للاختلاف، خانقة للأنوثة، متوجسة من الحداثة. ومع ذلك، فإن النور حمد نفسه، كمثقف وناقد، يعيد تأكيد ما حاول تفكيكه: ثنائية "الملتزم/الهارب"، "المثقف/الضحية". بهذا المعنى، فإن الكتاب يُقدّم نفسه كـنص يريد أن يقول الحقيقة لكنه لا يستطيع الإمساك بها كاملة، مما يجعله جديرًا بتفكيك من داخله.
المراجع النور حمد، مهارب المبدعين، دار مدارك، الطبعة الثانية، 2013.
Jacques Derrida, Of Grammatology, Johns Hopkins University Press, 1976.
Spivak, Gayatri Chakravorty, “Can the Subaltern Speak؟” in Marxism and the Interpretation of Culture, 1988.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة