لا أعرف مأساة قدر تلك التي أحدثها الدعم السريع في الجلابة، لقد قلب كل شيء وليس الطاولة فقط. تخيلو أن الشماليين عاشوا حياتهم كلها وهم يجلسون أمام الراديو والتلفزيون في انتظار قيام ضابط شمالي بانقلاب عسكري لينقل السلطة من قبيلة شمالية لقبيلة شمالية اخرى ومن ثم تكوين أسر من اللصوص يطلق عليهم الشماليون مسمى (النخبة) لتجميل لصوصهم وشرعنة اللصوصية عبر السلطة، ثم -بعد بضع سنين- تنتفض منهم مجموعة لم تنل حظها من السلطة فيحدث انقلاب شمالي على الانقلاب الشمالي السابق وتمنح السلطة لأحزاب الشمال، فتسرق (نخب) أخرى، وهكذا نعيش نحن في دائرة الشمال المغلقة. أما غير الشماليين فلا يسمح لهم بالانقلاب، بل حينها وفوراً يسمون متمردين وتنزع عنهم الجنسية بل وتنزع منهم حتى انسانيتهم فعتبروا مجرد عبيد وليسوا كباقي البشر، فالشماليون هم وحدهم السودانيون، وهم وحدهم من لهم الحق في منح الكباشي رتبة في الجيش ونزعها منه إن (تمرد) أو فكر مجرد تفكير في الخروج من سيطرة الشمال، .. كل ذلك التاريخ.. كل ما سبق كل ذلك التنمر كل ذلك التجبر كل ذلك الصلف والعجرفة كل تلك اللصوصية كل تلك العنصرية المريضة كل ذلك.. انهاه القائد حميدتي في لحظة.. لحظة.. -بالنسبة للشماليين- أخطر من يوم ينفخ في الصور.. فكيف لا تكون هذه ردود أفعالهم.. كيف لا يصرخون.. يا قوم.. كيف لا يبكون كيف لا يجعِّرون حتى تنساب (المخاخيت) من أنوفهم.. كيف لا يتشحتفون ويتوحوحون وحوحوة المومس من ألم السفاد.. لماذا لا يريد الهامش تصديق أن ما حدث من الدعم السريع كارثة حقيقية بالنسبة للشماليين.. نعم.. الهامش لا يصدق أنها كارثة لأن الهامش اعتاد على أن يكون هو الضحية: ضحية الإبادات الجماعية ضحية التطهير العرقي ضحية حرق الأكواخ ضحية الاغتصاب ضحية سرقة ثرواته عبر (نخب) الشمال.. لذلك أصبح الهامش معتاداً على كل ما سبق ويعتقد أن الشماليين مثله.. لا يا هامش.. الشماليون لم يتصوروا بل لم يراودهم حتى أسوأ كوابيسهم وسفاهة أحلامهم أن سيطرتهم ستنهار فجأ هكذا.. لم يأتهم مجرد طيف خيال بأن هناك جيش للهامش يمكن أن يهدد مصالحهم.. حتى الشهيد جون قرنق لم يسبب لهم صداع كما سببه لهم القائد حميدتي .. ما حدث لم يسبب لهم صداع فقط.. بل شلل .. وهبوط حاد في الدورة الدموية.. ومنخوليا.. بل ربما حتى تورم في البواسير.. لا من شدة درونات عبد الله ابراهيم القديمة.. بل من كارثة أنهم فقدوا كل مزاياهم.. لذلك تراهم يرقصون رقص المهلوسات في الزار.. ويضحكون ضحك المصابين بالمنغوليا، ويبكون بكاء الثكالى، ويبحثون عن أمل في أبسط تصرفات البرهان كوهم تعيين كامل إدريس رئيساً للوزراء.. وصاحب قرار التعيين (البرهان) نفسه يحتاج لشرعية تمنحه الحق في التعيين.. فلا هو يتمتع بشرعية دستورية لأنه منقلب على الوثيقة الدستورية، ولا شرعية ثورية لأنه منقلب على الثورة ولا مجرد شرعية السيطرة الفعلية، فهو لا يسيطر على أي شبر، بل حتى بورتسودان هرب منها حين تعرضت للقصف.. مع ذلك يريد الشماليون تصديق أوهامهم، ويدبجون المقالات عن أدوار كامل إدريس، ومستقبل السودان في ظل حكومة كامل إدريس، والخطط الاقتصادية التي سيعالج بها كامل إدريس أزمة السودان.. رغم أن كامل إدريس نفسه يبحث عن من يقنعه بأنه رئيس وزراء حقيقي.. فما لهؤلاء القوم لا يعقلون، وإذا رأوا الحقيقة التي لا تأتي على هواهم جحدوها وكانوا من المنكرين.. وقالوا ما يقولون وهم يقولون ما لا يعملون وما لا يعلمون.. أمن سفاهة في عقولهم أم أنها الكارثة.. إنها الكارثة.. إنها المأساة.. ولا أعرف مأساة قدر تلك التي أحدثها الدعم السريع في الجلابة، لقد قلب.....
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة