في لحظة من أحلك لحظات الخطاب الثقافي السوداني الحديث، خرج الدكتور عبد الله علي إبراهيم عبر قناة الجزيرة في 2/6/2025، ليُفصح دون تردد عن انحيازه الكامل للحرب، مُعرِّفًا إياها لا ككارثة يجب تفاديها، بل كأداة تفاوض مشروعة، تتحدد شروطها وسقوفها حسب مصلحة القوات المسلحة السودانية. فقد خلص الدكتور في إجابته إلى دعوة صريحة لاستمرار الحرب، إلى أن تقرر المؤسسة العسكرية بنفسها أن لحظة التفاوض قد حانت، حين تترجح كفة الميدان لصالحها. هذا الموقف، الذي قُدِّم ببرود لغوي تعالٍ ونرجسية، لا يمكن فصله عن البنية التاريخية للهيمنة النخبوية في السودان، ولا عن النظام الطبقي، الاجتماعي والإثني الذي شكَّل نخبة المركز منذ الاستقلال. فتصريح الدكتور ليس رأيًا فرديًا عابرًا، بل هو انعكاس مركز لانحياز إيديولوجي عميق، يكشف عن بقايا عقلية نخّاس ثقافي لا يزال يتمسك بامتيازاته، حتى ولو كان الثمن دماء الأبرياء في الهامش. إنها لحظة انكشاف أخلاقي، تُعرِّي إفلاسًا فكريًا مريعًا، حين تتحول الكتابة من فضاء نقدي يسعى للعدالة، إلى أداة تبريرية تُلبِس القتل ثوب السيادة، وتُحوّل الحرب إلى رافعة لسلطة نخبوية مأزومة.
حين يُسأل كاتب عن مسؤوليته الأخلاقية كصاحب فكر وقلم، ثم يجيب بأنه يدعو للحرب كما تفعل القوات المسلحة، وللأسباب ذاتها التي يسوقها الجيش وهي "القضاء على التمرد"، دون أي محاولة لفهم هذا التمرد في سياقه العميق – كحراك تاريخي وثوري معقد، متقاطع ومتشابك، فإننا لا نكون فقط أمام موقف سياسي منحاز، بل أمام انحدار أخلاقي وفكري يخلع عن صاحبه عباءة المثقف، ويلبسه ثوب المنظر للعنف. هذه الحرب ليست مواجهة تقليدية بين جيش نظامي ومليشيا، بل هي في جوهرها صراع جذري بين مشروعين: مشروع دولة قديمة تشكلت على القهر، والمركزية، والعنف البنيوي، ومشروع السودان الجديد، الذي تمثله قوى الهامش منذ عقود، وعلى رأسها الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، والتي تطالب بإعادة تأسيس الدولة على أسس المساواة، والعلمانية، وحق تقرير المصير والعدالة التاريخية. ما لا يجرؤ الدكتور عبد الله على الاعتراف به، هو أن جيشه، الذي يطالب بانتصاره، لا يواجه فقط الدعم السريع الخارج عن الطاعة، والذي تمرد حديثا، بل يواجه مشروعًا تحرريًا يعري امتيازات المركز التي تربّى عليها هو وأمثاله. إن هجومه العنيف على الدعم السريع لا ينبع من رفضه للعنف، أو من موقع مبدئي من الدعم السريع، بل من تغيّر موقع هذا التشكيل داخل المشهد السياسي والعسكري، حيث انتقل الدعم السريع من أداة طيعة للجيش والنخبة، إلى قوة متمردة على النظام الذي صنعها. لقد نشأ الدعم السريع بقرار من الدولة العميقة، لا ليحمي المدنيين، بل ليقمع ثورات الهامش، ويقوم بالمهمات القذرة التي لا يجرؤ الجيش الرسمي على القيام بها علنًا. وقد قاتل فعليًا في صفوف القوات المسلحة ضد الحركات الثورية في دارفور وجبال النوبة، دون أن نقرأ سطرًا واحدًا من الدكتور عبد الله علي ابراهيم يدين تلك الجرائم أو يدعو لمحاسبة الجناة حينها. وحين تمرّد حميدتي، وانقلبت موازينه، حينها فقط بدا الدكتور في نيرانه النقدية! أما الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، فهي الكتلة المتماسكة التي ظلّت، برغم الانقسامات والانحسارات، تقدم مشروعًا سياسيًا أخلاقيًا يضع في جوهره إنهاء الاستغلال البنيوي، والاعتراف بالتعدد، وتفكيك الهيمنة المركزية. وتحالفها اليوم مع المتمردين على الجيش بما فيهم الدعم السريع ليس خيانة لاي كان بل ممارسة ثورية لتكوين كتلة تاريخية تفكك الدولة الي يدعوا اليها امثال الدكتور عبد الله علي إبراهيم. من المهم تذكير الدكتور عبد الله وكل المدافعين عن الدولة القديمة، أن أبناء قرى مثل الخيرات، وكنابي الجزيرة، وسنار، واحزمة المدن السوداء الذين ما زالوا يُزج بهم في صفوف الجيش ليقاتلوا ضد مجتمعاتهم، سيستفيقون عاجلًا على حقيقة مرة: هذه الدولة لا تعبأ بأمهاتهم، ولا تبكي على أطفالهم، ولا تحمي مدارسهم. بل تستهلكهم، وتزدرى لغتهم، وتلعن ثقافتهم. كما استيقظ الجنود السود في الجيش الفرنسي، الذين التحقوا بالثوار الهايتيين، أو كما ثار الجنود الهنود في جيش الإمبراطورية البريطانية عام 1857 في تمرد سيبوي!
وقد علّمنا التاريخ أن الثورات لا تشتعل من قصور السلطة، بل من بيوت الطين التي يسكنها المهمشون. من ثورة هاييتي 1791 التي دمرت بنيان العبودية، إلى ثورة الزاباتيستا في المكسيك، إلى نضالات المستعبدين في الكاريبي. في كل مرة ظنّت الدولة أنها أحكمت القبضة، خرج الهامش من صمته ليشعل قلب النظام نارًا. وما قاله إدوارد غليسان من أن "الهامش لا يعيش في الظل فقط، بل يحمل النار بين أضلاعه" لم يكن مجرد استعارة بل تنبؤ. وكتب إيميه سيزار: "الحضارة التي تبرر الاستعمار لا تنجو من عاره، لأن البارود يُحفظ في ذاكرة الضحية".
في تاريخ الفكر، لطالما وجدنا من باعوا ضمائرهم مقابل موقع في البلاط أو مقعد في مؤسسة أكاديمية او قبول في اندية الحظوة. مثل مارتن هايدغر، الذي صافح النازية، رغم عمق تفكيره، أو بول دي مان الذي كتب للدعاية النازية، أو روبير برازيلاك الذي نال جزاءه بإرادة الشعب الفرنسي. هؤلاء لم يُدانوا فقط لأنهم أخطأوا، بل لأنهم استخدموا أقلامهم لتبرير القتل، والتقليل من شأن دماء الأبرياء. وفي السودان، يجسد الدكتور عبد الله هذا المسار بكل وضوح. لا يدافع عن الدولة لأنه يظنها عادلة، بل لأنها منحته امتيازًا، وهي الامتيازات ذاتها التي بُنيت على تهميش الآخرين. كتاباته ملتوية، مموهة، متذاكية، لكنها في جوهرها دفاع عن مركزية متعفنة لا تقوى على التنفس خارج هواء الخرطوم وماتمثله. إن الثورة السودانية، في جوهرها، ليست معركة على السلطة، بل معركة ضد البنية القديمة للدولة، التي نشأ فيها أمثال عبد الله علي إبراهيم، وتغذوا على دماء الهامش. لن تفهم هذه الثورة إلا من موقع الضحية، لا من منبر الفضائيات. ولذلك حين يُسأل مثقف: هل دعوت للحرب؟ ويجيب: نعم، لأن جيشي لم ينتصر بعد، فإن علينا أن نكتب ذلك لا كتقييم، بل كإدانة.
سيأتي يوم، تقرأ فيه الأجيال القادمة ما كتبه عبد الله علي إبراهيم وماقاله، وتدرك أن هذا الرجل دافع عن الدولة التي قصفتهم، وعن الجيش الذي طاردهم ، وعن نخبة رفضت أن تعترف بمواطنتهم! وسيُقال لهم: لم يكن مفكرًا، بل نخاسًا صغيرًا في الزمن الضائع. عبد الله علي إبراهيم، وهو يتحدث بثقة بالغة في لقاء الجزيرة المعني، يتجاهل أن الجيش السوداني لم يكن يومًا مؤسسة قومية جامعة، بل كان منذ نشأته ذراعًا ضاربة لنخبة نيلية استخدمت السلاح لتكريس الهيمنة الاجتماعية، الاثنية والثقافية على بقية مكونات السودان. هذا الجيش هو ذاته الذي أحرق قرى دارفور، وقصف جبال النوبة، ومارس التطهير العرقي في النيل الأزرق، وهو نفسه الذي قتل المعتصمين أمام القيادة العامة في مجزرة مدانة لا تزال آثارها شاهدة على قمع الدولة المركزية لأي صوت يطالب بالعدالة.
وعندما يُدافع الدكتور عن هذا الجيش، لا يفعل ذلك انطلاقًا من قناعة بأن هذه المؤسسة يمكن إصلاحها، بل دفاعًا عن مصالح نخبته التي طالما اعتاشت من الدولة القديمة. الجيش في خطابه ليس كيانًا عسكريًا، بل رمز للسيطرة المركزية، حارسًا لمصالح صفوة تتحكم في الثروات، وتحتكر الذاكرة، وتعيد صياغة التاريخ بما يتوافق مع خرافة السودان العربي الإسلامي وحسب- مشروع الدكتور. ولا بد من الإشارة إلى أن القوى التي تقاتل اليوم تحت راية هذا الجيش ليست سوى امتداد لفلول النظام البائد: كتائب “البنيان المرصوص”، “البراء ابن مالك”، “الفتح القريب”... الخ من ميليشيات الإسلاميين الذين عادوا بوجه مكشوف للمشاركة في حربٍ خاسرة تُشن باسم الوطن، لكنها تخدم مشروعًا رجعيًا يريد إعادة تدوير منظومة عمر البشير في شكل جديد.
الثورة السودانية التي تفجرت في الدمازين لتنتقل لبقية مدن السودان بما في ذلك في ديسمبر 2018 لم تكن محض احتجاج شبابي، بل كانت تعبيرًا عن وعي تاريخي جديد من قلب الهامش. ثورة تعلن نهاية المركزية، وتطرح مشروع السودان الجديد الذي يطالب بإعادة تأسيس الدولة على مبادئ المواطنة، والعلمانية، وحق تقرير المصير، والعدالة الاجتماعية. هذا المشروع يجسده اليوم تحالف تأسيس.
لقد أكد الأدب العالمي عبر مآسي التاريخ أن الكتابة لا تنفصل عن الموقف الأخلاقي، وأن المثقف حين يختار الجلاد على الضحية، فإنه يفقد جوهر رسالته. في رواية "الطاعون" لألبير كامو، كان الطبيب ريو يرى أن الصمت على الألم جريمة، وأن الوقوف على الحياد وقت الوباء خيانة. وفي أعمال جوزيف كونراد، تظهر شخصيات استسلمت لغواية القوة، فأصبحت أدوات للخراب تحت ستار الحضارة. هكذا يبدو عبد الله علي إبراهيم اليوم، شخصية من رواية سوداوية، كمن يسير في نهر الظلمات، يبرر القسوة باسم النظام، ويبيع الكلمات مقابل بقاء دولة عرجاء. الدولة التي يدافع عنها هذا الكاتب، هي ذاتها التي عدّلت الوثيقة الدستورية لتُخضع الحكم للعسكر، وتقمع الحريات، وتمنح المؤسسة الأمنية حق الوصاية الأبدية. لا يتجرأ الدكتور على الإشارة إلى هذه الحقائق، لأنه يعلم أن منطق التمرد الذي ترفضه نخبته، هو في جوهره بداية العدالة.
خطاب عبد الله علي إبراهيم ليس فكرًا حُرًا، بل إعادة تدوير لصوت الاستعمار الداخلي. يطالب المهمشين بالطاعة، ويسمي تمرّدهم فوضى، بينما يبارك فوضى العسكر بوصفها “سيادة”. هذا منطق النخّاس الحديث، الذي يغيّر أدواته لكنه يحتفظ بذات الامتيازات.
وكما قال فرانز فانون: "حين يخون المثقف قضيته، يصبح أداة استعمار داخلي". وقال خورخي لويس بورخيس: "أسوأ الجرائم لا تُرتكب بالسيف، بل بالقلم". وهذا هو عبد الله علي إبراهيم: قلم يجمّل البندقية-واي بندقية- بندقية البرهان.
السودان الجديد سيُبنى بسواعد الهامش، وبمشروع أخلاقي حقيقي يجرّد النخبة من امتيازاتها التاريخية. هذا هو صوت الثورة القادمة، التي لا تعبأ بحذلقة اللغة، ولا تهادن بنادق القمع. وحين يُسأل الدكتور يومًا: هل دعوت للحرب؟ ويجيب: نعم، لأن جيشي لم ينتصر بعد، فإن الأجيال القادمة ستعرف أنه لم يكن مفكرًا، بل نخاسًا صغيرًا في زمن ضائع.
فليُسجل التاريخ: تلك ليست إجابة، بل وصمة لا تُمحى.
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة