في مسرحنا السياسي الذي يغلي كالمرجل، تتشابه الوجوه أحيانًا، وتتقاطع الشعارات كثيرًا؛ فحين تُرفع رايات “العدل” و”المساواة” على لافتات الحركات والتنظيمات، تولد في نفوسنا آمال كبيرة، وتُبنى على تلك الشعارات وعود الثورة والإصلاح.
لكن بين الشعار والممارسة، هناك مسافةٌ شاسعة، أوسع من صحراء السودان.
بعد تردد وصمت، وتحت ضغط المجتمع الصحفي، أصدرت القيادة العسكرية للقطاع الشرقي في حركة العدل والمساواة بيانًا حول قضية الصحفي عطاف عبد الوهاب التوم، التي شغلت الرأي العام خلال الأسابيع الماضية.
البيان جاء متأخرًا، باهتًا، خاليًا من أي حس إنساني، ومثقلًا بلغة تبريرية تُخفي أكثر مما تكشف.
قال البيان إن عطاف لا يزال عضوًا بالحركة، يحمل رتبة “مساعد”، وأنه تغيب عن وحدته بعد إجازة شخصية، فتم استدعاؤه وفق “إجراء روتيني”!
لكن أي روتين هذا الذي يُدار في الظلام؟ وأي إجراء تنظيمي ذاك الذي لا تراه القوانين، ولا تسمع به أسرته، ولا يعرفه أحد؟!
عطاف، كما يبدو ووفقًا لقرائن الأحوال، لم يُعتقل لأنه تغيّب، بل لأنه كتب. كتب ما أزعج القيادة، كاشفًا ما يُقال همسًا، واقترب مما يُخشى لمسه. وهكذا عرفناه دائمًا: جريئًا، لا يُهادن.
ففي هذا البلد، من يختار أن يكون مرآة لا مرآبًا، يكون مصيره غالبًا أن يُكسر، أو يُخفى.
وإذا كانت الحركة ترى في عطاف عضوًا عسكريًا، فقد كان – ولا يزال – صحفيًا محترفًا يمارس دوره في النقد وكشف الاختلالات، وهو دور تحميه القوانين وتُنظّمه مؤسسات الصحافة.
فهل خضعت آراؤه للنقاش المؤسسي؟ أم أن الاختطاف كان هو الطريق الأسهل؟
وإذا كانت القيادة تعتبر ما كتبه يدخل في باب “الإساءة” أو “الانحراف عن أهداف الحركة”، أليس من البديهي أن يُحاسب كصحفي وفق المسارات المهنية المعروفة، لا كمنشق أو خائن؟!
وهنا يحق لنا أن نسأل: هل من قبيل المصادفة أن يتزامن النقد الجريء الذي وجهه عطاف مع اختفائه المفاجئ؟
وهل من المنطقي أن يُقال لنا إن ما حدث كان مجرد “استدعاء روتيني”؟!
من حقنا أن نسأل الدكتور جبريل إبراهيم، بوصفه قائد هذه الحركة، عن رأيه فيما حدث:
هل كان يعلم؟
هل وافق؟
وإن لم يكن، هل سيتدخل اليوم – لا غدًا – لإنصاف من ظُلم باسمه وتحت رايته؟
ونشير هنا إلى مناشداتنا الهادئة المتكررة، وحرصنا على مخاطبة الدكتور جبريل شخصيًا، ورفع الأمر إليه، فلربما كانت هناك تصرفات غير مسؤولة أو غير راشدة من قيادات أدنى في سلم المسؤولية.
كنا ننتظر تدخله، لما نعرف عنه من حكمة واتزان.
إن الإفراج عن عطاف عبد الوهاب لا يُعد منّة ولا تفضّلاً، بل هو عودة إلى جوهر الشعار الذي ترفعه الحركة.
فحبس الكلمة لا يُورث إلا المهانة، والسكوت عن الخطأ لا يصنع نظامًا، بل يكرّس الطغيان.
في النهاية، لا يُقاس أي مشروع سياسي بما يقوله عن نفسه، بل بما يفعله في وجه من ينتقده.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة