في زمن اختلط فيه صهيل الخيول بزئير الدبابات، وأصبحت الوطنية سلعة تُباع بمنشورات التعبئة والتحريض، تفرض علينا المسؤولية الأخلاقية والفكرية أن نعيد السؤال الجوهري-هل يُقاس حب الوطن بعدد الرصاصات، أم بقدرتنا على إنقاذه من حافة الفناء؟ أولاً: الوطنية ليست رصاصة في الهواء لقد وقع بعضنا في فخ اختزال حب الوطن في صورة المقاتل وحده. كأن البنّاء والمزارع والطبيب والكاتب والمعلّم خارجون عن دائرة "التضحية"، لأنهم لا يحملون السلاح. هذه النظرة لا تقتل التنوع فحسب، بل تُسطّح مفهوم الوطن وتحوّله إلى ثكنة مسيّجة بالشعارات. نعم، قد يضطر الإنسان لحمل السلاح للدفاع عن الأرض والعِرض، لكن تأليه القتال وتحويله إلى معيار الوطنية الوحيد، هو ببساطة اغتيال لضمير المجتمع المدني. من يبني المدارس ويزرع الأشجار ويكتب للسلام، لا يقل وطنية عمّن يطلق الرصاص، بل لعله أكثرهم إدراكًا لمعنى الحياة التي نُفترض أن ندافع عنها.
ثانياً: خطاب التخوين: حين تفلس الفكرة وتعلو الشتيمة في كل حرب، هناك معركة أخرى تدور خارج ميادين القتال: معركة السردية. وأسوأ أدواتها هو سيف التخوين المرفوع في وجه كل من يقول "كفى". كيف يُصبح من يدعو للسلام جبانًا، ومن يندد بسقوط المدنيين خائنًا؟ هل أصبح نقد الحرب جريمة؟ أم أن "الوطن" صار مختطفًا من فئة تدّعي احتكاره وحدها؟
خطاب التخوين لا ينطلق من منطق، بل من فزع. هو قناع الخائف من النقد، والسلاح الأخير لمن لا يملك رؤية بعد البندقية.
ثالثاً: السلام ليس استسلامًا.. بل مقاومة من نوع آخر أن تقول "لا للحرب"، وأنت في زمن لا صوت فيه يعلو فوق البارود، هي شجاعة لا يجرؤ عليها سوى الأحرار. السلام هنا ليس ضعفًا، بل تمردًا على منطق الدمار. هو موقف ضد الإقصاء، وضد تحويل الجيش من مؤسسة وطنية إلى أداة لطرف سياسي أو عقائدي.
السلام فعلٌ فلسفي قبل أن يكون سياسيًا. هو قفزة في وعي الإنسان، أن يرى الآخر خصمًا في الفكرة لا في الوجود، وأن يرفض قتل أخيه باسم الوطن.
رابعاً: حرب الهويات وموت الإنسان المركّب حين تنفجر الحرب، لا تحصد الأرواح فقط، بل تُسحق الهويات المعقدة في طاحونة "معنا أو ضدنا". لا يعود الإنسان أبًا أو شاعرًا أو معلّمًا أو عاشقًا... بل مجرد "جندي"، "خائن"، أو "مرتزق". ينكمش الوعي إلى قبيلة أو طائفة أو مذهب. وتُصادر المسافة بين الفرد والوطن لحساب الولاء الأعمى.
وهنا تكمن الكارثة الكبرى: تجريد الإنسان من إنسانيته، وتحويله إلى ترس في ماكينة الكراهية.
خامساً: حربٌ بلا نهاية، وطنٌ بلا ملامح كل الحروب تبدأ بأهداف، لكنها إن طال أمدها تحوّلت إلى غايات في ذاتها. من يُصرّ على إدامة الحرب دون أفق، لا يدافع عن الوطن بل عن مصالحه. ومن يرى الجنود وقودًا لمعاركه، لا يحمي الشعب، بل يستهلكه. وكل يوم إضافي في هذه الحرب هو انتصار لأجندة الخراب، وهزيمة لمعنى الوطن نفسه.
الإنسان أولاً، قبل الجندية، وقبل الهوية إن ما نكتبه اليوم ليس ترفًا فكريًا، بل محاولة لاسترداد الإنسان من أيدي دعاة القتل باسم الوطنية. أن نرفع صوتنا من أجل السلام، ليس انحناءً للعاصفة، بل وقوفٌ أخلاقي ضد تحويل السلاح إلى معبود، والوطن إلى ثكنة، والمواطن إلى رقم في نشرة الخسائر.
نحن لا نحتاج إلى مزيد من الأبطال الذين يسقطون تحت الرايات، بل نحتاج إلى عقول تبني مستقبلًا لا تحكمه الرصاصات، بل تحكمه الكرامة والتعدد والحرية.
في النهاية، أقول سيُسجّل التاريخ أن هناك من خيّروا شعبهم بين الحرب أو الخيانة، وهناك من قالوا بشجاعة الحياة أولاً.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة