غازات على الهامش، وماء مقدس في الخرطوم: كيف خانت النخبة مشروع الوطن؟
1/ 6/2025 خالد كودي، بوسطن
مدخل: الأخلاق في وجه الإبادة: في عالم يُفترض أنه مؤسس على المبادئ الكونية لحقوق الإنسان، يصبح الصمت أمام الجريمة – خاصة حين تتعلق بالإبادة او تبييت النية عليها موقفًا سياسيًا وأخلاقيًا لا يمكن تبريره. وكما قيل: "الحياد يساعد الظالم لا الضحية، الصمت يشجع الجلاد لا المعذب." فإن صمت النخب السودانية أمام استخدام الأسلحة الكيميائية في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، ليس فقط جريمة صمت، بل تواطؤ مُأسس، يعكس بنية عنصرية، طبقية، ومركزية في تصور الدولة والهوية.
أولًا: من جبل مرة إلى الجنينة – توثيق الجريمة: في مايو 2024، وثقت منظمات حقوقية، منها هيومن رايتس ووتش، وشهادات ميدانية موثقة من أطباء ومراسلين دوليين، استخدام الجيش السوداني لذخائر تحتوي على مواد يُشتبه في كونها سامة ومحرّمة دوليًا، في مناطق مثل معسكر كلمة، نيرتتي، مورني، والجنينة. الأعراض التي ظهرت على الضحايا – من التهابات جلدية حادة، إلى اختناقات جماعية، نزيف داخلي، وفشل تنفسي – تتطابق مع التعرض لغازات مثل الفوسجين والكلور وغازات الأعصاب. معظم المنظمات الحقوقية السودانية لاتزال صامتة، حالهم حال قادة الرائ من النخب! وهذه ليست السابقة الأولى. ففي تقرير لمنظمة العفو الدولية صدر عام 2016 بعنوان "جبل مرة، أرض الموت الصامت", تم توثيق أكثر من ثلاثين هجومًا بالأسلحة الكيميائية على مدنيين، في مناطق نائية من السودان يصعب الوصول إليها، لكنها لا تغيب عن ضمير العالم. وقبلها وثقت جهات مختلفة استخدام للأسلحة الكيميائية في الجنوب قبل الانفصال وفي جبال النوبة والنيل الأزرق.
ثانيًا: صمت النخب السودانية- "لا تأتِ بالبذور إلى مستنقع النسيان:" قال مالكوم إكس ذات يوم: "الدجاج دائمًا يعود إلى عشه" (Chickens come home to roost). وهو ما ينطبق تمامًا على نخب السودان، التي صمتت لعقود على الإبادة في الأطراف، تحت وهم أن الحرب تخص "الآخرين" في دارفور أو جبال النوبة أو الجنوب. واليوم، يعود الدمار إلى قلب الدولة التي صمتوا من أجلها، وإلى الجيش الذي اعتبروه قوميًا، فإذا به يُضبط متلبسًا باستخدام أسلحة دمار شامل ضد مواطنين يفترض أنه يحميهم. لقد صمتت معظم النخب السياسية، والأكاديمية، ومنظمات المجتمع المدني السودانية، ولم تُصدر أي موقف جماعي أو حتى فردي بحجم الكارثة. بل تورط بعضها – مباشرة أو عبر التبرير – في حملات تضليل وتشكيك في روايات الضحايا.
ثالثًا: البنية الأخلاقية للتواطؤ – حين تصير النخبة شريكًا في الجريمة: الصمت في هذا السياق لا ينبع فقط من الجبن أو الجهل، بل من اصطفاف أيديولوجي بنيوي. فمعظم هذه النخب منخرطة في شبكة الامتيازات التي تتيح لها الاستفادة من الدولة المركزية، وتربط نفسها بالجيش كممثل لـ"وحدة الدولة" لا كأداة قمع وإبادة. هذا التواطؤ يكشف وجهًا آخر للاستعلاء الحضري والعنصرية البنيوية: فحين يُستخدم السلاح الكيميائي ضد قرى دارفور أو جبال النوبة، يُنظر إلى الضحايا كأرقام هامشية، لا ككائنات إنسانية تستحق الحماية. ويُصبح التبرير – لا الإدانة – هو اللغة السائدة بين من يزعمون تمثيل الأمة.
رابعًا: موقف الإدارة الأمريكية – سياسة العصا بلا صوت: في يونيو 2024، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات رمزية على قادة في الجيش السوداني مثل الفريق محمد عثمان الحسين والفريق أحمد مفضل، لكنها لم تذهب إلى الحد الذي يفرضه القانون الدولي: لم تُصنف السودان كدولة تستخدم أسلحة دمار شامل، ولم تُنجز التحقيقات الدولية، ولم تُحِل القضية إلى مجلس الأمن أو المحكمة الجنائية الدولية بعد!
خامسًا: النخب في الداخل والخارج – التواطؤ بصيغ متعددة: إن أغلب منظمات حقوق الإنسان السودانية، ونخبها المقيمة في أوروبا وأمريكا، تتعامل مع هذه الجرائم وكأنها أخبار عابرة. بل الأخطر، أن بعض هذه الجهات باتت تمارس إنكارًا منهجيًا للجرائم، أو تسوّق لخطاب "الجيش كأقل الشرّين" في مواجهة قوات الدعم السريع، في محاولة لحماية ما تبقى من صورة المؤسسة التي تمثل الدولة المنهارة. هذا ليس فقط فشلًا أخلاقيًا، بل سقوطًا تاريخيًا يعيد إنتاج نفس منطق الصمت والتبرير الذي صاحب حرب الجنوب، ثم دارفور، ثم جبال النوبة والنيل الأزرق.
سادسًا: جذور الصمت – الامتياز، والهوية الزائفة، والسيادة الخادعة: هذا الصمت العميق لا يُفهم إلا عبر ثلاثة مستويات تحليلية: ١/ البنية العنصرية للهوية الوطنية السودانية: حيث لا تُحتسب أرواح الهامش كجزء من "الأمة" ٢/ الارتباط العاطفي بالجيش كرمز للسيادة: رغم كونه أداة تاريخية للإبادة ٣/ الخوف من مواجهة الحقيقة: لأن الاعتراف بالجريمة يعني انهيار البنية الرمزية التي قامت عليها الدولة السودانية.
وكما كتب إدوارد سعيد: "على المثقف أن يكون في موقع الصدام مع السلطة حين تتغول، لا أن يكون زينتها"
سابعًا: الثورة ستأتي من قلب المأساة: تتشكّل اليوم حركة وعي جديدة في الهامش، ليست محصورة في الشعارات، بل تنبني على خبرة الألم، والخذلان، والإبادة. أبناء الجنود الذين شاهدوا الجيش يستخدم أسلحة كيماوية ضد أسرهم، لن يعودوا جزءًا من الأسطورة القومية عاجلا ام اجلا. وكما قال ألبير كامو: "حين يُرغم الضحايا على الصمت، يصبح الصمت سلاحًا بأيدي الجلاد". ما يُبنى على المجازر لا يمكن إصلاحه بالتسويات. والثورات القادمة ستكون أكثر وعيًا، وأشد جذرية، لأنها وليدة الخيانة.
ثامنًا: لا عدالة دون مساءلة، ولا مساءلة في ظل صمت مؤسسي: إن الصمت ليس حيادًا، بل اختيار أخلاقي منحاز. والصمت في وجه الجرائم ضد الإنسانية – وخاصة عندما تُرتكب من قبل الدولة باسم السيادة أو الدين أو القومية – هو جريمة بحد ذاته. لقد تحوّل صمت النخب السودانية، إلى بنية مؤسسية تبرّر الإبادة وتطبع العنف وتخاف من الاعتراف، لا لأنها تجهل ما يحدث، بل لأنها متواطئة معرفيًا وتاريخيًا في إنتاجه. هذا الصمت ليس جديدًا. فمنذ 2003، حين بدأت الإبادة الجماعية في دارفور، ثم تكررت في جبال النوبة والنيل الأزرق، تعاملت هذه النخب بصيغة التواطؤ المتعالي، إما بالإنكار أو بالتقليل أو بالصمت التام. هذا الصمت نابع من شعور مَرَضي بالتفوق الأخلاقي والديني والعرقي، جعلهم يرون ضحايا الإبادة كـ"مشكلات أمنية" لا كأرواح تُباد.
إن النخب السودانية، سواء داخل البلاد أو في الشتات (الدياسبورا)، التي طالما روّجت لخطاب "الدولة" و"الوحدة" و"السيادة" و"الهيبة"، لم تكتفِ بالصمت عن الجرائم المرتكبة بحق المجتمعات المهمشة، بل شاركت – بصورة مباشرة أو غير مباشرة – في تأبيد البنية التي أنجبت هذه الجرائم. لقد ساهمت هذه النخب في تشويه مفهوم العدالة، حين اختزلته في "الانتقال السياسي" كعملية إجرائية، بدلًا من جعله مساءلة فعلية ومحاسبة قانونية وتاريخية للجناة. كما حولت الإصلاح إلى تسوية نخبويّة، تتجاهل ضحايا الإبادة، وضحايا الأسلحة المحرمة دوليا، وتتحاشى فتح الملفات الثقيلة التي تفضح عنف الدولة ومركزيتها الإقصائية. في هذا السياق، يعبّر الفيلسوف جاك دريدا بدقة حين يقول: "الصمت أحد أشكال الخطاب، لكنه يصبح خطابًا متواطئًا حين يُستخدم ضد العدالة". وعليه، فإن أي حديث عن "سلام" أو "انتقال سياسي" لا ينطلق من كسر هذا الصمت المؤسسي وتفكيك بنيته الرمزية والأخلاقية، هو حديث أجوف، يعيد إنتاج مأساة السودان بصيغة ناعمة. إنه لا يقدّم حلًّا، بل يُهيئ المسرح لجولة جديدة من العنف، ويُمعن في إنكار وجود الضحايا وتضحياتهم. لذلك، فإن احد المطالب الأساسية الان، السلطة فقط، بل في زلزلة الصمت، ومساءلة النخب، وفتح ملفات الحقيقة أمام أعين العالم.
ومن هنا فإن المطلوب هو: ١/ فتح تحقيق دولي شامل ومستقل في كل استخدام للأسلحة الكيميائية في السودان منذ 2003 حتى اليوم، مع التركيز على الجرائم المرتكبة في دارفور، جبال النوبة، والنيل الأزرق. ٢/ تقديم ملفات توثيقية إلى محكمة الجنايات الدولية تشمل شهادات الضحايا، تقارير الطب الشرعي، والصور الميدانية، وتفعيل أدوات العدالة الدولية في الملاحقات. ٣/ فرض حظر صارم على تصدير الأسلحة للسودان حتى يتم تفكيك البنية العسكرية المتورطة في استخدام الأسلحة المحرمة دوليا، وفي جرائم الحرب. ٤/ الاعتراف بالعدالة التاريخية كمدخل لتأسيس دولة جديدة، وليس مجرد العدالة الانتقالية، وذلك عبر الاعتراف بالمجتمعات المهمشة بوصفها جزءًا مؤسسًا للهوية الوطنية. ٥/ إدانة النخب والمنظمات التي تواطأت بالصمت أو التبرير أو التضليل، سواء كانت مدنية أو دينية أو حقوقية، واعتبار تواطؤها جزءًا من منظومة العنف. ٦/ بناء جبهة حقوقية وسياسية عابرة للهويات الجغرافية والدينية، تقودها قوى الهامش، وتستند إلى معايير دولية ومحلية للعدالة، وتعمل على تدويل الجرائم وتحويلها إلى ملفات ضغط سياسي وقانوني. إن صمت النخب السودانية ليس مجرّد تخلٍّ عن الواجب، بل هو استمرار للمحرقة بصيغة ثقافية. ومن لا يواجه هذا الصمت، لا يمكنه أن يبني وطنًا. وكما قال بيرتولت بريخت: "الجرائم التي يُسكت عنها، لا تموت، بل تنمو تحت الأرض حتى تنفجر من جديد.
"فإمّا عدالة تؤسس لدولة، أو تسويات تؤسس لجريمة قادمة".
اخيرا: لا دولة فوق القانون، ولا وحدة بلا مساواة: إنّ الدولة التي تستخدم الأسلحة الكيميائية ضد شعبها لا يمكن الدفاع عنها باسم السيادة. ومن يصمت عن الإبادة واستخدام الأسلحة الكيميائية، يكون شريكًا فيها. لا يمكن تصور مستقبل سوداني عادل دون مساءلة عادلة، واعتراف صريح بالضحايا، وتفكيك لبنية الدولة التي جعلت من الجيش أداة للقمع، لا مؤسسة للحماية. قال برتولد بريخت: "من لا يتكلم عن الجريمة، يصبح شريكًا فيها" واليوم، لا يكفي أن نُدين، بل علينا أن نُحاكم – أخلاقيًا، قانونيًا، وسياسيًا. لأن من ينجو اليوم من الحساب، سيعود غدًا إلى القتل بثقة، تحت سحب الكيمياء.
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة