من السذاجة اختزال فساد الرؤساء في سرقة مبالغ مالية وإيداعها في البنوك الأجنبية، أو بناء القصور على الشواطئ البعيدة. إن الفساد الحقيقي هو الخيانة الأخلاقية، وإساءة إدارة الدولة؛ والسرقة الأفدح هي سرقة مستقبل الأجيال. ومن السذاجة القاتلة نشدان الخير في الانقلابات العسكرية أو في رجالها. ذلك لأن الانقلاب، بطبيعته، مثل اليد الملوثة، ما إن تمسَ شيئاً حتى تفسده. والضابط الانقلابي قد اختار طريق الفساد وهو يرجو الإصلاح. فيا لبؤس الطالب وضيعة المطلوب! ولم أجد في الأدبيات العربية والأجنبية مقولةً أصدق في وصف طبيعة الانقلابات العسكرية مما كتبه المرحوم البروفسور الطيب زين العابدين. يقول البروفسور "إن الانقلاب العسكري له ديناميكية ذاتية، وأهم هدف لأي انقلاب عسكري، في أي مكان في الدنيا، أن يؤمن نفسه بالسلطة بأي ثمن، وبأي وسيلة؛ وهذه الوسيلة يمكن أن تكون سجن الآخرين، أو فصلهم عن العمل، ويمكن أن تكون التعذيب أو النفي من الأرض...ولا تستطيع أن تقف في وجه ديناميكية الانقلاب مهما حرصت". لم يصادفني قول موجز في بيان سوءات الانقلابات العسكرية مثل هذه المقولة المضيئة. وللأسف هناك عدد لا يستهان به من المثقفين والمثقفات السودانيين لا يزال موقفهم من الانقلابات مذبذباً يفتقر إلى المسؤولية والاتساق. وكثيراً ما يصعقك أحدهم وهو يتحسر على عهد عبود أو عهد النميري!
كان جعفر نميري، رحمه الله، عسكرياً انقلابياً، استولى على الحكم بالقوة، بلا مؤهل أخلاقي ولا علمي، فكان ملهم الانقلابيين السودانيين من بعده؛ وقد شكلت تجربته مصدر وقود للمعارضة المسلحة ولحركات التمرد، مما خلق حالة من عدم الاستقرار أقعدت بالتنمية. لقد أساء نميري إدارة الدولة، وولغ في الدماء، وكمّم الأفواه، وشرّد أبناء الوطن، وتخبّط يَمنة ويَسْرة في السياسة، والاقتصاد، والتعليم، والرياضة، وفي شتى المجالات. وذلك هو الفساد بمعناه الأفدح أثراً، وهو الذي أورثنا معظم المآسي التي نعاني منها الآن.
والمثال الأوضح لفساد الأنظمة العميق، الذي لا ينحصر في أن يسرق رئيس النظام أموال الشعب مباشرة، هو فساد جعفر نميري، بإساءته الحكم، وبتمكينه المجرمين والمتلاعبين بمقدرات الدولة. لقد بدأ السودان يخرج عن طريق الاستقرار والنماء يوم انقلب عبود، ومن بعده نميري، ثم البشير، على الحرية والديمقراطية؛ ففي ذلك اليوم ترك العسكر مهمتهم المهنية الدستورية، وتجشموا ممارسة السلطة، بدعاوى حالمة أو كاذبة، لكنهم سرعان ما استمرأوا السلطة، ولم يستطيعوا لأنفسهم عنها فطاما. ولو أنّ عبوداً، ذلك الانقلابي الأول، زهد، منذ البداية، في السلطة وقال لمن حرضوه على استلام الحكم "إن مهمة العسكر ليست الحكم، بل الخضوع للحكم المدني"، لأصبحت تلك الكلمة نبراساً لمن أتى بعده، ولنا جميعاً، ولما أضعنا عقوداً طويلة في دوامة سرطانية من الحكم العسكري والانتفاضات الشعبية، ولما جاء نميري بطيشه، ولما جاء البشير بعنترياته الفارغة، ولما كنا عرفنا الضباط المزيفين، "ضباط الخلا"، ولما كنا في ما نحن فيه الآن.
ولا شك أن عبود مثّل القدوة لنميري؛ ولا شك أن هذا الأخير، بسبب ما كان يتمتع به من وجاهة شكلية، وكارزما استعراضية وشعبوية، قد فتح شهية الضباط للانقلابات وحب السلطة.
إن تهيئة الطريق لانقلاب جديد تتم بنفض الغبار عن انقلاب قديم وتلميع صاحبه.
ومن السذاجة البائسة أن يحتفي الناس بجوانب يرونها إيجابية في شخصية انقلابي تحوّل إلى ديكتاتور. وما مِن شخص هو خير محض أو شر محض. فحتى فرعون موسى نفسه لم يكن "متفرعناً" في كل شيء. بل لا بد أن تكون له مواقف يرويها "وزير إعلامه" وينمقها ويزيدها أضعافا مضاعفة لتظهره بمظهر البطل في المجالات كافة. وينبغي ألا نتخيل أن دور هامان كان ينحصر في مساعدة فرعون على بناء الصروح والبطش بالمناوئين فحسب. كلا، فلا شك في أن من أدوار هامان المتعددة إظهار فرعون وكأنه حمل وديع، وحمامة سلام. ولم تكن صورة فرعون في مخيلة قومه هي صورة الطاغية الباطش، بل لا بد أن يكون "هاماناته" قد صنعوا له وجها آخر يظهر فيه إنسانيته ووداعته.
بيد أن الحكم على الحكام، وعلى أي شخص من الأشخاص، لا يكون بالنظر إلى الأشياء الجزئية، ولا بالاستناد إلى المواقف المنفردة. فحكاية أن يلقى نميري، على سبيل المثال، "زول خرمان ويعطيه سفة" لا تُقيّم حاكماً، بل تشبه بالضبط حكاية البشير وهو يحكي "قصةً حدثت له حكاها له شخصٌ آخر"، أو أنه "كان شغال طُلبة فسقط من السقالة وكسرت رباعيته". ربما لم يسرق نميري ملايين الدولارات لكنه سرق السلطة لمدة ١٦ سنة، ولم يبنِ قصراً، لكنه قتل وسجن وشرد الآلاف، وأضاع مقدرات الوطن بسبب جهله وفساد حكمه، وفوق ذلك سرق أحلامَ شعبٍ وآمال أمة. لقد مات نميري وقبله عبود، عليهما رحمة الله، وقد قال الشعب فيهما كلمته في أكتوبر وأبريل، وكتب كل واحد منهما صفحته في التاريخ بيديه، وتبوأ كل واحد منهما مقعده في الآخرة بعمله. ولئن كان يجوز لنا أن نترحم عليهما، فإننا بحاجة إلى معرفة الأسس الموضوعية التي نقيّم على ضوئها مدى جدارة حكامنا. وذلك أمر ضروري لأي مجتمع يريد الاستفادة من تجاربه لتحقيق الاستقرار والعدالة والتنمية. فما هي تلك المعايير الموضوعية التي ينبغي أن نُقيّم على ضوئها إرثَ حكامنا؟ فيما يلي أهم تلك المعايير: • العدل قديماً قيل "العدل أساس الحكم". فهل حقق الحاكمُ العدلَ، وطبق القانون على الجميع بدون تمييز؟ وهل رد المظالم، ووقف مع الضعيف حتى نال حقه من القوي، وهل خوف القوى من التعدي على حقوق الضعفاء؟ ما مدى احترامه لحقوق الناس وحرياتهم؟ هل ساوى بين الناس، وهل احترم التعددية والتنوع على الأصعدة كافة؟
• الأمانة والنزاهة هل تعامل الحاكم مع مال الدولة بصفته أميناً عليه أم مالكاً له؟ هل حارب الفساد داخل أجهزة الدولة؟ هل صرّح بمصادر دخله وتجنب تضارب المصالح؟ • الكفاءة والحنكة هل طبق المؤسسية والحوكمة؟ هل اتخذ قرارات مدروسة بناء على معلومات صحيحة؟ هل كان يحيط نفسه بمستشارين أكفاء؟ هل لديه رؤية واضحة للمستقبل؟ هل حفظ أمن الناس وسلامتهم وحدود البلاد؟ هل أحسن سياسة الجوار والعلاقات الدولية؟
• التنمية ما حجم الإنجازات الفعلية في عهده في التعليم والاقتصاد والصحة والبنية التحتية؟ هل تحسّنت حال الناس في معاشهم اليومي؟ هل تحولت الوعود إلى نتائج ملموسة؟ هل اتسمت تلك الانجازات بالأهمية؟ أم أنها كانت مجرد فيلة بيضاء؟ هل اتسمت تلك الانجازات بالاستدامة؟ أم تنطبق عليها الآية الكريمة "كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً"؟
• القدوة الشخصية
ما هي علامات تواضع الحاكم؟ هل كان يقبل النقد والنصيحة؟ هل يعيش في ترف بينما الناس في ضيق؟ هل يلتزم بما يطالب به الآخرين؟ هل حظي بقبول الناس له بفضل مناقبه أم فرض نفسه عليهم بالجبروت؟ هل يستجيب لنداءات الشعب وشكواهم؟ هل تميز بالرزانة والرصانة، أم بالتشنج والهيجان؟
التقييم الموضوعي لحكم نميري رفع نميري في بدايات حكمه شعارات "الاشتراكية" و"العدالة الاجتماعية"، وسعى لتقليص الفوارق الطبقية. لكن سرعان ما ظهرت بوادر الاستبداد والاعتقالات السياسية، خاصة بعد فشل انقلاب الشيوعيين عام 1971. فتعرض كثير من خصومه لمحاكمات سياسية، وأُعدم بعضهم مثل عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ. وعلى الرغم من عدم ثبوت الاتهامات التي وجهت إلى نميري بالفساد المالي، فقد شهدت فترة حكمه تدهورًا مريعاً في الإدارة العامة، وظهرت المحسوبية، خاصة بعد تحالفه مع الإسلاميين، ولم يعمل على محاربة الفساد. وحكم نميري بقبضة حديدية، وازداد نفوذ جهاز الأمن. ورغم نجاحه في إبرام اتفاقية أديس أبابا 1972 التي أوقفت الحرب الأهلية في الجنوب لمدة عشر سنوات، فإنه أدار البلاد بشكل متقلب، وتبنى تحولات أيديولوجية مفاجئة (تحوّل من شيوعي إلى إسلامي، ومن اشتراكي إلى رأسمالي)، مما أضعف الدولة وأربك الاقتصاد. لم يكن نميري صاحب رؤية، ولذلك كان نهجه تكتيكياً ومزاجياً، يفتقر إلى المبادئ، فأثّر ذلك على الأمن والسلام والتنمية، وبالتالي على استقرار الدولة. وفشل في إنقاذ الاقتصاد بسبب سوء الإدارة، وعدم محاربة الفساد، فقوَّض أكبر إنجازاته، ألا وهو إيقاف الحرب الأهلية (1972). وبسبب اشتداد المعارضة على حكمه، قمع الحريات السياسية وأغلق الصحف وكمّم الأفواه، وفرض قوانين سبتمبر 1983 المثيرة للجدل، وقرَّب الإخوان المسلمين، ونكّل بالإخوان الجمهوريين، وتسبب في استئناف الحرب الأهلية بوتيرة أشد وأعنف.
لقد ظل جعفر نميري طوال سني حكمه يحاول الحفاظ على منصبه، فارتكب في سبيل ذلك أخطاء استراتيجية كبيرة، تمثلت في تقلبات أيديولوجية وسياسية عرضت السودان لعزلة إقليمية ودولية تدريجية، وأفقدت السودان استقراره وتسببت في أزمات لا تزال البلاد تعاني من آثارها حتى اليوم. فخرجت الجماهير وقالت كلمتها ضده في انتفاضة شعبية في رجب/أبريل 1985. وعلى تعقيب على قول الشعب! والثورة ثورة وعي. ولا للانقلابات العسكرية: العسكر للثكنات والجنجويد ينحل!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة