في بيان حاسم، هو الأول له منذ تعيينه رئيسًا للوزراء في السودان، خرج الدكتور كامل إدريس مخاطبًا الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي، رافضًا العقوبات الأخيرة المفروضة على السودان. البيان حمل نبرة واضحة من السيادة الوطنية، مؤكّدًا التزام الجيش السوداني بالقانون الدولي الإنساني، ورافضًا الادعاءات باستخدام أسلحة محرمة ضد المدنيين، وهي تهم وصفها بأنها تفتقر إلى الموضوعية وتستند إلى تقارير منحازة.
لكن ما يُلفت في هذا التصريح، يتجاوز مجرد الرد على العقوبات. إنه إعلان دخول السودان مرحلة جديدة من إعادة تشكيل الدولة، عبر تعيين رئيس وزراء بصلاحيات تنفيذية حقيقية، للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب في ابريل 2023. هذا التحول، بغض النظر عن طبيعة الشخصية المعيّنة، يشكّل كسرًا لنمط سابق من التفويض الرمزي والتكليف الهش، ويفتح الباب لاستعادة القرار التنفيذي الوطني على أسس مؤسسية.
هذه الخطوة ليست ترفًا إجرائيًا، بل ضرورة تفرضها لحظة سودانية مأزومة: حرب أهلية مفتوحة، بنية دولة شبه منهارة، وتفكك اجتماعي متسارع. وفي خضم هذا المشهد، يبرز السؤال المحوري: هل نحن بصدد مجرّد تبديل وجوه، أم بداية تحوّل في بنية السلطة ذاتها؟
من المؤكد أن شخصية رئيس الوزراء ستكون محل جدل. هناك من يرى فيه صوتًا عقلانيًا يحظى بقبول دولي، وهناك من يشكك في عمق ارتباطه بالداخل السوداني. لكن الأهم من هذا الجدل هو الفكرة نفسها: أن يكون هناك مركز تنفيذي واضح، يُحاسَب ويُقيَّم على أساس برنامج، لا مجرد توازنات ظرفية أو توافقات رمادية.
الأكثر أهمية أن هذا التحول لا بد أن يترافق مع مراجعة جدية لأولويات الدولة، وعلى رأسها السلام. ففي الوقت الذي تتحدث فيه الحكومة عن تقليص عدد الوزارات لترشيد النفقات، وهو توجه معقول في ظل الانهيار الاقتصادي، لا يجب أن يأتي ذلك على حساب المهام الوجودية، وعلى رأسها ملف السلام المجتمعي.
السودان اليوم لا يعاني فقط من صراع مسلح، بل من انقسام مجتمعي عميق، واحتقان قبلي وجهوي يهدد فكرة الوطن الواحد. وهنا، لا يكفي أن نردّد شعارات الوحدة والسلام، بل لا بد من مؤسسة تنفيذية واضحة تُعنى بهذه المهمة، سواء في شكل وزارة أو مجلس أعلى يتبع لرئاسة الوزراء مباشرة، وتتوفر له الموارد والصلاحيات اللازمة.
السلام لم يعد بندًا سياسيًا في برنامج حكومي، بل صار أساس أي إعادة بناء ممكنة. لا أمن بلا مصالحة مجتمعية، ولا تنمية دون رأب الصدوع النفسية والاجتماعية التي عمّقتها الحرب والنزوح والكراهية الإعلامية. ولهذا، فإن تجاهل هذه المهمة، أو تأجيلها بحجج تنظيمية، سيكون خطأ جسيمًا يعيد إنتاج الأزمة من باب جديد.
ومع هذا كله، تبرز معضلة أخرى ربما تكون الأخطر: التشاؤم المزمن. كثيرون باتوا أسرى لفكرة أن كل محاولة إصلاح هي مجرد تدوير للخراب، وكل مبادرة تغيير ليست سوى واجهة لخداع جديد. وهذا المزاج السلبي، مهما كانت مبرراته، صار عائقًا نفسيًا وسياسيًا في وجه أي خطوة، حتى لو كانت في الاتجاه الصحيح.
نعم، التوجس مشروع، والتجربة مريرة، والثقة مجروحة. لكن هذا لا يعني أن نرفض كل تحرك، أو ننتظر تغييرًا نقيًا بالكامل كي نمنحه فرصة. لا تاريخيًا ولا واقعيًا يحدث التغيير بهذه الطريقة. لا في إسبانيا ما بعد فرانكو، ولا في جنوب إفريقيا ما بعد الفصل العنصري، ولا في أي تجربة انتقال عرفها العالم.
التحول لا يكون دفعة واحدة، بل عبر تراكم، ومثابرة، ومزيج من القبول التكتيكي والضغط الشعبي. المطلوب ليس التسليم، بل المشاركة النقدية. ليس التهليل، بل المحاسبة الواعية. لكن في المقابل، ليس من العقل أن نغلق الباب أمام أي نافذة تغيير، بدعوى أن الريح قد تأتي منها.
العقوبات، بكل ما تحمله من أبعاد سياسية وضغوط اقتصادية، ليست نهاية الطريق. بل يمكن أن تكون محفزًا داخليًا لمراجعة المسار، وترتيب الأولويات، وإعادة إنتاج الشرعية من داخل المؤسسات، لا عبر البيانات الغاضبة وحدها.
السودان لن ينهض عبر الإنكار أو التراخي، ولا بالتعويل على الخارج فقط، بل بإعادة بناء الداخل؛ دولةً ومجتمعًا.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة