بعد أن استكشفنا في الجزأين الأول والثاني الضغوط الداخلية والخارجية وتحولات المحيط الاستراتيجي التي تواجهها إسرائيل، ننتقل الآن إلى تحليل التكاليف الملموسة لهذه الأزمة على المستويين الاقتصادي والقانوني، بالإضافة إلى التحديات الوجودية التي ترسم ملامح مستقبل إسرائيل في نظام دولي متغير.
على الصعيد الاقتصادي، تفاقمت الأزمة الإسرائيلية بشكل ملحوظ بسبب الحرب الدائرة في غزة. لقد ارتفع الإنفاق العسكري بنسبة 65% ليصل إلى 46.5 مليار دولار، وهو ما يمثل عبئًا هائلاً على الميزانية الوطنية. هذا الارتفاع الهائل في النفقات يأتي في وقت يعاني فيه الاقتصاد الإسرائيلي بالفعل من تباطؤ في النمو وارتفاع مستويات التضخم بنسبة 4.2%. هذه الأرقام ترسم صورة لاقتصاد يواجه تحديات جمة، مما يجعله أكثر عرضة لتأثير أي عقوبات اقتصادية مستقبلية. فبالإضافة إلى التكاليف المباشرة للحرب، تتأثر قطاعات حيوية مثل السياحة والتكنولوجيا الفائقة (الهايتك)، التي تُعد محركات رئيسية للنمو الاقتصادي، بسبب حالة عدم اليقين الأمني وتراجع الاستثمار الأجنبي، مما يزيد من هشاشة الوضع الاقتصادي العام.
تتجاوز التكاليف الحالية الأبعاد الاقتصادية لتشمل ضغوطًا قانونية ودبلوماسية غير مسبوقة على الساحة الدولية. الدعاوى المرفوعة ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية (ICJ)، والتي تتهمها بارتكاب أعمال إبادة جماعية في غزة، والتحقيقات المحتملة التي تجريها المحكمة الجنائية الدولية (ICC) في اتهامات بجرائم حرب، تمثل بعدًا هامًا ومقلقًا للقيادة الإسرائيلية. هذه الإجراءات القانونية، إذا ما أسفرت عن أحكام إدانة أو مذكرات اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين، يمكن أن تزيد من عزلة إسرائيل الدولية بشكل كبير، وتضع ضغوطًا قانونية ودبلوماسية هائلة على قادتها، مما يقوض شرعيتها الدولية وقدرتها على التحرك بحرية على الساحة العالمية.
تتجاوز هذه التكاليف القانونية الدائرة الثنائية لتلقي بظلالها على الموقف الدبلوماسي لإسرائيل في المحافل متعددة الأطراف. ففي الأمم المتحدة، على سبيل المثال، باتت إسرائيل تواجه عزلة متزايدة وإدانات شبه جماعية في العديد من القرارات المتعلقة بالصراع، حيث غالبًا ما تجد نفسها مدعومة من قلة من الدول، على رأسها الولايات المتحدة، في مواجهة غالبية ساحقة من الدول الأعضاء. هذه الديناميكية في الجمعية العامة ومجلس الأمن تعكس تآكلًا واضحًا في الدعم الدبلوماسي العالمي، وتؤكد أن العزلة ليست مقتصرة على العقوبات من حلفاء تقليديين، بل تمتد لتشمل فقدان الدعم في المنظمات الدولية التي تُعنى بالقانون الدولي وحقوق الإنسان. هذا الموقف يضع الولايات المتحدة نفسها في موقف دبلوماسي حرج للغاية، حيث أصبحت إسرائيل تُنظر إليها بشكل متزايد على أنها عبء استراتيجي ومحل إحراج لواشنطن، خاصة عندما يتعارض سلوكها مع المبادئ الأمريكية المعلنة أو يهدد مصالح الولايات المتحدة الأوسع في المنطقة.
في خضم هذه التحديات، تبرز مسألة (اليوم التالي) في غزة كمعضلة استراتيجية كبرى تُعمق من عزلة إسرائيل. فغياب رؤية إسرائيلية واضحة ومقبولة دولياً لمستقبل قطاع غزة بعد العمليات العسكرية يزيد من قلق المجتمع الدولي ويصعب على حلفائها تقديم الدعم لإعادة الإعمار أو الاستقرار المستقبلي. هذا الغياب للرؤية السياسية يُنظر إليه على أنه استمرار لنمط إدارة الأزمة بدلاً من حلها، مما يقلل من الثقة بقدرة إسرائيل على تحقيق الاستقرار في المنطقة ويجعل من الصعوبة بمكان إشراك أطراف دولية أو إقليمية في تحمل مسؤولية مستقبل القطاع.
على المستوى الاجتماعي، تظهر في إسرائيل ظاهرة جديدة تتمثل في هجرة المواطنين، مدفوعة بتصاعد التهديدات الأمنية. مع تصاعد هجمات الحوثيين، التي وصلت إلى مناطق حساسة مثل مطار بن غوريون، بدأت هذه الهجمات، رغم أنها لم تؤدِ إلى خسائر كبيرة حتى الآن، في خلق حالة من القلق العميق داخل المجتمع الإسرائيلي. هذا القلق يدفع بعض المواطنين إلى البحث عن أماكن أكثر أمانًا خارج البلاد، مما يضيف تحديًا ديموغرافيًا واجتماعيًا جديدًا للاقتصاد والمجتمع الإسرائيلي، ويزيد من شعور بعدم الاستقرار العام.
إن الإجراءات الأوروبية والبريطانية، والدعاوى القانونية، والتحديات الاقتصادية، ليست مجرد ردود فعل مؤقتة، بل تمثل بداية تحول أعمق في العلاقات الدولية. لم تعد إسرائيل تمتلك نفس النفوذ السياسي الذي كان لها لعقود، وباتت تواجه عالمًا أقل تسامحاً مع سياساتها. ورغم أن تأثير هذه العقوبات على المدى القريب قد يكون محدودًا في بعض القطاعات الحيوية مثل التكنولوجيا والدفاع، إلا أنها تحمل دلالات استراتيجية أعمق حول مستقبل إسرائيل في النظام الدولي الجديد. يظل السؤال مفتوحًا حول ما إذا كانت إسرائيل ستتكيف مع هذه التغيرات وتعديل سياساتها بشكل جوهري، أم أنها ستختار طريق المواجهة، مما قد يدفعها نحو عزلة متزايدة في المرحلة القادمة. ومع ذلك، من المهم الإشارة إلى أن هذه العزلة الدبلوماسية وتراجع النفوذ ليسا بالضرورة نهاية المطاف، فالمجتمع الدولي قد يعود لتقديم الدعم أو تخفيف الضغوط إذا ما استشعرت إسرائيل التنازل أو أقدمت على خطوات بناءة تجاه حل الصراع، أو إذا ما تعرض أمنها القومي الأساسي لتهديد وجودي يثير قلق حلفائها. هذا التوازن بين الضغط والمرونة يرسم ملامح جديدة لموقع إسرائيل على الخارطة السياسية الدولية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
محمد هاشم محمد الحسن
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست