خلف كل لحن فرائحي طبقة تبطنه باللوعة. وما يبدو تناقضاً ليس أكثر من أرجحة أرجلنا على حبل القدر. ما بين خطر السقوط، الأمل، التوغل في المغامرة الكبرى، وعدم القدرة على التراجع، الماضي والحاضر والمجهول المتخفي في آخر الحبل. وهنا تنفتح العبثية على الوجود، ليس بمفهوم الفلسفة الصلدة لسارتر، بل بمفهوم مرن للعبث المنفتح. ليس لصناعة ماهية بكل ما في ذلك من افتعال، بل لغوص في المغامرة الكبرى، مغامرة الحياة. ولذلك فإن روعة الحياة هي ألا نقف على أرض صلبة، بل نتأرجح، نعاني لنفرح، نخاف ونقاتل، نجبن ونهرب ونتجاهل، نواجه في الرمق الأخير، فالكنز هنا.. في كل هذا الزخم. في كل هذه الحركة والضجيج والصمت والقفز والاستلقاء والاستسلام والتمرد، الضحك والبكاء. لا يمكن تجاهل هذا الانفعال الشامل الذي يمنحنا الماهية، وليس الذي نصطنعه، فما نصطنعه مدرج فيه لشموليته. ومن هنا تحديداً، لا يتناقض مسرح العبث مع كونه مسرحاً، بل يتكامل معه، فكأن العبث ليس بعبث ، بل هو بنفسه القيمة التي يغطس فيها جنين الحياة دون أن يغرق، يتنفس من تلك المشيمات المتعدة التي تأتي من الذات ومن الآخر ومن الكون بأسره ومن تأثير الفراشة ومن سائر الفلسفات والآيدولوجات ومحطات التاريخ المتعالية أو التي تحاول أن تظل قابعة في الأرض دون جدوى. كل ما سبق ليس سوى خيال، وهذا صحيح، لأننا لو انتزعنا الخيال من الحياة لم يبق منها إلا العبث المتجهم المحافظ والكئيب، العبث السارتري الذي يحاول أن يحمل كفتي ميزان فوق رأسه كما في مسرحيته "لا مفر" أو لا مخرج، فنحن والعالم والآخرون هم معنانا نحن. وبدونهم ستكون العبثية الحقيقية، العبثية التي تفضي إلى الجنون. إننا هنا لا ننقض ناموس العزلة ولا حتى الانفتاح، بل ننقض فصلهما كثنائية، وبالتالي فلا شأن لنا بالخيارات الشخصية، بل بالكل كبنية وكجزء، ومن هنا فالعبثية المنفتحة لا تنتمي للتفكيك، بل لا تقف معه ولا ضده إنما تحتوي كل شيء لأن من هذا الاحتواء ينطلق المعنى وهو ما نسيه دريدا. نحن كل ونحن جزء، والكل كل وجزء، مستقل ومتصل. وهكذا فأبداً لا يوجد معنى هامشي في هذا العالم. العبثية المنفتحة هي أغنية حقيقية لها كلمات، ولكنها بلحن لا يمسك وكلمات عابرة لذاتها.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة