بعد أن تناولنا في الجزء الأول الضغوط الداخلية والخارجية المباشرة التي تواجهها إسرائيل، ننتقل الآن إلى تحليل التحولات الأوسع في محيطها الاستراتيجي، والتي تعيد تشكيل مكانتها على الساحة الدولية. هذه التحولات لا تقتصر على ردود فعل لحظية للأحداث الجارية، بل هي انعكاس لتغيرات جيوسياسية أعمق تؤثر على تحالفاتها التقليدية ودورها في المنطقة.
لطالما كانت العلاقة مع الولايات المتحدة حجر الزاوية في السياسة الخارجية والأمنية لإسرائيل، معتمدة على دعم أمريكي غالبًا ما كان غير مشروط. ومع ذلك، تشير التطورات الأخيرة إلى تراجع في قوة هذا الدعم التقليدي. العلاقة بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الأمريكي دونالد ترامب شهدت توترًا متزايدًا في الفترة الأخيرة ، على الرغم من أن إدارته كانت تعتبر الأكثر دعمًا لإسرائيل. هذا التوتر، الذي كان نابعًا بشكل رئيسي من خلافات جوهرية حول مقاربة التهديدات الإيرانية واستراتيجية التعامل مع الملف النووي لطهران ، كان مؤشرًا مبكرًا على أن الدعم الأمريكي، لم يعد بنفس القوة أو الطبيعة غير المشروطة التي كان عليها. هذا التراجع في الدعم السياسي قد يكون أحد العوامل التي دفعت الاتحاد الأوروبي وبريطانيا لتبني مواقف أكثر صرامة، لا سيما مع تصاعد الضغط الشعبي في دولهم.
لم يعد تحالف الولايات المتحدة مع إسرائيل يحظى بنفس الأولوية المطلقة التي كان عليها في عقود سابقة. فمع تحول الأولويات الجيوسياسية لواشنطن نحو المنافسة مع الصين وتعزيز نفوذها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، تضاءلت الأهمية الاستراتيجية لإسرائيل في السياسة الخارجية الأمريكية. لم تعد إسرائيل تمثل المحور المركزي للاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط بنفس القدر، مما دفع العديد من الدول الغربية إلى إعادة تقييم جدوى دعم إسرائيل. هذا التقييم يأتي خصوصًا مع ارتفاع التكلفة السياسية والاقتصادية لهذا الدعم في سياق الأزمات الحالية والانتهاكات المستمرة التي تثير انتقادات دولية واسعة. هذا التغيير في التركيز الأمريكي، وإن لم يترجم بعد إلى قطيعة، يضع إسرائيل أمام واقع استراتيجي جديد عليها أن تتعامل معه.
على الصعيد الإقليمي، تواجه إسرائيل تحديات متزايدة تهدد مكاسبها الدبلوماسية الأخيرة. الاتفاقيات الإبراهيمية، التي دشنت مسارًا للتطبيع مع بعض الدول العربية، باتت تحت ضغط شعبي وسياسي متزايد. فقد بدأت بعض الدول العربية التي وقعت اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل في السنوات الأخيرة، في إعادة تقييم علاقاتها، خاصة مع تصاعد الضغط الشعبي الداخلي عليها بعد الحرب في غزة. ففي المغرب، شهدت مظاهرات حاشدة طالبت بإنهاء التطبيع، مما اضطر الحكومة المغربية للتعامل بحذر مع العلاقة. بينما شهدت البحرين تجمعات ومسيرات علنية عكست غضبًا شعبيًا متزايدًا ودعوات لقطع العلاقات. وحتى في الإمارات العربية المتحدة، تراجعت التفاعلات المجتمعية والسياحية مع إسرائيل بشكل ملحوظ، وتزايدت الإدانات الرسمية لأفعال إسرائيل في غزة، مما يعكس مراعاة للمشاعر العامة في المنطقة. هذا التطور قد يؤدي إلى إعادة ترتيب المشهد الجيوسياسي الإقليمي، حيث قد لا تتمتع إسرائيل بنفس النفوذ السياسي الذي امتلكته قبل الحرب على غزة، وقد تجد نفسها معزولة حتى عن بعض الشركاء الجدد في المنطقة.
لا يقتصر المشهد الاستراتيجي لإسرائيل على علاقاتها التقليدية، فقد سعت تاريخيًا لتنويع تحالفاتها مع القوى الصاعدة في الجنوب العالمي، مثل دول مجموعة البريكس (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب إفريقيا). ومع ذلك، فإن طريقة تفاعل هذه الدول مع الحرب في غزة ومواقفها من إسرائيل تكشف عن تحديات جديدة. فبينما تسعى هذه الدول لتشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب، أبدت العديد منها مواقف أكثر انتقادًا لإسرائيل في المحافل الدولية مقارنة بالغرب، مما يعكس عزلة أوسع لإسرائيل تتجاوز العالم الغربي، ويزيد من الضغط عليها في المحافل متعددة الأطراف.
على جانب آخر، فإن دور إسرائيل المتنامي في أسواق الطاقة العالمية، وخاصة الغاز الطبيعي من حقول شرق المتوسط، يمثل ورقة استراتيجية مهمة. فقد أتاحت اكتشافات الغاز هذه فرصًا للتعاون مع دول إقليمية وأوروبية تسعى لتنويع مصادر الطاقة. ومع ذلك، فإن استمرار الصراع والاضطرابات الأمنية في المنطقة قد يهدد استقرار إمدادات الغاز، مما يضعف من ورقة إسرائيل الدبلوماسية في هذا المجال ويجعل هذه الشراكات أقل جاذبية في ظل بيئة غير مستقرة. هذا التهديد يؤثر على قدرة إسرائيل على استخدام مواردها الطبيعية كأداة لتعزيز نفوذها الدبلوماسي.
في مواجهة هذه الضغوط المتزايدة، أصبحت الدبلوماسية الإسرائيلية أمام تحدٍ غير مسبوق في كيفية إدارة صورتها الخارجية ومحاولة مواجهة الانتقادات. فبينما تعتمد إسرائيل بشكل كبير على الهاسبارا (جهود العلاقات العامة والدعاية) لتبرير سياساتها، فإن فعاليتها تبدو في تراجع أمام حجم الصور والمعلومات المتدفقة من غزة. السؤال يظل مطروحًا حول ما إذا كانت إسرائيل ستتبنى نهجًا دبلوماسيًا دفاعيًا متشددًا، أو ستسعى لإعادة بناء جسور معينة من خلال تغييرات في سياستها الفعلية. حتى الآن، يبدو أن التركيز يميل نحو تعزيز الدعم من الحلفاء الأقوى، مثل الولايات المتحدة في الكونغرس، ومواجهة الانتقادات بدلًا من تغييرات جوهرية قد ترضي المجتمع الدولي. .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة