يمثل فن السرد أحد فنون الأدب ، و أستمتع كثيراً عندما يصادفني في الحياة أحد المقتدرين في فن السرد ، و ليلة أمس 20/5/2025 حالفني الحظ ، حيث كان جليسي أحد أولئك النفر الكرام.. و قد ساقنا الحديث إلى كيفية قيام الحركة الشعبية لتحرير السودان ، و أنها نتاج و مولود طبيعي لتنصل حكومة جعفر نميري العسكرية من إتفاقياتها السياسية مع إقليم جنوب السودان التي وقعتها في أديس أبابا في العام ١٩٧٢م ، و السبب كان وسوسة الجبهة الإسلامية بقيادة الدكتور حسن عبدالله الترابي ، و قوانين الشريعة الإسلامية التي فرضتها الحكومة العسكرية في العام ١٩٨٣م ، فبدأت الأوساط السياسية الجنوبية ترتب أوراقها ، و ترسم ملامح المقاومة التي يجب أن تؤسس ، و قد شكل السادة الظباط في القوات النظامية في السودان الدينمو المحرك لجسم هذه المقاومة .. و كان الإجتماع الذي عقد في ملكال ، و الذي حضره كل من : سلفاكير ميار ، أروك طون أروك ، كاربينو كوانين ، وليم نون ؛ كان بداية تشكل هيكل جسم المقاومة المنشودة ، فقد إتفق القادة الأربعة على إطلاق حركة مقاومة ، تحشد أبناء الإقليم الجنوبي في بوتقة واحدة و تنتزع حقوقهم من الحكومة العسكرية التي تنصلت من الاتفاقيات السابقة ، و في آخر الاجتماع ، رشح السيد كاربينو كوانين القائد: أكول أكول لقيادة الحركة ، و رشح السيد: وليم نون أحد القيادات ، كما رشح السيد : أروك طون أروك السيد : العقيد جون قرنق دي مبيور لقيادة الحركة ، و في نهاية إجتماع ملكال ، إتفق السادة القادة على تكليف كاربينو كوانين بالسفر إلى الخرطوم و مقابلة القادة المرشحين لقيادة الحركة و معرفة مدى إستعداد كل منهم للتكليف ، و بالفعل ، بعد مدة سافر كاربينو كوانين من ضواحي مدينة بور في جونقلي عبر الروتين العسكري العادي للعاصمة الخرطوم ، و بالفعل إلتقى بالقيادي : أكول أكول ، و شرح له فكرة الحراك الجنوبي و كونه مطلوب و مرشح قوي لقيادة هذا الحراك ، و لكن السيد : أكول أكول إعتذر للمجموعة بكونه متقدم في السن و يعاني من بعض الأمراض المزمنة ، فقبل كاربينو كوانين إعتذاره ، و توجه صوب مرشح : وليم نون ، و الذي بدوره إعتذر للسيد كاربينو كوانين ، فلم يبق إلا السيد العقيد جون قرنق دي مبيور ، و على حسن حظ المجموعة أن العقيد رحب بالفكرة ، و طلب من كاربينو كوانين أنه سيسجل زيارة للمجموعة في جنوب السودان في أقرب وقت ، فرجع كاربينو و أخبر المجموعة باعتذار باقي المرشحين و قبول العقيد جون قرنق دي مبيور التكليف ، و أنه سيحضر للإجتماع ببقية القادة .. بعد مدة زمنية ، إستأذن العقيد جون قرنق دي مبيور من القيادة العامة أن يسمح له بالتوجه إلى بور لتلقى العزاء في وفاة أحد والديه في ضواحي مدينة بور ، و بالفعل أعطي الإذن ، فتوجه أولاً إلي مدينة ملكال ، و منها إلى جوبا ، و من ثم إلى بور ، و كانت المجموعة تنتظره في منطقة ( أيوت) ، فاجتمع هنالك القادة الخمسة على اللبنات الأولى في كيان الحركة الشعبية لتحرير السودان ، و إتفق الجميع على أن يكون شهر أغسطس من العام ١٩٨٣م هو بداية إعلان قيام الحركة ، و إنتهى الاجتماع ، و رجع كل إلى حيث قيادته ، سلفاكير إلى ملكال ، وليم نون إلى أيوت ، كاربينو إلى ضاحية بالقرب من بور ، أروك طون أروك إلى ملكال ، و العقيد جون قرنق دي مبيور إلى الخرطوم ، في الربع الأول من العام ١٩٨٣ ، أحست الاستخبارات في السودان بتحركات كاربينو كوانين في إقليم جنوب السودان ، فقررت نقله من جنوب السودان إلى دارفور قبل إستفحال أمره ، و بالفعل ، إستدعته القيادة في جوبا ، و أخبرته بأمر نقله إلى دارفور .. و عنذئذ أدرك كاربينو كوانين أنه بتنفيذه لأمر النقل يعني فشل خطة أغسطس المقبل ، فرجع إلى الضاحية التي بجوار مدينة بور و من هنالك أعلن عصيانه للأوامر ، و إستعد لتحمل تبعات قراره المصيري ، و بالفعل في الرابعة فجراً في يوم ١٦/٥/١٩٨٣ ، هاجمت القوات المسلحة السودانية كاربينو كوانين في الضاحية التي فيها قيادته ، و كان أول شهيد من أبناء الإقليم الجنوبي هو المناضل: ملوال أشاد ، الذي سميت هذه المنطقة باسمه بعد ذلك ، و إنسحب كاربينو بعد ذلك إلى منطقة أيوت حيث وليم نون ، و هاجمتها القوات المسلحة السودانية بعد ذلك ، و إشتعلت المقاومة الشعبية ، و لم ينتظر التاريخ مجيء شهر أغسطس ليبدأ عمله بعد ذلك ، فأرسلت القيادة العامة العقيد جون قرنق دي مبيور من أجل إخماد فتنة تمرد كاربينو كوانين و وليم نون في جونقلي ، و لكن كانت المفاجأة كبيرة عندما وصل جونقلي و أعلن إنضمامه بل و قيادته للمجموعة.. بعد أن إنتهي صديقي : يور نيوك من سرده ، باغته بهذا السؤال: ممن سمعت هذه الرواية القوية ؟ و متى كان ذلك ؟ فأجاب : من عمي المناضل الكبير : دينق ألونج أجود أكول ، وهو فريق حالياً في قوات دفاع جنوب السودان ، وهو مناضل معروف في أعالي النيل و من أسرة مشهورة في عشيرة أقير ، و كانت تلك القصة أو الحكاية في العام ٢٠٠٣م .. هذه القصة ؛ و تلكم الحكاية تثبت بما لا يدع مجال للشك أن الحركة الشعبية لتحرير السودان هي حركة جاءت تلبية لأشواق شعب جنوب السودان في الحرية والعدالة و النماء ، و هي فكرة جنوبية خالصة و ليست ملك لشخص بعينه ، جاءت لرد الاعتبار لكل الشعب الذي تضرر من ممارسات الحكومات العسكرية التي تعاقبت في حكم السودان ، صحيح ، هنالك نفر كريم من أبناء الشعب الجنوبي قدموا عبرها إسهامات كبيرة ، و لكن ذلك لا يعطيهم حق الفيتو ، و يجعلهم الورثاء الشرعيين لها من دون بقية شعب دولة جنوب السودان ، و هذا هو أهم درس من دروس قيام الحركة الشعبية لتحرير السودان في إعتقادي المتواضع .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة