المشهد السياسي السوداني، الذي يعيش تحت وطأة حرب مدمرة، يزداد تعقيدًا وتخبطًا، ويكشف عن صراعات داخلية عميقة تتجاوز مجرد التغيرات الإدارية. التعيين السريع والموجز للسفير دفع الله الحاج علي لتسيير مهام رئيس الوزراء، ثم التراجع الفوري عنه قبل أن يباشر مهامه، تبعه الحديث عن تكليف شخصية أخرى بذات المسؤولية. هذه الديناميكية المضطربة ليست مجرد خطأ إجرائي؛ إنها تعكس بوضوح صراع نفوذ عميق ومستتر، وتلقي بظلالها على تخبط دائم في مراكز صنع القرار داخل بنية السلطة في بورتسودان.
إن صدور قرار بمثل هذه الأهمية، ثم الإذعان لضغوط التراجع عنه في غضون وقت قصير، يرسل إشارات بالغة السلبية على المستويين الداخلي والدولي. إنه يكشف عن ضعف منهجي في آليات اتخاذ القرار وتناقض جوهري في الرؤى بين المكونات الفاعلة داخل مجلس السيادة والكيانات المتحالفة معه. المفترض أن يمر قرار بهذا الحجم بمشاورات مستفيضة وتوافق سياسي راسخ، لكن ما حدث يوحي بأن قرارًا اتُخذ تحت وطأة ضغط ما أو بناءً على توافق هش، ليصطدم بمعارضة فورية أجبرت على التراجع القسري. هذا التقلب لا يكتفي بتقويض مصداقية وشرعية السلطة التنفيذية الهشة التي تحاول حكومة بورتسودان تأسيسها في ظل ظروف الحرب، بل يغرس شكوكًا عميقة حول قدرتها على توفير قيادة مستقرة وموحدة للدولة المأزومة، لا سيما في ظل وجود وزراء لم يؤدوا القسم ويمارسون مهامهم، مما يضيف طبقة أخرى من عدم الشرعية والاضطراب.
في عمق هذا التذبذب المقلق يكمن صراع نفوذ متعدد الأوجه، وإن كان غير ظاهر للعلن بالكامل، فهو المحرك الأساسي لهذه الأحداث المتسارعة داخل معسكر بورتسودان. يتجلى هذا الصراع بوضوح بين أطراف رئيسية ذات مصالح متباينة( قيادة الجيش والمكون العسكري، بزعامة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، تسعى بلا هوادة للحفاظ على هيمنتها المطلقة على القرار السياسي والأمني والعسكري في البلاد). تُنظر إلى هذه القيادة على أنها حامية الوطن، وتدرك حاجتها الماسة إلى واجهة مدنية مقبولة دوليًا لضمان تدفق الدعم الخارجي دون المساس بسيادتها الفعلية على السلطة. التعيين الأول لدفع الله الحاج، المعروف بقربه من التيار الإسلامي المحسوب على المؤتمر الوطني، جاء على الأرجح كمحاولة لموازنة قوى داخلية أو لضمان دعم وولاء هذا التيار في معركة الحرب الدائرة. غير أن التراجع اللاحق يعكس استجابة لضغوط مضادة، أو إعادة تقييم صارمة لمدى قبول هذه الشخصية على الساحة الدولية. فإقالة الحاج قبل مباشرته مهامه تمثل نكسة واضحة للتيار الإسلامي، وتدل على أن جهودهم لاستعادة النفوذ تواجه مقاومة داخلية وخارجية قوية، وأن القيادة العسكرية إما ليست مستعدة لتمكينهم بشكل كامل أو أنها تخضع لقيود تمنع ذلك.
أما الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام، فهي ليست بمعزل عن هذا الصراع. بوجود مالك عقار في موقع نائب رئيس مجلس السيادة، يمتلك نفوذًا مباشرًا في القرارات الكبرى المتعلقة ببنية السلطة. بينما يمنح منصب جبريل إبراهيم كوزير للمالية تأثيرًا كبيرًا في الشق الاقتصادي والمالي للدولة، والذي يتشابك بعمق مع القرارات السياسية. كلاهما يسعى بجدية للحفاظ على المكاسب التي حققاها عبر اتفاق جوبا، وضمان تمثيلهما وحصتهما في أي حكومة قادمة. أي تعيين لرئيس وزراء يجب أن يوازن مصالح هذه الحركات ويأخذ رؤاهم بعين الاعتبار، فإغفالهم أو تهميشهم قد يؤدي إلى تصدع التحالف الهش مع الجيش. ما يزيد من تعقيد المشهد هو مفاجأة تسمية إبراهيم جابر نائب لرئيس مجلس السيادة في القمة العربية، مما يشير إلى تدخلات خارجية أو ترتيبات غير معلنة تزيد من حدة صراع الأجنحة داخل المعسكر.
وعلى الصعيد الخارجي، تلعب الضغوط الإقليمية والدولية دورًا محوريًا في توجيه دفة هذا الصراع. دول كالمملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى مصر ، لديها مصالح استراتيجية عميقة في السودان ولا ترغب في رؤية عودة نفوذ التيار الإسلامي. أي تعيين يشير إلى هذا الاتجاه قد يقلل بشكل كبير من الدعم المالي والسياسي الذي تشتد حاجة حكومة بورتسودان إليه في هذه المرحلة الحرجة. لذا، فإن التراجع عن تعيين دفع الله الحاج يمكن أن يُفهم كاستجابة مباشرة لهذه الضغوط، التي تهدف إلى تشكيل حكومة أكثر حيادية وقبولًا دوليًا، مما يسهل تدفق المساعدات الإنسانية والتنموية، وربما الاعتراف الرسمي.
هذا التخبط المتكرر في تعيين أعلى منصب تنفيذي لا يكتفي بالكشف عن صراع داخلي، بل يعكس أيضًا غياب استراتيجية واضحة ومستقرة لإدارة شؤون البلاد في ظل هذه الظروف الاستثنائية. القيادة تبدو وكأنها تتأرجح بين السعي نحو الولاء المطلق، أو البحث عن الكفاءة، أو استرضاء القبول الدولي، دون رؤية موحدة أو خارطة طريق واضحة. هذا التضارب يفاقم من حالة عدم اليقين التي تعصف بالسودان، ويُضعف من أي محاولة لتقديم صورة متماسكة ومستقرة للمجتمعين المحلي والدولي.
إن حجم الصراع داخل معسكر بورتسودان يتجاوز مجرد خلافات حول الأسماء، ليمثل تنافسًا حادًا على تقسيم السلطة والنفوذ والموارد في سودان ما بعد الحرب. الأطراف الرئيسية، الجيش بقيادة البرهان، والحركات المسلحة ممثلة في عقار وجبريل، إضافة إلى بقايا نفوذ التيار الإسلامي، تتصارع لتحديد شكل ومستقبل الدولة. هذا التجاذب بين المكونات، التي تجمعها مصلحة مشتركة في مواجهة قوات الدعم السريع، لكن تفرقها أهداف ورؤى متناقضة لما بعد الحرب، يهدد بتقويض أي استقرار نسبي يمكن أن يتحقق.
معسكر بورتسودان، بدلًا من أن يكون جبهة موحدة، يتحول إلى ساحة لاشتباكات سياسية داخلية قد تفضي إلى تفكك تحالفاته الهشة، أو على الأقل، إضعاف قدرته على قيادة البلاد نحو إستقرار سياسي حقيقي. هذا الصراع الداخلي يعيق بشدة مسار أي محادثات سلام أو جهود دبلوماسية، فالأطراف المتحاربة الأخرى والوسطاء الدوليون سيجدون صعوبة بالغة في الثقة بحكومة تفتقر للتماسك والاستقرار في قيادتها العليا. التذبذب المستمر يرسل رسالة واضحة مفادها أن السلطة التنفيذية هي مجرد واجهة لقرارات تُصنع خلف الكواليس بواسطة قوى خفية، مما يجعل أي اتفاقيات مستقبلية هشة وغير قابلة للتطبيق على أرض الواقع، وبالتالي، يُديم حالة الصراع بدلًا من التمهيد لحلول دائمة.
في الختام، فإن قصة تعيين دفع الله الحاج ثم إقالته السريعة قبل تسلم مهامه، ليست مجرد حدث عابر في سجل التعيينات الحكومية، بل هي مُتلازمةٌ مُقلقةٌ تُشير إلى صراع النفوذ المستفحل، وكشفٌ بليغٌ عن حجم التناقضات المستفحلة بين الأطراف الفاعلة داخليًا وخارجيًا. هذه الديناميكية المعقدة تلقي بظلالها الكثيفة على أي فرص حقيقية للاستقرار السياسي، وتؤكد أن القرار الفعلي في السودان لا يزال حكرًا على المكون العسكري والأطراف الأكثر نفوذًا المرتبطة به، مما يُعيق بشكل كبير مساعي التوصل إلى حل سلمي مستدام للبلاد.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة