في بلد كثر فيه الحديث عن "الجمهورية الجديدة" والتحول الرقمي والتنمية الشاملة، يأتي قرار إخلاء 120 بيتًا من بيوت الثقافة وكأنه صفعة مفاجئة للمثقفين وكل المؤمنين بدور الثقافة في البناء الوطني. فبينما تقول وزارة الثقافة إن الهدف هو "التحديث"، يرى كثيرون أن ما يجري ليس سوى إغلاق تدريجي لواحدة من آخر مؤسسات الدولة التي كانت تمثل شريانًا ثقافيًا حيويًا للمجتمعات الطرفية والمهمشة.
من تحديث إلى انسحاب؟ ما يلفت الانتباه أن القرار، رغم صدوره بلغة بيروقراطية "تطويرية"، يتزامن مع شحّ متزايد في تمويل الثقافة، وتراجع فعلي في أولوية الملف الثقافي في سياسات الدولة. فهل نحن أمام خطة تحديث بالفعل، أم بداية انسحاب من الفضاء الثقافي العام؟ السؤال مشروع، خصوصًا وأن الدولة تخلت فعليًا عن دعم عشرات المراكز الثقافية خلال السنوات الماضية، وقلصت عدد المسابقات والمهرجانات وغيبت الاستثمارات الجادة في المحتوى والمعنى.
اقتصاد السوق يزحف نحو الثقافة تبرر الدولة قرارها بأسباب مالية واقتصادية، وكأن الثقافة صارت عبئًا على الميزانية. وهذا يعكس تحولًا جذريًا في فلسفة الدولة، التي كانت – منذ الستينيات – ترى في قصور الثقافة أدوات للعدالة الاجتماعية وتوزيع الوعي. اليوم، يبدو أن المنطق الاقتصادي انتصر: لا إنفاق بلا عائد، ولا دعم بلا فائدة مادية مباشرة. لكنها مفارقة قاتلة، إذ أن الثقافة بطبيعتها غير قابلة للقياس المادي الآني، وهي استثمار في "اللا ملموس" الذي لا تزدهر الأوطان دونه.
غياب البدائل وتآكل الثقة تزعم الوزارة أنها ستعوض البيوت المغلقة بمنصات ومسرحيات متنقلة ومكتبات رقمية. لكن الواقع يقول إن تلك البدائل لا تزال غائبة، أو تجريبية في أفضل الأحوال، ولا تغني عن وجود مركز فعلي في قلب المدينة أو القرية يمنح الناس مكانًا للتعلم والمشاركة واللقاء.
هذا الفجوة تولد شكًا عميقًا في نوايا الدولة، وتكرس قناعة لدى المثقفين أن الثقافة باتت تدار بمنطق "الترشيد الإداري" لا "الرسالة الحضارية".
تداعيات قريبة المدى تآكل حضور الدولة الثقافي في الريف والأقاليم، وهو فراغ ستملؤه جهات أخرى ذات طابع ديني أو أيديولوجي.
انفصال أجيال جديدة عن الفن والمسرح والموسيقى والكتاب، نتيجة غياب بيئة التحفيز والرعاية.
خسارة آلاف المواهب غير المكتشفة، التي كانت تجد في قصور الثقافة نافذتها الأولى نحو التعبير والتعلم.
الدولة والثقافة... من القائد إلى الغائب القرار الذي بدا إداريًا في ظاهره، يعكس تحولاً عميقًا في رؤية الدولة المصرية لدورها الثقافي. من دولة قائدة ومؤطرة للوعي العام، إلى دولة غائبة تُلقي بثقلها الثقافي في سلة الترشيد المالي.
وقد لا يكون الخطر في إغلاق 120 موقعًا، بل في أن تصبح الثقافة نفسها "سلعة غير ضرورية"، يتم التخلي عنها كلما ضاق الحال. وذلك أخطر ما يمكن أن يصيب أمة تحاول أن تبني مستقبلها وسط أزمات متعددة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة