التحليل البنيوي لتعيين الدكتور كامل إدريس رئيسًا للوزراء في السودان
يُعد تعيين الدكتور كامل إدريس في هذا المنصب الحسّاس خطوة كاشفة لهيكل السلطة في السودان، لا باعتبارها حدثًا سياسيًا عابرًا، بل كمؤشر على البنية العميقة التي تحكم العلاقة بين الفاعلين في المشهد السوداني، داخليًا وخارجيًا. فمنذ اندلاع الحرب بدا أن السلطة الحقيقية لا تنبع من المؤسسات المدنية أو الإرادة الشعبية، بل من توازنات القوة داخل المؤسسة العسكرية، والتي تفرض قراراتها خارج أي عملية تشاور أو توافق وطني. قرار التعيين، في هذا السياق، يكرّس استمرار نمط تاريخي اعتمدت فيه الأنظمة العسكرية على الواجهات المدنية لتغليف احتكارها للسلطة، دون أن تمنح هذه الشخصيات أدوات حقيقية لإحداث تغيير.
ورغم أن الدكتور إدريس شخصية ذات حضور دولي مشهود، فإن تعيينه يكشف أيضًا عن تفاعل مع ضغوط خارجية تُمارس على السلطة العسكرية، التي تجد نفسها في عزلة متزايدة بسبب الحرب والانهيار الاقتصادي والمؤسسي. إن اللجوء إلى شخصية تحمل صبغة دولية لا ينبع من إرادة إصلاح داخلي بقدر ما هو محاولة لتحسين الصورة أمام المجتمع الدولي، وشراء وقت إضافي من التعاطف أو الدعم. هنا، يتداخل الفعل السياسي المحلي مع التطلعات الخارجية وتصبح الشرعية مسألة علاقات دولية أكثر من كونها تعبيرًا عن الإرادة الشعبية.
في خلفية هذا القرار تتجلى أزمة الشرعية التي تعاني منها النخبة الحاكمة، إذ لم تعد قادرة على العودة إلى الشعب، لا عبر صناديق الاقتراع ولا عبر إجماع قاعدي. لذلك، يُستبدل المصدر المحلي للشرعية بمصدر خارجي، يقوم على الاعتراف الدولي والمؤتمرات والدعم المشروط، وهي شرعية هشة، تعمّق المسافة بين الدولة والمجتمع وتؤسس لانفصال نفسي وسياسي قد يصعب رأبه لاحقًا.
الأزمة الاقتصادية تلعب بدورها دورًا خفيًا لكنه شديد التأثير. فقد تحول الاقتصاد السوداني إلى بنية متهالكة تُجبر النظام على التفكير في من يستطيع جذب المانحين أو فتح القنوات المالية، لا في من يستطيع وضع خطة إنتاجية أو بناء اقتصاد وطني. إدريس، بعلاقاته مع المؤسسات العالمية، يبدو حلًا تجميليًا لأزمة بنيوية عميقة، تُدار بالترقيع لا بالجراحة الجذرية.
في الوقت نفسه، لا يمكن فصل هذه التعيينات عن بنية الصراع الممتدة منذ اندلاع الحرب. فالمؤسسات الرسمية لم تعد موجودة بالمعنى الفاعل، وتحوّلت المواقع العليا في الدولة إلى أدوات إدارة أزمة أكثر منها أدوات حكم. غياب البرنامج الواضح، وتغييب الشفافية حول طبيعة المهمة الموكلة لرئيس الوزراء الجديد، يكشف عن تفكك متزايد في البنية السياسية، حيث يُستبدل الفعل الاستراتيجي بالارتجال السياسي.
الرمزية في اختيار إدريس مهمة لكنها مخادعة. فالرجل صاحب سيرة مهنية محترمة، غير أن النظام يوظف هذه السيرة كجزء من عملية "تجميل بنيوي" لا تؤسس لأي تحول حقيقي. فحين يُعيَّن رئيس وزراء دون صلاحيات، في غياب برلمان ومؤسسات رقابية وقضائية مستقلة، فإننا أمام إعادة إنتاج للواقع نفسه، باستخدام أدوات جديدة لا تغير من جوهر المعادلة.
إن تعيين كامل إدريس ليس حدثًا منعزلًا، بل هو نتاج تفاعل بنى متداخلة: سيطرة عسكرية على النظام السياسي، تبعية للخارج كمصدر للشرعية، انهيار في المؤسسات والبنى الاقتصادية، واستبدال الإصلاح البنيوي بحلول رمزية قصيرة المدى. وهذا ما يجعل هذا التعيين يبدو أقرب إلى رقعة فوق ثوب مهترئ، لا تعالج التمزق بل تؤجله.
ولذلك، فإن أي حديث عن الانتقال أو الحل السياسي لا بد أن ينطلق من تفكيك هذه البنى لا ترقيعها، وبناء مؤسسات مدنية تمتلك صلاحيات حقيقية وتستمد مشروعيتها من الناس لا من الخارج. وحدها رؤية وطنية شاملة تُعيد تعريف السلطة والشرعية على أسس ديمقراطية قادرة على إنهاء حالة التآكل وإعادة السودان إلى مسار مستقر. دون ذلك، لن يكون كامل إدريس إلا حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الواجهات السياسية التي تُستهلك سريعًا في نظام يحترف إعادة إنتاج أزماته.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة