في لحظة سياسية حرجة ومعقدة تمر بها البلاد، أعادت الحكومة ترتيب أولوياتها بتعيين رئيس وزراء بصلاحيات تنفيذية كاملة، في خطوة تُعد – في جوهرها – تصحيحًا طال انتظاره لمسار ظل يشكو من ضعف التنسيق والتكليف الرمزي.
الأهم من ذلك، أن تعيين رئيس وزراء بصلاحيات تنفيذية كاملة – بغض النظر عن تقييم الأشخاص – هو تطور إيجابي في حد ذاته، يعكس استجابة الدولة لمطلب جوهري طالما نادى به الحريصون على استعادة سلطة الدولة ومأسسة القرار السياسي، بدل الاستمرار في نهج التكليف الهش الذي عطّل الأداء التنفيذي طويلاً. هذه الخطوة، مهما اختلفنا حول توقيتها أو رموزها، هي في جوهرها تصحيحٌ لاتجاه، وليست انحرافًا عنه.
كما أن تراجع بعض أعضاء مجلس السيادة من العسكريين عن الإشراف المباشر على الوزارات، وتجاوب الحكومة مع الانتقادات بشأن تداخل السلطات، يمثل أيضًا علامة نضج سياسي يجب البناء عليها، لا التهجم عليها.
ورغم أن الجدل حول الشخصية المعيّنة ليس جديدًا، إلا أن استدعاء اسم الدكتور كامل إدريس أعاد فتح نقاش قديم حول معايير الاختيار ومعنى التوافق الوطني.
كامل إدريس ليس غريبا عن المشهد السياسي السوداني. فقد كان مرشحًا مقترحًا من المؤسسة العسكرية منذ عام 2019، إلا أن عوامل عدة أرجأت تلك الخطوة. واليوم، يطرح من جديد كشخصية في رأي كثيرين تحظى بقبول إقليمي ووزن دولي، وتتمتع بعلاقات خارجية معتبرة، فضلاً عن خلفية أكاديمية ومهنية عريضة تشمل رئاسته للمنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو)، وإسهامه في عدد من المؤسسات الدولية. ويُحسب له بحسب أنصاره دعم المؤسسة العسكرية، وقراءته المعمّقة لتعقيدات الأزمة السودانية، إلى جانب مشاركته السياسية في الانتخابات السابقة، وسعيه إلى لملمة الصف الوطني، كما فعل حين جمع بين الراحلين الصادق المهدي والدكتور حسن الترابي في مبادرة نادرة.
لكن في المقابل، ثمة من يرى أن إدريس – رغم سيرته الأكاديمية – لم يُختبر فعليًا في ساحات العمل التنفيذي الوطني، ولا يملك قاعدة جماهيرية واضحة، أو ارتباطاً عمليًا طويلًا بقضايا الداخل السوداني. ويصفه بعض منتقديه بأنه أقرب إلى “موظف دولي” منه إلى قائد سياسي نابع من رحم المعاناة السودانية، بل يذهب البعض لوصف حضوره السياسي بـ”الزائف”، مدفوعاً به من قبل نخب معزولة أو دوائر خارجية ترى فيه مرونة مريحة أكثر من قدرة فعلية على إدارة مرحلة انتقالية تتطلب المواجهة والجرأة.
هذا الانقسام يعكس أكثر من مجرد تقييم لشخص واحد. إنه يعبر عن مأزق سياسي أعمق يواجه السودان اليوم: أزمة قيادة وتوافق، في ظل حرب مفتوحة ومؤسسات شبه معطلة، وبلاد تبحث عن مَن يُمسك بمفاصلها ويعيد بناء جسورها المنهارة.
وفي هذا السياق، يصبح السؤال الحقيقي: هل المعيار هو الشخص، أم البرنامج؟ هل نبحث عن رمز يتفق عليه الجميع – وهو أمر مستحيل – أم عن قيادة تنفيذية تملك تفويضًا واضحًا ورؤية تستند إلى الأولويات الوطنية لا التوازنات الشكلية؟ وهل يمكن أن نحاكم أي مرشح قبل أن يباشر مهامه، في منصب أعيا حتى المجربين، وأفشل أكثر من محاولة؟
السودان اليوم بحاجة إلى دولة لا مجرد حكومة، إلى إدارة أزمة بحكمة وشجاعة، لا إلى الانشغال بمعارك جانبية تُفرغ المسار السياسي من مضمونه. أيًا كان رئيس الوزراء، فإن المطلوب هو صلاحيات واضحة، وبرنامج عملي، وتشكيلة وزارية منسجمة تستطيع التصدي لحجم التحديات الماثلة.
الجدل حول الدكتور كامل إدريس – بما له وعليه – يعكس خلافًا طبيعيًا في مجتمع تعددي يعاني من الاستقطاب. لكن ما لا يجوز هو أن يُستغل هذا الجدل لضرب مبدأ تعيين رئيس وزراء بصلاحيات كاملة، أو لإضعاف مسار استعادة مؤسسات الدولة في مواجهة مليشيا تهدد وجود الوطن برمّته.
التقييم الحقيقي لا يجب أن يُبنى على الانطباعات أو الحملات، بل على الأداء الفعلي والقدرة على تنفيذ برنامج إنقاذ وطني، تحت راية السودان لا الولاءات الصغيرة. وإن كان هناك ما يُجمع عليه السودانيون اليوم، فهو أن بلادهم لم تعد تحتمل مزيدًا من الفراغ، ولا التجريب السياسي في لحظة وجودية كالتي نعيشها.
إن الحل يبقى ليس في الاشخاص بل في التفويض، والبرنامج، ووضوح المسؤولية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة