نهبوا الوطن ولم يقولوا أو يفعلوا شيئاً؛ شفشفوا بيوتكم فأقمتم الدنيا ولم تقعدوها كتبه خالد كودي

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-14-2025, 11:00 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-19-2025, 04:23 AM

خالد كودي
<aخالد كودي
تاريخ التسجيل: 01-01-2022
مجموع المشاركات: 97

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
نهبوا الوطن ولم يقولوا أو يفعلوا شيئاً؛ شفشفوا بيوتكم فأقمتم الدنيا ولم تقعدوها كتبه خالد كودي

    04:23 AM May, 18 2025

    سودانيز اون لاين
    خالد كودي-USA
    مكتبتى
    رابط مختصر






    1-2

    18/5/2025 خالد كودي، بوسطن

    مدخل:
    منذ استقلال السودان، تشكلت بنية اقتصادية وسياسية ارتكزت على نهب الموارد الوطنية لصالح نخب عسكرية ومدنية استفادت من التحالفات الطفيلية التي قادت البلاد نحو الإفقار والتهميش. وفقاً لنظرية "اللامساواة البنيوية" لعالم الاجتماع بيير بورديو، استطاعت هذه النخب تحويل السلطة السياسية إلى رأس مال اقتصادي من خلال السيطرة على الموارد الاستراتيجية مثل الذهب والبترول والأراضي، مما أدى إلى تراكم الثروات في أيدي قلة متنفذة مقابل إفقار الأغلبية الساحقة.
    هذا المقال يستند إلى تحليلات مفكرين عالميين مثل جيمس بالدوين، ريتشارد رايت، وجون رولز، ويقدم قراءة معمقة للسرقات الكبرى التي مرّت بصمت، وكيف انتقلت الحروب من الهامش إلى مراكز المدن، وكيف تحولت بنية الدولة السودانية إلى آلة جشعة تقتات على دماء المهمشين.

    على مدار عقود، تمددت النخب السودانية، وخاصة الإسلامية منها، في مؤسسات الدولة، مستغلة نفوذها الاقتصادي والسياسي لتجريد الأغلبية من حقوقها، بينما كان البعض الآخر يُشاهد ويتابع، مدركاً لما يجري، لكنه اختار التواطؤ الصامت. هؤلاء لم يكونوا مجرد متفرجين، بل مساهمين بدرجات متفاوتة في منظومة النهب والاقتتال، منتفعين من شبكات الفساد والمحسوبية
    أما الفئة الثالثة، فقد أغمضت أعينها واعتبرت أن الأزمات والحروب لا تخصها، بل تدور في مناطق نائية لا تربطها بهم سوى حدود جغرافية باردة. هؤلاء احتموا بجلباب الامتيازات: خدمات وفرص عمل وحياة مستقرة، بينما كان الهامش يغرق في الفقر والتهميش.
    في المقابل، هناك من سمع ورأى وقاوم. دخلوا السجون، تعرضوا للتعذيب، واستشهد البعض منهم. لكن يجب أن نعترف أن حجم المقاومة لم يكن متناسباً مع حجم الجرم المنهجي الذي ارتكبته النخب. لقد كانت تلك الجرائم جزءاً من سياسة مُحكمة لإعادة توزيع الثروة لصالح القلة وإفقار الأغلبية، مما يجعل من المقاومة الفردية عملاً بطولياً، لكنه غير كافٍ في مواجهة نظام متكامل من النهب المؤسسي.
    أما الفئة الرابعة، فهي تلك التي انزلقت إلى سبات اللامبالاة، مُعتقدة أن ما يجري في الجنوب دارفور أو جبال النوبة لا يمت بصلة لما قد يحدث في الخرطوم وأم درمان وغيرهما من المدن الرئيسية. لكن حين اندلعت الحرب في قلب المدن الكبرى، وجد الفقراء أنفسهم عالقين بلا مفر، بينما حزم أصحاب الحظوة حقائبهم وهربوا إلى مصر وغيرها أو إلى مدن سودانية لم تصلها الحرب بعد.
    كان للهروب تكلفة اقتصادية لم يستطع سكان الأحزمة السوداء تحمّلها. هؤلاء الذين يعملون بالأجر اليومي لم يملكوا رصيداً احتياطياً يسمح لهم بالانتقال إلى مناطق آمنة. وهنا، تتجلى غريزة البقاء في أبشع صورها؛ من لم يستطع الفرار وجد نفسه بين خيارين: إما أن يموت جوعاً، أو أن يلجأ إلى السطو على المنازل الفارغة التي تركتها النخب الهاربة.
    وكما قال دوستويفسكي: "إذا لم تضع الإنسان في ظروف غير إنسانية، فلن ترى الوحش الذي في داخله". في هذا السياق، نجد تشابهاً مع تجربة نيو أورلينز بعد إعصار كاترينا، حين هجر الأثرياء المدينة تاركين وراءهم أحياءً فقيرة تحولت إلى بؤر "للجريمة" من أجل البقاء.
    وفي الأدب الأفريقي، يصور تشينوا أتشيبي في روايته "الأشياء تتداعى" كيف يؤدي القمع والتهميش إلى خلق مجتمعات يائسة لا تجد أمامها سوى "الجريمة" وسيلة للبقاء، حيث تتحول المجتمعات المنسية إلى برك من الغضب المكبوت الذي ينفجر في النهاية في وجه الجميع.

    اولا: سرقة الوطن – السرقات الكبرى التي مرت بصمت
    منذ عقود، أُعيدت هيكلة الاقتصاد السوداني لتصبح أداة بيد النخب السياسية والعسكرية، وخاصة الإسلامية منها، التي أحكمت قبضتها على الموارد الاستراتيجية مثل الذهب والبترول والأراضي. هذه السرقات الكبرى لم تكن مجرد عملية اختلاس أموال، بل عملية إعادة توزيع للثروة الوطنية بطريقة ممنهجة تكرس الفقر وتعمق الفجوة الاجتماعية والطبقية.

    نهب الموارد:
    ١/ الذهب:
بين عامي 2010 و2024، قُدرت صادرات الذهب السوداني بما يزيد عن 50 مليار دولار، بينما اختفى أكثر من 70% من هذه العائدات في حسابات خارجية مجهولة. وفقاً لتقارير منظمة الشفافية الدولية، فإن الذهب السوداني أصبح مصدر تمويل رئيسي للميليشيات المسلحة والعصابات العابرة للحدود، مما حوله من مورد اقتصادي وطني إلى أداة لصناعة الحروب الأهلية.
في السياق ذاته، يربط جوزيف ستيجليتز بين هذه السرقات وبين مفهوم "السرقة المؤسسية"، حيث تتواطأ السلطات الحاكمة مع رجال الأعمال الفاسدين لتهريب الموارد وتبييض الأموال، مما يحرم الدولة من إيراداتها الأساسية. ويمتد تحليل ستيجليتز ليشمل دور البنوك العالمية في تسهيل عمليات غسل الأموال، مما يجعل السرقة مؤسسية وعابرة للقارات.
توماس بيكيتي، في كتابه "رأس المال في القرن الحادي والعشرين"، يُشير إلى أن هذا الشكل من اختلاس الموارد يعيد تشكيل الهيكل الطبقي بشكل جذري. فالذهب، الذي كان من الممكن أن يشكل مصدراً لتنمية المناطق المهمشة وإعادة تأهيل البنى التحتية، أصبح سبباً لتزايد الفقر في الأقاليم وتحويل الثروات إلى أقلية من النخب العسكرية والمدنية.
    ٢/ البترول:
منذ بدء استخراج النفط في 1999 وحتى انفصال الجنوب في 2011، حقق السودان إيرادات تقدر بحوالي 60 مليار دولار. لكن وفقاً لتقارير البنك الدولي، فإن معظم هذه العائدات لم تُستثمر في البنى التحتية أو تحسين معيشة المواطنين، بل استُخدمت في تمويل الحروب الداخلية وشراء الولاءات السياسية.
هنا يستحضر بيكيتي مفهوم "الاقتصاد الريعي"، حيث تُستخدم الموارد الطبيعية كأداة للسيطرة السياسية بدلاً من أن تكون محركاً للتنمية الاقتصادية. ويتماشى ذلك مع تحليل إيمانويل والرشتاين حول "اقتصاد الأطراف"، حيث تُستنزف الثروات لصالح المركز (الخرطوم) بينما تُترك الأطراف (دارفور، جبال النوبة، النيل الأزرق) غارقة في الفقر.
    ٣/ الأراضي:
بيع أراضٍ زراعية واستثمارية بملايين الهكتارات لشركات أجنبية كان بمثابة إعادة إنتاج لسياسات الاستعمار الاقتصادي التي تحدث عنها ديفيد هارفي في "التراكم عن طريق الإقصاء". فبينما كانت النخب السياسية والعسكرية تبيع الأراضي بعقود غامضة ودون استشارة السكان المحليين، كانت المجتمعات الريفية تُطرد من أراضيها دون تعويض، مما حولها إلى مجتمعات مشردة داخل حدودها الوطنية.
هذه العمليات ليست مجرد صفقات فاسدة، بل هي نموذج لتكريس نمط جديد من الاستعمار الداخلي، حيث تُستغل الأراضي الزراعية كأداة للسيطرة السياسية والاقتصادية، ويُحوَّل السكان المحليون إلى مستأجرين في أراضيهم التاريخية.
    في مجمل هذه السرقات، تظهر مسألة مركزية: كيف تُدار الموارد في دول الجنوب الكوني من قبل نخب مستفيدة من الفساد والاستبداد؟ وكيف يمكن للمجتمع السوداني أن يستعيد حقوقه في ثرواته الوطنية؟ هذا هو السؤال الذي سيظل قائماً ما لم يتم تفكيك بنية النهب المؤسسي وإعادة بناء دولة تستثمر في الإنسان قبل الأرض والموارد.

    ثانيا: توثيق وقائع الفساد الكبرى:
    لطالما كانت قضايا الفساد في السودان بمثابة استراتيجية ممنهجة لإعادة توزيع الثروة بعيداً عن المواطنين وإلى جيوب النخب المحلية والدولية. في هذا القسم، سنعرض نماذج لأبرز قضايا الفساد الكبرى، مع الاشارة للأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية لهذه القضايا، وربطها بنظريات "الاستعمار الداخلي"، "الاقتصاد الحربي"، و"الاستحواذ الأجنبي"
    ١/ قضية بيع مشروع الجزيرة (2017
    مشروع الجزيرة، الذي كان يعد أحد أكبر المشاريع الزراعية في إفريقيا، تحول في 2017 إلى صفقة فساد كبرى انتهت بتسريح آلاف المزارعين وتجريدهم من أراضيهم. هذه العملية يمكن فهمها من خلال مفهوم "الاستعمار الداخلي" لفرانز فانون، حيث يتولى النخب الوطنية دور الوسيط الاستعماري، فتُستخدم الأرض كورقة تفاوض مع المستثمرين الأجانب على حساب الفقراء.
    لكن الأمر لا يتوقف هنا. يشير المفكر الكيني نغوغي واثيونغو في كتابه "تصفية الاستعمار" إلى أن هذه السياسات لا تؤدي فقط إلى إفقار المجتمعات المحلية، بل تساهم في خلق جيل جديد من الفقراء المديونين للبنوك والشركات الدولية. كما يرى إدوارد سعيد أن هذه العمليات تشكل نموذجاً لاستعمار جديد، حيث تُستخدم التنمية المزعومة كذريعة للنهب.
    ٢/ عقود الذهب غير المعلنة بين الحكومة وشركات روسية (2019
    في 2019، تصاعدت التقارير حول تهريب الذهب السوداني إلى الخارج، وتحديداً إلى روسيا، حيث كانت الميليشيات المسلحة تستخدم العائدات في تمويل الحروب الداخلية وشراء الأسلحة. هذه الظاهرة تشكل نموذجاً "للاقتصاد الحربي" الذي وصفه جيمس سكوت في "فن المقاومة"، حيث تتحول الثروات الطبيعية إلى أدوات لتمويل النزاعات المسلحة، مما يؤدي إلى تدمير الاقتصاد الوطني.
    على الصعيد الأدبي، يقدم الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز في روايته "خريف البطريارك" نموذجاً لكيفية استغلال الأنظمة الدكتاتورية للموارد الطبيعية كوسيلة للسيطرة، حيث تُباع الموارد مقابل صفقات أسلحة وعقود وهمية.
    من الناحية الاقتصادية، يربط الاقتصادي الفرنسي جيرارد دومنيك هذا النوع من الفساد بنمط "الاقتصاد الفوضوي"، حيث تستفيد قوى إقليمية ودولية من انعدام الشفافية، مما يؤدي إلى تحويل البلاد إلى ساحة لتصفية الحسابات الجيوسياسية.
    ٣/ صفقة ميناء بورتسودان (2022
    في 2022، أبرمت الحكومة السودانية صفقة مثيرة للجدل لبيع حقوق تشغيل ميناء بورتسودان لشركات أجنبية مقابل رشاوى بملايين الدولارات. هذه العملية تعيد إنتاج نموذج "الاستحواذ الأجنبي" الذي تحدث عنه سمير أمين في تحليلاته حول الإمبريالية الجديدة. (لايزال الامر معلقا)!
    لكن يمكن توسيع هذا التحليل ليشمل تجارب أمريكا اللاتينية، حيث وثق الكاتب إدوارد غاليانو في كتابه "شرايين أمريكا اللاتينية المفتوحة" كيف أدى بيع الموانئ والموارد إلى سيطرة الشركات الأمريكية على اقتصادات دول بأكملها. كما يلفت الاقتصادي الهندي أرفيند باناغاريا الانتباه إلى أن هذه الصفقات تؤدي إلى تدمير البنى التحتية المحلية وتحويلها إلى مناطق عسكرية واقتصادية لصالح القوى الأجنبية.
    بذلك، فإن هذه العمليات ليست مجرد صفقات تجارية، بل هي إعادة تشكيل لجغرافيا الاقتصاد الوطني، وتحويله من اقتصاد وطني منتج إلى اقتصاد خاضع لأجندات الاستعمار الاقتصادي الجديد.

    ثالثا: خلق التفاوتات الطبقية كاستراتيجية للنخب:
    منذ الاستقلال، عمدت النخب الحاكمة في السودان إلى تكريس نظام اقتصادي واجتماعي يقوم على توزيع غير عادل للموارد، مما أدى إلى تفاقم التفاوتات الطبقية بين المركز والأطراف. وفقاً لإيمانويل والرشتاين، فإن هذا النموذج يشكل جزءاً من "الاقتصاد العالمي القائم على التقسيم غير العادل للعمل"، حيث تُستنزف الأطراف من مواردها الطبيعية والبشرية لصالح المركز الذي يحتكر الثروة والسلطة.

    سياسة الإفقار والتهميش:
    ١/ تغذية النزاعات في الهامش:
استخدمت النخب السودانية سياسة إثارة النزاعات في المناطق المهمشة كأداة لتشتيت الانتباه عن سرقاتها ونهبها للموارد. فعلى سبيل المثال، تحولت دارفور وجبال النوبة إلى مسارح للحروب الأهلية، بينما كانت الخرطوم مركزاً للصفقات الاقتصادية الفاسدة. يرى والرشتاين أن هذا النهج يمثل "اقتصاداً حربياً"، حيث يُستغل الصراع كوسيلة لتوجيه الثروات إلى جيوب النخب.
ويشير نعوم تشومسكي إلى أن تغذية النزاعات تُستخدم كآلية للسيطرة على الهامش وتحويله إلى مصدر للعمالة الرخيصة. فبدلاً من استثمار الموارد في بناء المدارس والمستشفيات، تُستخدم الأموال في تمويل الميليشيات وشراء الولاءات والمصالح الشخصية.
    ٢/ إفقار الريف وتحويله إلى خزان للقوى العاملة:
وفقاً لنظرية "الفقر المركب" لأمارتيا سن، فإن تهميش الريف السوداني لم يكن مجرد نتيجة للحرب، بل استراتيجية مقصودة لتحويل سكان المناطق الريفية إلى خزان بشري للقوى العاملة الرخيصة. في هذا السياق، تحولت المهن المتاحة لسكان الهامش إلى أعمال هامشية مثل العمل في المناجم، عمال البناء، وعمالة المزارع الموسمية والجندية.
هذا التحول في الهيكل الاقتصادي يجعل من الفقر حالة دائمة؛ فبينما يتمتع المركز بوظائف رسمية مع فرص التقدم فيها ، وفرص تعليمية أفضل، يُدفع سكان الهامش إلى وظائف غير مستقرة ذات أجور متدنية، مما يعمق من دائرة الفقر ويعيد إنتاجها عبر الأجيال.
    ٣/ التجنيد العسكري كمسار وحيد:
في ظل انسداد الأفق الاقتصادي في الهامش، تحولت الميليشيات المسلحة والجيش إلى ملاذ أخير للشباب العاطلين عن العمل. تُستخدم الجندية هنا كوسيلة لاستقطاب الشباب المحرومين اقتصادياً، وهو ما وصفه فرانز فانون في "معذبو الأرض" بأنه "تسليح المهمشين"؛ حيث يتحول الفقر إلى أداة لتغذية الحروب الداخلية.
في السياق السوداني، فإن هذه الظاهرة تتجلى بوضوح في دارفور وجبال النوبة، حيث ارتفعت معدلات التجنيد في صفوف الجيش والميليشيات نتيجة لتفاقم الفقر وانعدام الفرص الاقتصادية. وهنا، تصبح الحرب نفسها سوقاً للعمل، حيث يتم تسليع الجسد السوداني وتحويله إلى أداة لتحقيق مصالح النخب.
    ٤/ النتائج الاجتماعية والسياسية:
أدى هذا النمط من الإفقار الممنهج إلى خلق مجتمعات مهمشة محرومة من التعليم والخدمات الصحية، مما زاد من فجوة الثقة بين المركز والهامش. ووفقاً لجيمس سكوت في كتابه "فن المقاومة"، فإن هذه الحالة تؤدي إلى خلق بيئة مواتية لتفجر الصراعات الداخلية والتمردات، حيث يصبح الفقر نفسه سبباً ونتيجة للصراع السياسي.
في المحصلة، فإن سياسة الإفقار والتهميش لم تكن عرضاً جانبياً في الاقتصاد السوداني، بل كانت محوراً أساسياً في بنية الدولة السودانية التي استفادت منها النخب لترسيخ سلطتها وإعادة إنتاج منظومة الاستبداد الاجتماعي و الطبقي.

    سياسة الإفقار والتهميش:
    ١/ التحالف مع الميليشيات المسلحة:
منذ عقود، اعتمدت النخب الحاكمة في السودان على استراتيجية خلق ميليشيات محلية في الهامش لإدارة صراعاتها مع المناطق المهمشة. يمكن تتبع جذور هذه الظاهرة إلى فترة حكم نميري في السبعينيات، حيث بدأت الدولة بتجنيد ميليشيات محلية من دارفور وجنوب كردفان بهدف قمع التمردات.
في التسعينيات، تحت حكم البشير، تعمقت هذه السياسة بتحويل الميليشيات إلى أدوات عسكرية رسمية، مثل قوات الدفاع الشعبي، وقوات الدعم السريع لاحقاً وغيرها. يرى فرانز فانون أن الاستعمار الجديد يعتمد على وكلاء محليين لقمع السكان واستغلالهم اقتصادياً، وهو ما يظهر بوضوح في السودان حيث تتحالف النخب مع الميليشيات المسلحة لتحقيق أرباح اقتصادية من الموارد المنهوبة.
على المستوى العالمي، يشير جيمس سكوت إلى أن الأنظمة القمعية تستخدم الميليشيات المحلية كوسيلة للتخلص من المعارضين السياسيين وتثبيت أركان السلطة، كما حدث في غواتيمالا أثناء الحرب الأهلية، وفي سيراليون حيث تم تحويل الشباب المهمشين إلى "جنود أطفال" من أجل حماية مصالح النخب.
    ٢/ استخدام الإعلام والتعليم كأدوات لتزييف الوعي وتبرير الاستغلال الاجتماعي والطبقي:
    
يُظهر تأثير هوركهايمر وأدورنو في تحليلهما "صناعة الثقافة" كيف يُستغل الإعلام لتبرير الفساد وتجميل صورة النخب. في السودان، استُخدم الإعلام الرسمي لترسيخ خطاب يتجاهل الجرائم الاقتصادية للنخب ويركز على شيطنة المعارضين والمهمشين.
يرى المفكر الأمريكي هاورد زين أن التعليم الرسمي في الأنظمة القمعية يُستخدم كأداة لتشكيل وعي زائف لدى الأجيال الشابة، حيث يتم طمس الحقائق التاريخية وتبرير جرائم الدولة. ويضيف إدوارد سعيد أن هذه العمليات تُعتبر شكلاً من أشكال "الاستعمار الثقافي"، حيث تُصنع السرديات بما يتماشى مع مصالح السلطة.
في تجربة الأمريكيين الأفارقة إبان حركة الحقوق المدنية، يشير المفكر مالكوم إكس إلى أن التعليم كان يُستخدم كوسيلة لتثبيت مفهوم "الدونية العرقية"، مما جعل الفقراء السود يقبلون وضعهم كأمر واقع. ويمكن تطبيق هذا التحليل على السودان، حيث يتم تصوير سكان الهامش كخطر أمني واجتماعي، مما يبرر استمرار تهميشهم اقتصاديًا وسياسيًا.
وبذلك، فإن الإعلام والتعليم لا يُستخدمان فقط كأدوات للسيطرة الفكرية، بل كوسيلتين لترسيخ الهيمنة الاجتماعية والطبقية وتعزيز الانقسام الاجتماعي.

    رابعا: الشفشافة – ضحايا أم جناة؟
    مع اندلاع الحرب في الخرطوم وأم درمان ومدن أخرى، انتقلت معاناة الفقراء والمهمشين من الأطراف إلى قلب المدن الكبرى. في ظل هذا الواقع، برز خطاب إعلامي مُمنهج ينمط سكان الأحزمة السوداء ويصورهم بـ"الشفشافة"، ليصبحوا الهدف الأسهل لإلقاء اللوم وتحويل الأنظار عن المجرمين الحقيقيين، أي النخب التي راكمت الثروات وكرّست الفقر وخلقت الوضع الكارثي. لم يكن هذا التوصيف مجرد خطاب عابر، بل أداة قمعية استخدمت لتبرير جرائم بشعة ضد هؤلاء المهمشين، وصلت حد قطع الرؤوس، ودفن الناس أحياء، والحرق والصلب، وكل ذلك تحت ذريعة مكافحة الإجرام والشفشفة.

    ١/ الحرب ونقل الفقر إلى المدن:
    يشير ريتشارد رايتس في "مذكرات ابن البلد" إلى أن العنف ضد الفقراء لا يقتصر على القمع الجسدي المباشر، بل يتجسد في خلق بيئة اقتصادية خانقة تدفع المهمشين نحو "الجريمة" كوسيلة وحيدة للبقاء. جيمس بالدوين يرى أن الدولة العنصرية لا تكتفي بتهميش الفقراء، بل تدفعهم نحو العنف لتُبرر قمعهم لاحقاً.
    يتفق عالم النفس إريك فروم مع هذا الطرح في "اليأس العنيف"، حيث يرى أن الإنسان المُضطهد يُصبح محاصراً بين خيارين: الخضوع للذل والفقر أو التحول إلى "مجرم" يبحث عن لقمة العيش بأي وسيلة. في السودان، انتقل الفقر من الأطراف إلى العاصمة بعد اندلاع الحرب، ومعه انتقل الإحباط واليأس ليصبحا قوة دافعة نحو لجؤ بعض فقراء المدن الي "الجريمة".
    ٢/ "الجريمة" كنتيجة للعنف البنيوي:
    في كتاب "معذبو الأرض"، يصف فرانز فانون كيف تتحول المجتمعات المهمشة إلى بؤر للعنف نتيجة العنف البنيوي الذي تمارسه الدولة. فانون يوضح أن "الجريمة" ليست مجرد فعل فردي، بل هي نتاج بنية قمعية تهدف إلى إبقاء الفقراء في قاع المجتمع.
    في رواية "البؤساء" لفكتور هوغو، يتحول جان فالجان إلى لصّ بسبب الفقر المدقع. هنا، تُصبح "الجريمة" وسيلة للبقاء في ظل نظام اجتماعي لا يوفر للمهمشين أي أمل في العيش بكرامة. هذه الصورة تُعيدنا إلى السودان، حيث أصبح المهمشون في الخرطوم هم الأعداء الجدد للنظام، الذين يُصورون كمجرمين رغم أنهم ضحايا التهميش والإفقار الممنهج.
    ٣/ الإعلام والتلاعب بالسردية:
    يرى ثيودور أدورنو أن الأنظمة القمعية تُعيد تشكيل السردية من خلال الإعلام لتبرير جرائمها وإعادة إنتاج الهيمنة. في السودان، رُكّز الإعلام الرسمي على "تجريم" "الشفشافة" باعتبارهم مصدر التهديد الأمني الجديد، متجاهلاً جرائم النخب التي نهبت الذهب والبترول والأراضي واشعلت الحروب وهمشت السودانيين ليضطروا الي الشفشفه.
    في السياق الأمريكي، يوضح كينيث كلارك في دراسته "تأثير الدمية" كيف تُستخدم الصور النمطية في الإعلام لتكريس دونية السود، مما يؤدي إلى وصمهم "كمجرمين" بالفطرة، تماماً كما يحدث في السودان مع سكان مايسمي بالأحزمة السوداء
    ٤/ التنميط والعنصرية كأدوات للتبرير:
    التنميط هو عملية خلق صورة نمطية زائقة وغير دقيقة لفئة معينة وتكرارها بشكل متعمد حتى تُصبح حقيقة في الوعي الجمعي. يرى عالم الاجتماع إدوارد سعيد أن التنميط يُستخدم كأداة استعمارية لتبرير العنف ضد الآخر، بحيث يتحول الضحية إلى "مجرم" او "مجرم" محتمل يستحق العقاب. في السودان، أعاد الإعلام رسم صورة سكان الأحزمة السوداء كلصوص و"مجرمين"، مما فتح الباب أمام ارتكاب جرائم وحشية ضدهم تحت ذريعة الانتقام علي افعال الشفشفة.
    في السياق الأمريكي، نجد أن الإعلام لعب دوراً محورياً في رسم صورة الأفارقة الأمريكيين كمدمني مخدرات ولصوص، ما ساهم في تأجيج العنف ضدهم، كما أشار كورنيل ويست في كتاباته عن العرق والدين والديمقراطية.
    من جانب آخر، يرى ميشيل فوكو في تحليله لخطاب السلطة أن التنميط يصبح وسيلة لتبرير القمع وإعادة إنتاج العنف المؤسسي، بحيث يتم تصوير الضحية كمجرم يستحق العقاب. في السودان، ارتُكبت "جرائم" الحرق والصلب وقطع الرؤوس تحت ذريعة "محاربة الشفشافة"، مما يُعيد إلى الأذهان جرائم الإبادة التي تُرتكب باسم القانون والنظام
    في النهاية، يُصبح التنميط عنصراً مركزياً في إعادة تشكيل السردية الاجتماعية، حيث يتحول المهمشون من ضحايا لسياسات الإفقار إلى أهداف سهلة للانتقام والتصفية. والسؤال الجوهري هنا: كيف يمكن تفكيك هذه السرديات؟ وكيف يمكن إعادة توجيه الغضب نحو المجرمين الحقيقيين، أي النخب ، والنخب الإسلاميين التي نهبت البلاد وأشعلت الحرب ووضعت الجميع في ماعليه السودان الان؟

    ٤/ الفنون كمنصة لكشف الحقيقة
    الفن التشكيلي لطالما كان سلاحاً في وجه النخب التي تسعى إلى إعادة إنتاج التهميش. ففي أعمال الفنان الجنوب أفريقي ويليام كنتريدج، نرى صوراً رمزية للفقراء تتحول إلى شخصيات شبحية تُلاحقها السلطات، ما يعكس رحلة التحول من ضحية إلى جاني.
    غوردون باركس، المصور الأمريكي، قدم سلسلة من الأعمال الفوتوغرافية خلال فترة الحقوق المدنية، وثق فيها حياة السود في الأحياء الفقيرة، مسلطاً الضوء على كيفية استخدام الإعلام لتصويرهم كمجرمين.
    قدم كاتب هذا المقال خالد كودي في سلسلته "التاريخ والذاكرة" مشاهد رمزية تعري واقع المهمشين في الأحزمة السوداء. وعدد كبير من التشكيليين السودانيين انتجوا اعمال تناولت التهميش الماسسي.
    في النهاية، يبقى السؤال الأعمق: لماذا تحول الفقراء إلى لصوص؟ هل هي طبيعتهم أم الظروف التي فُرضت عليهم؟ هل يمكن لوم من سُرقت موارده وعانى الفقر لجوئه إلى الجريمة؟ أم أن السؤال الأهم هو: من هم الفاعلون الحقيقيون الذين حولوا هؤلاء الفقراء إلى أدوات في معركة البقاء؟

    يتبع في الجزء الثاني

    النضال مستمر والنصر اكيد

    (أدوات البحث التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)


























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de