في زمن الخراب، حين تُغتال القيم في وضح النهار، وتُدفن الحقيقة تحت أنقاض الحرب، يتوارى المثقف السوداني خلف ستائر الخوف أو يُجبر على الرقص في مواكب الطوائف والولاءات الضيقة، وكأن الوطن بات زريبة قَبَلية تُدار بالولاء لا بالكفاءة وبالعُرف لا بالعقل. لقد انقلبت الوظائف العليا إلى غنائم، والشرعية إلى أداة ابتزاز، وأُقحم المثقف بين مطرقة الانتماء وسندان الصمت. فمن أراد أن ينجو، لبس عباءة القبيلة، ومن أراد أن يُسمع، باع صوته لسوقٍ لا يقرأ. أما من تمسّك بضميره، فهو بين التهديد والتهميش والخذلان. ليس هذا زمن الأسئلة الكبرى، يقولون، بل زمن "البراغماتية"، زمن أن تحفظ رأسك، وأن تُطأطئ لهاجس البقاء، وأن لا تتحدث عن الحق والعدل والمساواة… كلمات قديمة أكلها الغبار في كتب المدارس القديمة. فكيف للمثقف أن يكتب عن الحرية، وذاته أسيرة؟ كيف له أن يحلم بوطن معافى، وهو جزء من مرضه؟ وكيف له أن يبني رؤية، وهو لا يستطيع أن ينظر في عينيّ الجائع؟! لقد صار بعض المثقفين حُماة للاستبداد، لا بمدافعهم، بل بصمتهم، بتجميل القبح، بتسويق الخوف على أنه "حكمة"، وبتبرير الفساد على أنه "حنكة سياسية". إنهم أولئك الذين يقايضون الصدق بمكانة، والشجاعة بمنصب ويتحدثون عن "المصلحة الوطنية" بلغة لا علاقة لها بالوطن. وفي المقابل، يقف آخرون منفيّون في الداخل، يتجرّعون مراراتهم بلا منابر، بلا دعم، بلا حماية. يكتبون ويُسجنون، يتكلمون ويُخونون، ولكنهم لا يسكتون… لأنهم يعرفون أن الصمت خيانة، وأن المثقف حين يتخلى عن وجعه لصالح الراحة يصبح شاهد زور على خراب بلاده.
نعم، نبحث عن ترياق، لا عن مُسكن يطيل أمد الانتظار. نبحث عن مثقف يحفر الكلمات كما تُحفر الآبار في الصحارى، لا عن مهرج يصفّق لمنصب أو يُهدهد نظامًا. نبحث عن من يملك جرأة الأسئلة لا عن من يبيعنا أجوبة ملوّثة بالخوف والتواطؤ.
أيها المثقف السوداني… لا تكن ظلًّا باهتًا في مشهدٍ دامٍ، كن نارًا تشقّ الظلمة، وكن ضميرًا يستعصي على المساومة. الوطن لا ينتظر من يحفظ الكتب، بل من يصنع التاريخ.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة