لكي لا يظل السودان حديقةً مصر الخلفية : إغلاق المنافذ الحدودية: ضربة رمزية لمصالح مصر الاقتصادية
"مصر المؤمنة، مصر التي نسف طيرانها كوبري شمبات، ومنطقة أم ضواًبان شمال المسيد، والمنطقة الصناعية بأكملها، وكمان كهرباء الأبيض، وأخيراً خزان جبل أولياء!" مقدمة في أكتوبر ٢٠٢٤، أعلنت قوات الدعم السريع عن إغلاق المنافذ الحدودية ومنع تصدير السلع السودانية إلى مصر من المناطق التي تسيطر عليها، في خطوة وُصفت بأنها رمزية بامتياز، لكنها عكست تحوّلًا نوعيًا في الخطاب السياسي والاقتصادي تجاه العلاقة السودانية-المصرية، خاصة في ظل النزاع المسلح الدائر منذ أبريل ٢٠٢٣. أثار القرار ضجة واسعة، ليس فقط لما يمثله من تحدٍ مباشر للنفوذ المصري، بل لما يكشفه من اختلالات بنيوية في علاقة ظلت لعقود تُقدَّم تحت غطاء "التكامل"، بينما هي قائمة على الهيمنة والاستغلال. من التكامل إلى الاستغلال: قراءة في العلاقات السودانية-المصرية منذ استقلال السودان عام ١٩٥٦، سيطر على العلاقة مع مصر خطاب "التكامل" الذي روّجت له النخب المصرية، وروّجت له أيضًا أنظمة سودانية متعاقبة، في كثير من الأحيان دون مقابل ملموس. بمرور الزمن، تحوّل هذا الخطاب إلى واجهة ناعمة لمصالح استراتيجية مصرية، حيث ظل السودان يُعامل كامتداد جغرافي واقتصادي، لا كدولة ذات سيادة كاملة. ١. التدخل السياسي: دعم الأنظمة العسكرية على حساب الديمقراطية لعبت مصر دورًا محوريًا في تثبيت الأنظمة العسكرية في السودان، بدءًا من نظام الفريق عبود، ثم دعم انقلاب النميري، ومرورًا بتحالفها الاستراتيجي مع البشير، وصولًا إلى دعمها الصريح للبرهان بعد ثورة ديسمبر المجيدة. كان همّ مصر الأساسي يتمثل في منع أي تحوّل ديمقراطي قد يُربك بنية الحكم الاستبدادي في المنطقة، أو يهدد مصالحها الأمنية في حوض النيل والبحر الأحمر. ٢. الاحتلال المصري للأراضي السودانية: حلايب وشلاتين ونتوء أرقين منذ التسعينيات، فرضت مصر سيطرتها العسكرية والإدارية على مثلث حلايب وشلاتين ونتوء أرقين، وهي أراضٍ سودانية موثقة تاريخيًا وحدوديًا. ورغم تعاقب الحكومات السودانية، فإن هذا الاحتلال ظل بلا مقاومة سياسية أو تحكيم قانوني، ما جعله واحدًا من أكثر ملفات السيادة هشاشة في تاريخ السودان الحديث. ٣. الاستغلال الاقتصادي: الزراعة والمياه والموارد الطبيعية مثّلت المشاريع الزراعية نموذجًا صريحًا للاستغلال المصري لموارد السودان. فقد حصل مستثمرون مصريون، تحت غطاء التعاون الثنائي، على عقود طويلة الأجل في أراضٍ زراعية سودانية، مستفيدين من المياه والعمالة المحلية بأسعار بخسة دون مردود فعلي على الاقتصاد السوداني. كما شهدت قطاعات الصمغ العربي، اللحوم، والمعادن نهبًا منظّمًا لموارد البلاد لصالح السوق المصري، عبر قنوات رسمية وغير رسمية. ٤. الحرب السودانية والمصالح المصرية: دعم غير معلن للجيش مع اندلاع الحرب في أبريل ٢٠٢٣، اختارت مصر دعم الجيش بقيادة البرهان، وقدّمت له مساعدات لوجستية ودبلوماسية، شملت ضربات جوية وإمدادات عسكرية سرية. لم يكن ذلك دعمًا للدولة السودانية، وإنما محاولة للحفاظ على نظام حليف يضمن استمرار مصالح القاهرة، وخصوصًا السيطرة على الموارد الحيوية والمنافذ الحدودية. ٥. قرار الدعم السريع: ضربة رمزية لكنها كاشفة في هذا السياق جاءت خطوة الدعم السريع في أكتوبر ٢٠٢٤، حيث أعلنت حظر تصدير مجموعة من السلع الأساسية إلى مصر، من بينها: - الفول السوداني - السمسم - الصمغ العربي - الماشية - الذهب - المعادن الأخرى
كما أرفقت ذلك بتحذيرات شديدة من تهريب هذه السلع عبر المنافذ غير الرسمية، متوعّدة بمصادرة الشحنات ومحاسبة المتورطين.
ورغم أن السيطرة الجغرافية المحدودة لقوات الدعم السريع قلّلت من الأثر العملي المباشر للقرار — خاصة أن معبر أرقين الحدودي لا يزال تحت سيطرة الجيش — إلا أن الرسالة السياسية كانت بالغة الوضوح: لم تعد مصر قادرة على التعاطي مع السودان كملحق اقتصادي.
القرار هزّ شبكات التهريب والاقتصاد غير الرسمي التي كانت تغذي السوق المصري بموارد سودانية خارج الرقابة، وسلّط الضوء على مدى تغلغل المصالح المصرية في عمق الهياكل الاقتصادية السودانية، وعلى هشاشة السيادة الوطنية التي طالما غُيّبت. ٦. من علاقة تبعية إلى شراكة ندية حان الوقت لتفكيك خطاب "التكامل" الذي أُفرغ من مضمونه. المطلوب الآن هو بناء علاقة ندية تقوم على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل، لا على مفاهيم الهيمنة أو "الحديقة الخلفية". السودان ليس ساحة مفتوحة لأي دولة، ومصر — بكل ثقلها — لن تستفيد على المدى الطويل من زعزعة استقرار جارتها الجنوبية. ٧. توصيات لإعادة التوازن ١. رفع ملف حلايب وشلاتين إلى التحكيم الدولي، وفقًا للخرائط والمواثيق الدولية. ٢. مراجعة العقود الزراعية والتجارية المجحفة، وإخضاعها لمبدأ السيادة الاقتصادية. ٣. تنويع الشراكات الإقليمية والدولية، لتقليل الاعتماد الاستراتيجي على مصر. ٤. إعادة بناء المؤسسات الوطنية الديمقراطية، القادرة على صدّ التدخلات الخارجية وحماية القرار السيادي. خاتمة السودان لا يحتاج إلى قطيعة مع مصر، بل إلى علاقة جديدة تقوم على الاحترام والتوازن. أي شراكة مستقبلية يجب أن تُبنى على قاعدة الندية، بعيدًا عن الخطابات العاطفية أو المصالح المختلة التي أورثت السودان التبعية والفقر والصراع.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة