هبط علي كالصاعقة نبأ وفاة الرفيق محمد مراد قبل قليل في براغ، وطاف بذهني شريط من الذكريات اللاصقة بوجداني منذ نعومة الأظافر. كان محمد أحد التلاميذ رؤساء المدرسة الأهلية الوسطي بمدني وهو في السنة الثالثة ونحن في الاولي، ولكن شخصيته الحقانية التي لم تتغير طوال حياته جعلت منه تلميذا قياديا بدون غطرسة أو استبداد، بعكس الرؤساء الآخرين، وعرفته وصادقته منذئذ، وكان بيننا ود واحترام عميق متبادل. ودارت السنين ثم قابلته في ( المديرية اي مركز الحزب بالخرطوم) بعد ان عاد من المانيا متأبطا الدكتوراة في التاريخ، وطايبني وهش في وجهي واستبشر بي لما علم أنني معه في (الكليتون) الذي انضم هو له قبلنا بعشر سنوات. وبعد شهور جاء اعلان يونيو ٦٩ وقيام وزارة شؤون الجنوب وحشد الرفاق لقيادة دفتها، ومنهم م مراد الذي اصبح رئيسا لوحدة النشر والمعلومات، فاستقطبني لها، وبعد شهور، قبيل حركة ١٩ يوليو ببضع أيام، أرسلوني في مهمة لكمبالا، وغادر هو لمؤتمر في أوروبا. وبعد أسابيع التقينا في براغ بتشيكوسلوفاكيا، ناجين فيها من البطش بالشيوعيين الذي ولغ فيه النميري بعد انتكاسة حركة يوليو. ولمدة عامين أحاط بي محمد إحاطة السوار بالمعصم، ولولاه لكنت يائسا متبطلا أو ضحية متردية ونطيحة للأوليقاركية الستالينية التي كانت في قيادة فرع الحزب. وبعد عامين في براغ تقاسمنا خلالها السكن في غرفة واحدة لأكثر من عام، أصدر فرع الحزب قرارا برجوع أمثالنا للخرطوم (في شيء من التشفي والغيرة والحسد)، أي الذين غادروها بسبب أحداث يوليو. ولقد ادعوا بأن حكومة النميري أبدت حسن نية وبعض انفراجة، واطلقت سراح الشيوعيين. ولكن اتضح أن ذلك مجرد فخ، إذ بمجرد عودة القادة محمد مراد ومحجوب عثمان تم اعتقالهما من المطار وارسلا الي سجن الأبيض عام ١٩٧٣. اما شخصي الضعيف فقد انسربت من المطار، فلم أكن معروفا لديهم. ولقد علمت فيما بعد أن محمدا تعرض لتعذيب وحشي في زنازين الأمن بعد أن أعادوه من الأبيض، يسألونه عن أمكنة الكادر المختفي رغم أنه كان غائبا عن الوطن لمدة عامين.. وأخير أطلقوا سراحه. وبعد قليل كان ضمن الكادر المختفي بتلافيف العاصمة. وكان يزورني في بيتي بالشعبية بحري وأنا طالب متقدم السن mature student بآداب جامعة الخرطوم. وقضي معي أحد الأعياد بإذن خاص من ل. م. وكانت زوجي تظنه نقد شخصيا. ولم يتعرف عليه أي من ضيوفنا طوال أيام العيد. ثم تفرقت بنا السبل مرة أخري بعد انقلاب الاخوان عام ١٩٨٩ ، فقد لاذ مراد بتشيكوسلوفاكيا مرة أخري وأقام بها حتي وفاته اليوم. وجئت إلي الامارات في نفس ذلك العام. ورغم أني كنت قد تقدمت باستقالتي من الكليتون عام 1984 وأنا مبعوث ببريطانيا إلا أن علاقتي بمراد لم تتأثر سلبا بذلك ، وكذلك بيوسف حسين ومحجوب عثمان عليهما الرحمات مدرارا، وكذلك سليمان حامد مد الله في أيامه. وكانت آخر مرة التقيت فيها محمد في عام 2013 عندما زرته في براغ في معية صديقي عبد الله شريف رئيس اتحاد صحفيي الأمم المتحدة المقيم بالنمسا، وذلك بعد أن سمعت أن محمدا فقد بصره. ولقد اهتز عبد الله علي عررشه بما حسبه وفاءا للأصدقاء نادر في هذه الأيام. ولكن محمدا لم يكن صديقا عاديا، فانا مدين له بحياتي ؛ فقد أقنعني بالعودة للسودان من براغ بعد أن كنت أنوي الاندياح نحن ألمانيا ولي فيها أوتاد وصلات. وأقنعني بترك الفودكا التي هربت نحوها من الواقع الأوليقاركي المرير، وكلما هممت بها صنع لي كوبا من الشاي الصاموتي بالحليب المقنن. هذا رجل طبق الاشتراكية في نفسه وفي سلوكه وتعامله مع الآخرين وقيمه المعاشة. إنه صلب كحجر الظلط وطيب ضحوك كالطفل البريء الغرير. ما رأيت مثل نبله وظرفه وبشاشته وتمسكه بالمبادئ. وقد توثقت علاقتي بالاسرة كلها خاصة زوجه الفضلي خديجه الرفاعي وإخوانه موسي وأحمد الباشمهندس. لهم جميعا خالص العزاء واسأل الله بحق اسمائه وانبيائه واوليائه الصالحين أن يعامل محمدا صاحبي معاملة الصديقين والشهداء وأن ينزله الفردوس الأعلي. نم ياصديقي غرير العين هانيها، فشعبنا كله يحبك ويعزك ويذكرك ياصديق الكادحين والطبقة العاملة، ولقد أديت رسالتك كاملة، وهاهم أجيالنا الجديدة يعيدون لثورة اكتوبر وانتفاضة ابريل القها ويذودون عن الوطن والوطنية والحرية والعدالة والسلام. اخوك الفاضل عباس محمد علي.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة