ما جرى في الدوحة يوم 14 مايو 2025، أثناء زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لم يكن مجرد توقيع صفقات، بل كان تجلّيًا فائقًا لفن هندسة النفوذ في عالم يتصدع تحت وطأة تحولات جيوسياسية عميقة.
لن أُعيد سرد أرقام الـ 1.2 تريليون دولار، أو صفقات بوينغ أو رايثيون؛ تلك هي مجرد قشور على سطح محيط من التحولات الاستراتيجية التي تجعل قطر المختبر الذي يُعاد فيه تعريف مفهوم الشراكة الدولية في القرن الحادي والعشرين. تخيل لاعب شطرنج بارع لا يُركز على كش ملك الخصم بشكل مباشر، بل على تحصين قلعته وتأمين كل قطعة على رقعة اللعب. هذا هو النهج القطري الذي تُرجم في هذه الزيارة.
لم تعد قطر مجرد مُورد للطاقة للغرب، بل أصبحت مُستثمرًا استراتيجيًا يشتري النفوذ عبر الاقتصاد المعرفي. صفقة بقيمة مليار دولار في التقنيات الكمومية مع (كوانتينيوم) و(الربان كابيتال) هي ليست مجرد استثمار مالي، بل هي توطين للمستقبل. قطر تدرك أن النفط والغاز مهما بلغت أهميتهما اليوم، ليسا وقود المستقبل الدائم. لذا، هي تُسرّع من وتيرة دخولها في صناعات الغد المتقدمة، لا كمُستهلك، بل كشريك فاعل يُساهم في تطويرها. هذا الاستثمار يضع قطر في مصاف الدول التي تُشكل ملامح الثورة الصناعية الرابعة، ويُعطيها ورقة تفاوضية غير تقليدية تتجاوز حدود الطاقة.
لكن الأهم هنا، هو سياق صفقة الطائرات مع بوينغ. قبل ثلاثة أسابيع فقط، ألغت الصين صفقة شراء 100 طائرة بوينغ كرد فعل على قرارات ترامب، مما دفع الشركة لتسريح 450 عاملاً ودخلها في إشكال كبير. في عالم تُدار فيه السياسة الأمريكية بشكل كبير بواسطة اللوبيات، مارس ترامب ضغطاً لضمان توقيع قطر على صفقة لشراء ما يصل إلى 210 طائرات من طرازي بوينغ 787 دريملاينر و777X، تعويضاً عن خسائر بوينغ الفادحة جراء الإلغاء الصيني وإعادة توظيف العمالة المسرحة. هذه الصفقة ليست مجرد طلب تجاري، بل هي مُناورة جيوسياسية ذكية تستغل حاجة بوينغ لتعويض خسائرها وتضمن دعم لوبي صناعة الطيران الضخم لترامب في الولايات المتحدة.
عندما يُشيد ترامب علنًا بدور قطر في ملف إيران، فإن هذا ليس إشادة دبلوماسية عابرة، بل هو اعتراف علني بـالدور المركزي الذي تلعبه الدوحة كـقناة تواصل خلفية لا غنى عنها للولايات المتحدة في منطقة ملتهبة.
في عالم تُشكل فيه الخصومات الجيوسياسية حواجز صماء، تُقدم قطر حلولًا دبلوماسية عبر قدرتها الفريدة على التحدث إلى الجميع واشنطن، طهران، وحتى بعض الأطراف غير الحكومية. هذه القدرة على العبور فوق الجدران تجعلها شريكًا لا يُمكن استبداله، لأنها تُقدم قيمة تتجاوز القواعد العسكرية والصفقات الاقتصادية؛ تُقدم القدرة على فك الاشتباك.
وبالتوازي مع هذا، يُسلط الضوء على أن ملفات إقليمية حساسة باتت تُدار من عواصم خليجية رئيسية، فبينما أعلن ترامب رفع العقوبات عن سوريا من داخل الرياض، مؤكداً على أن السعودية باتت اللاعب المحوري في الملف السوري من خلال التنسيق مع الرئيس السوري أحمد الشرع، فإن ذلك يُرسخ الصورة بأن ملف غزة يدار بشكل مباشر بواسطة قطر. فجهود الوساطة القطرية، بالتنسيق مع مصر والولايات المتحدة، مستمرة ومتسقة لإنهاء الأزمة الإنسانية في القطاع، وتأكيد قطر الدائم على رفض استخدام المساعدات الإنسانية كـورقة ضغط يُظهر عمق تدخلها وعزمها على إدارة هذا الملف المعقد، ما يجعلها لاعباً محورياً في رسم ملامح السلام أو الهدنة المستقبلية في غزة.
وعلى النقيض من هذه الملفات الإقليمية التي تبرز فيها أدوار محددة لعواصم بعينها، اللافت أن اسم السودان لم يرد بشكل صريح ضمن أي من الإعلانات الرسمية لهذه الزيارة أو زيارات ترامب اول امس للسعودية، مما يشير إلى أن ملفه الحساس قد يكون لا يزال في طور المعالجة عبر قنوات أخرى أو أن مقاربة واشنطن له تختلف عن الملفات التي تم إسنادها لدول محددة.
تجاوزت قاعدة العديد الجوية كونها مجرد قاعدة عسكرية ضخمة. الاتفاقيات الجديدة، خاصة تلك المتعلقة بـ 38 مليار دولار من الاستثمارات الدفاعية، تُشير إلى تحويلها إلى ما يُشبه المركز العصبي للعمليات الأمريكية في الشرق الأوسط. هذا ليس مجرد توسيع، بل هو تعميق للشراكة يجعل مصير العمليات الأمريكية في المنطقة مرتبطًا بشكل أوثق بالقدرات القطرية. في عالم تتناقص فيه الرغبة الأمريكية بالتدخل المباشر، تُصبح القواعد المجهزة والمُدعمة بجهود الشركاء المحليين هي اليد الممتدة للولايات المتحدة. قطر لا تشتري أسلحة فقط، بل تشتري قدرة على الإسناد اللوجستي والعملياتي تُعزز من دورها كحليف استراتيجي لا غنى عنه.
هذه الزيارة لم تكن مجرد إبرام صفقات، بل كانت إعادة صياغة لعقد الولاء في العلاقات الأمريكية-الشرق أوسطية. في ظل تحولات إقليمية تتسم بالتقارب مع خصوم الأمس، تُقدم قطر نموذجًا مُختلفًا للشراكة مع الولايات المتحدة. هو نموذج يقوم على التكامل الاقتصادي والتكنولوجي والدبلوماسي وليس فقط على التبعية العسكرية. هذا يُشكل تحديًا ضمنيًا للنماذج التقليدية التي قامت على (النفط مقابل الأمن). فترامب، بحدسه التجاري الفذ، يُدرك أن الولاء في العلاقات الدولية يُمكن أن يُقاس أيضًا بالدولار. عندما تربط مصالح اقتصادية ضخمة (مثل صفقة بوينغ التي تُوفر آلاف الوظائف) دولةً بأخرى، فإن هذا يخلق نوعًا من الولاء المادي الذي يصعب كسره. هو يُرسخ فكرة أن قطر ليست فقط شريكًا استراتيجيًا بل (شريكًا استراتيجيًا مُربحًا) للولايات المتحدة.
في ظل الفوضى والاضطرابات التي تعصف بالمنطقة، تُقدم قطر نفسها وتُقدمها الولايات المتحدة كـصندوق استقرار. قدرتها على احتواء الأزمات، والتواصل مع الأطراف المتنازعة، والاستثمار في التكنولوجيا والمستقبل، تجعلها نقطة ارتكاز يمكن لواشنطن الاعتماد عليها لضمان مصالحها في منطقة مُتشعبة.
إن زيارة ترامب والصفقات التي نتجت عنها ليست مجرد حلقة في سلسلة العلاقات الدبلوماسية، بل هي نقطة تحول تُشير إلى أن قطر قد انتقلت من هامش الاهتمام الأمريكي إلى مركزه الاستراتيجي. لقد أصبحت الدوحة، بذكائها الاقتصادي والدبلوماسي، (مهندس نفوذ) يُدرك جيدًا كيف يربط مصيره بمصالح القوى العظمى، ليس بالتبعية، بل بالمشاركة الفاعلة في صياغة مستقبل عالم متصدع. هذا التحليل يُقدم قراءة مُختلفة، تُركز على الدوافع العميقة والمعادلات المُعقدة التي تُشكل هذا التحول، بعيدًا عن الأرقام المجردة والتصريحات الدبلوماسية المعتادة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة