تشهد الحرب الأهلية في السودان تحولات خطيرة مع تصاعد أدوار القوى الإقليمية والدولية في تسليح المليشيات الإسلامية، وعلى رأسها جماعة "البراء بن مالك"، التي تُعد أحد أبرز الأذرع العسكرية المرتبطة ببقايا نظام عمر البشير. يُسلط المقال المنشور للدبلوماسي الأمريكي السابق كاميرون هيدسون الضوء على آليات التمويل والتسليح التي تقف خلف هذه الجماعات، مع تركيز خاص على دور تركيا وقطر وإيران. في هذا التحليل، نناقش أبعاد هذه التدخلات وانعكاساتها على مستقبل السودان.
السياق العام: صراع الهيمنة وإرث النظام السابق منذ الإطاحة بنظام البشير عام 2019، دخل السودان مرحلة انتقالية مأزومة، حاولت فيها القوى المدنية فرض تحول ديمقراطي، لكن ظلت المؤسسة العسكرية متحالفة مع عناصر من النظام القديم، خاصة الإسلاميين. تشير تقارير عدة إلى أن أموالًا طائلة هُربت إلى الخارج، لا سيما تركيا، خلال تلك المرحلة، وأُعيد توظيفها لتمويل جماعات مسلحة وحملات تضليل إعلامي تستهدف تقويض الاستقرار وإعادة تموضع الإسلاميين في المشهد السياسي.
تعتمد النخبة العسكرية في بورتسودان (بقيادة الفريق أول البرهان) على هذه الجماعات المسلحة كأداة مزدوجة: تحقيق توازن داخلي ضد خصوم مثل قوات الدعم السريع، وكورقة تفاوضية مع الخارج.
محاور التدخل الخارجي: تركيا نموذجًا أ. الدعم التركي: بين الأيديولوجيا والمصلحة الاقتصادية التمويل المصرفي: تؤكد مصادر سياسية أن قادة من الحركة الإسلامية نقلوا أرصدة كبيرة إلى البنوك التركية، بما يُسهّل عمليات تمويل المليشيات بعيدًا عن الرقابة الدولية.
الطائرات المسيّرة والذخائر: كشفت وثائق صحفية عن صفقات سلاح شملت مسيّرات Bayraktar TB2 وذخائر متنوعة، نفذتها شركات دفاعية تركية، في صفقات بلغت قيمتها عشرات الملايين من الدولارات. تم استخدام هذه الطائرات في ضربات دقيقة ضد مواقع الخصوم.
التدريب الفني: أُرسلت فرق فنية تركية لتدريب عناصر المليشيات على تشغيل المسيّرات، ما يُظهر تورطًا مباشرًا يتجاوز الدعم المالي إلى الشراكة العملياتية.
ب. دوافع أنقرة التوسع الجيوسياسي: تسعى تركيا لتعزيز نفوذها في القرن الإفريقي عبر توظيف الإسلاميين كأدوات محلية ضمن مشروع إقليمي لموازنة نفوذ قوى إقليمية عربية منافسة.
المكاسب الاقتصادية: تسعى أنقرة للوصول إلى الموارد الطبيعية في السودان – وعلى رأسها الذهب – عبر شراكات مع شبكات النخبة والمليشيات، لتعويض أزماتها الداخلية.
. محور قطر وإيران: أذرع إقليمية متشابكة الدور القطري - تستمر قطر في دعم جماعة "البراء بن مالك" عبر القنوات المالية والإعلامية، في سياق يتناغم مع سياستها التاريخية الداعمة لتنظيمات الإسلام السياسي، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، بما يعزز دورها كوسيط إقليمي مؤثر في النزاعات الهامشية.
التدخل الإيراني ترتكز سياسة طهران على اختراق منطقة القرن الإفريقي من بوابة المليشيات الإسلامية في السودان، حيث تقدم الدعم اللوجستي والتقني لعناصر مسلحة تتبنى خطابًا عقائديًا مشابها لتنظيم القاعدة، وتستفيد من حالة الفوضى لتعزيز نفوذها على سواحل البحر الأحمر.
خطاب "الوحدة الإسلامية" = تستخدم هذه القوى خطابًا دينيًا يركز على "نصرة المظلومين" و"الجهاد ضد الطغيان"، لتبرير تدخلاتها. إلا أن هذا الخطاب يُخفي أجندات تتعلق بالثروات الطبيعية وممرات التجارة البحرية ومواقع النفوذ الجيوستراتيجي.
. تداعيات تسليح المليشيات على الصراع السوداني استدامة الحرب: تحوّلت المليشيات الإسلامية إلى أحد أبرز المحركات العسكرية التي تُبقي الحرب مشتعلة، مع امتلاكها للقرار الميداني في بعض الجبهات.
تآكل شرعية الجيش: اعتماد قيادة الجيش على هذه الجماعات غير النظامية يُضعف من شرعية المؤسسة العسكرية ويُظهرها كمجرد مظلة لمليشيات خارج سيطرة الدولة.
خطر التطرف العابر للحدود: الخطاب العنيف والدعوات للجهاد العالمي التي تتبناها بعض هذه الجماعات تنذر بتحول السودان إلى بيئة حاضنة للتطرف، تهدد أمن الإقليم بأسره.
الاقتصاد الحربي: ترتبط هذه الجماعات بشبكات تجارية وبنكية تؤسس لنظام اقتصادي موازي، قائم على التهريب وغسل الأموال، ما يُعقّد جهود إعادة الإعمار.
المجتمع الدولي: صمت مريب وتحديات في التدخل تقصير الأمم المتحدة: رغم أن الحرب في السودان توصف بأنها من أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم اليوم، لم تُتخذ خطوات فاعلة لوقف تدفق السلاح أو ملاحقة من يمولون الجماعات المسلحة.
ازدواجية المعايير الغربية: تُتهم بعض الشركات الأوروبية ببيع مكونات تُستخدم في تصنيع المسيّرات التركية، ما يجعلها طرفًا غير مباشر في الانتهاكات التي تقع داخل السودان.
توازنات إقليمية معقدة: تتقاطع تدخلات تركيا وقطر وإيران مع مصالح قوى إقليمية عربية منافسة، مما يُحوّل السودان إلى ساحة صراع بالوكالة بين مشاريع متنازعة على النفوذ. نحو أي مستقبل؟ لا يمكن فهم استمرار الحرب السودانية خارج إطار شبكة المصالح الإقليمية والدولية التي تُغذيها. فالقوى الإقليمية الداعمة للمليشيات الإسلامية، سواء من منطلق أيديولوجي أو استراتيجي، تُساهم في إطالة أمد الصراع، وتعطيل أي فرص حقيقية للسلام.
ثلاثة مخاطر تلوح في الأفق:
التقسيم الواقعي: قد ينزلق السودان نحو تفكك فعلي، حيث تسيطر جماعات موالية للخارج على مناطق بعينها.
انهيار الدولة: استمرار الاعتماد على المليشيات يُقوّض ما تبقى من مؤسسات الدولة، ويحول دون قيام نظام سياسي مدني جامع.
تدويل النزاع: مع تزايد الطابع الإقليمي والدولي للصراع، يصبح السودان أكثر عرضة للتدخلات الخارجية المتصارعة.
توصيات: فرض رقابة دولية مشددة على حركة الأموال والسلاح في الإقليم، وتوسيع العقوبات لتشمل الممولين المحليين والدوليين للمليشيات.
إعادة الاعتبار للقوى المدنية، ودعم جهود الوساطة السياسية المستقلة التي لا تخضع لأجندات خارجية.
تفكيك الاقتصاد الحربي كأحد الشروط الأساسية لأي عملية انتقالية ذات مصداقية.
السودان اليوم ليس ساحة حرب أهلية فحسب، بل مسرحًا مفتوحًا لصراع المصالح الدولية، حيث تُستخدم الجماعات المسلحة كأدوات لتصفية الحسابات. في هذا السياق، يصبح التحدي الأكبر هو: كيف يمكن للسودانيين – مدنيين وعسكريين وناشطين – استعادة السيادة على قرارهم الوطني، قبل أن يُختطف بلدهم بالكامل من الخارج؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة